حياة الامام الحسين قبل مقتله
مقتل الامام عليه السلام

نترك الكوفة قليلا يعيث بها ابن مرجانة و يتتبع شيعة الحسين و يطاردهم و نعود الى مكة لنتابع السير مع ركب الحسين حتى الطف حيث المأساة الكبرى بأقصى ما يمكن من الاختصار، لأن تلك المأساة قد كتب فيها المحبون و غيرهم عشرات الكتب، و ما زالت حية و أمثولة رائعة من اروع ما قدمه الإنسان حتى اليوم في ذهن القريب و البعيد.
لقد ذكرنا في الصفحات السابقة ان الحسين (عليه السلام) قد دخل مكة في الايام الاولى من شهر شعبان سنة ستين من الهجرة، و كان قد سبقه إليها بأيام قلائل عبد اللّه بن الزبير الذي كان كما يدعي المؤرخون ساخطا على ولاية يزيد، و كان وجود الحسين في مكة ثقيلا عليه، لأن الناس لا يرونه شيئا و لا يحسون بوجوده ما دام الحسين موجودا، و كان هو يعرف ذلك، و يعلم بأن المسلمين لا يعدلون بالحسين احدا، و خلال المدة التي اقامها الحسين في مكة كان لا يفارق مجلسه يحدثه و يستمع منه، و لما بلغه موقف اهل الكوفة و رسائلهم نصحه بالشخوص إليهم و اجابة طلبهم، و قال له: لو كان لي مثل انصارك ما ترددت لحظة واحدة في اجابتهم و حتى لا يكون متهما عند الحسين في قوله هذا كان بعد ما يشير عليه بالذهاب الى الكوفة و يرجحها له و يتمنى ان يكون له مثل انصاره فيها و حتى لا يكون متهما يقول له: و إن شئت فأقم هنا و نحن نبايعك و نقف الى جانبك حتى الموت.
و لم تكن لتخفى على الحسين (عليه السلام) دخيلته و ما ينطوي عليه من غدر و دجل و نفاق، كما لم تخف عليه المصلحة فيما عزم عليه ليستمدها من ابن الزبير و أمثاله، بل كان على ثقة من امره في كل ما عزم عليه و تحرك من اجله محيطا بكل جوانب الموقف و نتائجه.
لقد رأى ان اقراره لبيعة يزيد يشكل خطرا على الاسلام لا يمكن تلافيه و رأى الانظار تتجه إليه من كل جانب و تنتظر موقفه الاخير منها، و كان يعرف عن أهل العراق اكثر مما يعرفه غيره من الناس، لقد حمل هو و أبوه و أخوه مرارة غدرهم و تخاذلهم، و لم يكن يحتمل ان ينتصر بهم عسكريا على يزيد و أنصار يزيد، و لكنه كان يرى ان عليه ان يسجل موقفا كريما من ولاية الظالمين كيزيد و غيره و لو بقتله و قتل اطفاله، و سبي نسائه حتى لا يتسرب الى الاذهان إن الإسلام الذي يجسده الحسين (عليه السلام) يسمح بمثل هذه الولاية.
لقد عزم على الخروج الى العراق مهما كانت النتائج و كان مسلم بن عقيل رضوان اللّه عليه قد كتب إليه يستعجله القدوم و يخبره بما رأى و سمع من اقبال الناس عليه و إلحاحهم في طلبه. و قد علم يزيد و أعوانه بكل ما يجري في الكوفة فاستغلوا موسم الحج و دسوا عددا كبيرا من اجهزتهم لقتله و لو كان متعلقا بأستار الكعبة و لما احس بذلك أحل من احرامه و خرج من مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة قبل ان يتم حجه مخافة ان يقتل في الحرم فيضيع دمه و لا يعطي ما اعطاه قتله بالنحو الذي تم عليه من النتائج التي أقضت مضاجع الطغاة و الظالمين.
و لو تمكنت اجهزة يزيد من اغتياله في الحرم كما امرهم بذلك، و كما خطط ابوه من قبله لاغتيال علي (عليه السلام) و هو يصلي في بيت اللّه لقالوا و أشاعوا انه اغتيل بسيف خارجي، و تبرءوا من دمه كما تبرءوا من دم ابيه و راجت مقالتهم حتى اصبحت و كأنها من حقائق التاريخ.
و جاء في المرويات التي وصفت خروجه من مكة و وداعه لاخيه محمد ابن الحنفية انه قال لاخيه محمد في الليلة التي اراد الخروج في صبيحتها: يا اخي لقد خفت ان يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت.
