الادب الحسيني

الأستاذ سلمان الربيعي
قصيدة الربيعي مثبّتة في المتن الشعري كنص يستحضر بإخلاص وجهد تجربة تدعي التجارب الشعرية الجديدة أنها قد طواها الزمن لكن الربيعي يراها لاتزال حيّة ونابضة وله الحق في ذلك طالما أن هناك فئات كثيرة من القرّاء لازالت تستحسن ذلك وتعدّه صحيحاً وتجد في الربيعي من الشعراء مَنْ يُرسّخ ويثبّت هذا الإستصحاب لِما كان في نتاجه الغزير لإثراء هذا التوجه كمّاً ونوعاً.
وللإنصاف فالربيعي من الشعراء المعدودين الذين يواصلون سدّ إحتياجات المنبر الحسيني إلى الجديد من النصوص خطباء ومنشدي عزاء وهو شاعر على أهبة الإستعداد لتلبية نداءات الولاء والقضية الحسينية.
والقصيدة عند الربيعي تعبوية التوجّه مخطط لها بإحكام يركن بجدّ إلى معطيات علوم العربية في كلّ تشعّباتها من نحو وصرف وبلاغة وبيان ومعان وعروض ، وأغلب شعره يُرى فيه قابليته لأن يكون شاهداً من شواهد العلوم.
فالربيعي يستعرض ما تعلّمه من فنون وعلوم في شعره و خصوصاً في تفريعات العلوم اللغوية ويرى فيه نوعاً من الإنتماء إلى الأصيل والثابت الذي يشكّل هويته الشعرية والذي يُخلص في الالتحام به على الرغم من كون هذه النظرة نظرة تراثية إلى التراث نفسه ، لكن الربيعي يحتمي تحت سقفها وله فيها كل الحق.
ولازلت أرى في خروجه على طوق النظم في بحر الكامل ـ الأثير لديه ـ وتثبيت هذا الخروج إنفتاحاً على إمكانات بنائية تمنحها الأبحر الأخرى للربيعي الذي بدأ ذلك في مجموعته الشعرية الثالثة ـ طيف الوطن ـ ولكن بحذر شديد وتوجس.
ـ للشاعر الأستاذ شفيق العبادي(1)
الى سيدتي الذكرى
اطلّي...
فقد أينع الشوقُ وانداحَ عطرُ الحنين
وجئنا على الوعد ياامرأة زادُها الحزن والذكرياتْ
لأبنائها الراحلينْ
مع الشمس كي يُشعلوا ظُلمات المساءْ
لنقطف من شجر القلب أشهى القصائدْ
وننثُرها بين كفيك يُنبوع ماءْ
قرابينَ
لكنها...
ـ يالفرط البلاهة ـ
من أحرف مطفآت
لكيما...
تُضمّد أحزانها وتطيرْ
وتبقين وحدك في وحشة الدرب
ترعين غرس الدماءْ
ولكنه العشق سيدتي فاعذريني
إذا ما خدشت حياء القصيدةْ
فجاءتْك ترقص في موكب الحزن مأنوسة بالجراحْ
وقد راح غيري يروّيك بالأدمع الخاثراتْ
ففي حضرة الوجد مَنْ ذا يُطيق إغتصاب الحروفْ ؟
إذا ما انتحيت عن السرب حلّقتُ وحدي
أُعير جناحيَّ للريح كيما تحلّقَ بي للفضاءْ
فلا أُفق.. غير العيون المليحات يستوطن الشعرْ
لا شيء يُطرب هذا اليراع المعنّى
سوى لغة منكِ تذكي لظاهْ
ليرحلَ نحو النجومِ البعيدةْ
ويبحث عن لغة طعمها العشق
عن لغة لونها العشق
كي يستعير القوافي
ليستلهم الذكريات العذارى
ويروي الحروف الظماءْ
ويعزف من وجع القلب ذكرى هواهْ
وذكرى صباهْ
وذكرى الليالي الجميلةْ
فأنت العيون التي ألهمت ريشتي كلّ هذا الغناءْ
وأنت العيون التي شاغلتني خطاها طويلاً
وأوسعتها غزلاً
ذبت فيها جوى
سرت من أجلها في دروب المنافي
تأرجحت فوق حبال المشانقِ
خالفت في شرعة الحب كلّ القوانينِ
عارضت كلّ رجالِ القبيلةْ
فلولاك..
لولاك..
يا حلوتي ما تجشمت هذا العناءْ
وسافرت بين سواحلها الزرق
أبحث عن نورس أنكرته الشواطيء
ضاقت بعينيه كلّ الدروبْ
وقص جناحيه برد المدينةْ
جزيرته في أقاصي البحار
وأعراقها في حنايا السماءْ
يجيء على فرس الريح في كلّ عام اليها
ليُسمِعها الأغنيات الحزينةْ
ويحمل ما بين عينيه ذكرى جديدةْ
لملحمة الكبرياء
ليغرس
أعشاشها في الذرى
ويرحل عنها لُقىً في العراءْ
الأستاذ شفيق العبّادي
شفيق العبادي حسٌّ نابض بحيوية العاطفة وصدقها ، بجرأة المواجهة يُغنّي موّالاً مفرداً بأسى عميق لكن بلا دموع ، فهو يحتفل بحزنه الخاص على طريقته الخاصة أيضاً ، لذا فهو يعزف تحت شرفة الذكرى ، يعزف على أوتار الشوق اليانع والحنين المعطّر لكي تُطلّ عليه الليلة بحزنها وذكرياتها ليتمّ لقاؤه بها ، فينثر بين كفيها قصائده النابعة من القلب بإحرفها المطفآت ليعبّر لها عن الخيبة والمرارة لأنه صادق العواطف لكنّه يصاب بالبله أمام جلالها الآسر فلا يمنحها إلاّ خواء قصائده التي تضمّد أحزانها بعد اللقاء وتطير في سماواتها لتبقى الذكرى وحدها في عملية مستحيلة لغرس الدماء.
