الادب الحسيني

كلام الحسين عليه السلام مع نافع
وتهادى سبطُ النبـوّةِ ليـــلاً * لاختبار الرُبى بظلِّ الخفـــاء
حذراً أن تكونَ دون اختبــارٍ * مكمَناً للعِـدا وخيــرِ وقــاء
ورأى نافـعٌ إمـامَ البرايـــا * خارجاً في غياهبِ الظلمـــاء
فاقتفى إثرَهُ احتفاظـاً عليــه * خيفةً من غوائـلِ الأعـــداء
فرنا قائلاً : أنــافـعُ هــذا * ما الذي جاء فيكَ بعـدَ العِشـاء
قلتُ ياسيّدي خروجُـك ليــلاً * لثنايـا مُعسكــرِ الخُصَمــاء
قال فاسُلك ما بينَ تلك الروابي * وانجُ بالنفس مِن عظيـمِ البـلاء
هي واللهِ ليلةُ الوعـدِ صِدقــاً * وهو وعدٌ خلوٌ مِن الافتـــراء
قلتُ واللهِ ما أنا عنكَ مــاضٍ * قطّ حتى أذوقَ كأسَ الفنـــاء
فَرسي هَذهِ بألــفٍ وسيفــي * مثلُهـا سيّدي بحــدٍّ ســواء
لستُ أنأى حتّى يَكِلا بفــريٍ * ويجريٍ منّي بــأيّ تنائــي
حبيب والأصحاب أمام خيمة النساء
وسمعتُ الحوراءَ حينَ تــوارى * وأنا واقفٌ أمــامَ الخبـــاء
تَتناجى معَ الحسيــنِ وقالــت * وهي تبكـي يا سيّدَ الشُهــداء
هل تبيّنتَ وابتليــتَ النوايــا * من جميعِ الأصحاب ِخيرَ ابتلاء
إن طعمَ الحِمــامِ مُرٌّ وأخشـــى * أنــا أن يُسلمــوك دونَ عنـــاء
عندَ وقتِ اصطكاكِ كــل سنــانٍ * بسنـانٍ فــي وثبــةٍ شعـــواء
قــال جرّبتُهـم فـلـــم أر إلاّ * أشوساً أقعسـاً شديــدَ المضـــاء
وهُمُ يأنسـونَ بالمــوتِ دونــي * رغـبــاً في مســرّةٍ وهنـــاء
مثلما في محالــبِ الأمِّ شوقـــاً * يأنسُ الطفلُ عندَ وقــتِ الغـــذِاء
قلـتُ إي والإلـــه وانصعــتُ * أسعى لحبيبٍ في حَسـرةٍ ورثـــاء
قلت هذا جــرى فهلا تنـــادي * كل أصحابنــا بخيـــر نـــداء
قال سمعاً وطاعــةً ودعـــاهُم * ياليوثَ الهيجــا بخيــرِ دُعـــاء
فأجابـوا لبيّكَ حيــنَ تجلَّـــوا * كأُسودِ الشرى وشُهــبِ السمـــاء
قال ردّوا فلا سهرتُــم عُيونــاً * لبنـي هاشــمٍ عيــونُ العـــلاء
وحكى للصحـابِ ما قد حكـــاهُ * نافـعٌ عنــدَ ساعــةِ الإبتـــداء
فأجابــوه كلُّـهـم لـو أتتنـــا * ساعةُ الإذنِ من أبــي الأزكيـــاء
لبـدأناهُــمُ جميعــاً عُجـــالاً * نَحنُ بـالحــربِ دونَ أيّ رخــاء
قال سيروا معي وكان أمامَ الصَحب * يَسـري عَـــدْواً وهُم مِــنْ ورَاء
وهُمُ يَهرعـونَ جنبـــاً لجنــبٍ * وَجثوا قـُرب خيمــةِ الحـــوراء
وحبيبُ نادى فنـــادوَاوا جميعــاً * يـا كريمـاتِ خاتـــمِ الأنبيـــاء
هذه هذه السيـــوفُ المواضــي * من جميـعِ الغُلمــان والأوليـــاء
قد أصرّوا طُرّاً بـأن يُغمدُوهـــا * في نَحورِ العِـدا بيـــوم اللقـــاء
والعوالي آلوا بـأن يـركـزُوهــا * دونَكُم في صُـدورِ أهــل العِــداء
سوفَ نفديكُـم بكــلِّ نفيـــسٍ * ونـفــوسٍ مخلـوقــةٍ للفـــدِاء
لن تُصابوا ونحنُ تَطُرفُ فينــا * مقلةٌ قطّ بـالأذى والعَنـــاء
لا نرى منكُمُ قتيـلاً وفينـــا * رَمقٌ مِن نوابضِ الأحيـــاء
فتعالى من النسـاء صُــراخٌ * ضجّ منه بالنوحِ كلُ فنـــاء
دافعوا عن بناتِ طهِ وحامــوا * غيرةً عن حرائرِ الزهـــراء
فعراهُــم من النحيــبِ دوّيٌ * طَبّقَ الاُفُقَ مِن رحيبِ الفضاء
الإمام الحسين والحوراء زينب عليهما السلام
وعليُّ السجادِ أنبــأ فيهـــا * بحديثٍ عن سيّــدِ الشُهــداء
قد رأيتُ الحسيـنَ يُصلحُ سَيفـاً * بينَ كفيّهِ تحتَ ظـلِ الخبِــاء
وهو يَتلو يا دهرُ كم لك غـدراً * مِنْ قتيلٍ مُضـرجٍ بالدمـــاء
لك أُفٍّ على مـرور الليالــي * مِنْ خليلٍ مُولّــعٍ بالجفـــاء
فَتفهّمــتُ مــا أرادَ بهــذا * وتيقنت في وقُـوعِ البـــلاء
وأتت عمّتـي وقد سمعتهـــا * من أخيها تجُرّ ذيلَ الـــرداء
وهيَ تدعو بالثّكلِ ليت حياتـي * قبل هذا قد اُعدمَـت بالفِنــاء
يا ثمال الباقين من أهـل بيتـي * ولمن غاب خيـرة الخلفـــاء
هكذا يا أُخيُّ يُصنَـعُ ظُلمـــاً * بكَ منهُم يا نبعةَ الأصفيـــاء
قال لا يذهبنّ في حلمك الشيطانُ * طيشاً أُختـاه دون ارعـــواء
وتَعزِّ استكانـةَ واصطبـــاراً * بعزاءِ الرحمن خيـرَ عــزاء
ليس يبقى أهلُ السمـاء وأهـلُ * الأرض يُفنونَ مثلَ أهلِ السماء
ولنا اسوةٌ وخـيــرُ عـــزاءٍ * بالمنايا في خاتــمِ الأنبيـــاء
وبكى رقّةً عليهــا وحُـزنــاً * حينَ أهوت من غَشيةِ الإغـمـاء
قال فاربط أمناً على القلبِ منـها * منكَ بالصبر يـا إلـهَ العطــاء
وهو أوصى إلى العقيلـةِ جهـراً * ولزينِ العُبّادِ تحـتَ الخَفـــاء
فهي تعطي الأحكـامَ للناس فتوىً * بعد أخذٍ من زينـةِ الأولـيــاء
كلُّ هذا ستراً عليـه وحفـظــاً * لعليٍّ مـن أعيُــنِ الرُقَبـــاء
الإمام الحسين عليه السلام يرى جده في الرُؤيا
ورأى جـدَّه فأوحــى اليــه * قد تدانى ميعــادُ يومِ اللقـــاء
سيكونُ الإفطــارُ منك بحـقٍ * في غدٍ عندنا بوقـتِ المســـاء
بك أهلُ الجنانِ زادوا ابتشـاراً * والصفيحُ الأعلى بأصفى هناء
ولقد جاء من إلـه البرايـــا * ملـك من أكــارم الامنـــاء
ليصون الدماءَ منكَ احتفـاظـاً * بين جنبي قـارورةٍ خضـــراء
برير وعبد الرحمن
قال عبد الرحمن حُبّاً ونُصحــاً * لبريرَ بـدونِ أيِّ جفـــاء
حينما هازلَ ابتهاجاً وبُشـــراً * شخصَه في تَحبُّـبٍ وإخـــاء
ليس هذي بساعـةٍ يَعتريهـــا * باطلٌ دونَ ريبـةٍ وامتـــراء
قال واللهِ ما ودَدتُ اشتياقـــاً * أبــداً كـلَّ باطلٍ وريـــاء
طولَ عُمري طفلاً وكهلاً وقومي * لي بهذا مِنْ خيـرةِ الشُهــداء
غير أنّي مُستبشرُ النفسِ فيمــا * سوف نلقاهُ من نعيمِ البقـــاء
ليس إلاّ بأن يَميلـوا علينـــا * بالمواضي في ساعةِ الإلتقــاء
ثم إنّا نعانقُ الحـورَ فـــوزاً * بعدَ هذا في جَنّـةِ السُعـــداء
وحبيبٌ عندَ التبسُـم أوحـــى * ليزيدَ هذا بحــدٍ ســواء
لو أتاني إذنُ الحسينِ لعجّلــتُ * عليهم مِنْ ساعتي باللقــاء
الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي
ليس هناك في التأريخ البشري ـ حسب علمنا ـ قصيدة أو منظومة أو ملحمة شعرية نظمت من بحر واحد وقافية واحدة وروي واحد واجتاز طولها آلاف الأبيات مثل ملحمة أهل البيت (عليهم السلام) التي نظمها الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي ولا أدري إن كان ما يسمى في الغرب بكتب الارقام القياسية قد وصلته هذه المعلومة أم إنها قد طويت جهلا أو تبخيساً مثل كلّ الإنجازات الخارقة والأعمال الباهرة التي لا يُلتفت أليها عمداً وقصداً.