و في اليوم الثامن من ذي الحجة كما ذكرنا كان الحسين قد احرم للحج فطاف بالبيت سبعا و سعى بين الصفا و المروة و قصر من شعره و أحل من احرامه و خرج بمن معه من اخوته و أبناء اخوته و بني عمومته و أصحابه و نسائه، فكان الناس يخرجون الى عرفات و الحسين خارج من مكة في طريقه الى العراق. و جاءه ابو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فنهاه عن الخروج و حذره من غدر أهل الكوفة و تخاذلهم، و أشار عليه ان يتجنبهم فأبى الا المضي في طريقه، كما جاءه عبد اللّه بن العباس و حذره من غدر اهل العراق، و ذكره بماضيهم الاسود مع ابيه و أخيه، فأصر على رأيه، فقال له ابن عباس: اما و اللّه لو اعلم اني ان اخذت بشعرك و تلابيبك و صحت حتى يجتمع الناس علينا، انك تطيعني و تنصرف عن رأيك لفعلت، فرد عليه الحسين بقوله: ذاك امر قد قضاه اللّه و لا بد من تنفيذه.
و لما يئس ابن عباس من تراجعه ودعه و بكى، و في طريقه رأى ابن الزبير فقال:
يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي و اصفري‏
و نقري ما شئت ان تنقري‏ هذا حسين خارج فأبشري‏
و لم يكن ابن عباس وحده الذي نصح الحسين بالعدول عن الكوفة و حذره من غدرهم و نفاقهم فقد نصحه أيضا ابن جعفر و محمد بن الحنفية و عبد اللّه بن مطيع، و كان عبد اللّه قد التقى به خارج مكة، فقال له: اذكرك اللّه في حرمة الإسلام ان تنتهك، انشدك اللّه في حرمة قريش و ذمة العرب، و اللّه لئن طلبت ما في ايدي بني أميّة ليقتلنك و لئن قتلوك لا يهابون‏ بعدك احدا فلا تأت الكوفة و لا تعرض نفسك لبني أميّة.
و ممن اشار عليه ان لا يأتي الكوفة عبد اللّه بن عمر و كان قد سمع بخروجه من مكة فركب راحلته و خرج يطلبه مسرعا فأدركه في بعض المنازل، فقال له: اين تريد يا ابن رسول اللّه؟ قال: العراق، فقال: ارجع الى حرم جدك، فأبى عليه، فلما رأى اصراره قال: يا ابا عبد اللّه اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللّه يقبله منك، فكشف له الحسين عن سرته فقبلها عبد اللّه بن عمر ثلاثا و بكى، ثم قال: استودعك اللّه يا ابا عبد اللّه.
و كان آخر ما اجاب به المشيرين عليه بالبقاء في مكة: ان وجوده في مكة و غيرها لن ينجيه من بطش الأمويين، و انهم لا يزالون به حتى يبايع يزيد او يقتل حتى انه لو دخل في جحر ضب لدخلوا وراءه على حد تعبير الراوي.
و مضت قافلة الحسين (عليه السلام) في طريقها الى العراق تاركة وراءها اولئك المشيرين عليه بالبقاء في الحجاز يتلوون ألما لحاله و ينتظرون له المصير المحتوم على ايدي اولئك الطغاة، و فيما هو يسير و اذا به يلتقي بالفرزدق الشاعر فيسأله عن أهل الكوفة، فيقول له: يا ابن رسول اللّه عد الى مكة فإن ألسنة القوم و قلوبهم معك، اما سيوفهم فمع بني أميّة عليك و القضاء ينزل من السماء و اللّه يفعل ما يشاء، فقال له الحسين (عليه السلام): ما قضي كائن لا محالة، و تركه و مضى، و استمرت قافلته في طريقها و كلما رأى رجلا في الطريق سأله عن أهل العراق حتى احيط علما بكل ما جرى و بقتل مسلم بن عقيل و هانئ بن عروة و ما سبق ذلك و تلاه من أحداث كما جاء في ص 216 و 217 من المجلد السادس تاريخ الطبري.
و جاء في أكثر المرويات التي تحدثت عن رحلة الحسين إلى كربلاء أنه لما نزل الثعلبية عند المساء لحقه اثنان من بني أسد فسلما عليه و أخبراه بما جرى لمسلم و هانئ فاسترجع مرارا، ثم قالا له: ننشدك اللّه في نفسك و أهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا فانه ليس لك في الكوفة ناصر و لا شيعة، فوثب بنو عقيل و قالوا و اللّه لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم، فنظر إليهم الحسين (عليه السلام) و قال: لا خير في العيش بعد هؤلاء، قالا فعلمنا أنه قد عزم و لن يتراجع.
