ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

كانت سياحةً ممتعةً في الأخلاق الحسينيّة الشريفة ؛ حيث تعرّفنا فيها على‏ بعض فضائل مولانا سيّد الشهداء أبي عبد الله السبط , سيّدِ شبابِ أهل الجنَّة الإمام الحسين بن عليّ , ابن فاطمةَ بنت النبيّ المصطفى‏ (صلوات الله عليهم أجمعين) .
ولم يَنتهِ بعدُ ما في أيدينا ممَّا حفِظتْه بطونُ كتبِ المناقب والفضائل والخصائص ونقله الرواة والمؤرِّخون وكُتَّابُ السير من أهل الإسلام على‏ اختلاف مذاهبهم وأهوائهم ومشاربهم ؛ لذا رغِبْنا أن نَعرض ـ وبشكلٍ مختصرٍ وعاجل ـ خصالاً اُخرى‏ للإمام الحسين (عليه السّلام) , وهي :
1 ـ العَفْوُ الحُسَينِيّ‏
والعفو هو ضدُّ الانتقام , وهو إسقاطُ ما يستحقُّه من قصاصٍ أو غرامة (1) . وقد وردت في كتاب الله العزيز آيات كثيرة تدعو إلى‏ العفو
وترغِّبُ فيه , منها قولُه تعالى‏ : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف : 199], وقوله (عزَّ مِن قائل) : {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237], وقولُه (عزَّ وجلَّ) : {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور : 22].
أمَّا من الأحاديث فقد ورد عن رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) أنَّه قال : (( العفوُ لا يزيد العبدَ إلاَّ عِزَّاً ؛ فاعفُوا يُعزَّكمُ الله(2) . مَن عفا عن مظلمةٍ أبدله الله بها عزَّاً في الدنيا والآخرة(3) . عليكم بمكارم الأخلاق ؛ فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) بعثني بها , وإنَّ مِن مكارم الأخلاق أنْ يعفوَ الرجلُ عمَّنْ ظلمَه , ويُعطيَ مَنْ حرمَه , ويَصلَ مَنْ قطعَه , وأنْ يعودَ مَنْ لا يعودُه ))(4) .
ورُوي عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) أنَّه قال : (( العفوُ تاجُ المكارم(5) . شيئانِ لا يوزن ثوابهما ؛ العفوُ والعدل ))(6) .
وقال (سلام الله عليه) : (( أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم , فما يعثر منهم عاثر إلاّ ويدُ الله بيده يرفعُه ))(7) . كذا قال (صلوات الله عليه) : (( إنَّما ينبغي لأهل‏ العصمةِ والمصنوعِ إليهم في السلامة أنْ يرحموا أهلَ الذنوب والمعصية , ويكونَ الشكرُ هو الغالبَ عليهم ))(8) .
وجاء عنه (عليه السّلام) أيضاً قولُه : (( إذا قدرتَ على‏ عدوّك فاجعلِ العفوَ عنه شكراً للقدرةِ عليه ))(9) .
وقوله : (( بالعفوِ تنزل الرحمة ))(10) .
والإمام الحسين (عليه السّلام) هو الملبّي لنداء الله تعالى‏ في كلِّ دعوةٍ إلى‏ خُلُقٍ فاضلٍ حميد , وهو أتقى‏ الناس وأولى‏ منهم بالفضائل , ومنها العفو . وهو العزيزُ النفس والجانب بالعفوِ عن المخطئين , وغير ذلك من مكارمِ الأخلاق حتَّى‏ عفا عمَّن ظلمَه , وأعطى‏ مَنْ حرمه , ووصلَ مَن قطعهُ , وعادَ مَن لم ‏يعدْه .
وقد أقالَ عثراتِ الناس جزاءً على‏ مروءاتهم , ورحمةً بحالهم , وتجاوز بعصمته المقدّسة عن ذنوبهم ومعاصيهم , وكان قادراً أنْ يعاقب فعفا , كجدِّه المصطفى‏ (صلّى‏ الله عليه وآله) حين قال لأهل مكّة : (( اذهبوا فأنتمُ الطلقاء )) , من بعد ما آذَوه أشدَّ الإيذاء .
وصدرَ عفوه عن مقدرة فكان أحسنَ العافين , وهو القائل (عليه السّلام) : (( إنَّ أعفى‏ الناس مَنْ عفا عند قدرته ))(11) .
روى‏ ابنُ الصبَّاغ المالكيّ : جنى‏ بعضُ أقاربه جنايةً تُوجب التأديب , فأمر بتأديبه , فقال : يا مولاي , قال الله تعالى : (والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) .
قال (عليه السّلام) : (( خلُّوا عنه , فقد كظمتُ غيظي )) .
فقال : (وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ) .
قال (عليه السّلام) : (( قد عفوتُ عنك )) .
فقال : (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
قال : (( أنتَ حُرٌّ لوجه الله تعالى‏ )) . وأجازه بجائزة سَنيّة(12) .
وفي رواية الإربلي في كشف الغمّة(13) : قال (عليه السّلام) : (( أنتَ حُرٌّ لوجه الله , ولكَ ضِعفُ ما كنتُ اُعطيك )) .
فكان عفوُ الحسين (سلام الله عليه) :
أوَّلاً : مكافئة هنيئة على‏ ذلك الغلام ؛ لأنَّه استعانَ بالقرآنِ
الكريم , وخاطب به سيّدَ الأخلاق معوِّلاً على‏ كرمه وعفوه , فلم يُخيّبْه الإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه) , بل صفحَ عنه , ثمّ قدَّمَ له هديَّتينِ ؛ الاُولى‏ العتق , وأيُّ هديَّة تلك ! والثانية عطاءٌ مضاعفٌ أو جائزةٌ سنيّة يستعين بها على‏ العيش الحرّ الكريم .
فجمع الإمامُ الحسين (عليه السّلام) أكثرَ مِن خلُق ؛ العفو والتعليم والكرم , وتلك هي أخلاقُه (سلام الله عليه) متعدّدةٌ في الموقف الواحد , متداخلةٌ فيما بينها لا تدري أيّاً منها تُشير إليها .
ثانياً : كان عفوُ الحسين (عليه السّلام) تأديباً وإصلاحاً لذلك الغلام , وإعطاءً لفرصةٍ يستدرك بها خطأَه , ويستفيد من رحمةِ الإمام الحسين (عليه السّلام) وعفوه وحلمه .
ثالثاً : كان عفوه (سلام الله عليه) عن قدرة شكرَها لله تعالى‏ بالعفوِ عن عباده , وإلاّ كان من حقّه (عليه السّلام) أن يعاقب , إلاّ أنَّه اختار العفو بحكمته , وبلطفه ورحمته .
رابعاً : لم يكن عفوُه (عليه السّلام) مجرَّد عفو , أي مجرَّد إسقاطِ حقٍّ من قصاص , بل كان إضافةً إلى‏ ذلك صفحاً جميلاً , والصفحُ الجميل في قوله تعالى : {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر : 85] هو العفوُ من غير عتاب كما قال الإمام‏ الرضا (عليه السّلام)(14) , أو هو كما قال الإمام الصادق‏ (عليه السّلام) : (( عفواً مِن غير عقوبة , ولا تعنيف , ولا عتب ))(15) .
ولم يجمعِ الإمامُ الحسين (عليه السّلام) ذلك فحسب , إنَّما أضاف إليه الجائزةَ السنيّة ورحمةَ الحرِّيَّة .