فهذه الملحمة ـ ان صح التعبير ـ ما راثون طويل بنفس واحد وبخطوة متكررة واحدة وبحركة حثيثة واحدة ويكفي الشيخ الفرطوسي فخراً أنه أطالها وتجاوز في إطالتها ولو لم يكن له منها إلا هذا الطول لكفاه.
أما ما يخص ليلة عاشوراء فلدينا 157 بيتاً من الملحمة توثّق كلّ ما جرى في هذه الليلة العظيمة على طريقة المنظومات مع حساب الفارق فالنظم هنا على بحر مركب التفعيلات هو بحر الخفيف وليس بحر الرجز السهل النظم ـ فالعرب تسميه حمار الشعر وتسمي من ينظم فيه راجزاً لا شاعراً تفريقاً ـ إضافة الى القافية الموحدة في ملحة الفرطوسي وهي غير قوافي المزدوجات السهلة اليسيرة.
ـ للشاعر الأستاذ عبود الأحمد النجفي
الغد الدامي
في غد يشرق الصباح مدمـىً * وعلى الترب أنجم مطفـــآتُ
واشتعال الرمال يلهب أفقــا * أججته ضغائــنّ وهنـــاتُ
والمدى الرحب خلفه يتـوارى * فيه غابت شموسه النيـــراتُ
وجفون السماء تقطر دمعــاً * سكبته عيونُهــا الباكيـــاتُ
علّها تُطفيء اللظـي بــزلال * وعلى الأرض أكبد ظامئــاتُ
أغلقت دونها الينابيع عذبــا * بعدما شحّ بالرواء الفـــراتُ
أيبس الطف والقلوب جفـاف * ونفوسٌ عن الرؤى مجدبــاتُ
لن ترى غير مقتل الحق نصراً * فهي في صحوة الحياة سبـاتُ
غادرت يقظة الضمائر موتى * فتعرت أشلاؤهـا الصدئــاتُ
رسمت لوحة الخطيئة بحــراً * من جحيم وعمقـه الظلمــاتُ
أبحرت فيه والمتـاه دلـيــل * مزقتها عواصفٌ مهلكـــاتُ
نبذت قبر عريها كـل أرض * فهي في رقدة العذاب شتاتُ
في غدٍ تملأ الشعاب صبايـا * ونساءٌ فواجعٌ ثـا كــلاتُ
أثقلتها مصائـب ورزايــا * غاب عنها أعزةٌ وحمــاةُ
طاردتها شمس الظهيرة جواً * وقفارٌ تحت الخطى مسعراتُ
خلفها يُشعل الخيامَ ضــرامٌ * حاط فيها توحّشٌ وقســاةُ
وخيول الأعداء تطحن صدراً * وضلوعاً تهفو لها الكائنـاتُ
جسدٌ ضمَّ في ثناياهُ كونــاً * يتسامى وفيضُهُ المكرمـاتُ
عانقَ الموتَ والشهادةَ شوقـاً * فجنانٌ لشوقـهِ عاشقــاتُ
ووحيداً يُلقن الحشدَ درســاً * بثباتٍ يحارُ فيـه الثبــاتُ
حوله من بنيه والصحب جمعٌ * جمعتهم مواقفٌ خالــداتُ
وقفوا وقفةَ الإبـاء بحــزمٍ * وسيوفٍ تهاب منها الكُمـاةُ
سطّروا صفحةَ الوفاء وساروا * بطريق تهيم فيـه الأبــاةُ
فإلى الخلد أنفـسٌ تتعالــى * وعلى الرمل أبدنٌ زاكيـاتُ
سال منها دمُ الحيـاة نديــاً * بربيع الجراح تَحيى المواتُ
في غدٍ يرحل الزمان مجـداً * وتباريُ أيامَه اللحضـــاتُ
وإلى الشام يستحـث مسيـراً * وإلى الشام تنتهي الخطــواتُ
فعلى الرمـح ثـورةٌ رؤوسٌ * وعلى النوق أنفـسٌ حائـراتُ
سوف تجتاح في غدٍ معقل الظلم * وتنهـار أعــرشٌ نكـــراتُ
وستبقى الدمـاءُ ما دام فيهــا * صحوةُ الدين والفدا والعظــاتُ
وستبقى الدماء أغلى وجــوداً * من حياةٍ يعيش فيهـا الجنــاةُ
ينحني السيفُ خاشعاً وذليــلاً * وخضوعاً ستركع المرهفــاتُ
حين أعطت قيادهــا للئــامٍ * ثم أودت بعزهــا عثـــراتُ
فاستحقت مدى الزمان عتابــاً * وتنامـت بفعلهــا النائبــاتُ

عبود الأحمد النجفي
1 / 11 / 1417 هـ
الصفحة 302
الإستاذ عبود الأحمد النجفي
عبود الأحمد النجفي شاعر يصارع الألم ولايزال في تفاصيل حياته ، فلذا يتبدّى ولاؤه للمأساة الحسينية في أشكال ذاتية يتحسسها بقرب روحي عميق ، وإذا أضفنا إلى ذلك تمرّسه في الكتابة باللهجة المحلية للمنبر الحسيني لسنين طويلة فسوف تختمر تجربته وتتصاعد ، فلا غرو أن تستجيب شاعريته لموضوعة محدّدة التفاصيل مثل ليلة عاشوراء ليصوّرها من أفق الانتظار :
في غد يشرق الصباح مدمّى * وعلى الترب أنجم مطفــآت
ليُصور الغد الدامي بتجربة مبتورة إذا نظرنا إلى بقية شعره ، فأنا قد لاحظت قبلاً على النجفي سمة الإرتقاء الشعري من قصيدة إلى أخرى لكنه في هذه المحطة لم يقلْ ما تريده حصيلته الشعرية المتصاعدة ولا أعلم سبباً وجيهاً لهذا النكوص ، فالنجفي لاتضغط على شاعريته المناسبة فهو من فرسانها المجلّين مع ثُلّة من إخوانه من شعراء الولاء ، لكنه بدأ مع تراكم تجربته في الكتابة بالتوجه إلى منحى آخر في التأمل والرؤيا الشعرية إزدانت به مجموعته ـ اهتزاز الذاكرة ـ مما أثرى تجربته بإرتياد مناطق كانت مجهولة لديه وإنفتح عليها نبوغه وتطلّعه ولعلي أصيب حين أسميه بالنابغة النجفي تيمناً بنوابغ الشعر العربي الأصيل ، فعبود الأحمد النجفي كتب الشعر الفصيح متأخراً فتصحّ عليه هذه التسمية ولعله يقبلها برحابة صدره المعهودة.