و قال له بعض اصحابه: و اللّه ما أنت كمسلم بن عقيل و لو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع، و في زبالة بلغه مقتل عبد اللّه بن يقطر، و كان قد كتب معه كتابا لمسلم بن عقيل و جماعة من أهل الكوفة، و ذلك قبل أن يبلغه مقتل مسلم بن عقيل، فقبض عليه الحصين بن نمير في القادسية و أرسله الى عبيد اللّه بن زياد، فقال له: اصعد المنبر و العن الحسين و أباه ثم انزل لأرى رأيي فيك، فصعد عبد اللّه المنبر فلما اشرف على الناس لعن معاوية و يزيد بن معاوية و عبيد اللّه بن زياد ثم قال: أيها الناس إني رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه (صلى الله عليه واله) إليكم لتنصروه و تؤازروه على ابن مرجانة و ابن سمية الدعي، فأمر به عبيد اللّه و ألقي من فوق القصر فتكسرت عظامه، فجاءه رجل و ذبحه فعاب الناس عليه ذلك.
و جاء في تاريخ الطبري ان الحسين (عليه السلام) لما بلغه مقتل مسلم و هانئ و عبد اللّه بن يقطر و توالت عليه أخبار الكوفة و تحيزها لصالح بني أمية وقف خطيبا فيمن كان معه من أهله و أصحابه و من انضم إليه في الطريق من الأعراب و أصحاب المطامع و أخبرهم بواقع أهل الكوفة و خذلانهم إياه، ثم قال: فمن أحب منكم الانصراف فليس عليه منا ذمام، فتفرق الناس عنه يمينا و شمالا حتى بقي في أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة. و إنما فعل ذلك لعلمه بأن من انضم إليه في الطريق من الأعراب و سكان البادية قد انضموا إليه لظنهم أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه بهذا الواقع، لأنه مقبل على خطر لا تثبت له غير النفوس التي تؤثر الآخرة على الدنيا و لا ترى الحياة مع الطغاة و الظالمين الا شقاء و برما.
و فيما هو يسير بمن بقي معه من خلص اصحابه و أهل بيته و بني عمومته و إذا بالحسين و صحبه يرون أشباحا مقبلة من مسافات بعيدة، و ظنها بعضهم أشباح نخيل الكوفة و أشجارها، ثم حدق الحسين (عليه السلام) في تلك الأشباح التي تقترب من قافلته، فقال: ليست الكوفة و لا نخيلها كما تظنون بل هي هوادي الخيل و أسنة الرماح و أشباح الجنود، و خلال لحظات قليلة تبين للركب أن تلك الأشباح المطلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحر بن يزيد الرياحي أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسين (عليه السلام) و تسيره كما تريد، و لما اقتربوا من ركب الحسين (عليه السلام) سألهم عن المهمة التي جاءوا من أجلها، فقال لهم الحر: لقد أمرنا أن نلازمكم و نجعجع بكم حتى ننزلكم على غير ماء و لا حصن، أو تدخلوا في حكم يزيد و عبيد اللّه بن زياد، و جرى حوار طويل بين الطرفين و جدال لم يتوصلا فيه لنتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبى الحر أن يمكن الحسين من الرجوع إلى الحجاز أو سلوك الطريق المؤدية إلى الكوفة، و أبى الحسين (عليه السلام) أن يستسلم ليزيد و ابن زياد، و كان مما قاله الحسين و قد وقف بينهم خطيبا بعد أن قدمه الحر ليصلي بعامة الناس، قال: إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم و توالت علي رسلكم و رسائلكم، أما إذا كرهتموني فاني مستعد لأن أرجع إلى الحجاز أو أذهب في بلاد اللّه العريضة، و أمر عقبة بن سمعان بأن يخرج له كتب القوم، فقال له الحر: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا لك يا أبا عبد اللّه.
و تابعت القافلة سيرها و الحر يحاول منعها من دخول الكوفة، و حاول أنصار الحسين (عليه السلام) احراجه و جره إلى معركة في قلب الصحراء و كان زهير بن القين متحمسا لذلك فقال للحسين (عليه السلام): إن قتالهم الآن أيسر علينا من قتال غيرهم، و رفض الحسين هذه الفكرة لأن القوم لم يعلنوا حربا عليه، و قال: ما كنت لأبدأهم بالقتال، و ما هي إلا أيام قلائل سار فيها الطرفان في تلك الصحراء الفسيحة و الحر يساير الحسين و يحذره من قتال بني أمية و يذكره بغدر أهل الكوفة و مواقفهم مع أبيه و أخيه، و إذا بعمر بن سعد قد خرج من‏ الكوفة في جيش تقدره بعض المرويات بثلاثين ألفا و بعضها بأكثر من ذلك، و في رواية ثالثة أن ابن زياد قد استنفر الكوفة و ضواحيها لحرب الحسين و توعد كل من يقدر على حمل السلاح بالقتل و الحبس إن هو لم يخرج لحرب الحسين، و كان من نتائج ذلك أن امتلأت السجون بالشيعة و اختفى منهم جماعة، و خرج من خرج لحرب الحسين من أنصار الأمويين و أهل الأطماع و المصالح و كانوا يشكلون أكبر عدد في الكوفة، أما رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبناها بعض المؤرخين، فمع أنها من المراسيل لا تؤيدها الظروف و الملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدم عليه إلا بعد أن يعد العدة لكل الاحتمالات و يتخذ جميع الاحتياطات و بخاصة اذا كان خبيرا بأهل الكوفة و تقلباتهم و عدم ثباتهم على أمر من الأمور.