وفي كلّ مواقفه (سلام الله عليه) كان يقدِّم عفوَه على‏ غضبه , ويعرضُ العفوَ على‏ مبغضيه وأعدائه علَّهم يهتدون , وإلى‏ الحقِّ يؤوبون , وعن الباطل والضلال يرجعون , ومن فرصةِ السلام يستفيدون .
وهذا من الرحمةِ الحسينيّة التي استفاد منها الحرُّ بنُ يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه) ؛ إذ لمّا سمع كلامَ الحسين (عليه السّلام) , ودعوتَه الحقَّة أقبل على‏ عمر بنِ سعد وقال له : أمُقاتلٌ أنتَ هذا الرجل ؟
قال عمر : إي والله قتالاً أيسرُه أنْ تسقط فيه الرؤوس , وتطيحَ الأيدي .
فقال الحرّ : ما لكم في ما عرضه عليكم من الخصال ؟
فقال عمر : لو كان الأمرُ إلَيَّ لقبِلتُ , ولكنَّ أميرَكَ أبى‏ ذلك .
فتركه الحرُّ ووقف مع الناس , وكان إلى‏ جنبهِ قُرَّةُ بنُ قيس , فقال لقُرّة : هل سقيتَ فرسَكَ اليوم ؟
قال : لا .
قال : فهل تُريد أن تَسقيه ؟
فظنَّ قُرَّةُ مِن ذلك أنَّه يُريد الاعتزال ويكرهُ أن يشاهدَه , فتركه , فأخذ الحرُّ يدنو من الحسين قليلاً , فقال له المهاجرُ بنُ أوس : أتريد أن تحمل ؟
فسكتَ الحرُّ , وأخذتْه الرعدة , فارتاب المهاجرُ مِن هذا الحال , وقال له : لو قيل لي : مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفةِ لما عدوتُك , فما هذا الذي أراه منك ؟!
فقال الحرّ : إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنَّةِ والنار , والله لا أختارُ على‏ الجنَّةِ شيئاً ولو حُرِّقتُ .
ثمَّ ضرب جوادَه نحو الحسين(16) ؛ منكِّساً رمحَه , قالباً ترسَه , وقد طأطأ برأسِه حياءً مِنْ‏ آل‏ الرسول بما أتى‏ إليهم , وجعجعَ بهم في هذا المكان على‏ غير ماءٍ ولا كلأ , رافعاً صوته : اللَّهمَّ إليك اُنيب فتُبْ عَلَيَّ ؛ فقد أرعبتُ قلوبَ أوليائك وأولادِ نبيِّك . يا أبا عبد الله , إنّي تائب , فهل لي من توبة .
فقال الحسين (عليه السّلام) ـ وهو العفوُّ ـ : (( نعم , يتوبُ الله عليك ))(17) .
فسرَّه قولُه , وتيقَّنَ الحياةَ الأبديَّةَ والنعيمَ الدائم , ووضح له قولُ الهاتف لمّا خرج من الكوفة , فحدّثَ الحسينَ (عليه السّلام) بحديثٍ قال فيه : لمّا خرجتُ من الكوفة نُوديتُ : أبْشِرْ يا حُرُّ بالجَنَّةِ . فقلتُ : ويلٌ للحرِّ ! يُبشَّرُ بالجنَةِ وهو يسير إلى‏ حرب ابن بنتِ رسول الله(18) !
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( لقد أصبتَ خيراً وأجراً )) . وكان مع الحرّ غلامٌ له تركيّ(19) .
ثمَّ استأذنَ الحرُّ الحسينَ (عليه السّلام) في أنْ يكلِّمَ القوم , فأذِنَ له , فنادى‏ بأعلى‏ صوته : يا أهل الكوفة , لأمَّكم الهبل والعبر ! إذْ دعوتموه وأخذتُم بكظمه , وأحطْتُم به من كلِّ جانب فمنعتموه التوجّهَ إلى‏ بلاد الله العريضة حتّى‏ يأمَنَ وأهلُ بيته , وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً , وحَلأْتُموه ونساءَه وصبيتَه وصَحبَه عن ماءِ الفراتِ الجاري الذي يشربه اليهودُ والنصارى‏ والمجوس , وتمرغ فيه خنازير السوادِ وكلابُه , وها هم قد صرعهمُ العطش , بئسما خلفتُم محمَّداً في ذرّيّته ! لا سقاكمُ اللّهُ يومَ الظمأ .
فحملتْ على‏ الحرّ رجَّالةٌ ترميه بالنبل , فتقهقر حتّى‏ وقفَ أمامَ الحسين (عليه السّلام)(20) .
وهكذا يتحوّل الحرّ ببركة عفو سيّده الحسين (عليه السّلام) إلى‏ صفّ الإيمان والحقّ , والجهاد والشهادة , ويعلو صوتُه بدعوةِ أهل الكوفة إلى‏ المعروف , ونهيهم عن منكرهم وضلالهم في قتالهم لسيّد شباب أهل الجنّة (عليه السّلام) .
وبعد شهادة حبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه) خرج الحرُّ بن يزيد الرياحيّ ومعه زهيرُ بنُ القين يحمي ظهرَه , فكان إذا شدَّ أحدُهما واستلحم شدَّ الآخرُ واستنقذه ففعلا ساعة(21) , وإنَّ فرس الحرّ لمضروب على‏ اُذُنَيه‏ وحاجبَيْه , والدماءُ تسيل منه , وهو يتمثّل بقول عنترة :
ما زلتُ أرميهم بثغرةِ نحرِه ولبانه حتّى‏ تسربل بالدمِ‏
فقال الحصين ليزيد بن سفيان : هذا الحرُّ الذي كنتَ تتمنّى‏ قتله .
قال : نعم .
وخرج إليه يطلب المبارزة , فما أسرع أن قتله الحرّ , ثمّ رمى‏ أيُّوبُ‏ بنُ مشرح الخيوانيّ فرسَ الحرّ فعقره , وشبّ به الفرس فوثب عنه كأنَّه ليث (22) , وبيده السيف , وجعل يقاتل راجلاً حتّى‏ قتل نيّفاً وأربعين (23) , ثمَ‏ شدَّتْ عليه الرجَّالةُ فصرعته , وحمله أصحابُ الحسين (عليه السّلام) ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلونَ دونه , وهكذا يُؤتى‏ بكلّ قتيل إلى‏ هذا الفسطاط , والحسينُ (عليه السّلام) يقول : (( قتلةٌ مْثلُ قتْلةِ النبيِّينَ وآل النبيّين ))(24) .
ثمَّ التفتَ (عليه السّلام)‏ إلى‏ الحرّ , وكان به رمق , فقال له وهو يمسح الدمَ عنه : (( أنت الحرّ كما سمّتْك اُمُّك , وأنت الحرُّ في الدنيا والآخرة )) .
ورثاه رجل من أصحاب الحسين (عليه السّلام) , وقيل : عليُّ بن الحسين (عليه السّلام)(25) , وقيل : إنَّها من إنشاء الحسين (عليه السّلام)
خاصّة (26) :
لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَني ‏رِياحِ صبورٌ عندَ مشتَبكِ الرماحِ‏
وَنِعْمَ الحرُّ إذْ فادى‏ حسين وجاد بنفسه عند الصباحِ‏
2 ـ الحِلْمُ الحُسَينِيّ‏
والحلم هو طمأنينةُ النفس , بحيث لا يُحرِّكها الغضب بسهولة , ولا يزعجُها المكروهُ بسرعة ؛ فهو الضدُّ الحقيقيُّ للغضب ؛ لأنَّه المانعُ من حدوثِه وبعدَ هيجانه .
