الادب الحسيني

ـ للشيخ محمد حسين الأنصاري
دوّي النحل
ذاك ليـلٌ فيه استعدّت لصبحٍ * ثُلَّةُ العزِّ وهي عزَّت مثــالا
غار بالليـل كلُّ نجم مُضيءٍ * خجلاً منهُمُ فــزادوا جلـالا
فحسينٌ كساهُــم أيَّ نــورٍ * فيه تخفى الأنوارُ وهي تـلالا
لا يعدون عمـرهم غير صبرٍ * بين حدِّ السيوف إلاًّ حــلالا
لا يعدّون عُمرهم غير شـربٍ * لكؤوس المنون حتّى الثمـالا
ودويٍّ كالنحــل في صلوات * لو أتوها على الوجود لـزالا
يشحـذون الفؤادَ كي لا يُهـالا * حين ترتجّ أرضُها زلــزالا
فحبيبٌ يُوصيــهُمُ بحبيــبٍ * وحبيبُ الجميع ربٌّ تعالــى
برزوا للوجود أحلــى نجومٍ * منهُمُ ازداد كلُّ شيءٍ جمـالا
وإذا بالحَمَار يبـدأُ فجـــراً * كلُّ فجرٍ بُحمرةٍ يتعالـــى
إذ يبثُّ الحياةَ في كلِّ شــيءٍ * منه حتّى الجماد يبغي انتقالا
وكأن الجميعَ هبّ سريعــاً * من عِقال وما يُريـدُ اعتقالا
وإذا بالحسين فجرٌ عجيـبٌ * يتصدّى لليل ظُلــمٍ توالى
يضمحلُّ الطُغيانُ وهو عظيمٌ * وعنيدٌ بنورهِ اضمحــلالا
الأستاذ أحمد الماجد
قصيدة الماجد ( خصلة شعر لساعديّ ) إعتمدت الوحدة العضوية في نسيجها بمتابعة متأملة لحركة خيول يستعطيها أن تأتي من زمن عصيّ لتمسح البعد المأساوي عن صفحة الوجود وانعكست حركة الخيول إيقاعاً نفسياً داخلياً أحاط أجواء القصيدة في مونولوجها الداخلي وتداعياتها المتسائلة الباحثة عن الخلاص من ليل المتاهة.
الإستعطاء تبدّى في عنف الأسئلة المتتالية فالنص يبدأ بسؤال كبير ( من ذا سيعبر بين الفراتين ؟ ) والعبور ببقعة جغرافية محددة رَمَزَ لها الشاعر بالفراتين فأزاح الدلالة عن أن تكون مخصوصة بالفرات ـ وهو مفردة تنتظم في تشكيلة الطف جغرافياً وشعورياً ـ ليذهب أبعد في انتظار ما سيحدث فيخاطب الخيول ليعرّفها بنفسه ( هذا أنا ربُّ هذا المسيل المولّه بالصافنات الجياد ) إنه صاحب المسيل والإقتران المائي واضح في تتابع ( الفراتين ـ المسيل ) لكن هذا المسيل هو تيار الوعي الذي يلازم الحب هنا بصيغة الخلاص فهو مولّه بالصافنات الجياد في إسقاط قرآني لتلبّس شخصية النبي سليمان عليه السلام بشكل ناقص فهو أضلع خاويات تتساءل بإلحاح مقترن بالقسم ( بربك أيُّ المضامير رحت تجوبين فيَّ ؟ ) في حركة داخلية نفسية هي حركة الأمل داخل الذات و ( أيّ الأعنّة شدّت يداي ؟ ) وهو أمل آخر عندما تقبض يداه على أعنّة غير محدّدة للخيول ليبتدأ مونولوجاً عاطفياً يناجيها به من ( أحبك يا من تجيبين نذري ) إلى أن تظهر صنمية الحب في تقبيل نقش الحوافر فوق الصعيد وتكون آثار الأمل الصغيرة هي الأمل كلّه في قيام وهويّ ينتهي إلى التحضيض والطلب ( فهلاًّ تعجّلت برئي ) ويتحوّل جانب حسيّ من الأمل هو ( صدى الحمحمات ) إلى نحيب ذائب في القلب لنبدأ حركة أخرى من ندائه لها لكن على التخصيص هنا ( جياد الخلاص ) ويطرح عهداً وميثاقا بالتضحية قائماً على الإستعطاف والإلحاح في الطلب ( أفيقيه عدواً.. قضّي مضاجع هذا الرفات ) وهي حالة يأس من النهوض والقيام الذاتي فتتمّ مطالبة الأمل المجسد في الخيول في حركتها الصاخبة الممتلئة بالحيوية ( قليل من العدو يسكر رمسي ) هذه الحاجة إلى ومض بسيط لتنبعث الحرائق وتدب الحياة ويتكرر هذا الخطاب ثانية في القصيدة لتلحقه لفظة ( فأصحو ) هذه الصحوة المطلوبة بإصرار مبدئي تأخذ شكل الحتمية في عودة الروح إلى أوصال المدنف التي تحملت عناء المسيرة وتكرر هذا التحمل والمعاناة إلى أن تتم الإفاقة والنهوض.
قصيدة الماجد ولائية الجذور وعقيدية الإنطلاقة بشكل يخلق واقعية خاصة يمكن أن نسميها الواقعية الشعرية التي لاتصاحب الواقع الحقيقي لتطابقه بل لتوازيه وتنهل من ينابيعه بإختيار صادر عن موقف وتجربة وتوجه جمالي فني.
وأخيراً فإن ليلة عاشوراء لم تكن موجودة في نصه كوثيقة تاريخية بل كحالة مستبطَنة يخاطبها الشاعر بإيماء مكثّف من خلال خطاب عام للجرح الحسيني الغائر في الأعماق المتلهّفة للخلاص.