ويرجع العبادي ثانية ليعزف على وتر آخر هو وتر العشق ليرقّص قصيدته المخدوشة في حيائها في الموكب العام للحزن ، في الإحتفالية الجماعية بقدوم الذكرى.
يحس العبادي بتفرده فيسلك سلوكاً مغايراً للسائد والمتعارف وكل ذلك بسبب من علاقة حضور صوفية أسماها (الوجد) تضيع فيها اللغة وتعود للحروف بكارتها الاولى فلا يستطيع الواجد الصوفي أن يرى إغتصاب الحروف فيلجأ إلى نوع من الصمت الناطق بالحيرة والذهول والتفرّد والإنتحاء عن السرب والتحليق المنفرد التائه لأنه يعير أجنحته للريح لضياع أمكنته فلا أفق له ، لكن عيون الذكرى تستوطن الشعر وتشعل إنطفاءاته ليبتديء البحث عن لغة حسيّة بطعم العشق ولونه
فتكتمل أدوات الشاعر ليعزف على وتر الوجع ، تكتمل أدوات الفن كلها ، ريشة ملهمة تغني ووتر يعزف ، ويبدأ عزف آخر على وتر الغزل لتنكشف تضحيات الشاعر وعناؤه وذوبانه ثمّ نفيه ثم بحثه عن قناع يندرج تحت ظلاله فيجده في نورس منفي تنكره بيئته البحرية وتمنعه المدن بظواهرها غير الطبيعية من الطيران فيعاني غيبة وانقطاعاً عن المكان ، لكنه يتواصل مع الذكرى تواصلاً حياً دفّاقاً ، له موعد محدد يجدّد الذكرى التي يحملها مابين عينيه ويغرس حنوّه والتحامه معها ثم يرحل أيضاً.
والعبادي يحاصر تجربته بجوّ محزن حادّ ويمسحها بجناح رومانسي محلّق ويطوّع نَفَساً ونبرة إيقاعيتين متبادلتين ومتعامدتين في تتابع مقاطع القصيدة ، فمع أفقية النَفَس (الذي لا يفارق القافية بيسر بل يختم مقاطع القصيدة بقافية همزية متكررة ـ الدماء ، الفناء ، العناء ، العراء ـ وهذه الظاهرة فيها بصمات الإكثار من النظم على طريقة العمود) تقفز تلك النبرة المتخفية لتلملم شتات التداعيات ليسلم تأمله الشارد من أضطرابات اللاشعور الذي يكشف رغبات وأماني الشاعر المكبوتة في تجاوز الألم التقليدي وإكتشاف شعائر أخرى للتعامل مع المتخيَّل عند الجماعة ، فهو تجنّب السطحية والتقريرية والمباشرة لصالح الغموض وعَمَه الرموز الذي قد يؤدي إلى العجز عن تصور أو تشكيل رموزه عند المتلقين مما يحقق فجوة عريضة على مستوى التوصيل.
ـ للسيد ضياء الخباز (1)
صفحات من مسرح الدم
حــَرّكَ الليـلُ سيفَهُ الأمويّا * يَرسمُ الصـبحَ مسرحاً دمويا
يطعنُ النجمَ والدراري اغتيالاً * غاضَهُ الأفــقُ مُذ بدا قمريا
فتلقتُه أنجــمٌ زاهـــرات * ٌسكبت فيــه نـورَها العلويا
نحتتهُ النجومُ ليـلاً مــنيراً * تحسدُ الشمسُ نورَه السرمديا
ثم غنتــهُ للّــيالي نشيدا * ملأ الأفقَ صــرخةً ودويا
إنَّ لحناً بــه الحسينُ تغنّى * سوفَ يبقى على المدى أبديا
خيّمَ الصمتُ والحسينُ هدير * ٌأرهبَ الصحبَ منه ذاكَ المُحيّا
واستدارت حروفُه في شِفاهٍ * تصهرُ الروحَ عـزمةً ومضيّا
قــال «اُفٍ» وليتـه لـم يقلْها * فبها ظــلّ دهــرُنا أمـويا
ويدُ الموتِ خلفَهُ تنسجُ المـوتَ * طريقاً إلــى العُلى دمــويا
قبّلتها أنصــارُه فــي هيامٍ * وجدوا الموتَ في الحسينِ هنيّا
قرأوا في الــدماءِ جناتٍ عدنٍ * صــاغها اللهُ مــرفأً أزليا
فمضَوا للخلودِ في زورق الطفّ * وخاضوا نهرا الدمـاءِ الزكيا
ما ألذّ الدمــاء فـي نُصرةِ الله * إذا كــان نبعُهــا حيدريا
وتلاقتْ علــى الهـدى بسماتٌ * لم يرعْها مــوتٌ يلـوحُ جليا
ضحكوا يهزؤون بالـموتِ شوقا * ًللقاءٍ يحــوي الإمــامَ عليا
وانبروا للّقاء في ســَكرةِ الحُب * ّالإلهــيِّ بالــصلاة سويـا
وانقضى الليلُ وهو يرسمُ صبحا * ًنحتَ اللهُ شمسَهُ فـي الثــريا
أطفـأتْ وهجَهُ الــسيوفُ فما * زالت رماداً ولم يـزل هو حيّا
فصول من قصة الحسين عليه السلام
وغفى الليل في عيون الصحارى * يتخفّى في جفنهـا إعــصارا
والعيـونُ السمراءُ كانتْ رمادا * ًوهو تحت الجـفون كان جِمارا
وإذا أقبــلَ الصبـاحُ سيمتـ * ّـدُ ضباباً يـُخفى لهيبـاً ونارا