والحلم أشرفُ الكمالاتِ النفسيّة بعد العلم , بل لا ينفع العلمُ بدونه أصلاً ؛ ولذا كلّما يُمدح العلمُ أو يُسأل عنه يُقارَنُ به . قال رسول ‏الله (صلّى ‏الله عليه وآله) : (( اللَّهمَّ أغنني بالعلْم , وزيِّنِّي بالحلْم )) .
وقال (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( إنَّ الله يُحِبُّ الحيّيَ الحليم )) .
وقال (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( ما أعزَّ الله بجهلٍ قطّ , ولا أذلَّ بحلمٍ قطّ )) .
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( ليس ‏الخيرُ أن يكثر مالُك ووُلْدُك , ولكنَّ الخيرَ أن يكثُرَ علمُك ويَعظُمَ حِلْمُك )) .
وقال عليُّ بنُ الحسين (عليهما السّلام) : (( إنَّه لَيُعجبُني الرجلُ أن يُدركَه حِلْمُه عند غضبه )) .
وقال الرضا (عليه السّلام) : (( لا يكون الرجلُ عابداً حتّى‏ يكون حليماً ))(27) .
والحلم ـ كما يرى‏ علماءُ الأخلاق ـ من آثارِ قوّةِ النفسِ وشجاعتِها , ولا يُعرف إلاّ في الموقف الصعب أو حالةِ الهيجان . قال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ثلاثة لا تُعرف إلاّ في ثلاثة مواطن ؛ لا يُعرف الحليم إلاّ عند الغضب , ولا الشجاع إلاّ عند الحرب , ولا أخٌ إلاّ عند الحاجة ))(28) .
والحاجات تختلف ؛ فمنها معنويّةٌ أخلاقيّة ؛ إذ قد يحتاج الأخُ من أخيه أن يعفوَ عنه ويصفح , وأن يحلمَ عليه ولا يغضب . والشجاعة لا تقتصر على‏ قوّةِ البدن واندفاعه في ساحةِ القتال ؛ إذ منها إمساكُ النفس عن الغضب كما هو منها إمساكُ النفس عن الخوف والجُبن والوهن .
سألَ النبيُّ (صلّى‏ الله عليه وآله) يوماً أصحابَه : (( ما الصرعةُ فيكم ؟ )) .
قالوا : الشديدُ القويُّ الذي لا يُوضَعُ جنبُه .
فقال : (( بل الصرعةُ حقّ الصرعة رجلٌ وكزَ الشيطانَ في قلبه , واشتدّ غضبُه وظهر دمُه , ثمَّ ذكرَ الله فصرعَ بحِلْمِه غضبَه ))(29) .
وفي رواية أنَّه (صلّى ‏الله عليه وآله) خرج وقومٌ يُدحرجون حجر , فقال : (( أشدُّكم مَنْ ملكَ نفسَه عند الغضب , وأحلمُكم مَنْ عفا بعدَ المقدرة ))(30) .
وقال (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( ليس الشديد بالصرعة , إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسَه عند الغضب ))(31) .
وجاء عن مولانا الإمام عليّ (عليه السّلام) أنّه قال : (( أقوى‏ الناس مَن قوِيَ على‏ غضبهِ بحِلْمِه ))(32) .
ورُوي عن مولانا الإمام الباقر (عليه السّلام) قولُه : (( لا قُوَّةَ كَرَدِّ الغَضَبِ ))(33) .
وصورة من صور الحلم الحسينيّ الشريف ما رواه للتاريخ عصام ‏بن المصطلق , حيث قال : دخلتُ المدينةَ فرأيتُ الحسينَ بنَ عليّ (عليه السّلام) فأعجبني سمْتُه ورواؤُه , وأثارَ مِن الحسدِ ما كانَ يُخفيهِ صدري لأبيهِ من البُغض , فقلتُ له : أنتَ ابنُ أبي تراب ؟
فقال : (( نعم )) .
قال عصام : فبالغتُ في شتمِه وشتمِ أبيه (نعوذ بالله) , فنظر إلَيَّ نظرةَ عاطفٍ رؤوف , ثمّ قال : (( أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمنِ الرحيم , {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف : 199 - 202] )) .
قال عصام : ثمّ قال لي : (( خفّضْ عليك , أستغفر الله لي ولك , إنَّكَ لوِ استعنتَنا لأعنّاك , ولوِ استرفدتنا لرفدناك , ولوِ استرشدتنا لرشدناك )) .
قال عصام : فتوسّم منّي الندمُ على‏ ما فرط منّي , فقال : (({لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف : 92] . أمِن أهل الشامِ أنت ؟ )) .
قلتُ : نعم .
فقال : (( شنشنةٌ أعرفُها مِن أخزمِ . حيّانا الله وإيّاك , انبسطْ إلينا في‏ حوائجك وما يعرضُ لك تجدني عند أفضلِ ظنِّكَ إنْ شاء الله تعالى‏ )) .
قال عصام : فضاقتْ عَلَيَّ الأرضُ بما رحُبتْ , ووددتُ لو ساختْ بي , ثمَّ سللْتُ منه لواذاً وما على‏ الأرضِ أحَبُّ إلَيَّ منه ومِن أبيه(34) .
فبالحلم أعزّ الإمامُ الحسين (عليه السّلام) نفسَه وأكرمَها , وأنقذ هذا المسكين الذي أثّرتْ عليه دعاياتُ وافتراءاتُ بني اُميّة ضدَّ أهلِ بيت العصمة والطهارة (صلوات اللَّه عليهم) , حتّى‏ إذا التقى‏ بأحدهم ـ وهو الحسين (سلام اللَّه عليه) ـ وجدَ خلُقاً رفيعاً , وحلْماً عظيماً , وصدْراً رحباً واسعاً يتحمّل إساءاتِ الآخرين حتّى‏ السبَّ منه .
وقد قال (عليه السّلام) وهو الصادق , كما روى‏ الزرنديُّ الحنفيّ في كتابه (نظم درر السمطين)(35) : (( لو شتمني رجلٌ في‏ هذه الأذُن ـ وأومى‏ (عليه السّلام) إلى اليُمنى‏ ـ واعتذر لي في الاُخرى‏ لقبِلْتُ ذلك منه ؛ وذلك أنَّ أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالب (رض) حدّثني أنه سمع جَدّي رسولَ‏ اللَّه (صلّى الله عليه وآله) يقول : لا يرِد الحوضَ مَنْ لم يقبلِ العُذرَ من مُحقٍّ أو مُبطل )) .
لقد كان صدرُ الإمام الحسين (عليه السّلام) صدراً حليماً بحقّ , تحمّلَ وصبر وحلم على شتم الشاتمين , ولكن كيف يحقُّ لمسلمٍ أن يسبَّ مَن قال فيه رسول ‏اللَّه (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( حسين منّي وأنا مِن حسين )) كما روى‏ الترمذي في صحيحه(36) , وابنُ ماجة في الفضائل(37) , والهندي في‏ كنز العمال(38) , وأحمد بنُ حنبل في مسنده(39) , وغيرُهم كثير(40) ؟!
ألا بعد هذا أنَّ شتمَ الإمام الحسين (عليه السّلام) , وهو مِن رسول ‏اللَّه ورسولُ ‏اللَّه منه , أنّه شتمٌ لرسولِ ‏اللَّه (صلّى الله عليه وآله) ؟!