ـ للشيخ مهدي المصلّي
عزائم الابطال
ليلةٌ أسهرت عيـون الليالـــي * لتُرينـا عزائــمَ الأبطـــالِ
وتُرينا الشموسَ تفتــرسُ الليـ * ـلَ لتمحو عصرَ الليالي الطوالِ
وتُرينا التاريخَ أشـرقَ فيـــه * عقدُ نورٍ مرصّـعٍ باللآلـــي
وتُرينا الإنسانَ يسمو على النجـ * ـمِ مناراً ورجلُهُ فـي الرمـالِ
وتُرينــا الليلَ الذي يلـد الفجـ * ـرَ فيهوي ظلامُـهُ للــزوالِ
فيها عصبةٌ تُسبـــحُ بالحـمـ * ـدِ فتذكي شوامــخَ الآمــالِ
في دويٍّ كالنهـرِ يملـؤُهُ التسـ * ـبيحُ ينسابُ من رُبى شَــلاّلِ
في جلالٍ كنسمةِ الفجرِ هبّــت * لتبُثَّ الحيـاةَ فــي الآصــالِ
والحسينُ الشهيدُ يفتحُ بـابـــاً * في زوايا المسيرِ والترحـــالِ
إنما شخصيَ المرادُ فسيـــروا * ودعوا ساحةَ القنا والنصـــالِ
فإذا بالقلوبِ تنطـــقُ إنّـــا * بمواضي سيُوفِهم لانُبــالـــي
إنما الموتُ يفتحُ البابَ للخــلـ * ـدِ فتُمحى عظـائمُ الأهـــوالِ
إنّنا نعشقُ الشهادةَ في الحـــقِّ * وإن مُثِّلَـتْ بألـــفِ مِثـــالِ
وسنبقى حولَ الحسيــنِ سِياجـاً * من قلوبٍ لا من سيوفٍ صقــالِ
فالقلـوبُ الولهى أحدُّ من السيفِ * وأقوى من الــدروعِ الثقـــالِ
والفؤادُ المجروحُ يعصفُ كالاعـ * ـصارِ يمحو ثوابـــتَ الآجالِ
والجريحُ المظلومُ لا يَرهبُ الموتَ * إذا ما دعاهُ داعــي النِّـــزالِ
إنَّما المـوتُ خطوةٌ لجنانِ الخلـ * ـدَ أو رشفةٌ مـن السلســـالِ
حبَّذا الموتُ في سبيلِكَ يــا سِـ * ـبْطُ ويا حَبَّذا مروعُ القتـــالِ
ليس في المـوتِ ما يُخيفُ إذا كا * نَ سيُحي ضمائـرَ الأجيـــالِ
ليس في المـوتِ ما يُخيفُ إذا كا * نَ طريقاً الى جَميـل المـــآلِ
رايةٌ قَلبُها الحسيــنُ تَشـــقُّ * الحشرَ شقاً الى عظيـمِ النَّــوالِ
وقلوبٌ حُـبُّ الحسيــنِ يناغيـ * ـها تغذَّت حياتُهـا بالـــزّلالِ
حُبُّهم مصدرُ الـرواءِ وأسّ الطُـ * ـهرِ والخيرِ والهدى والجمــالِ
في سبيل الحسين ما أنتَ يا موتُ * سوى يـومِ رحلــةٍ للكمـــالِ
ليس أغلى من الحيـاة ولكــن * لك غالي أرواحِنــا والعيــالِ
كلُّ غالٍ تَملَّكَ القلــبَ حُبــاً * في سبيل الحسينِ ليـسَ بغالــي

الشيخ مهدي المصلّي
تتدفق الصور في قصيدة المصلّي ببراءة إبداعية متصاعدة في الكشف عن أحداث ليلة عاشوراء فهو حريص على التسجيل والتوثيق لكن عبر عينيه المفتوحتين على ماوراء الظاهر والسطحي والمألوف لنشاركه كشوفه وإرتياداته لدروب الحقيقية والمصير البشري عبر ليلة نوعية في حسابه لليالي التي مرّت ولا زالت تمرّ وستبقى تمرّ كاشفة لنا بؤس المصير لغير المرتبطين بسموّ الحقائق المطلقة السائرين في متاهات السراب والخواء والجدب فنرى المصلّي صدّاحاً بما تجلوه الليلة من ضميره :
وتُرينا الإنسان يسمو على النجم * مناراً ورجلـــه في الرمــال
مع إرتباطه بما هو ارضي فهو متطلّع الى السمو والتحليق بروحه في سماوات الوجود الحق فهكذا الإنسان المتكامل.
والمصلّي مع معانقته لجلال الأفكار السامية فهو لا يعدم وسيلة الى طرحها بمعادلاتها الشعرية الوجدانية المصوّرة حتى أنه يقارب المتن التاريخي بصور شفّافة وتكوينات بصرية برّاقة فنراه يقول عن الوصف التاريخي لعبادة الأصحاب ( دويّ النحل ) :
فى دويء كالنهر يملؤه التسبيح * ينســاب من ربـى شـــلال
فهو يفكّك الوثيقة التاريخية ليعيد انتاجها وفق ماتريد شاعريته لكن ضمن الإطار الدلالي العام الذي لا يعوم بعيداً عن ضفاف التوصيل وربما خرج علينا بحلّة شاعرية محضة ليُنطِق الشخصيات التأريخية بما يخطر لتأملاته أن تقول فنراه يُنطِق الأصحاب بما يحسّه هو :
وسنبقى حول الحسين سياجاً * من قلوب لا من يسيوف صقال
هذا هو التوغل الباحث عما هو جوهري وعما وراء الظواهر في تجربة مهدي المصلي الشعرية يتجلى في هذا البيت المنسوج بكل الأدوات الممكنة فنرى الخروج على التراكيب النمطية التقليدية في بؤرة تركيبة مشعّة على عموم البيت في ( سياجاً من قلوب ) وهذا التركيب حداثي أدخله المصلي بكل يسر الى قلب البيت لينظّم دقّاته بنبض متسارع على مستوى المضمون والشكل ولنا أن نلاحظ أيضاً ثيمة إيقاعية تقصّدها الشاعر في إستخدامه لحرفين من حروف الصفير الصاخبة هما ( السين والصاد ) فنرى صدر البيت وقد توشّح نُطقاً بثلاثة سينات تموسق الإيقاع المتشابك لبحر الخفيف ببريق لحني أخّاذ في ( وسنبقى حول الحسين سياجاً ) في تعارض ثنائي مع حائين في الوسط متجوّفين كعمق نغمي مستقر في ( حول الحسين ) لننتهي الى قفلة مطربة تسبق جرس حرف الروي من القافية عندما إشتبكت السين في ( سيوف ) مع الصاد في ( صقال ) بصفير متقابل لايُوفّق له إلا ذو حظّ عظيم من الشاعرية التي تستوعب وتشمل وأراني منساقاً إلى إبداء أكثر من الإعجاب بهذه الشاعرية الفذّة التي سيكون لها شأن عندما تنفتح بشكل أكثر عمقاً على التجارب الشعرية الأخرى وأختم إنطباعاتي ببيت آخر للشاعر بلا تعليق :
راية قلبها الحسين تشـــق * الحشر شقّاً الى عظيم النوال
ـ للسيد مهنّد جمال الدين
الليل ورفيقه في الليلة الأخيرة
في آخر ليلة وقف الحسين بن علي عليه السلام بين يدي الله متهجِّداً كعادته...غير أن الليل في هذه المرّة له حوار مع نفسه وهو انه يشعر بانقضائه إلى الأبد حينما يأتي الصباح...
الليلُ قد نثر الدموعَ رحيقـــا * وهوى يُقبّل في الظلامِ رفيقـا
خمسُونَ ما رعِشَ الضميرُ لغيره * أبداً... وما عَرفَ الفؤادُ عُقوقا
كانت لياليه الحسـانُ وضيئــةً * تزهو على كبد الزمان بروقـا
وتصاعدت أنفاسُه فـي موكـبٍ * قد زُفّ للأفلاك نوراً يوقــا
وإذ ارتقى نحو السماءِ نشيجــهُ * غفت الشجونُ وجُنّت الموسيقى
رقصت وقد سال النُهى في كأسه * فالفَجرُ جاءَ مُهرولاً ليذوقــا
حتى إذا اقتربـت إليــه غــادةٌ * حسناءُ تضرمُ في الدِماءِ حَريقــا
الصُبحُ في وَجناتَهــا مُتـــورّد * ومن الفضاءِ النورُ يشكو ضيقــا
فترنّحت بالوجد تَعتصـرُ المُنــى * لتصبَّ قلباً في الغـرام أُريقـــا
قالتْ وقدْ فاحَ العبيـرُ بصوتهــا * والثغرُ نثَّ أقاحيـاً وشقيقـــا :
هلاّ نزلت إلى فـــؤادي مَرّةً * وهل ارتشفت رضابَهُ والريقـا
إنّي أمدُّ يداً لقد ذابـت لهـــا * كلُّ القلوبِ ومُزّقتْ تمزيقـــا
فهل ارتضيتَ بأن أكون عقيلــةً * لأصونَ من غيظي الدّمَ المحروقا؟!