فأعّدَ الحسينُ سيفــاً من النور * ونحـــراً وثلــةً أقمـارا
هاتفاً ياظلامُ (أُفٍ) فــكم أطفأ * ت فجراً وكم نحــرتَ نهـارا
ولقــد آنَ أن تمــوت لتحيا * فوقَ أشلائِكَ الشموسُ العذارى
قصةُ الليــل والحسين حَكاياتُ * جراحٍ تفجــرتْ أنهــارا
قصةٌ لم تزل تتوّج عرشَ الفجر * نــوراً وللشمــوس مدارا
فبها ينفخ الحسيـنُ فتســري * في شرايينها الحروفُ سكارى
قصةٌ صاغهــا الحسينُ ولولا * زينبٌ مـا تمخضتْ إعصارا
ورنت زينبُ البطولة في كف * أخيها سيفــاً ونوراً ونارا
يـوقـدُ النـارَ للألى طعنوا الشمس * ونــوراً للتائهيــن الحــيارى
يـعـزفُ المـوتَ للحيــاةِ وكان * السيفُ في وحـي صمتــه قيثارا
قـرأت فــي عينيـه من لغة الدم * حروفاً قــد عاهــدتُه انتصارا
ورأته يبني الشمــوخَ على أطلالِ * جُـرحٍ لــم يعــرف الإنكسارا
ويريقُ الشَــريانَ شلالَ هــدىٍ * كــانَ ينسابُ مــن يديه بحارا
فانبرت والرمالُ تسبقُهـا خَــطواً * إلى الشــمس قبــل أن تتوارى
إيهـي ياشمــسُ لاتمــوتي فإنّا * ما ألفنا مـن غيــر شمسٍ نهارا
إن عزمتِ على الغروب فردينا إلى * موطــن إشــراقك لنحياكِ ثارا
وهنــا المســرحُ الحسينيُّ قـد * أســدل ستـراً وأطفـأ الأنوارا
السيد ضياء الخباز
إعلان الشاعرية أمام ساحة التلقي شيء ، ومواجهتها للجهد النقدي فحصاً وإختباراً شيء آخر ، بمشاركتين يثبت السيد ضياء الخباز بدايته كسائر في طريق الإبداع الشعري الطويل ، زوّادته الولاء والحب والعشق الإلهي ، وأدواته الألفاظ الرقيقة والتراكيب الرشيقة والصور الخلابة المشرقة.. ولعل في قصيدتيه أصداء من الآخرين نجح في إخفائها بتفوق ظاهر مما يحقق لديه نتائج قراءاته وإصغائه في شكل يتداخل فيه نصّه الشعري مع نصوص الآخرين الشعرية في عملية تلاقح منتج تفيد تجربته الواعدة وتغنيها فنرجو منه أن لايستسلم لعوامل الإحباط والخيبة ، فالعملية الشعرية عسرة المخاض والولادة ولاتتأتّى لصاحبها بالهيّن من الجهد بل بالمثابرة والتواصل والمتابعة المستمرة.
ونحن نترك للقرآء إكتشاف هذه الموهبة الواعدة من خلال نصّيه المدرجين .
ـ الشيخ عبدالحسين الديراوي (1)
ليلة الحداد
ياليلَ عَشـرِ محــرمٍ ألبستنــا * ثوبَ الحــدادِ فكلُّنــا مثكـولُ
وافيتنــا بالنائبــاتِ وإنَّهــا * أمرٌ على كلِّ النفــوس ثقيــلُ
فجَّرْتها يومَ الطفـوفِ عظيمــة * ًمنها ربوعٌ قد بكـت وطلــولُ
حاربتَ مَنْ في فضلهم دون الورى * نطق الكتــابُ ونـوّهَ الانجيـلُ
لما رأيــتَ ابن النــبي ونورُه * ( عُرضُ الدُنى فيه زها والطولُ )
أمَّ العـراقَ بِفتيــةٍ مــن أهله * ليُقيمَ أمراً قــد عراه خمــولُ
أثقلــتَ كــاهلَه بهـا وأعَقْتَه * من أن يحقــّقَ ما هـو المأمولُ
ورميتَه بسهام غــدرٍ مـا ابتلى * فيها وصـيٌ قبلَــه ورســولُ
خَذَلَتْه أقــوامٌ تسابــقَ رُسْلُهم * منهـم مُــريحٌ عنده وعجـولُ
برسائــلٍ مضمونُهــا وحديثُها * أن ليس غيرُك للنجـاةِ سبيــلُ
إنا لأمرك طائعــون فقــم بنا * فإلامَ يحكم فــي البلاد جهولُ
عجِّل فــدتك نفوسُنا فكبيــرُنا * وصغيرُنا لك ناصــحٌ ووصولُ
تالله إن لــم تستجب لندائنــا * فالدينُ ديــن أميــةٍ ســيؤولُ
ومن المدينة حيـن راح يحفــه * مَنْ مالَهم في العالمــين مثيــلُ
قد نُزِّهوا عــن كل ما من شأنه * يُوري فــهم لذوي العُلا إكليــلُ
نزلوا بأرض الغاضرية فازدهت * من نــورهم ليت المقام يطــولُ
باتوا وبات ابــن النبي كأنَّــه * بــدرُ الســماء وذالكمْ تــأويلُ
أحيى وأحــيوا ليلَهـم بتضرعٍ * وتبتّــُل وعــلا لهــم تهليـلُ
وغدا يودّعُ بعضُهم بعــضاً فما * أحرى بأن يبكي الخليــلَ خليـلُ
حتى إذا ولَّى الظلامُ وأصــبحوا * أُسداً تجول على العدى وتصــولُ
شهدت ببأسهم الفيالــقُ إذ رأتْ * موتَ الــزؤام لـه بــهم تعجيلُ