وهذا ما بدا من جيش يزيد بن معاوية بقيادة عبيد اللَّه بن زياد , وتنفيذ عمر بن سعد , وعلى ألسنةِ المرتزقة الذين لم يكفهم أنْ رماه أبو الحتوف الجعفيّ بسهم في جبهة الحسين (عليه السّلام) , ورماه رجلٌ بحجر في جبهته المقدسةِ أيضاً , ورماه آخَرُ بسهمٍ محدّدٍ له ثلاثُ شعب وقع في قلبه المقدِّس للَّه (عز ّوجلّ) , فأعياه نزفُ الدم , فجلس على الأرض ينوء برأسه , لم يكفهم هذا حتّى‏ انتهى‏ إليه في تلك الحال مالكُ بنُ النسر فشتمه , ثم ضربه بالسيف على رأسه , وكان عليه برنسٌ فامتلأَ البرنسُ دماً(41) .
فيالَحلم الحسين ! ويالحلم اللَّه ! وللَّه درُّ الحسين (سلام اللَّه عليه) وهو على تلك الحالة يُخرج السهمَ مِن قفاه , فينبعث الدمُ كالميزاب(42) , ويضع يدَه تحت الجراح , فإذا امتلأتْ رمى‏ به نحو السماء وقال : (( هوّنَ عَليَّ ما نزل بي أنّه بعين اللَّه )) . فلم يسقط مِن ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض(43) .
3 ـ المروءة الحسينيّة
والمروّة أو المروءة خلُقٌ يحمل عدّةَ معانٍ إنسانيّة وسلوكية , نستطيع أن نتبيّن ذلك من خلال الأحاديث الشريفة :
قال رسول ‏اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) لرجلٍ من ثقيف : (( يا أخا ثقيف , ما المروءةُ فيكم ؟ )) .
قال : يا رسول‏ اللَّه , الإنصافُ والإصلاح .
قال : (( وكذلك هي فينا ))(44) .
وجاء عن الإمام عليّ (عليه السّلام) أنّه قال : (( ثلاثٌ هنّ جماعُ المروءة ؛ عطاءٌ مِن غير مسألة , ووفاءٌ مِن غير عهد , وجودٌ مع إقلال(45) . على‏ قدْرِ شرف النفس تكونُ المروءة ))(46) .
وخرج (عليه السّلام) على أصحابه وهم يتذاكرون المروّة , فقال : (( أين أنتم مِن كتاب اللَّه (عزّ وجلّ) ؟ )) .
قالوا : يا أمير المؤمنين , في أيّ موضع ؟
فقال : (( في قوله (عزّ وجلّ) : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) ؛ فالعدل : الإنصاف , والإحسان : التفضّل ))(47) .
وقال (سلام اللَّه عليه) : (( المروّة اسم جامع‏ لسائر الفضائل والمحاسن ))(48) .
وسألَ معاويةُ الحسنَ بنَ عليٍّ (عليه السّلام) عن الكرم والمروءة , فقال : (( أمّا الكرم فالتبرعُ بالمعروف , والإعطاءُ قبل السؤال , والإطعامُ في المحلّ ؛ وأمّا المروءة فحفظُ الرجلِ دينَه , وإحرازُ نفسِه مِن الدنس , وقيامه بضيفه , وأداء الحقوق , وإفشاء السّلام ))(49) .
وقال عبد الرحمن بن عباس , رفعه , قال : سأل معاويةُ الحسنَ بن عليّ (عليهما السّلام) عن المروّة , فقال : (( شُحُّ الرجلِ على دينه , وإصلاح ماله , وقيامُه بالحقوق )) .
فقال معاوية : أحسنت يا أبا محمّد , أحسنتَ يا أبا محمّد .
فكان معاوية يقول بعد ذلك : وددتُ أنَّ يزيدَ قالها وإنه كان أعور(50) .
وسُئل الإمام الحسن (عليه السّلام) : ما المروّة ؟
فقال : (( حفظُ الدين , وإعزازُ النفس , ولين الكنف , وتعهّدُ الصنيعة , وأداء الحقوق , والتحبّبُ إلى الناس ))(51) .
ورُويَ عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قولهُ : (( الفتوّةُ والمروّة : طعامٌ موضوع , ونائلٌ مبذول , واصطناعُ المعروف , وأذىً مكفوف ))(52) .
إلى ما يقرب من ذلك مِن معاني العفّة والشهامة , والتفضّل والرحمة , والإحسان والإصلاح , وإكرام النفس وإعزازها , والترفع عن الخسّةِ والدناءةِ والرذيلة .
والآن نأتي إلى مروءة الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) لنرى‏ ماذا أبقى‏ للناس مِن منزلتها :
فممّا روي فيها ما رواه القوم , منهم الحافظ محمد بن جرير الطبريّ في تاريخ الاُمم والملوك(53) قال : وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة , والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم , فقال الحسين لفتيانه : (( اسقوا القوم وارووهم من الماء , ورشّفوا الخيل ترشيفاً )) .
فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً , فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم , وأقبلوا يملؤون القصاع و الأنوار والطساس من الماء ثمَّ يُدنونها من الفرَس , فإذا عبّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخَر حتّى سقوا الخيل كلّها .
وفي رواية اُخرى : قال هشام : حدّثني لقيط , عن عليّ بن طعان المحاربيّ [قال] : كنت مع الحرّ بن يزيد , فجئت في آخر من جاء من أصحابه , فلمّا رأى الحسينُ ما بي وبفرسي من العطش قال : (( أنخِ الراوية )) . والراوية عندي السّقاء , ثمّ قال : (( يابن أخي , أنخِ الجمل )) . فأنختُه , فقال : (( اشرب )) . فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء , فقال الحسين : (( اخنث السقاء )) , أي أعطفه . قال : فجعلت لا أدري كيف أفعل , قال : فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي .
ومنهم ابن الأثير في (الكامل) , روى الحديث بعين ما تقدّم أوّلاً عن‏ (تاريخ الإسلام) , لكنّه أسقط قوله : والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم .
ومنهم أبو المؤيد موفّق بن أحمد في «مقتل الحسين» : أخبرني الإمام الأجل مجد الدّين قوام السنّة أبو الفتوح محمّد بن أبي جعفر الطائيّ فيما كتب إليَّ من همدان , أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقي سنة اثنتين وخمسمئة بباب المدينة بمرو في الجامع , أخبرنا الإمام حقّاً وشيخ الإسلام صدقاً أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرّحمن الصابونيّ , أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن محمّد بهراة , أخبرنا أبو عليّ أحمد بن محمّد بن عليّ , حدّثنا عليّ بن خشرم , سمعت يحيى بن عبد الله بن بشير الباهليّ , حدّثنا ابن المبارك أو غيره ـ شكّ الباهليّ ـ قال : بلغني أنَّ معاوية قال ليزيد : هل بقيت لذَّة من الدُنيا لم تنلها ؟
قال : نعم , اُمّ أبيها هند بنت سهيل بن عمرو , خطبتها وخطبها عبد الله بن عامر بن كريز فتزوّجته وتركتني .
فأرسل معاوية إلى عبد الله ‏بن عامر وهو عامله على البصرة , فلمّا قدم عليه قال : انزل عن اُمّ أبيها لوليّ عهد المسلمين يزيد .
قال : ما كنت لأفعل .
قال : أقطعك البصرة , فإن لم تفعل عزلتك عنها .
قال : وإن .
فلمّا خرج من عنده قال له مولاه : امرأة بامرأة , أتترك البصرة بطلاق امرأة ؟! فرجع إلى معاوية فقال : هي طلاق . فردّه إلى البصرة , فلمّا دخل تلقّته اُمّ أبيها فقال : استترى . فقالت : فعلها اللّعين ! واستترت .