فأجاب :مَنْ هذي التي دَوّت بنــا * وَمَضَتْ إلى النجوى تَشقُ طَريقا؟!
قالت : أنا الدُنيا وهذي نِعمتي * تجني الثمارَ أسـاوراً وعقيقـــا
فأجابها والحلمُ يمتشق السنـــا * ويمدُّ صوتاً في الوجود طليقــا :
حَرُمَتْ على الأبناء من قد طُلِقَتْ * وأبوهُمُ مَنْ أَوقـعَ التطليقـــا
وأبي لقد حَفِظَ الزّمـانُ طَـلاقهُ * لكِ في صَميمِ الخالداتِ بريقــا
الليلُ يسمــعُ ما يـدورُ بقلبـــه * فيعدُّ دقــاتٍ لــه وشهيقـــا
ويعدُّ ليلته ـ وقد ماست بـــه ـ * أملاً يَمــوتُ وعالمــاً مَسروقا
هي آخـــرُ العنقودِ يَـدري أنهـا * تلِدُ الصباحَ وضــوءَه المخنوقـا
فلتستعدّي يـا نجــوم وتخمــدي * فجراً تخطّى نحونــا وشروقــا
طولي فقد شدَّ الرحيــلُ رِكـابَـهُ * وبه تهجّى الضــارعُ التفريقــا
فغداً يخرُّ الوهم من عليائــه * وأبو عليٍّ يَرسمُ التصديقا
وغداً يُطهِّرُ من نزيف جراحه * ماءً على نهرِ الفراتِ غريقـا
ويشيدُ نصراً للإباءِ مُنضَّـراً * ويُنيرُ جُرحاً للسُراة عميقــا
ويَخطُّ للثوّارِ درباً واضحــاً * ويصونُ للمتطلّعين حقوقــا
السيد مهند جمال الدين
في قصيدة ( الليل ورفيقه ) يبدو مهند جمال الدين وريثاً كفوءاً لتجربة أبيه الشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين إلى حد الإقتراب من التطابق رؤىً وتأملاً وأدواتاً.. جزالة لفظ.. وتصورات مشرقة وبناء منتظماً بكل مميزات قصيدة مصطفى جمال الدين العاشقة الولهى التي تناغم إشراقات النَفَس العباسي الأصيل في استخدام معاصر للمفودات واستصحاب للتراكيب المتقدمة زمنياً وتفوق في إختيار موقع مغاير للإطلالة المتأملة على جوّ القصيدة وحدودها وآفاقها وتحولاتها وتطلعاتها.
إن هذه القصيدة تخيّرت الإصطفاف والإنضمام إلى طابور طويل يقف فيه شعراء العمود مدافعين بصرامة واستبسال عن ماء وجه القصيدة العربية الذي تأكّله جذام النظم الرديء والتنميط المسطح لكل خواء روحي مصبوب في قالب الوزن ومجترّات القوافي المقحمة.
على أني رأيت أخيراً في نتاج مهند جمال الدين تطلّعاً مختلفاً عن الإتّباعية والإحتذاء بالمثال في بواكيره على الرغم من إخلاصه ووفائه في هذه القصيدة لكي يكون صدى وترجيعاً حتى في إختياره لبحر الكامل دون البحور الاُخرى ( والذي يشكل ثلث شعر السيد مصطفى جمال الدين المنشور ) أو تطعيمه لقصيدته بصيغ بنائية تخصّ المرحوم والده كصيغة ( حتى إذا ) التي لاتكاد تخلو قصيدة من قصائد المرحوم الشاعر مصطفى جمال الدين منها فنرى عند مهند :
حتى إذا إقتربت إليه غـــادة * حسناء تضرم في الدماء حريقا ويمكننا أن نرى البذور المستزرَعة القابلة للنمو والإنطلاق الى آفاق جديدة في التعبير والتوصيل مثل هذه البذرة :
وإذا إرتقى نحو السماء نشيجه * غفت الشجون وجُنّت الموسيقى
فهو يقابل المحسوسات الصوتية المسموعة في نهاية الصدر ( نشيجه ) ونهاية العجز ( الموسيقى ) في حركة بنائية محدثة.
ونرى كذلك بذور الإنطلاق والتجدد في الحوارات المبثوثة في منتصف القصيدة بين ( قالت ـ وأجابها ) أو عندما يزاوج بين الخيالات والمحسوسات في :
فأجابها والحلم يمتشق السنا * ويمدّ صوتاً في الوجود طليقا

فالحلم خيالات تنطلق بلغة الضوء المرئيّ الحسيّ ( السنا ) إمتشاقاً أو تنطلق بلغة الصوت المسموع الحسيّ ( صوتاً ) إمتداداً في الوجود.
إنّ شاعرية مهند جمال الدين هنا تتبرزخ مشدودة الى أصداء ما مضى والى نداءات ما سيأتي بدون إنحياز واضح هذا على مستوى البناء أمّا على مستوى التأمل والتصور فهي منحازة بعض الشيء الى السياقات والأنساق الحديثة أكثر.
الصفحة 386
38 ـ للشاعر الأستاذ ناجي الحرز
الفتح المقدس
يُحيِّرُني مصابُكَ كـلَّ عــامِ * ويختطفُ الجسارةَ من كلامـي
فأحشدُ في يدٍ ظمـأى القـوافي * وأشعلُ في اليدِ الأُخرى عُرامي
فتنطفىءُ الحروفُ علـى رؤاهُ * الغريقةِ في السيوفِ وفي السِّهامِ
فأمتشقُ الدموعَ تـذبُّ عنــي * وتؤنِسُ ركبَ حُبِّكَ في عِظامي
** *
أُحبُّكَ يا حسيــنُ وأنت أدرى * لأي مَدى يُغامرُ بي هيامـــي
فَبعضُ الوجدِ أنشُرُه لِـــواءً * وَبعضُ الوجدِ أسرجُهُ أمامــي
وأجترحُ الخُطى حتــى إذا ما * وقفنَ بلهفتي بيــنَ الخيــامِ
سمِعتُكَ ليلةَ التوديـعِ تتلـــو * مواثيــقَ المحبَّةِ والسّــلامِ
وتُقسِمُ أن يظلَّ الديـنُ حيـــاً * بفيضِ جراحِكَ الحُمْرِ الدَّوامـي
رأيتكَ ليلةَ التوديــعِ فجــراً * كأنكَ أحمدٌ خيــرُ الأنـــامِ
وعباســاً يكادُ يشبُ نـارَ الـ * ـعزيمةِ في السِّنانِ وفي الحُسامِ
وزينبَ تستعدُّ لخطـبِ يـــومٍ * يَشيبُ لهولـهِ رأسُ الغُـــلامِ
ويَرجعُ جانبُ الدُنيــا فتيّـــاً * ترفُّ عليه أسـرابُ الحَمَــامِ
* * *
أليلةَ يومِ عاشــوراءَ عُـودي * لكونٍ ساغـبٍ للعدلِ ظامـــي
لأكبادٍ مُروَّعــةٍ تُساقـــى * كؤوسُ المُرِّ من صابٍ وجــامِ
لأعيُّننا التي في الـذُلِّ شاخـتْ * ولا تَنفـكُ تَحلُــمُ بالفِطـــامِ
أليلةَ يومِ عاشــوارءَ عُـودي * بكُلِّ الصحو والهمَـمِ العظـــامِ
أعيــدي فتحَكِ القُدْسيَّ زهواً * حُسينيَّاً على الــداءِ العُقـــامِ
وصُبِّي النورَ في شرقٍ وغربٍ * وليسَ على عـراقٍ أو شـــامِ
فقد عَمَّ الظلامُ وعـادَ حَيَّــاً * أبو سُفيانُ ينفـخُ في الظـــلامِ
الأستاذ ناجي الحرز
إمتازت قصيدة الحرز برشاقة القفز على الموضوع عندما ترك الشاعر المداخل التقليدية المثبتة للولوج فدخل من النوافذ لا من الأبواب بل تسلق أسوار الموضوع من الواجهات الخلفية فاختار زاوية نظر ذاتية بعيداً عن التسجيل المباشر والتوثيق المطابق والإيغال في التفاصيل.