- للشيخ علي بن عبد الحميد ـ رحمه الله ـ
العزمات الصادقة
فلما رأى أن لا مناص من الـردى * وإنّ مراد القــوم منه كبـيـــرُ
فقال لأهليه وباقـي صحـبـــه * ألا إنّ لبثـي فيكــمُ ليسـيـــرُ
عليكم بهذا الليل فاستـتـروا بــه * وقوموا وجدّوا في الظلام وسيـروا
ويأخذ كلُّ منكــم يـدَ واحـــدٍ * من الآن وخفّوا في البلاد و غوروا
فما بُغيةُ الأرجاس غيري وخالقـي * على كلّ شيءٍ يبتغـيــه قديــرُ
فقالوا معاذَ الله نسلمك للـعــدى * وتضفى علينا للحـيـاة ستـــورُ
فأيُّ حياة بعد فقـدك نرتـجــي * وأيُّ فــؤادٍ يعتـريـه ســرورُ
ولكن نقي عنك الـردى بسيوفـنـا * لتحظى بنا دارُ النعـيـم وحــورُ
فقال جُزيتم كلّ خيــرٍ فأنتــمُ * لكلّ الورى يوم القيـامـة نــورُ
فأصبح يدعو هل مغيثٌ يُغيثُنــا * فقلّ مُجيبــوه وعـزّ نصـيــرُ
ولم تبقى إلا عصبةٌ علـويـــةٌ * لهم عزماتٌ ما بهـنَّ قـصــورُ
ولمّا شبّت نار الحروب وأضرمت * وقتْ نفسَه هـامٌ لهــم ونحــورُ
ولم أنسه يوم الهيــاج كأنـــه * هزبرٌ له وقعُ السيـوف زئيـــرُ
يكرُّ عليهـم والحســام بكفــه * فلم يرَ إلا صــارخٌ وعفيـــرُ
وراح إلى نحو الخيـام مودعــاً * يُهمهمُ بالقرآن حيــثُ يسيـــرُ
فقمنَّ إليه الفاطميـات حُسَّــراً * يفدينه والمعـولات كثيـــرُ
فقال استعينوا بالإلــه فإنَّــه * عليمٌ بما يُخفي العباد بصيــرُ
ألا لاتشقنَ الجيوب ولا يُــرى * لكُنَّ عويلٌ إنَّ ذاك غـــرورُ
ألم تعلمي ياأختُ إنَّ جميعَ مـن * على الأرضِ كلٌ للمماتِ يصيرُ
عليك بزين العابديــن فإنّــه * إمامكِ بل للمؤمنيــن أميــرُ
أطيعي له إنْ قال مولىً فإنَّــه * المطاعُ بأحكام الكتاب خبيرُ
ـ للشيخ علي الفرج
حديث النجوم
أغسلي يا نجوم عن سأم الليـ * ل جفونَ الحسينِ والأصحـابِ
وَدّعي ذلك الزعيمَ ودمعــا * ذابَ فيه طبعُ انكسارِ السحـابِ
دمعةٌ منه أنبتتْ للمــلاييـ * ـن حِراباً من سُنةٍ وكتــابِ
ودّعيه دماً تأهبّ فـي الأقـ * ـداح كيما يُراق في الأكـواب
دمُه صبغة السماءِ وأين السـ * ـيفُ منه وهو انتماء التُـراب
حدّثي يا نجومُ عن خيم الوحـ * ـي ودمـعٍ من زينبٍ سَكّـابِ
ليلُها...أين ليلُهـا ؟! نسيتْــه * نسيتْ صمتَه انتظارَ العــذابِ
حولهَا من خواطر الظمـأ المرِّ * ضبابٌ في عُتمـةٍ من ضبـابِ
قسماً لو جرى الفرات وريـــداً * في دماها كسلســلٍ مُنســـابِ
هدرته مـاءً فتجتمـــع الأطـ * ـفال ، فيه تعود ملأى القِــرابِ
***
حدّثيني عن الاُسود كم امتـــدَّ * بهم للسمـا خيـوطُ انتســـابِ
زرعوا الليل أعيناً تحرس الغـا * ب كَسربٍ من الردى جـــوّابِ
أنت يا ليلة انخساف المرايـــا * في وجوه السنيـن والأحقـــاب
غُرست فيك آهتي واحتضـاري * ونمت فيك صرختي واغترابــي
عجبٌ أن أراك سـوداءَ والشمـ * ـس بجنبَيـكِ معبـدُ الأهــداب
عجبٌ أن أرى لديك ( دويَّ النـ * ـحل) يهتزُّ من أُسـود الغــاب
سهروا بين جانحيــك جبــالاً * وغدوا فوق راحتيـك روابـــي
***
حدّثيني عن الظلام وما احمــرَّ * بأعماقــه مــن الأِرهـــاب
ضاع في رُعبه أنينُ يتامـى الـ * ـغد ضاعت مباسـم الأحبــاب
وفؤاد الحسيـن ذاب حنانـــاً * وعجيبٌ يذوب فـوق الحــرابِ



على الفَرَج
10 / 11 / 1416 هـ
قم المقدسة
الشيخ علي الفرج
شاعرية علي الفرج من الشاعريات القليلة التي تُجبر متلقيها على الإقرار بضرورة الشعر في حياة الإنسان وتجعله متقرباً بأكثر من وسيلة الى التفاعل والإنصهار مع الظواهر الشعرية في كل تجلياتها وكشوفها... فهو حدّاء أصيل يراقب قافلة التلقي والقراءة بأكثر من حاسّة ويحنو على قارئه حنوّ المشفق ، فُيصاحبه صحبة إدهاش وإبهار بسحر الألفاظ المنتقاة وجمال صياغته للتراكيب الموحية وهو يفعل هذا برقّة وشفافية تنمّ عن طبع شعري متجذّر وخُلق فني راسخ ، بعيداً عن دنس تنفير الآخرين وازدرائهم ومقتهم.
فشاعريته بها نزوع نحو التلاحم مع الناس بطيبة صادقة ونيّة حسنة ليقرّر رسالة الشعر ووظيفته كنداء من ضمير ووجدان جماعي يعبّر عن كل الآمال وجميع الآلام ، ولذا فهو يمتلك من إمكانات الإختيار في خطابه الشعري الشيء الكثير ، وله قدرة متشعّبة في توليد التراكيب غير النمطيّة يعاضده إنتقاء واع لألفاظه ، فلا تستطيع أيّة لفظة كانت أن تعبر سياج حقوله الشعرية بلا إذن من رقابته الصارمه وتفحصه الدؤوب ، ولا شك أنّ البساطة التي تظهر بسيولة في شعره هي بساطة مصنوعة بتعب وإخلاص وتفانِ وهناك جهد آخر يقوم به الفرج في إخفائه لآثار الصنعة في بساطة شعره وعذوبته وسيولته ، ولعل السيولة أقرب إليه من غيرها فهو شاعر الماء بحق وهو (نهّام) يؤدي مواويله البحرية لكي يدفع عجلة الحياة ، وإذا تسنّى للفحص والإختبار النقدي أن يولي قصيدة ( حديث النجوم ) إهتمامه فسوف يتأكد رسوخ الصور والألفاظ والتراكيب المائية في نسيج القصيدة ، وربما تجاوز الماء الى كل الظواهر والأشياء السائلة بحيث نرى أنه لايكاد أن يخلو بيت شعري لعلي الفرج من ذلك ، وسنحصي ذلك بالترتيب في قصيدته ( اغسلي ، دمعاً ، ذاب ، السحاب ، دمعة ، دماً ، الأقداح ، يُراق ، الأكواب ، دمه ، سكّاب ، الظمأ ، ضباب ، جرى ، الفرات ، وريداً ، دماها ، سلسل ، منساب ، ماء ، ملأى ، القراب ) في الأبيات العشرة الاولى فيحقق إنسيابية سيّالة لرؤاه وصوره لكي يشكل مدخلاً الى مشهد الفجيعة الذي يتعمد فيه الشاعر عدم إستخدام مفرداته المائية ليصوّر ليلة عاشوراء ويخاطبها واصفاً إياها بليلة إنخساف المرايا فلا إنعكاس أمام وجه الزمن لكن الشاعر يخرج من هذا المشهد وينهي القصيدة بهذا البيت :
وفؤاد الحسين ذاب حنانـاً * وعجيب يذوب فوق الحراب
فحتى الشهادة العظيمة لسيد الشهداء عليه السلام يصوّرها علي الفرج بصورة الذوبان فوق الحراب مبدياً عجبه لذلك ، لكننا لا نعجب فالشاعر يريد للشهادة المحببة الى نفسه أن تتزيىّ بحلّة الماء الذي يحقق حيوية شاعرية علي الفرج المنفتحة على مصاديق الآية الكريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) على مستويين : شعوريّ يصاحبه الإختيار الواعي ، ولا شعوري دفين في رغبات وأماني علي الفرج الذي يختار لقصائده أوزاناً منسابة برشاقة الإيقاع الشعري كبحريّ الخفيف والبسيط اللذين طالما كتب بهما أجمل قصائده.