قال : فعدّ معاوية الأيّام حتّى إذا انقضتِ العِدَّة وجّه أبا هريرة يخطبها ليزيد , وقال له : أمهرها بألف ألف . فخرج أبو هريرة فقدم المدينة , فمرّ بالحسين بن عليّ (عليه السّلام) , فقال : (( ما أقدَمك المدينة يا أبا هريرة ؟ )) .
قال : اُريد البصرة أخطب اُمّ أبيها لوليّ عهد المسلمين يزيد .
قال : (( فترى أن تذكرني لها )) .
قال : إن شئت .
قال : (( قد شئت )) .
فقدم أبو هريرة البصرة , فقال لها : ياُمّ أبيها , إنَّ أمير المؤمنين يخطبك لوليّ عهد المسلمين يزيد , وقد بذل لك في الصّداق ألف ألف , ومررت بالحسين بن عليّ فذكرك .
قالت : فما ترى يا أبا هريرة ؟
قال : ذلك إليك .
قالت : فشَفَةٌ قبّلها رسول ‏اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) أحبّ إليَّ .
قال : فتزوّجت الحسينَ ‏بن عليّ (عليه السّلام) , ورجع أبو هريرة فأخبر معاوية .
قال : فقال له : يا حمار , ليس لهذا وجّهناك .
قال : فلمّا كان بعد ذلك حجَّ عبد الله بن عامر , فمرّ بالمدينة فلقيَ الحسين بن عليّ , فقال له : يابن رسول ‏اللَّه , تأذن لي في كلام اُمّ أبيها ؟
فقال : (( إذا شئت )) .
فدخل معه البيت , واستأذن على اُمّ أبيها فأذنت له , ودخل معه الحسين , فقال لها عبد الله بن عامر : يا اُمّ أبيها , ما فعلت الوديعة الّتي استودعتُكِ ؟
قالت : عندي . يا جارية , هاتي سفط كذا .
فجاءت به , ففتحته وإذا هو مملوء لآلي وجوهر يتلألأ , فبكى ابن عامر , فقال الحسين : (( ما يبكيك ؟ )) .
فقال : يابن رسول ‏اللَّه , أتلومني على أن أبكى على مثلها في ورعها وكمالها ووفائها ؟
قال : (( يابن عامر , نِعم المحلّل كنت لكما , هي طلاق )) . فحجّ , فلمّا رجع تزوّج بها .
ومنهم العلاّمة الشيخ تقيّ الدين أبو بكر بن عليّ الحنفيّ في (ثمرات الأوراق) , أورد الواقعة لكنّه ذكر اسم المرأة اُرينب بنت إسحاق , واسم زوجها عبد الله بن سلام .
هذه هي شهامة الحسين (عليه السّلام) ومروءتُه ونُبلُه وإنسانيّتُه , وتلك كانتْ مواقفُه مع نساءِ المسلمين , فكيف كان خصومُه مع نسائه ؟
قال المؤرّخون : لمّا قُتل أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) مالَ الناسُ على‏ ثقله ومتاعه , وانتهبوا ما في الخيام , وأضرموا النارَ فيها , وتسابق‏ القومُ على سلب حرائر الرسول (صلّى‏ الله عليه وآله) , ففررنَ بناتُ الزهراء (عليها السّلام) مسلّباتٍ باكيات .
قال أبو مخنف (رحمه اللَّه) : فلمّا ارتفع صياحُ النساء صاح ابنُ سعد : ويلكم ! اكبسوا عليهنّ الخِبا , وأضرموهنّ ناراً فأحرقوها ومَنْ فيها .
فقال رجلٌ منهم : ويلك يابنَ سعد ! أما كفاك قتلُ الحسينِ وأهلِ بيته وأنصاره عن إحراق أطفاله ونسائه ؟! لقد أردتَ أنْ يخسفَ الله بنا الأرض ؟! فتبادروا إلى نهبِ النساءِ الطاهرات .
وبقين بناتُ الرسالة والأراملُ واليتامى‏ ليلة الحادي عشر من المحرّم بعد شهادة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) في حلكٍ دامس مِن فقد تلك الأنوار الساطعة ؛ بين رحْلٍ منتهَب , وخباءٍ محترق , وفرَقٍ سائد , وحُماةٍ صرعى‏ , لا مُحامٍ لهنّ ولا كفيل . نعم , كان بينهنّ صراخُ الصبية , وأنينُ الفتيات , ونشيج الوالهات .
ولمّا سيّر ابنُ سعدٍ الرؤوسَ ـ رؤوسَ شهداءِ الطفّ ـ أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر , فجمع قتلاه وصلّى‏ عليهم ودفنهم , وترك سيّد شبابِ أهل الجنّة وريحانة الرسول ‏الأكرم ومَن معه من أهل بيته وصحبهِ بلا دفن , تسفي عليهمُ الصبا .
وبعد الزوال ارتحل إلى الكوفة ومعه‏ نساءُ الحسين وصبيتهُ وجواريه وعيالات الأصحاب , وكنّ عشرينَ امرأة , وسيّروهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء كما يساق سَبيُّ التركِ‏ والروم , وهنّ ودائعُ خير الأنبياء , ومعهنّ السجاد (عليه السّلام) وقد أنهكتْه العلّة , ومعه‏ ولدُه الباقر (عليه السّلام) وله سنتانِ وشهور .
فقلن النسوة : باللَّه عليكم إلاّ ما مررتُم بنا على القتلى‏ .
ولمّا نظرنَ إليهم مقطَّعي الأوصال , قد طعمتْهم سُمْرُ الرماح , ونهلتْ مِن دمائهم بيضُ الصفاح , وطحنتْهمُ الخيلُ بسنابكها , صحن وصاحتْ زينب : يا محمّداه ! هذا حسينٌ بالعراء , مرمّلٌ بالدماء , مقطّع الأعضاء , وبناتُك سبايا , وذريّتُك مقتَّلَة . فأبكتْ كلَّ عدوٍّ وصديق .
ثمّ بسطتْ يديها تحت بدنه المقدس ورفعتْه‏ نحو السماء وقالت : إلهي , تقبّلْ منّا هذا القربان . واعتنقتْ سكينةُ جسدَ أبيها الحسين (عليه السّلام) ولم يستطعْ أحدٌ أن يُنحّيها عنه حتّى اجتمع عليها عدّةٌ وجرّوها بالقهر .
ولمّا اُدخلتْ بناتُ أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى الكوفة اجتمع أهلُها للنظر إليهم , فصاحتْ اُمُّ كلثوم : يا أهلَ الكوفة , أما تستحون مِن اللَّهِ ورسوله أنْ تنظروا إلى حرم النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) ؟!
وأشرفتْ عليهنّ امرأةٌ من الكوفيّات , ورأتهنّ على تلك الحالِ التي تُشجي العدوَّ الألد , فقالت : مِن أيّ الاُسارى‏ أنتم ؟ فقلن : نحن اُسارى‏ آلِ‏ محمّد.
تلك كانت مروءةَ الحسين (صلوات اللَّه عليه) , دعتْه إلى الحفاظِ على الذمام , وحفظ العهود , والاستجابة إلى رسائل أهل الكوفة , والدعوة إلى الإصلاح في اُمّةِ جدِّه المصطفى‏ (صلّى‏ الله عليه وآله) , وهذه أخلاقُ القوم ؛ غدر , وتنكيل , وانتقام بلا مبرر , وطمع في دنيا غير دائمة وغير مضمونة , وهتكٌ للحرمات , وأسرٌ لاُسرةِ رسول ‏اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) وتسييرُها إلى الكوفة ثمّ إلى الشام في تقييدٍ بالحبال , وحالةٍ من الجوعِ والعطش .