فكـأنَّ يــومَ النفــخ آن أوانُه * وبه الموكّل أُعـطيَ التخويــلُ (1)
منهــم تهيَّب جيــشُ آل أميةٍ * وعرى الــجميعَ تخاذلٌ وذهـولُ
وَعَلَيهِمُ حام القــضا فدعـاهم * داعي الــمنونِ وإنَّـه لعجــولُ
فهووا على حرِّ الصعيدِ وبعـدَهم * نُكِبَ الهــدى إذ ربّــُه المثكولُ
أمَّ الخيام إلى النسـاء معــزِّياً * ومودِّعاً فبــدا لهــنَّ عـويلُ
وغدا يُسَلِّي الثــاكلاتِ وهكذا * حتى هَدَأنَ فقــام وهــو يقولُ
(مَنْ ذا يُقدمُ لي الجوادَ ولامتـي * والصحبُ صرعى والنصيرُ قليلُ)
ـ للشاعر الشيخ عبدالله آل عمران (1)
الليلة الخالدة
خيــم الليـل والذوي صقيع * وسجود وشاحــه وركوع
وجه السبط محور القلب يدعو * بالعبادات قدر مــا يستطيع
ودعا الله سيـد الكـون يرنو * أن يطيل الظلام رب سميـع
خيم الليــل فالعبـادة وهج * يتمنى أن لا يضيء الصديـع
لا لأن الرحيل صعـب ولكن * عسق النسك فالفراق مـروع
حيث لو خيروه بيــن جنان * أو رجوع لها لقال : الرجوع
قال ياصاحب إننا سوف نمضي * للمنايـا وليس منــها منيع
فانظــروا كيف نصنعون فكل * في اختيار إذا عصى أو يطيع
فتلقـوه بالصمــود ونـادوا * ياابن بنت النبي نحن الدروع
فامض : فينا فان أرواحنا تفـ * ديك حتــى يسيل النجيــع
قــال : قد هوّم الظلام فهبوا * نحو إحيائــه فلبى الجميـع
فهــم بيـن قاريء ومصلي * في اشتياق وقد براهم خضوع
هكذا كــان ليلهـم في وداع * ولذا ما غشي العيون هجوع
هــا هنا فرقتان فالسبط والآ * ل وسربالــها التقى والخشـوع
وبنــو الحقد والنفـاق وتبدو * في نفوس وقد غشاها الخنــوع
هذه أنفـس من القدس صيغت * ونفوس الأعــداد بناها وضيع
وهنــا العـز والبسالة روحا * وهـم ساقهــم جبـان جزوع
وهنا عفــة وصـدق وحلم * وهناك الدهــا وغــدر فظيع
وهنا للفداء عــنوان حـق * وهناك فيـن القــذارات ريـع
وهنا العطف والحنان تسامي * وهم ما نجى ـ لديهم ـ رضيع
وهنا تزدهي الصراحة شمسا * وهم خـادع لــه مخــدوع
هذه صفحة من الطهر صيغت * وعلى تلـكم الهـوى والمـيوع
واشترى الله أنفسا طاهـرات * لا تحابـي بمبــدإ أو تبــيع
هاهم الصحب بالوفاء تسمـوا * فمجال الوفـاء قطعــا وسيـع
قد بدا الحقد في ابن سعد فجرما * قد أتــاه فساء منـه صنيــع
اسخطوا الوحي والسماء عليهم * إن حرب الحسين جرم شنــيع
ليـس حربا لشخصه بل لروح * هي للدين أصــله والــفروع
فغــذا هـذه الشموع ستدوي * ذاك فـوق الصعيد مرمى صريع
وعزيــز بـكت عليه الثكالى * خضبوه فسال مــنه الـنجـيع
ونساء يصــحن إنا عطاشى * وأبو الفضل لليــديـن قـطيع
وغدا تندب اليتــامى لقتلـي * صحن قد ( قوض العماد الرفيع )
إنما هذه الضحــايا ستبقـى * وستهدي الأنام هــذي الشموع
وسيبقـى الحسيـن يجري بدم * في عروقي فبالعبــير يضـوع
ويهيــم الفؤاد في تلبيــات * كلما مــرّ ذكــرُهُ ويــميع
ليلة السبط خلدت دين طــه * حــيث لولاه ديـن طه يضيع
- الشيخ عبدالله آل عمران
القصيدة محاولة جادة بالأدوات الشعرية التوصيل رؤى الشاعر وتصوراته الخاصة عن ليلة عاشوراء ، وبطريقة تجريبية اختار الشاعر مساحة عريضة للتعبير ليفحص طول نفسه الشعري مع بحر مركّب التفعيلات متداخل الإيقاع هو بحر الخفيف وكذلك مع قافية صعبة المنال وعسرة الروي هي قافية حرف العين.
إن على الشاعر المتصدي لإحياء أمر أهل البيت عليهم السلام أن ينتبه ألى أنه يطرح شعره أمام متلقين منصهرين النصوص ، فهم يتلون آيات القرآن الكريم في الصلاة وغيرها ، ويزورون الأئمة عليهم السلام بنص ، ويقرآون أدعيتهم بنص أيضاً ، مما يجعل مساحة تعاملهم مع النصوص مساحة عريضة ، ودرجة تلقيهم عالية التوتر ، فيجب الإلتفات الى القابلية المتحصلة لديهم لغرض تحقيق التوصيل الحامل للمتطلبات الفنية والأدبية والجمالية.