مشيئة الدم
عليه اُغمضُ روحي ـ حلمَه العجبا ـ ! * فكيف فــرَّ إلى عينــيَّ مُنسربـــا
ومن أضــاءَ له حُــزني فغــادره * إلى فضـاء قصيّ اللمـح فاقتربـــا !
حتى تسلّــل من حُبٍّ ومن وجـــعٍ * دمعاً يُطهّر نبعَ القلــب لا الهدبـــا
رأيتُ فيما رأيتُ الدهشـة انكســـرت * وخضّبت جســداً للمستحيــل كبــا
وكـان يَلقى سيوفَ الليـل منصلتـــاً * ويستفزُّ مُـدىً مجنونـــة وظبـــى
وكان يعبر فـي أشفارهــا فزعـــاً * مُرّاً ، وترتدُّ عن أوداجـه رُعبـــا !
تمتد لهفتهــا حيــرى فيُسلمُهـــا * إلى ضلوع تشظّـت تحتهــا نهبـــا
مَنْ ينحرِ الماء مَنْ يخنـقْ شواطئــه ؟ * والنهر مدَّ يديـه نحــوه... وأبـى !
فناولني دمــه ياليلـــة عبـــرت * إلى النزيف جريح الخطـو منسكبـــا
يا نافراً مثل وجه الحـلم رُدَّ دمــي * إلى هواك... دمي الممهور ما اغتربـا
يطلُّ ظلُّك فيه... بــوحَ اُغنيـــةٍ * ظمآنةٍ عبَّ منهـا لحنُهــا اللهـبــا
رأيتُ فيما رأيتُ الليـلَ متّشحـــاً * عباءةَ الشمس مختـالاً بهـا طربـــا
وفوق أكتافه فجرُ النعوش هـــوت * نجومُه...والمدى يرتـجُّ منتحـبـــا
قبل الحرائق كـان الورد يُشبهـــهُ * وبعده لرماد الريـح صــار سبـــا
قبل الفجيعة من لون الفـــرات له * شكلٌ ، ومن طينه وجهٌ يفيض صبــا
وبعدها سقطت في النار خضرتــه * وحال عن بهجة مسحورة ، حطبـــا
وما تألّـق من جمـرٍ فبسمتــــهُ * غارت ، وتحت رمادٍ باردٍ شحبــا !
***
وأنت ، دون عزيف الموت ، صرختنا * وأنت.. تنفخ فيها صوتهـا.. نسبــا
وأنت عنـدك مجــدُ الله... آيتــهُ * بيارقاً نسلــت... جـرارةً حقبـــا
وأنت تلوي عنان الأرض ثمّ إلـــى * أقدارها تطلـق الأقـدار والشُهبــــا
وعند جرحك مات الموت وانبجسـت * من الصهيل خيـولٌ تنهـب الصخبــا
فاحملْ دمَ الكوكب الغضّ الذبيح وسـر * إلى الخلــود فقد أرهقتَــه نصَبــا
وقف...فحيث مدار الكون صرت له * مشيئةً تكتب التاريــخ ، أو قطـبــا

فرات الأسدي
8 / ذو القعدة / 1416 هـ
الاستاذ فرات الاسدي
مشيئة الدم
قصيدة عمودية في ظاهرها فقط ، أما جّوها وبناؤها ولغتها وصورها وتراكيب جملها فهي برزخية الإنتماء تتقاطع مع التراث والمعاصرة في مفترقات وملتقيات عدة لتبرز هويتها غير المنحازة وغير المتعيّنة على وجه الدقة ، وهي قصيدة خروج على السائد في كل محاورها وخصوصاً على الثوابت النحوية ـ التي لفرات الأسدي رسوخ طويل بها ـ فهي تقفز منذ صدر البيت الاول فوق المعايير لتلجيء المتلقي الى التأويل والتمحّل لما هو بين شارحتين ـ حلمه العجبا ـ فلا يصل الى شيء ، ويتأكد هذا القفز فوق الثوابت النحوية في مشاكسات ومحاولات للخروج الواعي أو هي على الأقل إشعار بذلك ، مما يُنبيء أن الشاعر يضيق ذرعاً بالمعيارية التي تمتد ضاغطة على الرؤى غير المتشكّلة بعد ، وعلى القواعد التي تحاصر فضاءه وهو ( فضاء قصي اللمح ) فهو يفرض الحيرة على المتلقي مثلاً في
مَن ينحرِ الماء مَنْ يَخنُقْ شواطئه ؟ * والنهر مدّ يديه نحــوه.. وأبـى فهل ( من ) إستفهامية أم شرطية وكيف جزمت الفعلين ؟ إن التعمد والقصدية واضحان في التجاوز ونُضيف الى ذلك ما يمكن أن نسميه بـ ( إزدحام الأفعال ) كظاهرة بارزة في القصيدة حتى وصل عدد الأفعال المستخدمة في بيت واحد الى خمسة أفعال :
رأيت فيما رأيت الدهشة إنكسرت * وخضّبت جسداً للمستحيــل كبا
ولإن الفعل في العربية ـ غالباً ـ ما يشكل بدايات الجمل فهذا البيت يطالب ذهن المتلقي أن يقف خمس وقفات ليبتدأ من إنطلاقات الجمل فيحتاج الى تأمل أكثر ووقت أطول فتتعدد المفاتيح الباحثة عن أبواب النص وهناك لدى فرات الأسدي ظاهرة نحوية اخرى يتعمدها في نصّه وهي حشد الضمائر المتصلة فعلى إمتداد (22) بيتاً هناك (53) ضميراً متصلاً على الأقل بحيث تعسر الإحالة ويصعب الإرجاع وسنرى هذا المثال :
وكان يلقى سيوف الليل منصلتاً * ويستفزّ مُدىً مجنونـة وظُبـى
وكان يعبر في أشفارها فزعـاً * مرّاً وترتدّ عن أوداجه رعبــا
تمتدّ لهفتها حيرى فيسلمهــا * الى ضلوع تشظت تحتها نهبـا
فاذا أردنا معرفة عائدية الضمير ( ها ) المتصل بالفعل ( يسلم ) فلن نستطيع ذلك ، لإنه قابل للإحالة الى ( اللهفة ، الأشفار ، الظُبى ، المُدى ، سيوف الليل ) وإذا أضفنا الى ذلك العُسر صعوبة تمييز فاعل الفعل ( يسلم ) هل هو فاعل ( كان يعبر ) أي الفاعل الأساس أم هو الفزع المرّ أم الرعب ؟ تشابكت القراءات وتنافرت على المحور الدلالي العام مما يصوّب رأينا القائل أن قصيدة فرات مكتوبة لكي يقرأها المتلقي لا لكي يسمعها فهي نخبوية متوغّلة في موقف جمالي عميق لايشف وهي درامية البناء قائمة على النفور من العواطف والإنفعالات البسيطة لذا نراها تجاهلت المدخليات المألوفة الى ليلة عاشوراء ودارت محاورها على لغة حلمية عميقة تعتمد الإيحاء والإيماء والغموض البرّاق في التعامل مع الأحداث بصدق فني لا يتطابق مع الصدق الواقعي بل يتضمنه ويلازمه في تجربة غنية حافلة بالاجتراح وشاعرية جامحة متمرسة طالما أغنت ساحتها تجارب كثيرة مميزة.