تبدأ القصيدة بإعلان الحيرة المتكررة كل عام مع حلول الذكرى التي تختطف فروسية الكلام وشجاعته فمع وقوف الشاعر بأدواته الفنية وتأملاته الجمالية لكن الحروف تنطفيء عندما تكشف الرؤيا الشعرية أمام الشاعر صورة الإمام الحسين عليه السلام غريقاً بين السيوف والسهام فيترك الشاعر القصيدة ويرفع لافتة الدموع المقابلة لحالة الوجد المرتعش في عظامه والمصورة ـ ببراعة ـ بهيئة ركب أو موكب موالات محتاج للأنس الذي يجده في الدموع ولا يجده في القصيدة.
فالحرز يعلف هيامه ووجده في مسيرته نحو الجرح الخالد وهو يجترح ـ بشاعريته ـ خطاه التي تحمل لهفته وشوقه للقاء فيسمع ثم يرى ويتخلص الى نداء الليلة ومطالبتها بالعودة الى زمنه الحاضر في شكل إسقاط تأريخي يقارن فيه بين زمنين ويعلن عن حاجة زمانه الى طف جديد وفتح قدسي يمتد على كل الأرض :
أليلة يـوم عاشوراء عــودي * بكل الصحو والهمم العظــام
وصبي النور في شرق وغرب * وليس على عــراق أو شـام
ـ للشيخ نزار سنبل
حوار في دائرة الضوء
يجلس أصحاب الحسين عليه السلام يتحدّثون فيما بينهم :
في هُدوء الظلامِ يَفتـرش الر * مل كماةٌ من الهُدى أمنـاءُ
قد اُديرت حكايةُ الزمـنِ الما * ضي وما قد تفوّهَ الأنبيـاءُ
خيرةُ الناس في الزمان رجالٌ * حضنتهم في تُربها كربلاءُ
في غدٍ تُفرشُ الجنانُ الروابي * ويلمُّ السعـادةَ الشهــداءُ
فعَلت في ثغـورهم بسمـاتٌ * إيهِ يا قوم إنّنا السعــداءُ
يأتي الإمام الحسين عليه السلام فيجمع أصحابه ويخاطبهم :
لفَّ جنحُ الظلام أودية الأر * ض فأَغفت عيونها الأعـداء
والدروبُ السمراءُ تعتنـق الليـ * ل بشـوقٍ فتختفـي الأشيـاء
قد وَفيتُم وليس غيـريَّ مطلـو * باً لدى القـوم أيهـا الأوفيـاء
ارتدوا الدربَ في الخفاء سُراعاً * واركبوا الليل أيهـا الأزكيــاء
فيقوم أخوه العباس عليه السلام ويتبعه بنو هاشم فيقولون :
أفنمضي وأنت وحدك تبقى ؟ * ليس هذا من شيمة النبـلاء
أفنمضي لكي نعيش فنشقى ؟ * قد أبينا الحياة في الظلمـاء
ثم يتوجه الإمام عليه السلام نحو بني عقيل ويقول :
حسبكُم مسلم العظيم شهيداً * فاذرعوا الليل خلسةً والبيـدا
ولكنهم يجيبونه :
نحن...نحن...الفداء والقربان * إنما أنـت بالقلـوب تُصـانُ
كيف نمضي وما تعرَّت ذراعٌ * واكتوى خـافِقٌ وبُـحَّ لِسـانُ
ثم يقوم مسلم بن عوسجة الأسدي ويُشير إلى معسكر الأعداء فيقول :
السياجُ الــذي تلـوثَ بالحـقـ * دِ ذئــابٌ ممسـوخـةُ الألـوانِ
أي عـذرٍ إذا التحــم القــومُ * فأقعـت عن نَصركُـم ساعــدان
لا يراني الإلهُ أهــربُ خوفـاً * سوف أمشي للحـرب والميــدانِ
إنّ سهميَّ مرماه صدرُ الأعـادي * ورماحــي مشتاقةٌ للطعـــان
ويقوم سعيد بن عبدالله الحنفي فيقول :
لو قُتلنا سبعبن قتلـة عزٍ * ما تركناك للسيوف طعاما
وسنبقى ليعلم الله أنّــا * قد حفظنا فيك العهود ذماما
ويقوم زهير بن القين ويقول :
قد وددت الممات ألفاً وكانت * لغةُ القتل للحسيــن وقِــاءا
إنّ روحي على يديَّ وأمشي؟ * حاشـا لله أن أروم بقـــاءا
إنها النعمـة الكبيـرة تنصّبُ * لاُلقي لهـا الفـؤاد إنـــاءا
فرحةُ النفس أن تروح فـداءاً * لحسينٍ فترتـدي الأضـواءا
ويتكلم جماعة أصحاب الإمام عليه السلام بكلام يشبه بعضه بعضاً فيقولون :
قد أبت أنفـسُ الكـرام انهزاما * وأحطنــاك سيداً وإمامـا
في غدٍ نُطعمُ المواضي قلوبـاً * ونهزّ الرمــاحَ والأعلامـا
شرفٌ أن نموت دون حسيـنٍ * ونفوسٌ نفدي بهــا الأسلاما
وهنا يشكرهم الإمام عليه السلام على موقفهم هذا :
لكم الجنة الموشاة بالنـور * وفائـي وعينُ كـل وســامِ
أنتمُ الهالة المضيئة ســرٌ * غرقت فيــه قصــة الأيام
في غدٍ تنطوي الحياة ولكن * سوف تحيونَ في نفوس الكرام
كلُ فردٍ يلقى المنية دونـي * دمه الماءُ في عروق النوامـي
صوت يجيء من وراء الغيب :
بارك الله في النفوس نفوســـا * عانقت في الوغى السيوف عروسا
الشيخ نزار سنبل
ما نفذه العسيلي في ملحمته من وحدة البحر واختلاف القوافي نفذه الشيخ نزار سنبل في (32) بيتاً من ملحمة مصغرة من بحر الخفيف ومن قواف متعددة تحت عنوان يشع شعراً ـ أيضاً ـ هو ( حوار في دائرة الضوء ).