و مهما كان الحال فلقد قطعت الجيوش الزاحفة من الكوفة الطريق على الحسين (عليه السلام) و اضطرته إلى النزول في كربلاء في مكان لا يصلح للحرب و بعيد عن الماء و أخذوا يشددون عليه الحصار و حالوا بينه و بين الماء حسب الأوامر التي صدرت إليهم من عبيد اللّه بن زياد، و لما رأى الحسين (عليه السلام) كثرتهم و تصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية تعمم بعمامة رسول اللّه (صلى الله عليه واله) و ركب ناقته و أخذ سلاحه ثم دنا من معسكرهم بحيث يسمعون صوته و راح يسألهم بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه بما هو أهله عن كتبهم التي أرسلوها إليه و عهودهم التي قطعوها على أنفسهم، و لما أنكروا قوله أمر بإحضارها و كانت في خرجين كبيرين فنثرها بينهم و هم يرون و يسمعون و نادى كل من كتب إليه باسمه و كان بينهم عدد كبير ممن كتبوا له و عاهدوا اللّه على نصرته بكل ما لديهم من حول و طول فصمتوا عند ذلك و لم يجيبوه، ثم سألهم لما ذا يريدون قتله هل لثأر لهم عنده، أم لمال اغتصبه منهم، أم لبدعة أدخلها في دين الإسلام، و راح ينادي رجالا بأسمائهم يسألهم: هل يعرفون على ظهر الأرض كلها ابن بنت نبي غيره، و هل سمعوا جده نبيهم يقول:
الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و مضى يقول لهم: إذا كنتم لم‏ تسمعوا ذلك من الرسول (صلى الله عليه واله) ففي المسلمين اليوم من اذا سألتموهم اخبروكم بأن النبي (صلى الله عليه واله) قد قال ذلك مرارا كجابر بن عبد اللّه الأنصاري و زيد بن أرقم وعد لهم جماعة من أتقياء الصحابة، ثم قال في ختام حديثه: فإن كنتم تنكرون كتبكم و تنقضون عهودكم فدعوني أرجع إلى المكان الذي خرجت منه أو أذهب في أرض اللّه الواسعة، أو التجى‏ء الى ثغر من الثغور اجاهد فيه الكفار و المشركين حتى أموت، قال ذلك لا لقاء الحجة عليهم.
و لكن القوم مع ذلك كله ابوا إلا الاصرار في غيهم و التمادي في باطلهم، و أجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيهم كما حكى اللّه عنهم في كتابه: ما نفقه كثيرا مما تقول، و أنا لنراك فينا ضعيفا، فإما أن تستسلم لابن زياد يرى فيك رأيه أو نقاتلك قتالا ادناه قطف الرءوس و قطع الأيدي و الأرجل.
و عاد الحسين (عليه السلام) إلى مضاربه حزينا يقول لأصحابه: ان القوم قد اصروا على القتال و لا يريدون غيري فان ظفروا بي لا حاجة لهم بكم، فإذا جن الليل فليذهب كل منكم إلى حيث يأمن و دعوني و هؤلاء القوم.
و أبى أصحابه الأوفياء و أهل بيته البررة أن يفارقوه أو يبخلوا بأرواحهم عليه مع أنه قد تجسد لهم المصير و أصبحوا واثقين به، و الجود بالنفس أقصى غاية الجود، و قالوا له بلسان واحد: و اللّه لا نفارقك و لا نرضى بالعيش بعدك و لا بالدنيا بكل ما فيها بدلا عن الشهادة بين يديك. و قال له بعضهم: و اللّه يا ابا عبد اللّه لو أني أعلم بأني أقتل ثم أحيا ثم أقتل و أحيا يفعل ذلك بي سبعين مرة لتسلم أنت و من معك من هؤلاء الفتية ما ترددت في ذلك، و تكلم أصحابه و أهل بيته بكلام يشبه بعضه بعضا أكدوا فيه تصميمهم على القتال و استبشارهم بالموت بين يديه، و تأثر الحر بن يزيد الرياحي بكلمات الحسين (عليه السلام) و ندم على ما سبق منه معه، و راح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة و يعود الى موقفه أخرى و بدا عليه القلق و الاضطراب حتى قال له‏ أحد رفاقه: و اللّه ما رأيت منك مثل هذا الموقف أبدا و لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فعندها كشف له الحر عما يدور بنفسه، و قال: و اللّه إني أخير نفسي بين الجنة و النار و بين الدنيا و الآخرة، و لا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة و الجنة شيئا، ثم ضرب فرسه و التحق بالحسين و وقف على باب فسطاطه فخرج إليه الحسين فانكب عليه الحر يقبل يديه و يسأله العفو و الصفح، ثم قال: أنا الذي جعجعت بك و حبستك عن الرجوع، و لو كنت أعلم أن القوم يصلون معك إلى هذا الحد ما فعلت، فهل ترى لي من توبة؟ فقال له الحسين: نعم يتوب اللّه عليك و هو التواب الرحيم، فقال له الحر: و اللّه لا أرى لنفسي توبة إلا بالقتال بين يديك حتى أموت دونك، و مضى الى الحرب فتحاماه الناس، ثم تكاثروا عليه و قتلوه.