الليلة الآخِرة
عكفتْ تشحــذُ للمــوتِ النصـــالا * أو تهزُّ الليــلَ ذكــراً وابتهـــالا
فـتــيــةٌ نــاداهـمُ ربُّــهُـــم * أقدِموا ، فاستسهلوا الاُخـرى منـــالا
ومضوا عن هذه الدنيـــا عُجالـــى * وسرَوا للخُلدِ يبغــونَ الـوِصـــالا
بسَمَ المجـــدُ لهم فابـتـسـمـــوا * وإلى أسيــافهــمْ مالــوُا فَمــالا
وارتدَوا من عدَّةِ الحـــربِ هُـــدىً * ووفـــاءً ومُــروءاتٍ ثِـقـــالا
جَنَّهُمْ في الطـفِّ لـيـــلٌ وهُـــمُ * بالحسينِ الطُهرِ قد جَنُّــوا خَبـــالا
فاشهــدي ياليلة الضــوء هـــوىً * نضراً يبتكـر الرؤيـــا جمـــالا
***
يا مسـاءً لم يلُــــحْ في أفْقــــهِ * غيـرُ وجهِ اللهِ ، والسبطِ ـ تعالـى ـ !
ترقـــبُ الفجـــرَ به أمنـيـــةٌ * حُرَّةٌ لم تُلقِ لـلـرَّهـبـــةِ بـــالا
رغبتْ أن تشهـد الفتــحَ غــــداً * بدمٍ ما سـالَ بـل صـالَ وجـــالا !
فأعدَّتْ لـلِـقـــاهُ صَـبــرَهــا * ونفوساً أنفـت تهــوى الضـــلالا
وتمدّ اليــدَ لــلـطـاغــي وقـد * عاثَ بالديـن حــرامـاً وحـــلالا
ترِبَـتْ كــفُّ أبيــهِ.. ليتَــــهُ * نَصبَ القـردَ أميـراً.. واستقـــالا !
أيُّ ليلٍ ضمَّ للحــقّ رجــالا * يرخِصون الروحَ أصحابــاً وآلا
ونساءً حُجِبـتْ في خـــدرِها * واطمأنَّتْ في حِمى الصِيد عيـالا
وصغاراً هَوَّمَــتْ أعينُهـــا * وعن الأقدار لم تُحفِ الســـؤالا
لو أطلّتْ لرأتْ خيـل العــدى * ترمَحُ الأرضَ جنوباً وشمـــالا
عاهدتْ شيطانَها لـن تنثنـــي * يومَها أو تطأ القـومَ مجـــالا
وبناتُ الوحي تُسبـى ذُعَّـــراً * وخيامُ الوحيِ تنهدُّ اشتعــــالا
وبأطراف القنا رأسُ الهـــدى * وعلى العُجْف السبايا تتوالـــى
وعليٌ يقدِمُ الركــبَ وفـــي * عُنْقهَ من رجلهِ القيدُ استطـــالا
وله زينـبُ تشكــو ذُلَّهـــا * وهُموماً عاينتْ منها المَحـــالا
صبرتْ واحتسبتْ مانالـهـــا * في سبيل الله تلقــاه نـــوالا
حسبُها مـــن أهل بيتٍ شمسُهُمْ * في مَدى التاريخ لم تغـربْ زوالا
كتب لله لـهــم أجــرَهُـــمُ * ان يكونوا للكرامــاتِ مثــالا
ويشيدوا بالتقى دولــتــهــمْ * آخرَ الدهر انتصافاً وسجـــالا
وإمامُ الحق في أشيــاعـــهِ * يطلبُ الثاراثِ زحفاً واقتتـــالا
فرات الاسدي
6 / شعبان / 1416 هـ
الليلة الآخرة
على الرغم من حرصه أن تكون قصيدته منبرية التوجه لكنها أفلتت من القالب والنمط المنبري في مواضع عدة ، ولو تسنى لخطباء المنبر الحسيني أن يضخّوا دماً جديداً في شرايين إختياراتهم الشعرية لما عَدَوا هذه القصيدة أو ما نُسج على منوالها من قصائد الولاء للشعراء المعاصرين.
فالخطاب المنبري الموجّه الى الأجيال الشابة المتطلعة الى المستقبل يجب أن يفحص أدواته ويوظّف الوسائل الفاعلة في الأوساط التي يخاطبها وعلى سبيل المثال ليته يُعيد إختياراته لقصائد العزاء والمصيبة منحازاً الى المنبريات الجديدة من القصائد والأشعار التي تمثّل هذه القصيدة مثالاً لها.
موت النهار
ليركضَ كالبحر مرّ المساء
ومرّتْ وراء خطاه النجوم التي أزهر الضوء في نسغها ،
والسماوات مبتلّةٌ بالبريقْ
لينهضَ كالبحر مدّ المساء مداه الغريقْ
والغى حرائقه السودَ في الطرقات
وفاجأ غلغلة الومض بالأسئلهْ
ومرَّ الى الدهشة المقبلهْ !
ليوغلَ كالليل دار الغبارْ !
وطوّق نبضَ التراب بأقدامه المثقَلهْ
وأقصى الغيومَ عن النوءِ والنهرَ عن مائهِ المستعارْ !
ودارَ الغبارْ.
ـ وكانت هوادجهمْ تذرعُ الريحَ ، كان الحداءُ
يُخامرُ عشبَ الكلامِ النديّ ويشعل فيه الحنينْ
وكانوا يلمّون أرواحهم حفنةً حفنةً في ضياع السنينْ
يموتونَ.. يحيونَ.. ينطفئونَ
وها هو طقس الحكايا
يُخامرهم بالفرات وبالأخضر القادم ـ الآن ـ من دمهِ ،
الذاهب ـ الآن ـ من دمه والظمأْ
الى كوكبٍ آخرٍ ما انطفأْ
وما حرثَتْهُ مرايا الصدأْ ! ـ.
ليركضَ كالبحر مرّ بسحنته العاريهْ
مساءً من اللهفة المشتهاة الى وهجٍ مترَفٍ ،
أو ينابيعَ مغسولةٍ برماد الفجيعهْ
ـ رمادِ المياه المضاجعِ جمرتَها الذاويهْ !
ليوغلَ كالليلِ دار على الأرضِ
واشتبكتْ بالنخيل ملامحُه وتوارى
بقايا من الحزنِ
سرباً من الأغنيات الحيارى
ومرَّ الى النهر في خلسةٍ واستدارْ
.. إستدارا
ليشهدَ موتَ النهارْ !!.
فرات الاسدي
3 / 11 / 1417 هـ
موت النهار
أشعر أن فرات الأسدي قد وجد تعبيريته المناسبة في هذه القصيدة الرؤيوية المركّبة بإدهاش متقن فهو في معظم شعره لايقترب من البساطة المجردة ولا يتعامل معها أبداً ، فالأشياء في شعره أشياء ضمن علاقات بل هو يقارب بين الأشياء التي لا علاقة بينها في تراكيب لفظية لينشيء حداثته بتأمل شعري متفلسف ، فقصيدته لها منطق خاص بها ولو تجرأنا فاستخدمنا شيئاً من المنطق العام أو بعض معطياته لتوصّلنا الى كشف منطق قصيدته أو شيء مشابه لذلك ، فموت النهار قائم على تقابل الموت مع الحياة التي جاء النهار هنا معادلاً لها لكن وفقاً للمشيئة التركيبية التي يعمل بهار الشاعر.