ونخلص الى أن آل عمران مع حمله للبذرة الساحرة المسحورة التي تمكنه من الثبات والتفوق في الساحة الشعرية فقد حاول التعبير عن أحداث الليلة لاجئاً الى التطابق الواقعي مع التفاصيل دون التطابق الفني فامبد نصه حين شرح التقابل بين المعسكرين لينتهي بعلاقته الشخصية بالإمام الحسين عليه السلام ويقرر في النهاية قراراً نهائياً عن ليلة عاشوراء قائلاً :
ليلة السبط خلدت دين طه * حيث لولاه دين طه يضيع
ـ للشيخ عبدالله العوى القطيفي (1)
منازل كربلاء
فمضـى يخبر صحبه عما جرى * ويبين للأمـر المهــول الأكبر
هذي الطـفوف وذي منازل كربلا * أفما ترون لسابقــي لـم يجسر
قـد قــال جــدي إنها أوطاننا * وبها تسيل دمــاؤنـا كالأبحر
وبها تسام الخــسف نسوة أحمد * وبها تصيب الديــن طعنة أكفر
لكنكـم في الحــل مني فارحلوا * من قبل ابلاج الصبــاح المسفر
قالوا لـه انــت الصـباح وسيره * فيه الصلاح لعاقــل مـستبصر
ماذا نقــول إذا أتـينــا أحمداً * وأباك والزهراء عنـد الكوثــر
تفديك يــا نـفس الرسول نفوسنا * وأقل شيء أن تراق بمحضــر
فاصدع بأمرك تحظ قصدك عاجلا * وتر الصحيح من القتال الأكبـر
لله در نــفوسهــم لمــا علوا * فوق السوابق والخيول الـضمر
فكانهم فــوق الخيــول كواكب * تسمو على مريخها والمشتري
وكــأن خليــهم نجوم قد هوت * رجما لشيــطان وكــل مكفر
لم يحسبــوا رشـق النبال أذية * كلا ولا طــعن الرماح بمذعر
ولكم أبادوا مــن عصـاة ذادة * لبسوا الـدروع واقبلوا كالأنسر
حتى قضوا ما بين مشتبــك القنا * وبقي حسين مفردا لم ينصر (2)
ـ للشيخ عبد الكريم آل زرع(1)
العبق الفواح
أليلة عاشوراء يا حلكــاً شَبَّــا * حنينك أدرى من نهارك ما خبّــا
وما خبّأ الآتي صهاريـج أدهُــرٍ * بساعَاتِه قد صبّ صاليَها صبّــا
بساعات ليلٍ صرَّم الوجـدُ حينهـا * يُناغي بها الولهان معشوقه حُبّــا
يُقضِّي بها صحبُ الحسين دجـاهُمُ * دَويّاً كمن يُحصي بجارحـة تعبـى
لقد بيّتوا في خاطر الخلـدِ نيــةً * أضاءت دُجى التاريخ نافثةً شُهبـاً
وقد قايضوا الأرواح بالخلد والظما * برشف فرندٍ يحتسون بـه الصَّهبـا
فواعظمهم أنصار حَقِّ توغلــوا * إلى حِمِم الهيجاءِ واستنزفوا الصعبا
فأكبْــر بهم عزّاً وأكرمْ بهم تُقىً * وأعظمْ بهم شُوساً وأنعمْ بهم صحبا
بهم ظمأٌ لـو بالجبــال لهدَّهــا * ولو بالصّخور الصُمِّ فتّتها تُربــا
عزائمُهمْ لو رامت الشمسَ بُلِّغـت * ولو رامت الأفلاك كانت لها تربـا
وأعيُنُهمْ لا يَسبر الفكرُ غورَهــا * شُرودٌ بها قد حَيَّر الفِكـرَ واللبّــا
تُراعي بأشباح الظلام عُيونُهـــم * حريماً وأطفـــالاً مُرَوَّعَةً سغبى
حريماً وأطفالاً براهُــنَّ غائــلٌ * من الوجَل المحتوم مُنقَدحاً كربــا
على وجلٍ يخفقنَ من كلِّ همســةٍ * يُنمنْمُ هولُ الخطبِ في عينِها عَضبا
خيامٌ عليها خيَّم الوجــدُ ناحِــلاً * وَجَلّى عَليّهَا الغمُّ بالهـمِّ مُنصَبَّــا
بنفسِيَ آلُ المصطفى أَحدَقـتْ بهم * ضُروبُ الرزايا حَزَّبتْ حَولهمُ حِزبا
تدور عليهم بالشجــى فكأنّهــم * بفطرتهم كانوا لجمرتهــا قُطبــا
ألا ليتنـي حيث التمنـي عبــادةٌ * لمن ليس في عينيه غير المنى دربا
خباءٌ به النيـران كفٌ تقطّعــت * وصدرٌ غدا للخيل مضمارها نهبـا
وقلب تفرّى بالظَّمـا وجــوارحٌ * تُوزَّعُ بالأسياف مَحمــرةً إربــا
بنفسي أبو الأحرار ما ذاق جُرعـةً * ليجرع كأس العزِّ مُترعـةً نخبــا
ألا ليت لي لثم الضريح ورشفــهُ * من العبق الفـوَّاح ألثمُــه عبّــا
وأهتف يا مولايَ جئتـك دمعــةً * نشيداً ، جراحاً ، دامياً ، ولِهاً ، صَبَّـا
ألا ليتني بين السيـوفِ فريســةً * لإيقاعها غنَّت جوارحـيَ التعبــى
أقي قلبك الصادي بقلـبٍ أذابَــهُ * نوى هجرك الممتدِّ يا سيدي حقبـا
اُفدِّيك إجلالاً وأنشـدُك الحُبّـــا * أتُحرمُ عذبَ الوِرد يا مورداً عذبـا
ويا عنصر الألطاف من روح أحمد * بأوردة الدنيا يُكلّلهــا الخصبــا
ويا عبقا من رحمة الوحي فاتحــاً * تَنشَّقَ منه الماحلُ النسـمَ الرطبــا
ويا قبسا في العيـن يُثقلهــا رؤى * تفرَّسُ بالايمان تختـرقُ الحُجبــا
ويُكحلها التقوى حيــاءً وعفّــة * ويسكبُ فيها من هواه المدى سكبـا
فأنت الذي في العين يُذكي سناءَهـا * فتحلوا إذا ترنو أو اثّاقلت هدبـــا
لأن مراسيهــا هواكــم ونورُكــم * وإكسيــرُها فيضُ المـودة في القربـى
أفدِّيك يا من الهبَ الشمـسَ والسمــا * نجيعاً فذابــا في قداستــهِ ذوبــــا
على أنّ مُحمــرّ السمــاءِ تألَّــقٌ * لتُزجي به من فيضك الشـرق والغربــا