و كان قد جرى حوار بين الحسين (عليه السلام) و عمر بن سعد و مفاوضات انتهت بأن يرجع الحسين إلى مكة أو يذهب في أرض اللّه الواسعة، و كتب ابن سعد إلى عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه و أخزاه لاقرار الاتفاق فقال: الآن و قد علقت مخالبنا به يرجو النجاة لا و اللّه حتى يجيئني أسيرا ذليلا فإن شئت عفوت و إن شئت قتلته، و كتب إلى ابن سعد بذلك، فلما قرأ كتابه قال:
هيهات ان يجيبهم الحسين إلى ذلك و نفس أبيه بين جنبيه.
و لما بلغه فشل المفاوضات فضل الموت على حياة يكون فيها أسيرا لابن مرجانة، و قال: و اللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أقر لكم إقرار العبيد، إلا و إني لا أرى الموت إلا سعادة و الحياة مع الظالمين إلا برما.
و أصدر ابن زياد أوامره لابن سعد بأن يزحف بمن معه من أهل الكوفة على الحسين في التاسع من المحرم سنة إحدى و ستين من الهجرة فزحفوا نحو خيام الحسين في مساء ذلك اليوم على حين غفلة من الحسين و أصحابه، فخرج الحسين و أصحابه من مضاربهم كالليوث الضارية، و رأى الحسين (عليه السلام) أن يستمهلهم تلك الليلة و أرسل إليهم أخاه العباس، فأبى ابن سعد أن‏
يمهلهم إلى صبيحة اليوم الثاني، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي كما يروي الرواة: يا سبحان اللّه و اللّه لو كانوا من الترك أو الديلم و سألونا هذه المسألة لكان علينا أن نجيبهم لما طلبوه، و بعد حوار و جدال بينه و بين قادة جيشه أجابهم لما يريدون إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرم.
و في تلك الليلة جمع الحسين أصحابه فحمد اللّه و أثنى عليه، و قال: اللهم إني أحمدك على أن اكرمتنا بالنبوة و جعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدة و علمتنا القرآن و فقهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين، أما بعد فإني لا أعلم أصحابا و لا أهل بيت أبر و لا أوفى من أصحابي و أهل بيتي فجزاكم اللّه جميعا خيرا ألا و إن القوم لا يريدون أحدا غيري، و إني قد أذنت لكم جميعا بالانصراف فانطلقوا فأنتم في حل مني ليس عليكم حرج و لا ذمام و هذا الليل قد غشيكم فتفرقوا في سواده و انجوا بأنفسكم، فقال له اخوته و أبناؤه و أبناء عمومته: أنفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا اللّه ذلك أبدا، و تكلم بعدهم أصحابه و قالوا بلسان واحد: و اللّه لا نفارقك يا ابا عبد اللّه حتى نكسر في صدورهم رماحنا و نضربهم بسيوفنا ما ثبتت قوائمها في أيدينا و لو لم يكن معنا سلاح نقاتلهم به نقذفهم بالحجارة حتى نموت معك، فشكرهم الحسين و جزاهم خيرا و بشرهم بما أعده اللّه لهم في جنانه.
و جلس في خبائه تلك الليلة و عنده جون مولى أبي ذر يصلح له سيفه و هو يتمثل بالأبيات التالية:
يا دهر أف لك من خليل‏ كم لك بالاشراق و الأصيل‏
من صاحب أو طالب قتيل‏ و الدهر لا يقنع بالبديل‏
و انما الأمر إلى الجليل‏ و كل حي سالك سبيلي‏
فسمعته أخته زينب بنت علي (عليه السلام) فلم تملك نفسها أن و ثبت تجر ذيلها حتى انتهت إليه و نادت: وا ثكلاه ليت الموت اعدمني الحياة اليوم ماتت أمي‏ فاطمة و أبي علي و أخي الحسن يا خليفة الماضين و ثمال الباقين، فنظر إليها الحسين (عليه السلام) و قال: يا اختاه لا يذهبن بحلمك الشيطان، ثم قال: لو ترك القطا لغفا و ناما، ثم عزاها بنفسه و أمرها بالصبر و أوصاها بعياله و أطفاله و بات ليلته هو و أصحابه يصلون و يقرءون القرآن حتى الصباح.