سيكون الصراع بين الموت والحياة ظاهراً بعلاقاته التي لها أطرافها المتشابكة ، فالنهار سيقابل المساء وهو غير المقابل المنطقي للنهار أي الليل ومن هنا تبدو خصوصية منطق القصيدة الذي يجعل هذا المساء يركض كالبحر وفق العلاقة التي ذكرناها ( العلاقة بين الأشياء التي لا علاقة بينها ) لتتولد معان جديدة ويحتدم الجدل المتفلسف فيعرو التأمل الفلسفي شيء من منطق الشعر بأسئلة لها ملامح الطفولة التي تُرجع الفلفسة الى بداياتها ، فتبدأ جدلية العناصر الأربعة ( الماء ، التراب ، النار ، الهواء ) فعندما يمرّ المساء تمرّ خلف خطاه النجوم التي يشكّلها الشاعر كشجرة لها نسغ يُزهر فيه الضوء فتبتلّ السماوات بالبريق في علاقة بين الماء و النار عبر البلل وهو من خصائص فعل الماء ، وبين البريق وهو من خصائص فعل النار ، وبعد ذلك أراد المساء أن ينهض لكن كالبحر أيضا فمدّ مداه الغريق ، والمدى من خصائص الأرض فعندما إبتلّت السماوات بالبريق كان نصيب الأرض الغرق في شكل مدى المساء ، هذا على مستوى المعاني ، أما المباني فسيكون هناك تقابل بين ( ليركض كالبحر مرّ المساء ) مع ( لينهض كالبحر مدّ المساء ) هناك نظام تقفية داخلي مغاير لنظام التقفية التقليدي مع النظر الى العلاقة في الجناس الناقص بين الفعلين ( مرّ ) و ( مدّ ) بنفس الفاعل ( المساء ) مع إستخدام نظام تقفية خارجي في ( البريق ـ الغريق ) في شكل من الزوميات التي لو تواصلت لأورد الشاعر مثلاً لفظتي ( الحريق ـ الطريق ) اللتين جاء بهما الشاعر في صيغة الجمع ليكسر نظام التقفية لكنهما عَلقا في أللاشعور فتداعتا تداعاً حرّاً في المقطع اللاحق ( وألغى حرائقه السود فى الطرقات ) طرائق جهنمية سوداء تجعل المساء يتساءل أسئلة مصيرية مندهشة اثر الإلغاء وما تبعه من غلغلة الومض ومفاجأته... وينتهي المقطع.
المقطع الثاني حركة دورانية للغبار وهو من جهة معادل للمساء ومن جهة اخرى جدل عنصرين من العناصر الأربعة ( الهواء ـ التراب ) وهنا جرى تشبيهه بالليل في إيغاله ( ليوغل كالليل دار الغبار ) يطوّق نبض التراب ويقصي الغيوم من جهة والنهر عن مائه من جهة اخرى ، وهذه الحركة أو الدوران الغباري تمنع التراب من اللقاء بالماء لكيلا تنتهي العلاقة بولادة الطين الذي هو أصل الإنسان ، وتقصي النهر عن الماء حتى وأن كان ماءً مستعاراً لتمنع حركة الحياة ويتم للغبار ذلك.
في المقطع الثالث كانت الهوادج تقابل الريح والهوادج عادة تحمل النساء وهنّ حاضنات الإمتداد الإنساني بنوعه في ولادتهنّ ، ليعلن الشاعر جدلية الإنتصار ويكون الحداء مفعماً ونابضاً بالحياة فهو ينطق بكلام له نداوة العشب المشتعل بالحنين للنمو والولادة في تقابل آخر مع الريح ، وتكتمل صورة القافلة التي تواجه الريح في تشكّل الموقف أمام ضياع السنين في لملمة شتات الأرواح لمواجهة الأسئلة المصيرية ( يموتون يحيون ) والسؤال الأخير ( ينطفئون ) والإنطفاء يعني موت النور أو موت النهار أمام الريح في جدل آخر بين ( النار والهواء ) لكن الحكايا تؤكد طقوسها وإنكشاف وعودها بالنَمَاء المتشكّل من الفرات والإخضرار الحسيني المتحرك حركتين : حركة قدوم الى الحياة المنطلقة الى الشهادة ، وحركة ذهاب بالدم والظمأ الى الخلود الأبدي التي لا تستطيع المرايا الصدئة أن تعكسه ، وهي لو عكسته ـ جدلا ـ فذلك مساء لفعل الحرث السلبي المشوه لا الايجابي المساوق لفكرة النماء ، كل ذلك في تعبيريه حديثة مكثفة مثل ( حرثته مرايا الصدا) ! .
في المقطع الرابع ستكون هناك حركة مرورية للمساء الذي يتلهف الى مصرع الوهج والينابيع أي مصرع النور والماة فيرى الماء وهو أصل الخلق ( وجعلنا من الماء كل شي حي ) يراه مغسولاً برماد الفجيعة ونلاحظ هنا تركيب ( رماد المياه ) حيث العلاقة بين عناصر ثلاث من العناصر الأربعة فالرماد هو جدل ( النار ـ التراب ) وهو هنا خاص بالمياه فتتواشج العناصر الثلاثة ( النار ـ التراب ـ الماء ) في علاقة غائبة مع العنصر الرابع ( الهواء ) الذي عادلته الريح أو الغبار الراجع في المقطع الخامس ليوغل كالليل ويدور على الأرض فتشتبك ملامحه مع النخيل الذي هو الرمز الواقعي للعطاء في الارض التي قُتل فيها النهار لبمر على النهر وهو رمز آخر عن واقع الأرض يحدد جغرافيتها ويستدير ليشهد موت النهار....
الإيحاء والإيماء والرمز كطرق للتعبير تواصلت في تصوير ليلة عاشوراء باسلوب فني فذّ لا يمتّ للتسجيل الواقعي والتوثيق التأريخي بأدنى صلة ، فالنهار كان رمزاً للإمام الحسين عليه السلام به تنفتح بوابات النص أمام المتلقي الذي يواجه أحد أفضل النصوص التي تناغمت مع ليلة عاشوراء.