ويبدو الشيخ نزار سنبل هنا وهو يدور حول الحادثة بعينيّ فنان تشكيلي تقتنصان ما يجري لتوصلاه الى مخزن التأمل والرؤيا عند الشاعر فمثلاً :
الدروب السمراء تعتنق الليل * بشوق فتختفي الاشيـــاء
أو :
السياج الذي تلوث بالحقـد * ذئاب ممسـوخـة الألوان
لكم الجنة الموشاة بالنـور * وفائي وعيـن كل وسـام
أنتم الهالة المضيئـة سـر * غرقت فيه قصـة الايـام
وتتم عملية تحويل الصور الملتقطة ألواناً وخطوطاً وظلالاً الى لغة مركزة وتراكيب كثيفة تبتدئ المقطعين الاولين من الظلام لتدخل الى المكان بطريقة سردية مستقاة من تقنيات القصة القصيرة أو الأدب الروائي في الاستهلال المكاني فنرى المقطع الاول يبتدئ هكذا :
فى هدوى الظلام يفترش الرمل * كمـــاة من الهـدى أمنـاء
وفي المقطع الثانى :
لف جنح الظلام أوديـة الارض * أغفـت عيونهـــا الاعــداء
ثم تبتدئ الحوارات في تقابلها من جميع الأطراف يصعّدها الايجاز والإختصار في درامية شفافة تسجل لنزار سنبل تمكناً واضحاً في إستخدام لغة المسرح وأدواته فنرى مثلاً حوار زهير بن القين مع الإمام عليه السلام :
قد وددت الممات الفاً وكانت * لغة القتل للحسيـن وقـــاءا
إن روحي على يديّ وأمشـي * حاشـى لله أن أروم بقــاءا
إنها النعمة الكبيرة تنصــبّ * لاُلقي لها الفــؤاد إنـــاءا
فرحة النفس أن تروح فـداءاً * لحسين فترتـدي الاضــواءا

ولا تسلم تقنيات فن السينما من توق الشاعر الى إستخدام كل الطرق والوسائل التعبيرية الفنية الممكنة ليوصل القاريء الى ما يريد فمقاطع قصيدته لقطات سينمائية قريبة ومتوسطة وبعيدة يلمها مونتاج متتابع في تشابك من خارج بناء القصيدة يمنحها إيقاعاً صورياً يقطعه ( صوت يجي من وراء الغيب ) ليعلن نهاية المشاهد وإنغلاق دائرة الضوء.
إن قصيدة نزار سنبل قصيدة ذاهبة الى المستقبل والتجدد بكفاءة أدواتها وكثافة رؤاها وأشكالها المتحركة على محاور تعبيرية متعددة ناقلة ولاءها وإخلاصها عبر تقاطع أبعاد الزمان وهي من نصوص المجموعة المتفوقة في عطائها.
ـ إرجوزةُ للشيخ هادي آل كاشف الغطاء
من الارجوزة الحسينية
الإمام عليه السلام ينعى نفسه
واعتزلَ الحسينُ وَهو يُنْشِدُ * وَسيفُهُ أمامَــهُ مُجــرّدُ
يـا دَهرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَليلِ * كمْ لك بالإشْراقِ وَالأصيلِ
مِنْ صاحبٍ أو طِالبٍ قتيلِ * وِالدّهرُ لا يَقْنَعُ بالبَديــلِ
وَكلُّ حيٍّ سالــكٌ سبيلي * ما أقَربَ الوَعْدَ من الرّحِيلِ
وقدْ وَعَتْ هذا النشيدَ زَينبُ * وَكادَ قَلْبُها لـهُ يَنْشَعِــبُ
قالـت أُخيَّ يا عزيزَ أهلي * هذا كلامُ موقنٍ بـالقتـلِ
قال لها نعم أيـا أختــاهُ * قالت له بعدك واثكــلاهُ
يَنْعى إليَّ نفسَهُ الحسيــنُ * يقولُ قدْ دنا إِليَّ الحيــنُ
وَشقّقَتْ جيُوبَها النســاءُ * وَقدْ عَلا العَويلُ وَالبُكـاءُ
وأمُّ كُلْثُومٍ غَــدَتْ تنـــادي * تَنْدِبُ بالآبــاءِ وَالأجـــدادِ
وا أبتـاهُ وا مــحــمّـــداهُ * وَوا عـلـيّــاهُ وَوا أخــاهُ
تَقُولُ واضَيْعَتَنــا جميعـــا * بعدَكَ إذْ تَغْدوا لقى صريـعــا
قـالَ تَعَــزَّيْ بعـــزاءِ اللهِ * وَفوضّي الأمـرَ إلـى الإلــهِ
فكلُّ مَنْ فَوْقَ الثرى لا يبقــى * وَإنّ سكانَ السمــاءِ تفنــى
صبراً إذا أنـا قُتلتُ صبـــراً * فلا تَقُلْنَ بَعْدَ قتلـي هَجْـــراً
وَلا تَشُقّـنّ عَلَـي جَزَعــــا * جَيْباً وإنْ جَلَّ المُصابُ مَوْقِعـا
وَقدْ رَوى المفيدُ في الإرشادِ * مُذْ سَمِعَتْ زينـبُ بالإنشــادِ
قامـتْ تجرُّ الثوبَ وهيَ حَسْرى * الى أخيها لا تُطيـقُ صَبْــرا
قالتْ لَهُ ياليــتَ إنَّ موتـــي * أعْدَمَني الحياةَ قَبلَ الفـــوتِ
اليومَ ماتتْ أُميَ الـزَهـــراءُ * وَماتْت الاخـوَةُ وَالأبنـــاءُ
الإمام عليه السلام يُهديء خواطرَ العقيلات ويأمرهن بالصبر
والتسليم والرضا بقضاء الله
قــالَ لَها وَشأْنُهُ الكِتْمــانُ * لا يُذْهِبَنَّ حِلْمَكِ الشّيْطـــانُ
وَهوَالذيّ لَمْ يكُ بالجــزَوعِ * ترَقرَقتْ عينـاهُ بالــدّموعِ
ثمَّ هَوَتْ مَغْشِيّـةً عَلَيْهـــا * فقامَ ـ جلَّ صبرُه ـ إليهـا
عنْ نفسِهِ بنفسـه عَزَاهــا * وبَالرّضا وَالصبرِ قَدْ أوْصاها
مجيء الجيوش والتضييق على الحسين عليه السلام
وَاقبلتْ جيـوُش آلِ حــرْبِ * حتّى بهم قدْ ضاقَ كلُّ رَحْبِ
جاءَتْ لهُ بخيِلهــا وَالرّجْـلِ * كأنّها تطِلبُــهُ بِذَحْـــلِ
عشرون ألف فارسٍ بَلْ زادوا * وَالرّاجلونَ ما لَهُـم عِــدادُ
فضيّقوا على الحسينِ السّبُـلا * وَمَنَعوهُ سَهْلَهـا وَالجبَــلا
وَشَمّروا ثِيابَهـمْ للحَـــرْبِ * واسْتَسهَلوا لذاك كلَّ صَعْـبِ
تأجيل الحرب إلى الصبح
فقالَ للعباسِ سِـرِْ للقَـــوْمِ * واصْرِفْهُمُ بياضَ هذا اليــومِ
لَعَلَّنا لرَبّنـــا نُصـلّـــي * في هذه الليلة ذاتِ الفضــلِ
وَقدْ توقَّفَ ابنُ سعـد عُمَــرُ * والخيرُ مِن أَمثالِه لا يَظْهــرُ
لكنَّ بعــضَ القومِ من أتباعِهِ * أبدى لَهُ المَلامَ في امتناعِــهِ
قال : لو انّ غيرَهُـم إِلينـــا * جاؤوا وَ رامُوا ذاك ما أبينـا
كيفَ وَهُمْ اَجلُّ ساداتِ العَرَبِ * وَهُمْ سُلالَةُ النبيِّ المُنْتَجَــبْ