أفديك يا فرع الرسالــة يا هــوى * لأحمد في الآفـاق يملـــؤها حُبّـــا
ويا مبسماً يحكـي شفــاهَ مُحمــدٍ * وريــاه ما قلت ولا عطرُها أكبـــى
عليه ولا أدري أتقبيـــل عــودةٍ * بها شغـفٌ أم رام يوسعــه ضربـــا
ويا كبدا حرى تفـرَّت من الظمـــا * وفيها الفراتُ انساب سائغــهُ شُربـــا
ويا صارما لولا الحنــانُ أعاقــه * لَقَدَّ الدنـــى قَدّاً وقَطَّعهَـــا إربــا
بمهجته الغيرى وان نــزَّ جُرحُهــا * يرصُّ معانـي المجــد مملوءةً لبـــا
ويا صامداً ما زعزعتْ من كيانـــه * صنوفُ الردى بل لم تحرَّك له هدبـــا
ويا مقلة ما زال يعصرهـــا الأسى * لترويْ بقايــا الآهِ والــدمَ والجدبــا
بكت قاتليهـا والذيــن تَجمَّعُـــوا * لثاراتِ بـدرً ضدَّه اجتمعـــوا إلبــا
رأت روحُك الاسلامَ جرحاً فلم تطـقْ * هواناً وصبراً فاعتلتْ تُعلـنُ الحربـــا
وتلثمُ صابَ الدهرِ جذلـى ولا تـرى * جراحاً تنزُّ الآه قـد ذربــت ذربـــا
وسالت على جرح الهدى اعتصمتْ به * وصبَّت حياة القدس في فمـه صبّـــا
اُفدِّيك يا من قبَّل السيـفُ نَحـــرَه * ففاض وأضفى وانثنى يكرَهُ النصبـــا
ويا واحدا لا نِدَّ شاركَـــهُ المــدى * وَوهْجَ الجهادِ الحـرِّ والـدمَ والدربـــا
اُنبِّيكَ ما زال الزمــانُ مـــردداً * صداكَ ملأتَ البحرَ والأُفقَ والرحبـــا
وأنَّ سيــاجــاً من دماك وجمرِها * وأحمرِهــا ما زالَ متقَّــداً شهبـــا
يحيطُ الطواغيتَ اللئــام بلفحِـــهِ * فيصبُغُهمْ ذعرا ويملؤهــم رعبــــا
إلى الان وقـعُ اسم الحسين بسمعِهمْ * وأحرفِهِ ما زالَ مستصعباً صعبــا
تصارعُ أحقـابُ الدهورِ ونفسهــا * على ان ترى ندّاً يجــدده وثبــا
يعيد لميدان الجـهـاد وميضَـــه * ويُذكى أواراً من سوى فيك ما شَبـّا
ويوقظُ افكاراً عليهـا من الونــى * تراكمُ أحقـابٍ مخثـرةٍ حجبـــاً
ويروي بسلسالِ النجـيعِ عقيــدةً * بغيرِ دماكَ الطهرِ لم تعرفِ الخصبا
ويصنعُ يا مولاي ما كـنتَ صانعاً * ويهمي علينا من بسالتِه صوبـــا
ولكنه الدهرُ الذي عَقمـتْ بـــه * لياليـهِ أن تأتــي بمثلكَ أو تُحبى
ولو رام نِدّاً لاستشــاركَ عنــوةً * لأنَّك أولى مَنْ يخطّطُـه لحبـــا
وأدرى به علمـاً وأجلـى به رؤىً * ولكنــه يأبـى وإنك لا تأبـــى
لقد خسر الدهرُ الرهـانَ فلم يطـق * محالٌ عليه اليوم ان كرر الذنبـــا
وقد صدَقَ الحُسادُ أنَّ يـزيدَهــم * تكرر في الأزمان ممتلئا عُجبـــا
ونحن نقولُ السبطُ مـا زال باقيـاً * هو السبطُ لا قولَ افتراءٍ ولا كذبـا
- الشيخ عبدالكريم آل زرع
الشاعر آل زرع يختبر طاقاته التعبيريه والتوصيلية إختباراً مطوّلاً مع بحر عصيّ وقافية غير مطواعة عاصت جهده ودأبه في أكثر من موضع ، فتراكيبه وأبنيته تُظهره لنا صائغاً يحاول أن يتفرّد في استخدامه للألفاظ والعبارات ، فيرفع عن كفيه أصابع الآخرين حين الكتابة ، وهذه المحاولة جادّة وظاهرة عنده فقصيدته لها شخصية متميزه لعلها لا تُحاكي أحداً ولا تُصغي لقول الآخرين الشعري بحيث تبدو بصمات الغير على قماش القصيدة أو إطارها ، وأمام آل زرع مهمة شاقّة لأن قصيدته طرق متأنٍّ على حجر صلد يحاول الشاعر أن يقنعنا أنه قد شكّل أو كوّن مايمكن معرفته ، لكنّي أقول إنه متعجّل في التعامل مع مادّته الشعرية ، فهو يطهو على نار هادئة لكنّه يُنزل قدره قبل النضج بفترة وجيزة ـ إن صحّ التشبيه ـ وهذا واضح عند تأمّل أبياته فهو صاحب بيت شعري متماسك الصدر دائماً لكنه يتعب في عجز البيت غالباً فيصل القافية منهكاً ، فنلاحظ هذا الصدر المتجاوز للمألوف بصياغته المتفرّدة
يقضّي بها صحبُ الحسينِ دُجاهمُ...دوياً.....
فما أجمل هذه المحاذاة الناقلة لحالة ( دويّ النحل ) لكن آل زرع تعجّل بإلصاق عبارة تشبيهية تُضر بجمال ما تقدّم وهي عبارة ( كمن يحصي بجارحة تعبى ) فما علاقة الإحصاء بالجارحة التعبى بحالة العبادة والخشوع التي يؤدّيها الأصحاب في اُفق الإنتظار ، ونلاحظ أيضاً هذا البيت :
وقد قايضوا الارواح بالخلد والظما برشف فِرَنْدٍ.....
فينتقل من الرشف وهو شرب على رقة للسوائل من المشروبات الى الاحتساء الذي هو شرب أيضا ولكنّه للأغذية الصلبة التي اُسيلت فتشرب حارة عادةً ، فدخل البيت الى منطقة القلق في المعاني بعبارة ( يحتسون بها الصهبا ) فكان الجمال في التصور والتأمل لكنّ الألفاظ خانت التعبير.
وكذلك الحال في أكثر من موضع حيث تنقلب الأعجاز على الصدور الجميلة فتخنقها فمثلاً :
على وجلٍ يخفقن من كلِ همسةٍ....
فأنت الذي في العين يُذكي سناءها.....
ويا مبسماً يحكي شفاه محمد.....