ـ الشيخ قاسم آل قاسم
بكائية كربلاء
يومُ الحسين تناهى ذكــره ألمــا * لو أنصف الدمعُ فيه لاستحال دمـا
بكت على رزئه الدنيا وما فتِئــتْ * حتى اليراعُ إذا خطّ ( الحسين ) هما
يظل يمتد في عُمق الزمـان لظـىً * يُثير بركانُها في قلبـه الحمـمــا
يُذكّي لهيبَ رزايا الطفّ ذاكرُهــا * كأن قلب الهوى يسلو إذا اضطرمـا
تغيّرت صور الأشياء يومَ قضــى * كأنّها قتلتهُ فانطــوت نـدمـــا
تبثّ آهاتِها خلفَ التــرابِ وقــد * غالته غائلةٌ واستهدفتـه دُمـــى
وطالما بثّها أحزانَــه سحـــراً * في الطفّ يُبدي لها من دهره سأمـا
أنا الحسينُ الذي أوصى النبيُّ بــه * فأين ضاعت وصاياه وما رَسمـا ؟
أنا الحسينُ واُمّي فاطـمٌ وأبـــي * كان الإمامَ الوصيَّ المُفردَ العلمــا
أنا الحسينُ ، فقالت زينبٌ وكفــى * بذكركَ الخير يا أعلى الورى قِدمـا
فقال يا أخت ماذا جدّ مـن حـدثٍ * حتى أموت غريب الدار مهتضما ؟
ماذا جنيتُ ؟ فقالت يا أخي وبكـت * لأنك ابن عليٍّ والمصـابُ نمــا
فقلّبَ السيفَ في كفّيهِ وارتعــدتْ * يدُ السماءِ وناداها : وهل أثِمــا ؟
كأنهمْ نكروا منــه مواقفَـــهُ * في حربِ آبائهم قِدماً وما رحمـا
لم يُثنه عزمُه عن قَطعِ دابـرهِم * ولم يكن يرعَ في أعدائه ذِمَمــا
حتى تواصوا على إفناء عترتـه * قتلاً وهتكاً وجاؤوا يركبون عمى
وما دروا أنّنا أسيافُ حيــدرةٍ * أصداؤنا أورثتهم في الوغى صَمَما
وكيف نرضى بما تأباهُ عزّتُنــا * لعصبةٍ لم نكن نرضى بهم خدمـا
فأسبلت عبراتٍ ملـؤها الـــمٌ * كأنّما قلبها في دمعهـا انسجمــا
وفي غدٍ يتفانى جمعُكُم وأنـــا * أراكُم جُثثاً فوق الثـرى رممــا
يا ليتما طال ليلي والحسينُ معي * وذاكَ شبلُ عليٍّ يَحرسُ الخيمــا
لكنّها أشرقت شمسُ الصباحِ بهـا * وظلَّ يقتاتُهم صرفُ الردى نَهِمـا
حتى تقضّت مناياهُمْ وأفردَهــا * جورُ الزمان ، وساقوهُنّ سَوقَ إما
يومٌ تَكَشّفَ عن دُنيّـاً مزيّفــةٍ * داست بأقدامها الإسـلام والقيمـا
عجبتُ كيف يواريه ثرى جـدثٍ * وكيف تحويه أرضٌ والحسينُ سَما
أليس ذا وأخوه طالمـا ارتقيــا * كتفَ النبيِّ « ونعم الراكبانِ هُما »
وكيف خَلّف أُختاً لا حياةَ لهــا * إلاّ على قلبــه لكنــه انثلمــا
وكيف مرّت على أشلائه ورنت * بنظرةٍ تتحرّى الكـفَّ والقَدَمــا
كانت به تُبصر الأشياءَ فانكسفت * أنوارُه فاستوت في عينها عدمــا
كانت له ساعداً في يوم محنتــه * وشاطرتُه الرزايا غُربةً وظمــا
لكنّها امرأةٌ مثكولــةٌ ورثــت * على مصائبها الأيتامَ والحُرمــا
قاسم آل قاسم
الخميس 1 / 11 / 1416 هـ
الشيخ قاسم آل قاسم
قصيدة آل قاسم باحثة عن الجدوى مما حدث ومبينة للأسباب التي أوصلت النتائج فهي برهانية السجيّة ، منطقية الترتيب لبست هنا حلّة الشعر كأداة إيصال لبحثها وإستنتاجاتها فهي راقبت ماوراء الظواهر لكن لتصل الى الفحوى والعبرة واقتفاء الأثر ، فهي مهتمّة بما ينير الدرب للسالك الباحث عن الجدوى ، وهي زاهدة بالجمال العارض وإن كانت تجاوره وتحاوره وتساقيه بأكؤوسها العرفانية غير المليئة تماماً ، فهي تتعهد الجمال كحالة خيّرة ولا تُصاحبه إلا لأنّه وعاء لما هو حق صُراح ، لكن مجاهدته للحيلولة دون أن يفلت الجميل المحسوس من لسانه تبقى مجاهدة ناقصة فنلاحظ أنّ الجمالية تطغى على براهينه وسلوكه وزهده ومجاهدته لتقول له : ( إنني شعر تقوله شفتاك بعد أن إحتدم في داخلك وإنكشف أمام المتلقين مظهراً إزدواجية الجدوى وإنشطار السلوك وتشظّي المجاهدة لأن لي وجوداً أصيلاً فيك بلا تواضع ، وأسّاً غائراً في روحيتك بلا زهد ) ، وأنا كمتتبع لنتاج آل قاسم أراه قد كتب هذه القصيدة بأصابعه التي حملت قلمه ، سوى بعض الأبيات التي فرّت من أسار التعجل المقصود مثل :
عجبت كيف يواريه ثرى جدث * وكيف تحويه أرض والحسين سما ؟
أو مثل هذين البيتين :
وكيف مرت على أشلائه ورنت * بنظرة تتحرّى الكفّ والقدمــا
كانت به تُبصر الأشياء فانكسفت * أنواره فاستوت في عينها عدما
لكننا رأينا في تجاربه الأخيرة منحى جديداً يعيده ـ إن لم يقدمه ـ الى مكانه في الصف الشعري المتقدم.
ـ للشيخ لطف الله الحكيم
الشهب الزاهية
أبكي الحسينَ وآلَهُ في كربــلا * قُتلوا على ظمأٍ دَوينَ المنـهــلِ
مَاتوا وَما بلّوا حرارات الحشـا * إلا بطعنةِ ذابـلٍ أو منـصــلِ
يا كربلا مَا أنـتِ إلا كربــةٌ * ذِكرَاك أحزنني وَساقَ الكربَ لي
مُذ أقبلَ الجيشُ اللَهـام كأنَــهُ * قِطَعُ الغَمامِ وجُنحُ ليـلٍ أليّــل
بأبي وَبي أنصارَهُ مِنْ حَولــهِ * كَالشُهبِ تزهوِ في ظَلامِ القسطلِ
أفديه وهو مُخاطبٌ أنصــارَهُ * يَدعوهُمُ بلطيـفِ ذَاكَ المِقــولِ
يا قومُ مَنْ يَردِ السلامةَ فليجـدَّ * السيرَ قَبلَ الصُبـحِ وليترَحــلِ
فالكُلُ قالَ لَهُ على الدُنيا العفـا * والعيشُ بَعدكَ يا ربيعَ المُمحَـلِ
أنفرُّ عنكَ مخافةَ الموتِ الـذي * لا بُدَ منهُ لمُسـرعٍ أو مُمهِــلِ
واللهِ طعمُ الموتِ دونَكَ عِندنـا * حُلوٌ كطعمِ السلسبيـلِ السلسَـلِ
فجزاهُمُ خيراً وقال ألإ انهضوا * هَيـا سُراعـاً للرحيــل الأوّلِ
فتوطأوا الجُردَ العُتاقَ وَجردُوا * البيضَ الرقاقِ بسُمرِ خطٍ ذُبَّـلِ
مِنْ فَوِقِ كُلِ آمونٍ عثـراتِ الخِطـى * صافي الطلاءِ مُطهّــمٍ وَمحَجّـــلِ
ما زالَ صَدرُ الدستِ صدرَ الرتبةِ الـ * عُلياء صدرَ الجيشِ صـدرَ المحفــلِ
يَتطاولـون كــأنَهُم اســـدٌ على * حُمرٍ فتنفِــرُ كالنعَـــامِ الجُفَــلِ
وَمضوا على اسمِ الله بيـنَ مُكبــرٍ * ومُسبــحٍ ومُقـــدسٍ ومُهلـــلِ
يَتسِابقونَ إلى المنــونِ تَسابقُ الهـ * يمِ العِطـاش إلــى وَرِود المَنهَــلِ
حتى قَضوا فرضَ الجهادِ وصُرِعُـواِ * فَوقَ الوِهَاد كُشهـب أُفــقٍ أفـــل
صَلى الالَهُ عَليهِـــمُ وَسلامُـــهُ * وَسقى ثَراهُمْ صَوبَ كُلِ مُجلجـلِ
ـ للسيد مدين الموسوي
ليلة الخلد
لا تتركي حجراً على حجـر * يا ليلــة الأرزاء والكــدرِ
صُبّي على الدنيا وما حملتْ * من نار غيضك مارق الشررِ
وتهتّكي مـن كلّ ساتــرةٍ * لم تحفظي ستراً لمنستـــرِ
لا عاد صُبحك أو بدا أبـداً * في ظل وجهك مشرقُ القمـرِ
يا ليلةً وقف الزمانُ بهــا * وجلاً يُـدوِّن أروع الصـورِ
وقف الحسين بها ومَنْ معه * جبلاً وهم كجنادل الحجــرِ
ما هزّهم عصفٌ ولا رعشت * أعطافهم في داهم الخطــرِ
يتمايلون وليس من طـربٍ * ويسامرون وليس في سمـرِ
إلاّ مع البيض التي رقصت * بأكفّهم كمطالــع الزُهــرِ
يتلون سرّ الموت في سـورٍ * لم يتلُها أحدٌ مـع الســورِ
ويرتلون الجرح في ولــهٍ * فكأنه لحنٌ علــى وتــرِ
خفّوا لداعي الموت يسبقهـم * عزمٌ تحدّى جامد الصخــرِ
مذ بان جنـب الله مقعدهـم * ورأوه ملء الروح والبصـر
هدروا كما تحمي لها أجمـاً * أسدٌ دماة الناب والظـفــرِ
وبنــاتُ آل الله ترقبهــم * بعيونها المرقـاة بالسهــرِ
يا نجمُ دونك عن منازلهـم * لا تقتـربْ منها ولا تــدُرِ
لا تستمعْ لنــداء والهــةٍ * مكلومةٍ من بطشة القــدرِ
أو تنظرنَّ إلـى معذبـــةٍ * حرّى تودّع مهجـة العُمُـرِ
تسقي عيون البيد أدمعهــا * لتظلَّ مورقةً مـن الشجـرِ
لله قـد نـذروا بقيّتهـــم * وتسابقوا يوفون بالنُـــذُرِ
والموت يرقبهم على حـذرٍ * منهم وهم منه بـلا حــذرِ
نامت عيون الكون أجمعهـا * وعيونهم مشبوحـة النظـرِ
لله ترمقــه ويرمقهـــا * كبراً وهم يعلون في كبــرِ
وأبو الفداء السبط يشحذهـا * بالعزم يوقظ ساكن الغيــرِ
حتى إذا بان الصباح لهـم * لم تدر هل بانوا من البشـرِ
أم هم ملائكـةٌ مطهــرةٌ * يستمطرون الموت للطـهـرِ
هبطوا وعادوا للسماء معـاً * في خيـر زادٍ عُدَّ للسفــرِ

مدين الموسوي
1 / ذو القعدة / 1416 هـ
السيد مدين الموسوي
( ليلة الخلد ) قصيدة موازاة ومضاهاة تحاذي النماذج الشعرية المتقدمة في العصر الحديث ، ولعلها تحاكي جوهر التجربة الجواهرية في أكثر من موضع مخلصةً ووفية للوقوف في موقع الماضي الذي تعتقده أفضل ، لتجذّر لإنطلاقها فهي رمية قوس وسهم كلما إرتدّ الى الوراء أكثر إكتسب طاقة وقدرة أكبر للإنطلاق إلى الأمام أكثر.