فقالَ ذلكَ الظَّلومُ المعتــدي * إنّيَّ قـد أجّلْتُهُم إلى غَـــدِ
الإمام عليه السلام يأذن للأصحابه بالتفرق
والسِّبْطُ لَيلاً قد دعا أصحابَـهُ * مُوَجِّهاً إليْـهِــمُ خِطَابَـــهُ
فقالَ بعدَ الحمـدِ والثنـــاءِ * والشكرِ للمُنعـــم ِ ذى الآلاء
إنّي لا أعلمُ فيمــا أعلـــمُ * أوفى ولا أصلحَ صَحبــاً منكُمُ
وَلسـت أَدري أَهل بيتٍ أَفضلا * من أَهلِ بيتي نَجْدَةً وأَوْصــلا
جزاكُم اللهُ جميعــاً خَيْــرا * وَلا رَأَيْتُم ما حَييتُم ضَيْـــرا
ألا وإنّي قَـدْ أَذنْــتُ لَكُــمُ * فانطلقوا لا عَهْدَ لي عليكُـــمُ
والليــلُ قَدْ أَجَنَّكُمْ وأَقْبَــلا * فاتخـذوهُ للنجــاةِ جَمَـــلا
والقومُ لا يبغونَ غيـري أَحَدا * فارتحِلوا لِتَسْلَموا مِـنَ الـرَّدَى
جواب أهل بيته عليهم السلام
فَابتدأ العبّــاسُ في مقالِــهِ * وَقدْ جرى الصَّحْبُ على منْوالِهِ
قالوا جميعاً : وَلماذا نفعــلُ * نَظَلُّ أَحيـاءً وَأَنـتَ تُقْتَـــلُ
فَلا اَرانـا اللهُ ذاكَ أَبَـــدَا * وَليتَ أنّا لَكَ قَدْ صِرْنـا فِــدا
قالَ مُخاطبـــاً بني عقيـلِ * حَسْبُكُمُ مُسلـمُ مِـنْ قتيـــلِ
وَعندَ ذا تكلّمـوا جَميعـــا * وَقدْ أَبَوْا عنْ عَزْمِهـمْ رُجُوعـا
وَأَقسمـوا أَنْ لا يفارُقـــوهُ * يَوماً وَبالأَنْفُـسِ أَنْ يَقـــوهُ
فالعيشُ من بعدِ الحسينِ يَقْبُـحُ * وبَعدَه الحياةُ ليسـتَ تَصْلُــحُ
جواب أصحابه عليهم السلام
ثُمّ تلاهم مسلمُ بنُ عَوْسَجَـــهْ * قالَ مَقالاً صادقاً ما أَبْهَجَــهْ
نحنُ نُخَلّيكَ كــذا وَنســري * وَقدْ أَحاطَ فيكَ أهـلُ الغَــدْرِ
ما العُذرُ عنـــدَ اللهِ في أداءِ * حَقِّك وَهْوَ أوجبُ الأشيـــاءِ
لأحْفَظَنَّ غَيْبَــةَ الرســـولِ * بالنفسِ والكثيـرِ والقليـــلِ
لوْ لَمْ يَكُنْ معي سلاحٌ أبـــدا * قَذَفْتُهُمْ بالصَّخْرِ حتّى يَنْفَــدا
سبعين مرّةً لَو انّـي اُقتـــلُ * أُحْرَقُ مثلَها بنــارٍ تشعــلُ
ثم أُذَرّى بعـدُ في الهـــواءِ * ما ملْتُ عنْ نصري وَلا وَلائي
فكيفَ وَهي قتلـةٌ وَبعـــدَها * كرامَـة خالقُهــا أَعـــدَّها
وَقامَ بعدَ مسـلــمٍ زهيـــرُ * وَكلُّهُمْ يُؤْمَلُ فيـهِ الخيـــرُ
قالَ وَدَدْتُ لَو قُتلْـتُ ألفـــا * وَيدفعُ اللهُ بــذاكَ الحَتْفَـــا
عنكَ وَعنْ فتْيانِك الأبـــرارِ * ذوي الإبا وَالعزِّ وَالفِخـــارِ
تَكلّم البــاقونَ مـنْ أَصحابِـهِ * والكلُّ قدْ أَجادَ في جوابـــهِ
قالوا لَهُ أَنْفُسُنـا لَـكَ الفِـــدا * نقيك بالأَرواح مِنْ بَأسِ العِدى
فإنْ قُتِلْنـا فلقــدْ وَفينــــا * وقدْ قَضَيْنا لكَ مـا علينـــا
الحضرمي يعلن عن تصميمه الصادق على
ملازمة الإمام عليه السلام وفدائه
وَقدْ أتَى للحَضْرَمِيِّ الخبــرُ * أنّ الأعادي لابنه قدْ أَســروا
قالَ قَدْ احْتَسَبتُهُ وَنفســـي * عندَ إلهي إذ أحـلّ رَمْســي
ما كنتُ أهوى بَعْدَهُ بقــائي * وَهوَ أسيرٌ في يـدِ الاعــداءِ
دعا لَهُ سِبْطُ الهُدى بالرّحمـهْ * لمّا رأى امرَ ابنِـهِ أهمّـــهْ
قال لَهُ من بيعتي في حِــلٍّ * أنت فَسِرْ وَلا تُقِمْ من أجلــي
واطلُب نجاةَ ابنكَ من هلاكِـهِ * وَاعملْ بما يُجْديك في فَكَاكِـهِ
قالَ السِّبـــاعُ اكلتنـي حَيّاً * إنْ رُمتُ عنكَ مَوْضَعاً قَصَيّـا
فانظرْ رَعاكَ اللهُ ما أوْفــاهُ * وَما أَبـرَّهُ وَمــا أتقـــاهُ
وَهكذا فَلْيَكُــنِ الإيمـــانُ * والحبُّ وَالوفاءُ وَالعرْفـــانُ
لَمْ يَعْتذرْ وَعُذْرُهُ مَقبـــوُلُ * وَما انثنـى وَرزْؤهُ جَليـــلُ
مضى مَضاءَ الصارمِ الصقيلِ * في طاعةِ المهيمـنِ الجليــلِ
عنْ ابنهِ وَهو اَسيرٌ أعْرَضـا * وفَوّضَ الأمرَ لمالكِ القضــا
لَمْ يَفْتَتنْ قَطُّ بِتلـكَ المِحنْــهْ * والولدُ للأبِ العطوفِ فتنــهْ
حقٌّ بأنْ نرْثي لمِثلِ حالِــهِ * وَحَقُّ انْ نبكي على أمثالِــه
إحياء ليلة عاشوراء بالعبادة
والسِّبْطُ والصَّحْبُ اُولوا الوفاءِ * باتُوا بِتلْكَ اللَّيْلَـةِ اللَّيْـــلاء
لَهُمْ دَويٌّ كَــدَويِّ النَّحــلِ * من ذاكــرٍ للهِ أوْ مُصَـــلِّ
صلاةَ عبدٍ خاشـــعٍ مُوَدّعِ * يدعوه بالخضوعِ وَالتضــرّعِ
اَحْيَوا جميعَ الليـــلِ بالعباده * فأدركوا سعـادةَ الشهـــاده
وَاصبحوا مثلَ الليوثِ الضاريه * قد أَرْخَصوا النفوّسَ وهي غاليه
لَذَّ لَهُمْ طَعمُ المنايــا وَحـلا * في طاعةِ الرّحمنِ جلَّ وَعـلا
طابَ وَراقَ لهـُمُ الممـــاةُ * والموتُ في نصر الهدى حيـاةُ
فاستقبلوا الموتَ بجأْشٍ ثابتِ * وعَزمِ شهمٍ للحيــاةِ ماقــتِ
استبشار أصحاب الإمام عليه السلام
قالَ بريرٌ لابــنِ عبــد رَبِّهِ * لّما رأى تأنيبَــهُ بِعَتْبِـــهِ
قدْ عَلِمَ القومُ جميعــاً أنّنــي * ما مِلْتُ للباطلِ طولَ زَمَنــي
وإنّما أفعــلُ ذا استبشـــارا * بما إليْه أمرُنـا قدْ صـــارا
مـا هوَ إلاّ أنْ نخوضَ الحَرْبـا * بالسُّمْرِ طَعْناً وَالسيوفِ ضَرْبـا
وَبَعْدَهــا لا نَصَبٌ وَلا عَنــا * نُعانِقُ الحُورَ وَنحظى بالمُنى
اُرجوزة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء
منظومة تأريخية جليلة قامت بتوثيق المجريات والاحداث والاقوال والشخصيات توثيقاً تطابقياً دقيقاً.