من أين تأتّى لهذا الغرّيد الفذّ أن يكبو هذه الكبوة ؟
في نظري أن آل زرع إختار أن يتحدّى قالباً شعرياً من أعسر القوالب في إختياره بحر الطويل التام وفي إختياره لحرف الباء المفتوح كرويّ لقصيدته ، فبحر الطويل التام أطول بحور الشعر العربي قاطبة وخصوصاً في الأعجاز التي يستمر الشاعر في النظم عليها الى نهاية القصيدة ، فعلى الشاعر أن يحشو فيه بكثرة لكي يصل الى آخره ، فلم يستطع الافذاذ من شعراء العربية أن يكتبوا به نتاجهم الأفضل منذ إمريء القيس في :
ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البـــالي * وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟
وهذا الحكم سائر على القصيدة العربية المنظومة به كقاعدة قابلة للإستثناء.
وإذا أضفنا أن آل زرع إختار حرف الباء المفتوح كرويّ لقافيته فستزداد
________________________________________
الصفحة 286
الصعوبة ويتعسّر الطلب ، وللشاهد سنذكر قصيدتين كانتا على بحر الطويل التام وزناً وعلى حرف الباء المفتوح رويّاً لنثبت ـ على سبيل المثال ـ ما قدمنا.
القصيدة الاولى للسيد حيدر الحلي ومطلعها :
لحى الله دهراً لو يميل الى العتبى * لأوسعت بعد اليوم مسمعه عتبا
والقصيدة الثانية للسيد مصطفى جمال الدين بعنوان ( معلم الأمة ) والتي مطلعها :
جذورك في بغداد ضامئة سغبى * وظلك في طهران يحتضن العربا

فالمتتبع لنتاج الشاعرين يرى بوضوح أن هاتين القصيدتين ليستا من جيد شعرهما مما يؤكّد ما ذهبنا اليه في أن الشاعر عبد الكريم آل زرع ركب المركب الصعب.
وعلى قسوة هذه الملاحظات فإنها تشد على يد الشاعر بإخلاص للتأني وعدم العجلة فإن في قصيدته المزيد من الموفقية ولعلي أختم بإبداء إعجابي بأكثر أبيات القصيدة توفيقاً وهو :
لان مراسيها هواكم ونوركم * واكسيرها فيض المدوة في القربي
ـ للشيخ عبدالمنعم الفرطوسي(1)
من الملحمة الحسينية
خطبة الإمام الحسين عليه السلام في أصحابه مساء يوم التاسع
ولقد قام خاطباً سبطُ طـــه * بعَد جمعِ الأصحابِ في كربلاءِ
قال أُثني علـى إله البرايــا * شاكراً فضلَه بخيـرِ ثَنـــاءِ
وله في البلاء حَمدي وشُكري * مثل حَمدي له على الســرَّاءِ
وله الحمدُ حيـنَ مَنّ علينــا * كرماً في نبــوّة الأنبيـــاءِ
وحبانا التفقيه في الدينِ رشـداً * بعدَ تعليمِنا كتــابَ السَّمــاءِ
لم نكن مشركينَ حين اصطفانا * وهدى للتوحيد خير اهتـــداءِ
بعد خَلق الأبصارِ والسمعِ منا * وبناء القلوب خيــر بنــاءِ
أُشهـدُ اللهَ ما رأيتُ كصحبـي * أبداً في الولا وصدقِ الوفــاءِ
أهـل بيتي ولا أبــرّ واتقى * منهمُ ما رأتهُ مقلـةُ رائـــي
ولقد قال مُخبِراً لي بقتلــي * سيّدُ الرُسلِ خَاتِمُ السُفــَرَاءِ
سوف تمضي لكربلاءَ فَتغدو * بعدَ سَوق لها من الشُهــداءِ
وأظنُ اليومَ الذي فيـه نلقـى * هؤلاءِ الخصومَ ليـس بنـائيِ
فَجُزيتم عنّي بخير جــزاءٍ * في مواساتكم وأسنى حبــاءِ
لكم قد أذِنتُ طُرّاً فسيــروا * بافتراقٍ عنّي وطولِ تنــائي
أبداً ما عليكم من ذمـــامٍ * وحقوقٍ تُقضى بوقـتِ الأداءِ
جَنَّ هذا الظـلامُ فاتخــذوه * جملاً للنجا وأضفـى غشـاءِ
وليصاحب مِنْ أهلِ بيتي منكم * كلُّ شخصٍ شخصاً بخيرِ إخاءِ
جواب بني هاشم له عليه السلام
فأجابَ الحسينَ بَعــدَ قيـامٍ * مِنْ بني هاشـم أُسودُ الإبــاء
وأخوه العباسُ يقْـدمُ فيهــم * وهُمُ خَلفـَه بخيـرِ اقتـــداء
لمَ يا ابنَ الرسول نفعـلُ هذا * ألنَبْقى وأنتَ رَهـنُ الفنـــاء
لا أرانا الإلهُ بَعــدكَ هـذا * يا سليلَ النبي طـولَ البقــاء
ورنـا قائــلاً لآلِ عقيــل * فاذهبوا أنتم بغيــرِ جَفــاء
قد كُفيتم في قَتل مُسلـمَ عمّا * أنتـم فيه أحسنَ الاكتفـــاء
فأجابوه كيف نذَهبُ عنكــم * بسلامٍ فـي ساعـةِ الابتـلاء
أيُّ شيء يقولُه الناسُ عنّــا * ولهم ما نقولُ عنـدَ اللقــاء
إن خذلنا أعمامَنا وتركنــا * شيخَنا وهو خيرةُ الأصفيـاء
دون ضربٍ ودونَ طعـنٍ ورميٍ * معهم عندَ ساعــةِ الالتقـــاء