وهي تبجّل القوانين المعيارية والأعراف التي صنعت مجد القصيدة العربية في كل زمان ، وهي تديم زخم الإستمرار في محاكاة أفضل ما في التراث العربي الشعري وترى أن هذا الإستمرار أفضل من الإنشقاق والخروج غير المحسوب العواقب ، فهي تحاول أن تبني كلاسيكية جديدة لا تنافس تلك الكلاسيكية بل تساير نماذجها الخالدة مولية حركة الحياة إهتمامها في تأصيل يحفظ الثوابت ويراقب المتغيرات ومع خلق حالة التوازن بين متصارعات متعددة تبدو مهمة مدين الموسوي عسيرة وضاغطة في التحلّي تارة بما هو أصيل والتخلّي أُخرى عن ماهو طارىء حتى ولو كان فيه إغناء للتجربة وتعميق للمشاركة الوجدانية المحتدمة.
وبعد فالقصيدة في لغتها تحاذي وتحتذي أساليب النموذج في عملية إختيارها للألفاظ مع تحفّظ واضح من طريقة الكتابة قرب معجم مفتوح ، بل هي تفلت في أحيان كثيرة من هذا الأسار الضاغط لتقول :
يا ليلة وقف الزمان بها * وجلاً يدوّن أروع الصور
أو تقول :
ويرتّلون الجرح في ولهٍ * فكأنه لحنٌ على وتــر
وتساهم إنسيابية بحر الكامل الأحذّ وترنّمه في فسح المجال أمام الشاعر لمضاهاة حتى بعض التراكيب أو الأنماط الشائعة مثل صيغة ( حتى إذا ) :
حتى إذا بان الصباح لهم * لم تدرِ هل بانوا من البشر
في إختلاس حذر من الإستخدام الممتد من أبي تمّام وحتى مصطفى جمال الدين.
ونخلص إلى أن قصيدة مدين الموسوي حققت سندها في المتن الشعري.
ـ للسيد محسن الامين ـ عليه الرحمة ـ
المهج الغوالي
وأتى المساءُ وقـد تجهّمَ وجهُـهُ * واليوم محتشد البـلاء عصيـبُ
قال اذهبوا وانجوا وَنَجوا أهلَبيـ * تي انني وحدي أنا المطلــوبُ
لا ذمـةٌ منـي عليــكم لا ولا * حرجٌ ينالكــم ولا تثـريــبُ
فأبتْ نفوسُهُم الأبيّـة عنــد ذا * أن يتركوه مع العِدى ويغيبــوا
وَتواثبت ابطالهـم وجميعـهــا * بالحزم والقول السديد تجيــبُ
كلا فلسنا تاركيــكَ وما بــه * يوم القيامـة للنبــي نجيــبُ
نفديكَ بالمهج الغوالي نبتغي الـر * ضوان ما فينا بـذاك مُريــبُ
نيل الشهادة بالسعـادة كافــلٌ * يومَ الحسابِ واجرُها مَجلــوبُ
هَذي الجنـانُ تهيّـأت وَتزينــت * للقائنــا ولريحِهـنَّ هُبـــوبُ
والطالبية للقِــراعِ تواثبـــتْ * تَدعو وكـلٌ للنــزالِ طَلــوبُ
ماذا يقول لنا الورى ونقولـــه * لهم وما عنـا يجيــب مجيــب
إنا تركنا شيخنــا وإمامنـــا * بين العدا وحُسامُنـا مَقـــروبُ
يأبى لنا شرف الأرومة أن يـرى * فينا مَشينٌ أو يكــون مَعيــبُ
فالعَيشُ بعـدَكَ قُبِّحَـتْ أيامُــه * وَالموتُ فيكَ مُحبَّبٌ مَرغـــوبُ
بَاتوا وَباتَ إِمامُهُم ما بينَهـــمُ * وَلهـم دَويٌّ حولَــه وَنحيــبُ
مِنْ راكعٍ أَو ساجدٍ أَو قــارىءٍ * أو مَنْ يُناجي رَبَّـــه وَيُنيــبُ
وَبدا الصباحُ فأقبلتْ زُمَر العـدى * نَحوَ الحسينِ لها الضلالُ جَنيــبُ
سامُوه وِردَ الضيمِ أو وردَ الردى * فأبى الدنيةَ والنجيــبُ نَجيــبُ
يأبى له وردَ الدنيـةِ ضارعــاً * شَرفٌ إِلى خيرِ الانامِ يـــؤوبُ
هيهاتَ ان يرضى مقامَ الـذلِ أَو * يقتادهُ الترهيبُ والترغيــبُ
هِمَمٌ على هامِ النجوم
فرماهُمُ المسرى بعرصةِ كربلا * فغدت بلاءً تلكُـم العرصـاتُ
قال انزلوا هي كربلا وعراصُها * فيها البلاءُ وعنـدها الكُربـاتُ
باع ابنُ سعدٍ دينَه وشرى به الد * نيا ولكـن ربحُـه حســراتُ
للري أمسى والياً وشرى بــه * غضبَ الالهِ فحظُه النقمــاتُ
قاد الجيوشَ لحربِ سبطِ محمدٍ * ضاقتْ بها الارجاءُ والفلـواتُ
ما إِن تمتعَ بالولايةِ واغتــدتْ * بالرأس منُه تَمايـلُ القصبـاتُ
جاء المسا فدعاهُم قوموا اذهبوا * فالليلُ سترٌ جَهرهُ إخفـــاتُ
لا يطلبُ الأعداءُ غيري فاتـر * كوني ما بكُم مِن بيعتي تبِعَـاتُ
فأجابَه الأنصارَ هـذي منــةٌ * سَبقتْ لنا قَلَّت لهـا المنــاتُ
إنا نُجاهدُ دونَكُم وتُقطَّــعُ الـ * أَعضاءُ منا فيكَ وَالرقَبـــاتُ
ثم الرسولُ شَفيعُنا يومَ الجـزا * وَ لنا بهذا تُرفعُ الـدرجــاتُ
أفنحنُ يوماً تَارِكوكَ وَهَــذهِ * بك قد أحاطتْ اذؤبٌ وعــداةُ
لا كانَ منا اليومَ تَركُكُ وَالـذي * قد أحصيت في علمه الـذراتُ
بالسيفِ أضربُهم وَأطعنُهم