و بدخول اليوم العاشر من المحرم زحفت خيل ابن زياد نحو مضارب الحسين (عليه السلام) يتقدمها ابن سعد فوضع سهما في قوسه و رمى به خيام الحسين و قال: اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى الحسين و أصحابه، و توالت السهام على مضارب الحسين و أخبيته من كل جانب، فنادى الحسين في أصحابه و قال: هذه رسل القوم إليكم فخرجوا من خيامهم و مضاربهم كالأسود الضارية لا يبالون بالموت و لا يحسبون لتلك الحشود الهائلة حسابا مستبشرين بلقاء اللّه سبحانه، و كأنهم رأوا منازلهم مع النبيين و الصديقين و عباده الصالحين، و كان لا يقتل منهم أحد حتى يقول: السلام عليك يا ابا عبد اللّه و يوصي أصحابه بأن يفدوه بالمهج و الأرواح، و احتدمت المعركة بين الطرفين فكان لا يقتل الرجل من أنصار الحسين (عليه السلام) حتى يقتل العشرة و العشرين، و خلال ساعات معدودات قتلوا عن آخرهم، و بقي الحسين في أهل بيته و بنيه و إخوته، فتقدم إلى القتال ببسالة لا يعرف لها الإنسان نظيرا من قبل، و كلما قتل منهم واحد حمله الحسين و ألقاه بين القتلى من أصحابه، و لما برز إليهم ولده علي بن الحسين الأكبر و كان كما يصفه الرواة اشبه الناس خلقا و خلقا و منطقا برسول اللّه، و فيه يقول بعض المعاصرين له من الشعراء:
لم تر عين نظرت مثله‏ من محتف يمشي و من ناعل‏


و قد دعا عليهم الحسين ساعة خروجه و وداعه و قال: اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا و منطقا برسولك و كنا إذا اشتقنا إلى رسولك نظرنا إلى وجهه، اللهم امنعهم بركات الأرض و فرقهم‏ تفريقا و مزقهم تمزيقا و اجعلهم طرائق قددا و لا ترض الولاة عنهم أبدا، و صاح بعمر بن سعد كما يدعي الرواة و قال: قطع اللّه رحمك كما قطعت رحمي و لم تحفظ قرابتي من رسول اللّه، و حمل علي الأكبر على القوم و قاتلهم قتال الأبطال الأشداء و ظل يقاتلهم حتى قتل مائتين من أهل الكوفة كما جاء في المرويات التي وصفت معركة الطف و قتاله فيها.
و كان من أبرز المقاتلين مع الحسين من أهله و إخوته العباس بن علي (عليه السلام) و هو و إخوته الثلاثة الذين قتلوا قبله لأم واحدة و هي فاطمة بنت حزام التي تعرف بأم البنين، و لما لم يبق مع الحسين أحد من أصحابه و بنيه و أهله تقدم نحو الحسين (عليه السلام) يطلب منه الاذن في قتال القوم فبكى الحسين و عانقه ثم أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضاربة و ضج أهل الكوفة من كثرة من قتل منهم، و لما قتل قال الحسين (عليه السلام): الآن انكسر ظهري و قلت حيلتي و شمت بي عدوي.
و في رواية ثانية أنه خرج للقتال هو و أخوه الحسين فكانا لا يتجهان إلى جهة الا تضعضعت و إلى كتيبة إلا انهارت، و أخيرا استطاعوا أن يفصلوا بينه و بين الحسين و كمنوا له وراء النخيل و قتلوه و بقي الحسين وحده بينهم فتدافعت عليه حشودهم كالسيل، و وصفه حميد بن مسلم و هو يقاتل تلك الحشود الموتورة، فقال: و اللّه ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و جميع أصحابه أربط جأشا و لا أمضى جنانا و لا أجرا مقدما منه و لقد كان يحمل عليهم و هم ثلاثون ألفا فينهزمون بين يديه كالجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه بين مضاربه و جيش ابن زياد و يقول: لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم، فلما رأى ابن سعد ذلك أمرهم أن يرجموه بالحجارة و يرموه بالسهام فانهالت عليه سهامهم و حجارتهم من كل جانب حتى خارت قواه، و حاول شمر بن ذي الجوشن بمن معه أن يهاجم خيامه فارتفعت أصوات النساء و الأطفال، فصاح (عليه السلام): و يحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون المعاد فكونوا احرارا في دنياكم و ارجعوا إلى‏ أحسابكم ان كنتم عربا كما تزعمون أنا الذي أقاتلكم و تقاتلوني و النساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا، فرجعوا عن خيامه و قصدوه و مالوا عليه بالسهام و الرماح و الحجارة حتى خر صريعا من كثرة ما أصابه من طعن الرماح و ضرب السيوف، و جاء شمر و معه جماعة و هو يجود بنفسه فأجهزوا عليه.