فحسْبُكمُ هذا التفاوتُ بينن و كلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ‏
أو كما قال الشاعر :
يا اُمّةً نقضتْ عهودَ نبيِّه أفمَنْ إلى نقض العهودِ دَعاكِ‏
لولاكِ ما ظفرتْ عُلوجُ اُميّةٍ يوماً بعترةٍ أحمدٍ لولاكِ‏
وعليكِ خزْيٌ يا اُميّةُ دائمٌ‏ يبقى كما في النار دام بَقاكِ‏
فلقد حملتِ من الأَثامِ جهالةً ما عنه ضاق لمَن وَعاكِ وِعاكِ‏
هلاّ صفحتِ عن الحسينِ ورهطِه‏ صفحَ الوصيِّ أبيه عن آباكِ‏
وعففتِ يومَ الطفِّ عِفّةَ جَدِّه‏ ال ـمبعوثِ يومَ الفتحِ عن طُلَقاكِ‏
أفهَلْ يدٌ سلبتْ إماءَكِ مثْلم سلبتْ كريماتِ الحسين يَداكِ‏
أم هل بَرزْن بفتح مكّةَ حُسّر كنسائهِ يومَ الطفوف نِساكِ‏
ما بينَ نادبةٍ وبين مَرُوعةٍ في أسرِ كلِّ معاندٍ أفّاكِ‏
يا اُمّةً باءتْ بقتلِ هُداته شُلّتْ يداكِ و ما بلغتِ مُناكِ‏
بئس الجزاءُ لأحمدٍ في آلهِ‏ وبنيهِ يومَ الطفّ كان جَزاكِ‏
يا عينُ ما سفحتْ دمُوعُكِ فلْيكُنْ‏ حزناً على سبطِ النبيّ بُكاكِ‏
وابكِ القتيلَ المُستضام ومن بَكتْ‏ لمصابهِ الأملاكُ في الأفلاكِ
4 ـ التواضعُ الحسَيْني
والتواضع كما يعرّفه علماء الأخلاق : احترامُ الناس حسب أقدارهم , وعدمُ الترفّع عليهم . وهو خُلقٌ كريم , وخلّةٌ جذّابة تستهوي القلوب وتستثير التقدير . وناهيك في فضل التواضع أنَّ اللَّه تعالى أمرَ حبيبه وسيّد رسُلِه به , فقال (جلّ وعَلا) : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 215].
وقد أشاد أهلُ البيت (عليهم السّلام) بشرفِ هذا الخُلق , وشوّقوا إليه
بأقوالهمُ الحكيمة , وسيرتِهمُ المثالية , وكانوا رُوّادَ الفضائل , ومنارَ الخُلقِ الرفيع(54) .
قال النبيُّ الأعظم (صلّى‏ الله عليه وآله): (( لا حسبَ كالتواضع ))(55) .
وقال (صلّى‏ الله عليه وآله) أيضاً : (( إنّ التواضع يزيد صاحبَه رفعة , فتواضعوا يرفعْكمُ اللَّه ))(56) .
وعنه (صلّى اللَّه عليه وآله) أيضاً قال : (( إنّ أحبّكم‏ إليّ وأقربكم منيّ يوم القيامةِ مجلساً أحسنُكم خُلُقاً , وأشدُّكم تواضعاً ... ))(57) .
وقال أمير المؤمنين عليٌ (سلام اللَّه عليه) : (( التواضع زينة الحسب(58) . التواضع زكاة الشرف(59) . التواضع ينشر الفضيلة(60) . عليك بالتواضع فإنه مِن أعظم العبادة ))(61) .
وجاء عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّ في السماء ملَكينِ موكَّلينِ بالعباد , فمَنْ تواضع للَّهِ رفعاه , ومَنْ تكبّر وضعاه ))(62) .
وممّا قيل في التواضع قولُ أبي العلاء المعرّي :
فيا واليَ المِصر لا تظلِمَنْ‏ فكم جاءَ مثْلُك ثم انصرَفْ‏
تواضعْ إذا ما رُزقتَ العُل فذلك مِمّا يزيد الشرفْ‏
وقد كان النبيُّ المصطفى‏ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أكثرَ الناسِ تواضعاً ؛ يقعد في أدنى‏ المجلس حيث يدخل , وكان يحلبُ شاتَه , ويرقع ثوبه , ويخصف نعلَه , ويخدم نفسه , ويحمل بضاعتَه في السوق , ويجالس الفقراء , ويواكل المساكين(63) .
عن أبي ذرّ الغِفاريّ (رضوان اللَّه عليه) : كان رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) يجلس بين ظهرانيّ أصحابه , فيجي‏ء الغريبُ فلا يدري أيُّهم هو حتّى‏ يسأل , فطلبنا إليه أنْ يجعل مجلساً يعرفه الغريبُ إذا أتاه .
ورُويَ أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان في سفر , فأمر بإصلاحِ شاة , فقال رجل : يا رسولَ اللَّه , علَيّ ذبحها , وقال آخر : علَيّ سلخها , وقال آخر : علَيَّ طبخُها . فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( وعلَيّ جمع الحطب )) .
فقالوا : يا رسولَ‏ اللَّه , نحن نكفيك .
فقال : (( قد علمتُ أنكم تكفوني , ولكنْ أكرهُ أنْ أتميّزَ عليكم ؛ فإنّ اللَّه يكرهُ مِن عبدِه أنْ يراه متميّزاً بين أصحابه )) . وقام وجمع الحطب(64) .
والإمام الحسين (عليه السّلام) كان مِن سماتِه الواضحة بين الناس التواضع , فلم يجالسِ الطواغيت والمتكبّرين , وأصحابَ القلوبِ الميّتة والضمائر الفاسدة , والمغرورين بدُنياهم . كان ينصح , ولكنّه في الوقت ذاته كان يحبُّ الضعفاء والمساكينَ والفقراء , ويجالسهم ويواكلُهم ويحادثهم .
وممّا امتاز به تواضعه (سلامُ اللَّه عليه) :
أوّلاً : أنّه كان خالصاً مخلصاً لوجهِ اللَّه تعالى , لا يبتغي به إلاّ مرضاته (جَلّ وعَلا) ؛ لأنّ هناكَ مَنْ يتواضع للناس يطلبُ بذلك المدحَ والسمعة , يُرائي بتواضعه وينتظر أنْ يُثنى‏ عليه , فاذا لم يحصل على ذلك عاد إلى كِبره , واذا طُلِبَ منه أنْ يُذعن للحقّ ظهرتْ عليه علاماتُ التجبّر والاستنكاف والتعالي .
أمّا الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) فكان متواضعاً لمَنْ دونَه في الفضل , يطلبُ بذلك طاعةَ الرحمن (جَلّ جلالُه) .
* حدّث الصوليّ عن الإمام الصادق (عليه السّلام) في خبر أنه جرى‏ بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين أخيه محمّد بن الحنفية كلام , فكتب ابنُ الحنفية إلى الحسين (عليه السّلام‏) : أمّا بعدُ يا أخي , فإنَّ أبي وأباكَ عليٌّ , لا تفضلُني فيه ولا أفضلُك , واُمُّك فاطمةُ بنتُ رسول ‏اللَّه (صلّى الله عليه وآله) , ولو كان ملي‏ء الأرض ذهباً مُلك اُمّي ما وفَتْ باُمِّك , فاذا قرأتَ كتابي هذا فصِرْ إليَّ حتى‏ تترضّاني فإنّكَ أحقُّ بالفضلِ منّي , والسّلام عليكم ورحمةُ اللَّه وبركاته .