ومما لا يخفى أن هذا المنحى في نظم المزدوجات من بحر الرجز هو طريقة مدرسية أكاديمية لتسهيل حفظ المطالب والدروس في العلوم المختلفة ومن أشهر أمثلتها ( الفية ابن مالك ) في النحو ومنظومة السبزواري في الحكمة.
وتكون هذه المنظومات عادة وفيّة للمادة التي تعالجها أو الموضوع الذي تطرحه ولا تولي إهتماماً لفن الشعر وجماليته ولغتها على العموم الغالب لغة العلم النثرية القائمة على الإخبار ونقل المعلومات بتقريرية ومباشرة لا مجال للشاعرية والتأملات الجمالية فيها فروحها روح علمية وصلتها بالادب والشعر صلة علمية أيضا فهي تعتني بعلم العروض كثوب لها وتختار من نظام التقفية نظام المزودجات لسهولته ولعدم قناعتها في الإيغال بفنون القوافي..
ـ للشيخ هاشم الكعبي
إنها كربلاء
وكأني بها عشيــةَ ألقـــى * سبطُ خيرِ الورى الركابَ لداها
يسألُ القومَ وهو أعلمُ حتــى * بعد لأيٍ أن صرحوا بسماهـا
إنّها كربلاء فقال استقلـــوا * فعلينا قد كرّ حتـمُ بلاهـــا
فلديها قبورُ مختلفِ الــزوار * فيها صباحُها ومـســاهــا
وبها تُهتَكُ الكرائــمُ منّـــا * ورؤوسُ الكرامِ تعلوا قنـاهـا
وتبـدت شوارعُ الخيلِ والسمر * وفرسانُها يرفّ لــواهـــا
تتداعى ثاراتُ بــدرٍ ولمّــا * يكفها كبدُ حمـزةَ وكلاهـــا
فدعى صحبَهُ هلموا فقد أسمـع * داعي المنون نفسـي رداهــا
كنتُ عرضتكُم لمحبوبِ أمــرٍ * أن تروا فيه غبطةً وارتفـاهـا
فإذا الأمرُ عكسُ ما قد رجونـا * محنةٌ فاجأت وأُخرى ولاهــا
فأجابَ الجميعُ عن صدقِ نفسٍ * أجمعت أمرَها وحازتْ هُداهـا
لا نُخليكَ أو نُخلـي الأعــادي * تتخلى رؤوسُها عـن طلاهـــا
أو تنـــالَ السيوفُ منّا غذاها * أو تروي الرمـــاحُ منّا ظماها
ثم مع ذاك لم يكن قد قضينــا * من حقوقٍ لزمْننـــا أدناهــا
كيف تقضي العبيدُ من حقِ مولىً * شكرُ نعماهُ نعمــةً أولاهـــا
فجزاها خيراً فليــت لنفســي * بعضُ حظٍ مما به قـد جزاهــا
واستباتـت على الوفا تتواصاه * وأضحى كما تواصت وفاهـــا
تتهادى إلى الطعانٍ اشتياقـــاً * ليت شعري هل في فناها بقاهـا
ولقد أخبـــر الرواةُ حديثــاً * صحَّ لي عن طريقتي وهداهــا
أنه لم يُصــب حُسيناً من القوم * جـراحٌ إلاٌ عقيــبَ فناهـــا
لم تكن ترتقـي إليـه سهـــامٌ * دون أن نفتدي حشـــاهُ حشاها
تتلقى نحورُها البيضَ والسمــرَ * ومقصودُها لنحــرٍ سواهـــا
ذاكَ حتـى ثوتْ موزَّعةَ الأشلاءِ * صرعى سافي الرماح كساها
ـ للسيد وائل الهندي
ليلة الوجل
قِفْ حاسراً ودر المطيةَ وارتجلْ * في حقِّ من أدمى المدامعَ والمُقلْ
واحلل هُنالك ما حَييتَ موفيّــاً * رُزءاً بكتُه المعصراتُ ولم يـزلْ
وذرِ القوافي تستدُر بُحورَهــا * بدمٍ يُسالُ مدى الزمان وما انبتـلْ
واخطب هُنالك في فيافي كربلا * لا زال يفتُكُ سيفُ حُقدكِ لم يُكَلْ
أفلا علمتِ بأن ثقــلَ محمـدٍ * بكِ قد أقرَّ ركابَه أمنـاً وحَــلْ
أفهل ضيوفٌ مثلُ آلِ محمــدٍ * قَدِمُوا عليكِ ليستضيفُوا أو أجـلْ
مالي أراكِ وقد عَبستِ فجُعجَعت * حرمُ الرسولِ فجودُ يُمناكِ الوَجلْ
ما خلتُ ذكراهُم وقد سُدلَ الدُجى * إلا وداجي الحزن في قلبي انسدلْ
تالله لا أنسى العيـالَ وزينبــاً * وبكاءَها خلفَ الحسينِ وقد رحلْ
أفلا يُهيجك يا حسين بكاؤنــا * أم حِرتَ بين إجابةٍ ولقا الأجلْ ؟؟
نادتك شرساءُ المنيةِ عاجــلاً * فأجّبت صارخةَ النداءِ بلا وَجـلْ
أفلا ترى الأطفــالَ ليلةَ عاشرٍ * إذ غار في أحداقها ومضُ الأملْ
هذا يُنادي واحسيــنُ وآخــرٌ * يبكي واُخرى لا تقوم من العلـلْ
وتصيح اُخرى من يصون خدورنا * مَن ذا يغيرُ على العدو إذا حمـلْ
أَأُخيَّ صاحت زينبٌ من ذا لنـا ؟ * فيكون كهفاً إن أتـى رِزءٌ جلـلْ
أتُرى تكونُ كهوفُنا سِرب القنــا * ويكون مُؤِينا الخباءُ لو اشتعلْ ؟!
ونفرُ بالبيدا ونحــنُ حواســرٌ * ويكونُ حامينا العليلُ وقد حجلْ !