أَمَا واللهِ إنّنـا ســوف نلقــى * ما تـلاقونــه بحدٍّ سَـــواء
ونواسيك بالنـفــوسِ ونغــدو * لك عندَ الطعانِ خيـرَ فـــداء
جواب الأنصار له عليه السلام
ولقد قال مُسلمٌ ليـس نمضــي * أبداً عنكـم بيـومِ البــلاء (1)
وبأي الامورِ نُبـدي اعتــذاراً * حينَ نمضي عنكم لربِّ السمـاء
بعد تركِ الحقِ العظيمِ علينـــا * لك من ربِّنا بــدونِ قَضــاء
ليس نمضي بدونِ طعنٍ وضربٍ * في صدور العِدا بأقوى مضـاء
ولو انّي فقدتُ كــلَّ ســلاحٍ * حينما ألتقي بأهـلِ العـــداء
لقذفتُ العِــدا لألقى حِمــامي * دونَكُم بالحجـارةِ الصَمَّـــاء
وسعيدٌ أهابَ كـالليث فيهـــم * صارخاً في بسالة وضـراء (2)
لا نُخلّي عنكم ونذهب حتـــى * يعلمَ اللهُ بَعدَ حُسـنِ البـــلاء
أنّنا كلّنــا حفظنــا غيابــاً * فيكم حقَ خاتــمِ الأنبيـــاء
ولو انّي أُحْرِقْتُ بالنارِ حرقــاً * أنا سبعينَ مــرّة باقتفـــاء
بعد قتلٍ للسيف يتلـوه قتــلٌ * وأُذرّى في إثرِهــا بالهــواء
ليس أمضي عنكم وَما هـيَ إلاّ * قتلةٌ عندَ ساعــةِ الالتقـــاء
بعدها نحنُ بالكـرامـةِ نَحظـى * وهي تبقى لنا بـدونِ انقضـاء
ولقد قال لو قُتلـتُ زهيـــرٌ * ثم اُحييت يا أبـا الأزكيـاء (1)
هكذا ألفُ مـرّة بـي يجــري * وأنا مُذعـِنٌ بِحُكـم القضــاء
هان هـذا علـيَّ واللهُ يُنجــي * مِنكُمُ فتيـةً كَشُهـبِ السمــاء
وجميعُ الأصحـابِ أَدْلَوا بقـولٍ * يُشبهُ البعـضُ بعضَهُ بجــلاء
فجزاهم خَيراً وأثنى عليـهــم * بعدَ صدْقِ الولا بخيـرِ ثنَــاء
موقف الحضرمي الصادق
وتراءى الإخلاصُ بابـن بشيـرٍ * وهو في مثلِ حالهِ المترائي (2)
حين أوحى وكانَ بعـضُ بنيـه * أخبروه عن أسره وهـو نائـي
قائلاً ما وددتُ أنـّيَ أبقـــى * وهو يُمسي فِيهم من الأســراء
وأجابَ الحسيـنُ أنـت بحــلٍّ * مِنْ ذِمامي فاذهب لبذلِ الفـداء
قال واللهِ لَستُ أذهـبُ عنكُــم * حين يَغدو في شِدّةٍ أو رخــاء
قال هذي الثيابُ خُـذها وارسل * عنك للريّ صنوَهُ في الإخــاء
ساعياً بالفكاكِ وهـي تُسـاوي * ألفُ دينار ساعــةَ الإفتــداء
وهو أوحى لصحبه حيـن أبدى * غامضَ السرِّ مِنْ ضميرِالخَفـاء
إنَكُـم تُقتلونَ حتى رَضيعــي * وأنا في غدٍ بغيــرِ امتــراء
دونَ زينِ العبّادِ يَحفظ منّــي * فيه نسلَ الأئمــةِ الامُنــاء
فأجَابوهُ نَحمدُ اللهَ شُكـــراً * وامتناناً على عظيمِ العَطــاء
إذ حبانا فضلَ الشهادةِ فـوزاً * معَكُم في كـرامةٍ وعُــلاء
أفلا ترتضي بأنّــا سنغـدو * معَكُم في منـازلِ السُعــداء
الإمام الحسين عليه السلام يُري أصحابه منازلهم
في الجنّة
وأراهم وقد رأى الصدقَ منهُم * في الموالاةِ بعد كشـفِ الغطاء
ما لهم من منازلَ قد أُعـدت * في جنانِ الخلودِ يـومَ الجزاء
ولعمري وليـس ذا بعسيـرٍ * أو غريبٍ من سيّـدِ الشُهـداء
فلقد أطْلعَ الكليــمُ عليهــا * منهمُ كلَّ ساحــرِ بجــلاء
حينما آمنوا بما جـاء فيــه * عند إبطال سحِرهِم والريــاء
بعد خوفٍ من آل فرعون مُردٍ * لهم منـذرٍ بسـوءِ البـــلاء
فأراهُم منازلَ الخيرِ زُلفــىً * وثواباً في جنّـة الأتقيـــاء
لازديادِ اليقينِ بالحقِ فيهــم * بعد دحضٍ للشكّ والإفتــراء
وثَباتاً منهم على الدينِ فيمــا * شَاهدوه مِن عالمَ الإرتقـــاء
ليلة الوداع
هذه ليلــةُ الـوداعِ وهــذا * آخرُ العهدِ منهُـم باللقـــاء
عَمّرُوها من التقى فأماتــوا * شهواتِ النفـوسِ بالإحيــاء
يومَ باتوا على هُـدى صلواتٍ * بين خوفٍ مِنْ ربهِم ورجـاء
كدويِّ النحلِ ابتهالاً ونجـوىً * لهُم في غياهـبِ الظلمــاء
وهُمُ بينَ راكـعٍ بخضــوعٍ * وخشوعٍ وضارعٍ في دُعـاء
يتهادَون والهدايـا تحايـــا * بُشرياتٍ بغبطـةٍ وَهنـــاء
هذه الجنّةُ التي قد أُعــدتْ * تتراءى لأُعينِ الشُهـــداء
لم تكن غيرَ ساعةٍ هي فصلٌ * بين أُخرى الهنا ودنُيا الشقاء
ثم تحظى بخيرِ فوزٍ ونعمـى * بعد مأوى لجنّةِ الأتقيـــاء
وبنو هاشمٍ نطـاقُ عيــونٍ * مستديرٌ على خيامِ النســاء
وأبو الفضلِ فارسُ الجمع ترنو * مـقلتاهُ لمقُلـةِ الحـــوراء