ففعل الحسين (عليه السّلام) , فلم يَجْرِ بعد ذلك بينهما شي‏ء .
فالإمام الحسين (سلامُ اللَّه عليه) هو الأشرف مِن أخيه باعتراف أخيه , وهو الأفضل , ولكنّه كانَ الأسبقَ إليه ؛ تواضعاً منه لأنّه الأسبق إلى اللَّه (عزّ وجلّ) في الطاعات وارتقاء الدرجات .
ثانياً : أنَّ تواضع الحسين (صلوات اللَّه عليه) كان عن عِزّةٍ وكرامةٍ وكمال , لا عن ذِلّةٍ أو ضعفٍ أو طمع حاشاه عن كلِّ ذلك ؛ [إذ] (إنّ التواضعُ الممدوح هو المتّسم بالقصد والاعتدال , لا افراطَ فيه ولا تفريط ؛ فالإسرافُ في التواضع داعٍ إلى الخسة والمهانة , والتفريط فيه باعثٌ على الكِبرِ والأنانية , وعلى العاقل أنْ يختار النهجَ الوسط بإعطاءِ كلِّ فردٍ ما يستحقّه من الحفاوة والتقدير حسبَ منزلته ومؤهلاته ؛ لذلك لا يحسن التواضعُ للأنانيّين والمتعالينَ على الناس بزهوهم وصَلَفِهم . إنّ التواضعَ ـ والحالةُ هذه ـ مدعاةٌ للذُّلّ والهوان , وتشجيعٌ على الأنانية والكِبر).
ولذلك ـ كما مرّ بنا ـ كان الحسين (عليه السّلام) لا يتواضع للمتجبّرين كمعاوية ويزيد , ومراونِ بن الحكم وعمرو بن العاص والوليد بن عقبة , بل ترفّع عنهم , ولا للمستكبرين والمغرورين والمتعالين , حتّى‏ قال له أحدُهم : إنّ فيكَ كِبْراً , فأجابه الحسينُ (عليه السّلام) : (( كلُّ الكِبْرِ للَّه وحدَه , ولا يكونُ في غيره , قال اللَّهُ تعالى : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )) .
وتكملةُ الآية (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) , فحاشاه أنْ يكون الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) متكبّراً , ولكنّه العزيزُ الذي لا يذلّ .
وخيرُ التواضع ما كان عن عزّةٍ وترفّع , قال رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) : (( أفضل الناس مَنْ تواضع عن رفعة )) . وجاء عن الإمام عليّ (عليه السّلام) قولُه : (( التواضعُ مع‏ الرفعة كالعفوِ مع المقدرة )) .
فمع الكافرين العزّة , والتواضع إنّما يكونُ مع المؤمنين , وهكذا وصف اللَّه تعالى مَن يُحبّه (... فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)(5) , [وهاتان] صفتانِ معربتانِ عن الاعتدال , وفي‏ ذلك يقول المصطفى‏ الأكرم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( طوبى‏ لمَنْ تواضع للَّه تعالى في غير منقصة , و أذلَّ نفسَه في غير مسكنة )) , ويقول أميرُ المؤمينن عليٌّ (عليه السّلام) : (( طوبى‏ لِمَنْ شغلَه عيبُه عن عيوبِ الناس , وتواضع مِن غير منقصة , وجالس أهل الفقهِ والرحمة , وخالط أهلَ الذلِّ والمسكنة , وأنفق مالاً جمعه في غير معصية ))(65) .
والآن تعالوا نتأمّل في هذه الرواية لنرى‏ هل تركَ الإمام الحسين (عليه السّلام) شيئاً بعد (طوبى) ؟
* روى‏ الشيخ نصر بنُ محمد السمرقنديّ الحنفيّ في (تنبيه الغافلين)(66) , عن سفيان بن مسعر قال : بلغني عن الحسين بن عليّ (رضيَ اللَّهُ‏ تعالى عنهما) أَنّه مرَّ بمساكينَ وهم يأكلون كسراً لهم على كساء , فقالوا : يا أبا عبد الله , الغداء .
فنزل وقال (عليه السّلام) : (( إنّه لا يحبّ اللَّهُ المستكبرين )) . فأكل معهم , ثمّ قال لهم : (( قد أجبتُكم فأجيبوني )) . فانطلقوا معه , فلمّا أتَوا المنزل قال لجاريته : (( أخرجي ما كنتِ تدّخرين )) .
ورواها ابو المؤيد الموفقُ بنُ أحمد الخوارزميّ في مقتل الحسين (عليه السّلام)(67) بهذه الصورة : كان ( أي الحسينُ بنُ عليّ (عليه السّلام) ) يجالس المساكين‏ ويقرأ : (( إنّ اللَّه لا يحبّ المتكبّرين ))(68) . ومرّ على صبيانٍ معهم كسرة , فسألوه‏ أنْ يأكلَ معهم فأكل , ثمّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم .
فلم يشتغل (سلام اللَّه عليه) ـ حاشاه ـ بنقصهم بل عيوبهم , وتواضع لهم مِن غير منقصة , بل عن رفعة , وجالسهم وهم أهل الرحمة , وخالطهم وهم أهلُ الفقر والمسكنة , وأنفق عليهم مِن مالٍ جمعه فوضعه في طاعةِ اللَّه سبحانه .
أضف إلى ذلك أنّه جمع إلى التواضع السخاء , وتلك هي أخلاق سيّدنا الإمام الحسين (عليه السّلام) , متعدّدةً في الموقف الواحد , متداخلةً مع بعضها , حتّى إذا تأمّلْتَها وجدتَها اكثَر مِن خلُقٍ طيّب .
بقيَ شي‏ءٌ واحدٌ لم يكنْ للحسين (عليه السّلام) في هذه الرواية , وهو مجالسةُ أهلِ الفقه ؛ إذ هو الأفقه , وحيثما حَلّ بين الناس فقّههم بشريعة الإسلام وأخلاقهِ الفاضلة . نعم , جالسَ أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) فكان عنده أكثَر المجالسين أدباً ؛ حيث أجَلّ له إمامتَه . قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( ما تكلّم الحسين بينَ يَديِ الحسن ؛ إعظاماً له )) .
وقد بادله الإمام الحسن (سلام اللَّه عليه) هذا الأدب , فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال فيهما : (( ابنايَ هذانِ إمامانِ قاما أو قعدا )) ؛ ولذا نقرأ في كتاب (التعازي) للسيد الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي : كان الحسن (عليه السّلام) يعظّمُ الحسين (عليه السّلام) حتّى‏ كأنه هو أسنُّ منه . قال ابنُ عباس وقد سألتُه عن ذلك , فقال : سمعتُ الحسنَ (عليه السّلام) وهو يقول : (( إنّي لأهابُه كهيبةِ أمير المؤمنين (عليه السّلام) )) .
وبقيت سِمةُ التواضعُ عند الإمام الحسين (عليه السّلام) خصلةً واضحة عرفها الناسُ فيه فأجلّوها , وحظيَ بها المؤمنون المخلصون لا سيّما شهداء كربلاء (رضوانُ اللَّه تعالى عليهم) .
فساعةَ سقط (أسلم) ـ وهو مولىً له ـ في ساحةِ الطفّ شهيداً مشى‏ إليه الإمام الحسين (صلوات اللَّه عليه) بنفسه الشريفة واعتنقه , وكان به رمق , فتبسّم أسلم وافتخر بذلك ومات . هنيئاً له أنْ حظِيَ بلطف سيّد شباب أهل الجنّة , ورحمته وتواضعه .