و قال ابن حجر في صواعقه: و كان من مظاهر غضب اللّه لمقتل الحسين أن اسودت السماء و شوهدت النجوم بالنهار و حاق عذاب اللّه بكل من اشترك في دمه و مضى يقول:
أ ترجو امة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب‏
و روى المقريزي عن السري أنه لما قتل الحسين بكت السماء و كسفت الشمس و بكاؤها حمرتها، كما روي عن علي بن ميسرة أنه قال: حدثتني جدتي أنها كانت أيام قتل الحسين جارية شابة فبقيت السماء أياما كأنها علقة، و روي أيضا عن الزهري أنه قال: بلغني أنه لم يقلب حجر من أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين إلا وجد تحته دم، و أظلمت الدنيا ثلاثا و أمطرت السماء دما، كما روى الرواة عن وقوع أحداث اخرى كلها من المراسيل و ليس ذلك على اللّه بعسير إذا اقتضت المصلحة حصول ذلك.
و لما قتل (عليه السلام) مال القوم على رحله فنهبوه و على ماله فسلبوه و على نسائه فنازعوهن حليهن و ثيابهن حتى لقد كانت المرأة تتعلق بقميصها فيغصب منها فتبقى بلا خمار و إزار، و أمر عمر بن سعد عشرة من الفرسان فداسوا بخيولهم صدره و ظهره كما اوصاهم ابن زياد، ثم فصلوا رءوس القتلى عن الأجساد و رفعوها على رءوس الرماح، و كانت الرءوس ثمانية و سبعين رأسا تقاسمتها القبائل التي اشتركت في تلك المعركة فيها بينها، ثم أمر ابن سعد بالنساء فحملن على الاقتاب عاريات الرءوس، و بلغت به القسوة أن أمرهم أن يمروا بهن على جثث القتلى فنظرت زينب إلى جسد أخيها ممزقا من الرماح و السيوف‏ و حوافر الخيول فرفعت كلتا يديها إلى السماء و قالت: اللهم تقبل منا هذا القربان، و دفن ابن سعد قتلاه و ترك الحسين و أصحابه و بعد ثلاثة أيام تم دفنهم بواسطة الإمام زين العابدين (عليه السلام) كما جاء في أكثر الروايات، و روى المؤرخون أن ابن سعد سرح بالرؤوس بعد انتهاء المعركة إلى الكوفة و كان رأس الحسين مع خولي بن يزيد الأصبحي فوجد القصر مغلقا فأتى بالرأس الشريف إلى منزله و وضعه تحت أجانة و دخل فراشه، ثم قال لامرأته: جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسين معك في الدار.
و جاء في رواية الطبري أنها غضبت لما أخبرها بأنه جاءها برأس الحسين فقالت: ويحك لقد جاء الناس بالذهب و الفضة و جئتني برأس ابن بنت رسول اللّه؟! و اللّه لا يجتمع رأسي و رأسك في بيت ابدا، و قامت من فراشه و خرجت الى الدار و قالت: ما زلت أنظر الى نور يسطع مثل العمود من الاجانة و إليها و رأيت طيورا بيضاء ترفرف حولها.
و روى الرواة أن ابن زياد اذن للناس اذنا عاما فدخلوا القصر و رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه فجعل ينكت ثناياه بقضيب كان في يده، فرآه زيد بن أرقم، فقال له: ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فو اللّه الذي لا إله غيره لقد رأيت رسول اللّه يقبلهما مرارا، ثم بكى بكاء عاليا فقال له ابن زياد: لو لا انك شيخ قد كبرت و ذهب عقلك لقتلتك، فقام من مجلسه و هو يقول:
يا أهل الكوفة أنتم العبيد بعد اليوم لقد قتلتم الحسين و أمرتم ابن مرجانة.
و في رواية ثانية أن ابن زياد جعل ينكت ثنايا الحسين بقضيبه و يقول:
نفلق هاما من رجال اعزة علينا و قد كانوا أعق و أظلما
و كان أبو برزة صاحب رسول اللّه حاضرا فقال له: لا تفعل ذلك يا ابن زياد فلقد رأيت شفتي رسول اللّه على هذا الثغر مكان قضيبك.