اليوم يحمينا الحسيــنُ يُظلّنــا * وغداً حيارى دون حامٍ أو ظُلـَلْ
نبكي ولكن لا يــرقُ لشجونــا * غير السياط كخطف برقٍ قد نزلْ
ـ للشاعر الأستاذ يقين البصري
مخاض النجوم
قلبٌ على شِفَةِ الرملِ الحَرُوق صبا * فعاد من هَمْسِهِ المذبوح شوطَ إبـا
يجتـازُ أفياءَ دنيانا الى خَلَدٍ... * لمكفهرِّ المنايــا يبتغي طلبـــا
يُطلُّ من لغةٍ ضميــاء مُلهِمَــةٍ * بيانُها مُخْرِسٌ من قــالَ أو خطبا
وقد تجحفـلَ شوكُ الأرضِ أجمعُهُ * يحاصرُ الدينَ والأخــلاق والكُتبا
تملمــلَ الفَلـكُ الدوّارُ معتـذراً * أنْ يُطلعَ الفجرَ أو أنَ يكشف الحُجبا
وطالَ ليلٌ كأنَّ الدهر عـضَّ بـهِ * على نواجذهِ اليَهماء واضطـربــا
هنا تَبتّـلَ انجيـــلٌ فرتلّـــهُ * فمُ الّزبور مع القـران مُنتحبـــا
هنا على النهر ترنو ألفُ مشنقـةٍ * إلى الصباح لتُطْفي الشمسَ والشُهُبا
هنا زفيرُ المنايا الحُمرِ منتظــرٌ * مخاضَةُ الصعب مزهـوّاً ومنتِصبا
وقد تدافَعت الدنيــا بكلكلهـــا * على ابنِ فاطمةٍ مـا اهتزَّ وارتعبـا
تجوبُ وارفـةُ الآمـالِ خيمتَــهُ * بذي الفجاج ويزدادُ الأسى طربــا
ويرمقُ الأفقَ يُذكي جمرَهُ عَطشـاً * فيستطيبُ احتدام المجـد واللهبــا
غداً تمزقني هذي السيوف لمـن ؟ * لتكتسي الزبد المزدول والكذبـــا
غداً ستنتهـبُ الذؤبــان أفئـــدةً * هي النجومُ العذاري لحمَهــا نَهَبـــا
غداً سأُطعمُ أسيافَ العدى جســدي * وأخوتي الشُمَّ والأبنـــاء والصُحُبـا
أنا على ضفةِ الأمـواج مَشرعَــةٌ * عطشى تؤمّل أنْ تُعطـي وأنْ تهبــا
يا دهرُ بئسَ خليلٍ أنتَ منطويـــاً * على مخالبِ ذئـبٍ فاعـــلٌ عجبـا
لم ترعَ أيَّ ذمامٍ حــقَّ صاحبــهِ * عن الحتوف وترضى الزيـف والرِّيَبا
علـى حوار ضميرِ الكون قد فَزَعَتْ * بنتُ النبي بقلـبٍ غـــصَّ وارتهبا
أراكَ تُسْلِمُ للموت الــزؤام دمـــاً * مُقدّساً والطهورَ القلـبَ والحَسبـــا
فقالَ لا تجزعي وعدٌ وعِدْتُ بـــه * لأرقأ الليلَ أو أعطي الزمـــان صِبا
وحولَهُ العصبةُ العظمى مجنّحـــةٌ * هيَ الليوث تُزيـلُ السهــلَ والصَعِبا
يا مطلعَ الشمسِ هذا الليـل تُغرقُنــا * أمواجُهُ والصراعُ الفـذُ مـــا اقتربا
لَنُشعِلَنَّ غداً دنيا الفــداءِ لظـــىً * والحربَ اسطورةً ما مثلهُـا كُتبـــا
دونَ الحسين نُروّي كـلَّ لاهبـــةٍ * من الرمالِ ونُغري المــوتَ أنْ يثبـا
لننصبنَّ منـاراً مــن دمٍ شــرسٍ * مدى الزمانِ عصّياً ثائراً صَلِبـاً...
يا ليلةً يا مخاضَ الدهر يا حقبـــاً * قدسيةً يا نضـالاً مورقــاً ذهبـــا
يا ليلـة من عذابـــاتٍ مُطــرّزةٍ * fا لكبرياءِ شَطَبْتِ المَحْل والجَدَبـا..
يا ليلةً عمرُها التأريــخ أجمعُـــهُ * والمجدُ أشرفُهُ بالعِـــزِّ ما اكتُسِبــا
ويا حديثً المدى الأقصى بما نضَحَتْ * مكارمُ السبطِ حدّثني حديــثَ إِبـــا

الاستاد يقين البصري

قصيدة البصري حادة سجالية تتصارع فيها قيم ومثل وسلوكات المشاهد الوجودية المختلفة ونرى فيها الشاعر واقفاً بكل انحياز إلى الطرف الشاخص المعبر عن مكارم الأخلاق... فالشعر عنده وسيلة توصيل وإخبار عن معانٍ توظّف كل ما هو جمالي لصالح الخير والحق ضدّ الشّر والباطل وهو يستخدم الجمال ليصارع به قباحة الحياد وظلاميته معلناً هتافه المتطرّف بشموخ البطولة والفروسية صائناً للمثال الذي لا يعاصره زمنياً فهو إمّا؛ غائر في أصداء الماضي المخنوق أو ناءٍ في نداءات المستقبل الذي لم يصله الشاعر بعد وبين هذا وذاك ينقل الشاعر توقه وحنينه بوثوقية ويقين المنتظِر مفلسفاً إنتظاره في خطاب أخلاقي يصل حدّ الهتاف في الوجوه التي تحاصره وتطوقه.
ولأنه مشغول بالايصال في عالمٍ يحتاج أن يُسمّي الأشياء بأسمائها فهو يُقلّص موقفه الجمالي إلى معجمية مباشرة فلا وقت عنده للتأملات الشاردة الباحثة عن آفاقها خلف الأشياء فهناك منايا مكفهرّة وهناك أيضاً ما يهدد كل شيء ويُهمّشه :
هنا على النهر ترنو ألف مشنقة * إلى الصباح لتطفي الشمس والشهبا
هنا زفير المنايا الحمر منتظِـر * مخاضه الصعبَ مزهوّاً ومنتصبـا
فلات ساعة شرود أمام إغتيال الدم المقدّس والنجوم العذارى بمخالب الذئاب لابد من عذابات مطرّزة بالكبرياء تشطب المَحْل والجدب الروحي والاخلاقي والقيمي لابد من إنتصاب المنار ـ المثال حتى لو كان من الدم الشرس العصيّ الثائر الصلب لابد من الصراع الفذ مع أشواك الارض المتجحفلة فإن حركة الطبيعة إعتذرت عن الولادة والمخاض وإنقطعت الديانات الاخرى وتبتّلت عن أن تجيب أسئلة الهتّاف الشاهق وكان لابد من لغة يُخْرِس بيانها كل الخطابات المتهرئة.
فهذا حوار ضمير الكون يقف بعطشه أمام أمواج الليل فلا يرى إلا الزبد المرذول.
وعوداً على بدء تتبدّى قصيدة ( مخاض النجوم ) هتافاً أخلاقياً يحاذي الفقدان بتعبيرية تزاوج صدى النائي ونداء المرتقَب ويكتفي يقين البصري بهذا الوعي المكثّف مزيحاً عن قصيدته ما يعتقده ترفاً يورثه تآكلاً على مستوى القيم.