وكان للإمام الحسين (عليه السّلام) مولىً آخر هو (واضح التركي) (رضوان اللَّه تعالى عليه) , جاهد بين يدي الحسين (سلام اللَّه عليه) وقاتل أعداءَه , فلمّا صُرع على ساحةِ الشرف بكربلاء استغاث بالحسين , فأتاه (عليه السّلام) واعتنقه , فقال واضح : مَنْ مثْلي وابنُ رسول ‏اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) واضعٌ خدَّه على خدي ! ثمّ فاضتْ نفسُه الطاهرة .
5 ـ الوفاء الحسيني
قال تعالى في محكم كتابه المجيد : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
وفي ظلّ هذه الآية الكريمة قال العلامة المرحوم السيد محمّد حسين الطباطبائي (المفسّر المعروف) : يدلّ الكتاب على الأمر بالوفاء بالعقود , وهو بظاهره عام يشمل كلَّ ما يصدقُ عليه العقدُ عُرفاً ممّا يلائم الوفاء ... وكالعهد الذي يمكّن فيه العاهدُ المعهودَ له مِن نفسه فيما عهِدَه , وليس له أنْ ينقضَه .
وقد أكّد القرآن على الوفاءِ بالعقدِ والعهد بجميع معانيه , وفي جميع مصاديقه , وشدّد فيه كلّ التشديد , وذمَّ الناقضين للمواثيق ذمّاً بالغاً وأوعدهم إيعاداً عنيفاً , ومدح المُوفينَ بعهدهم إذا عاهدوا .
وأكّد اللَّهُ سبحانه على حفظ العهد والوفاء به , قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) , والآية تشمل العهدَ الفرديّ كما تشمل العهدَ الاجتماعي ... ؛ لذلك أتى‏ الكتاب العزيز في أدقِّ موارده وأهونها نقضاً بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان , قال تعالى : (بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)( سورة براءة / 1 ـ 3) إلى أن قال : (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ)(براءة / 10) , وقال : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ)(براءة / 12) .
وجُملةُ الأمر أنَّ الإسلام يرى‏ حرمةَ العهد ووجوبَ الوفاء به على الإطلاق ؛ سواء انتفع به العاهد أو تضرّر بعدما أوثق الميثاق ؛ فإنّ رعايةَ جانبِ العدلِ الاجتماعيّ ألزمُ وأوجبُ مِن رعاية أيّ نفعٍ خاص إلاّ أنْ ينقضَ أحدُ المتعاهدينِ عهدَه ؛ فللمتعاهد الآخَرِ نقضُه بمثل ما نقضَه , والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه .
وقد وردتْ في شأن الوفاء جملةٌ من الأحاديث الشريفة , منها : قولُ النبيّ الأكرم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( مَنْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليوم الآخر فلْيفِ إذا وعد )) .
وقولُه (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( أقربُكم غداً منّي في الموقف أصدقُكم للحديث , وأدّاكُم للأمانة , وأوفاكم بالعهد , وأحسنُكم خلُقاً , وأقربُكم من الناس )).
وقول الإمام عليّ (صلوات اللَّه عليه) : (( الوفاء حفظُ الذمام . الوفاء حلية العقل وعُنوانُ النُّبل . الوفاء وفورُ الدين وقوّة الأمانة . نعم قرين الصدق الوفاء . أشرفُ الخلائق الوفاء )) .
وقولُ الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ثلاثةٌ لا عذر لأحدٍ فيها ؛ أداءُ الأمانةِ إلى البَرّ والفاجر , والوفاءُ للبر والفاجر , وبرّ الوالدين برّينِ كانا أو فاجرين )).
والإمام الحسين (عليه السّلام) كجدِّه المصطفى‏ وأبيه المرتضى‏ (صلوات اللَّه عليهما وآلهما) , كان شديدَ الوفاء بالعهود ؛ فالنبيُّ (صلّى اللَّه عليه وآله) وفي‏ لليهودِ حين عاهدهم حتّى‏ نقضوا عهدَه فحاربهم وأجلاهم بعد واقعة الخندق ؛ حيث أغرى‏ (حيُّ بنُ أخطب) زعيمَ بني قريظة كعبَ بنَ أسد وإخوانَه اليهود بنقضِ العهد مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , فيقول بعد ذلك : لا عهدَ بيننا وبينكم ولا عقد .
وكذلك غدر بنو النضير وقينُقاع فأجلاهم رسولُ ‏اللَّه (صلّى‏ الله عليه وآله) في واقعة خيبر , وكان أقدر عليهم قبل غدرهم , إلاّ أنه (صلّى الله عليه وآله) أوفى‏ الناس مع الناس , فلمّا غدروا به أدّبهم , ولم يكن راغباً أنْ يبدأهم بقتال .
وبهذا عُرف أمير المؤمنين (سلام اللَّه عليه) , مثال ذلك ما جرى‏ في معركةِ الجمل ... قال عبد الله بن عباس : فانصرفتُ إلى عائشة وهي في هودجٍ , وقد دُفّف بالدروعِ على جَمَلِها (عسكر) , وكعبُ بن شور القاضي أخذ بخطامه وحولها الأزد وضبّة , فلمّا رأتني قالتْ : ما الذي جاءَ بك يابنَ عباس ؟ واللَّهِ لا سمعتُ منكَ شيئاً , ارجع إلى صاحبك ( تعني عليّاً (عليه السّلام) ) وقُل له : ما بيننا وبينك إلاّ السيف .
وصاح مَنْ حولها : ارجع يابن عباس لئلاّ يُسفكَ دمُك .
قال ابنُ عباس : فرجعتُ إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأخبرتُه الخبرَ , وقلت : ما تنتظر ؟ واللَّهِ لا يُعطيكَ القومُ إلاّ السيف , فاحملْ عليهم قبل أنْ يحملوا عليك .
فقال (عليه السّلام) : (( نستظهرُ باللَّه عليهم )) .
قال ابنُ عباس : فو اللَّه ما رمتُ مِن مكاني حتّى‏ طلع عليّ نشابُهم كأنه جرادٌ منتشر , فقلت : ما ترى‏ يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم ؟! مُرنا ندفعهم .
فقال : (( حتّى‏ اُعذرَ إليهم ثانية )) . ثمّ قال : (( مَنْ يأخذ هذا المصحفَ فيدعوهم إليه وهو مقتول , وأنا ضامنٌ له على اللَّه الجنّة ... ))(69) .
والحسين (عليه السّلام) هو شبلُ ذلك الأسد عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) , وفرعُ تلك الشجرة النبوية , والدوحةِ الهاشمية , خُلقُه خلقُهم ؛ دليلُ ذلك تشابه المواقف : حين التقى‏ جيش (الحرّ) في قرى الطفِّ بجيش الحسين (عليه السّلام) قرأ الحرُّ الكتاب على الحسين , فقال له (عليه السّلام) : (( دعْنا ننزلْ نينوى أو الغاضريّات أو شفية )) .
فقال الحرّ : لا أستطيع ؛ فإنّ الرجلَ عينٌ عَلَيّ(70) .
قال زهيرُ بنُ القين : يابنَ رسول ‏اللَّه , إنَّ قتالَ هؤلاء أهونُ علينا مِن قتالِ مَنْ يأتينا مِن بعدهم , فلَعمري ليأتينا ما لا قِبَلَ لنا به .
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( ما كنتُ أبدأهُم بقتال ))(71) .
ويوم عاشوراء , وكان الإمام الحسين (عليه السّلا