و لما ادخلوا السبايا على ابن زياد انحازت زينب بنت علي (عليه السلام) إلى‏ ناحية من القصر و هي متنكرة فالتفت ابن زياد و قال: من هذه المتنكرة؟ فلم تجبه، فأعاد عليها السؤال ثانيا و ثالثا فلم تجبه، فقال له بعض من كان في مجلسه: هي زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه، فأقبل عليها و قال: الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم، فقالت عليها السلام: الحمد للّه الذي اكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه واله) و طهرنا من الرجس تطهيرا انما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا يا ابن مرجانة، فقال لها: كيف رأيت صنع اللّه بأخيك الحسين؟ فقالت: ما رأيت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاج و تخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة، فغضب من جوابها اللاذع بحضور تلك الجموع المحتشدة في مجلسه و هم بضربها فقال له عمرو بن حريث: انها امرأة و المرأة لا تؤاخذ بشي‏ء من منطقها، فرجع يكلمها بأسلوب الشامت الحاقد و كأنه يريد اذلالها، فقال لها: لقد شفى اللّه قلبي من طاغيتك الحسين و العتاة المردة من أهل بيتك، فرقت عند ذلك و بكت، ثم قالت: لعمري لقد قتلت كهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أصلي فإن يكن في هذا شفاؤك فقد اشتفيت.
كما جرى حوار عنيف بينه و بين الإمام زين العابدين (عليه السلام) لم يخش فيه سطوته و لم ترهبه قوته فانتفخت أوداج ابن زياد من الغيظ و هم بقتله لو لا ان السيدة زينب (عليه السلام) ألقت بنفسها عليه و اختارت الموت دونه، و قالت له:
حسبك من دمائنا ما سفكت فإذا اردت قتله فاقتلني دونه و قال له بعض من كان في مجلسه: يكفيه ما به من المرض، فتركه عند ذلك و قال: عجبا للرحم لقد تمنت أن تموت دونه.
و قد تحدث الرواة عن مواقف للإمام زين العابدين و للسيدة الكبرى زينب مع ابن زياد و يزيد و مع أهل الكوفة رجالا و نساء و قد ذكرها المؤلفون فيما ذكروه عن أحداث كربلاء و نهضة الحسين و ما تلاها و اكتفيت بهذه اللمحات عن حياته و نهضته و ما تلاها من أحداث مخافة التطويل و الملل.
و مجمل القول ان مقتله قد هز العالم الإسلامي و زلزل الأفئدة و خيل للناس من هول الصدمة التي اصابتهم كأن الشمس قد كسفت و ان النجوم قد غارت و تناثرت و ان السماء تمطر دما و أن هواتف الجن تلاحقهم من كل مكان، لقد قتلتم ابن نبيكم و استأصلتم عترة رسولكم فانتظروا العذاب و الخزي في الدنيا و الآخرة، و حتى ان الأمويين بعد أن رأوا موقف المسلمين في شرق الأرض و غربها من هذا الحادث و نقمتهم على البيت الأموي، أظهروا الندم و اعلنوا براءتهم من كل ما حدث و راح يحيى بن الحكم شقيق مروان ينشد:
لهام بجنب الطف ادنى قرابة من ابن زياد الوغد ذي الحسب الدغل‏
سمية أمسى نسلها عدد الحصى‏ و بنت رسول اللّه اضحت بلا نسل‏
كما بكى معاوية بن يزيد بكاء شديدا، و لما سئل عن سبب بكائه و جزعه قال: لا أبكي حسرة على ما فات و إنما ابكي كمدا على من سيأتي من بني أمية، و أعلن بقية الصحابة يوم ذاك أنهم رأوا النبي و هو اشعث أغبر و بيده قارورة فيها دم و انهم لما سألوه عن ذلك أجابهم بأنه شهد قتل الحسين و جمع من دمه في القارورة و سيطالب قاتليه يوم يعرضون على ربهم.
و أمام غضب المسلمين و نقمتهم على بني أمية لم يجد يزيد بن معاوية بدا من أن يلقي مسئولية قتله على ابن زياد و يقول: لعن اللّه ابن مرجانة، و اللّه ما أمرته بقتله و لا رضيت به و قد حملني فاحتملت ما لا يطاق، و اللّه لقد وددت أني تنازلت عن كل شي‏ء و أن حسينا لم يقتل، قال ذلك كما ذكرنا، بعد أن بلغه ان قتله قد هز جميع المسلمين و أنهم في مختلف المناطق يتأهبون للثورة عليه، و كان قد قربه و أدناه و شكره على ما صنع قبل أن تأتيه الأخبار عن موقف المسلمين و نقمتهم عليه .. .