ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

السخاء خُلقٌ من أخلاق الأنبياء على‏ نبيّنا وآلِه وعليهم أفضلُ الصلاةِ والسّلام , قال تعالى‏ : {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان : 17]. والرسولُ الكريمُ هنا هو موسى‏ (سلام الله عليه) .
وقال تعالى‏ : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة : 40] .
وهنا المراد به المصطفى‏ محمّد (صلَّى‏ الله عليه وآلِهِ) الذي جمع الشمائلَ الشريفة كلَّها , وكان منها الكرم المادّيُّ والمعنويّ , في الأقوال والأفعال والصفات .
والسخاء خلُقٌ يُحبُّه الله (جلَّ وعلا) , ويدعو عبادَه إليه , فقال عزَّ مِن قائل : {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل : 20] . وفي‏ الحديث الشريف قال النبيُّ الأعظم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( خُلقانِ يُحبّهما الله , وهما حُسْنُ الخلُق , والسخاء )) .
ومع أنَّ السخاءَ من حُسْنِ الخلُق , إلاّ أنّه جاء مُميَّزاً معتنىً به , مُفرداً له لفظٌ , ومعدوداً من بين خلُقَينِ يُحبُّهما الله سبحانه وتعالى‏ ؛ اهتماماً به .
وبين السخاء والكرم والجُودِ والسماحة مشتركاتٌ في المعنى‏ وفروقات , نستطيع فهمَها بعد التأمّل في هذه الأحاديثِ الشريفة :
قال النبيُّ الأكرم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( الرجالُ أربعة ؛ سخيٌّ وكريم , وبخيلٌ ولئيم ؛ فالسخيُّ الذي يأكلُ ويُعطي , والكريمُ الذي لا يأكلُ ويُعطي , والبخيل الذي يأكلُ ولا يُعطي , واللئيمُ الذي لا يأكلُ ولا يُعطي )).
وسُئل الإمامُ الصادق (عليه السّلام) عن حدّ السخاء , فقال : (( تُخرجُ مِن مالِكَ الحقَّ الذي أوجبَه الله عليك فتضعُه في موضعه )) .
وجاء عنه (سلامُ الله عليه) أيضاً أنّه قال : (( السخيُّ الكريم الذي يُنفقُ مالَه في حقٍّ )) .
ورُوي عن الإمام عليّ بن موسى‏ الرضا (صلواتُ الله عليه) أنّه قال : (( السخيُّ يأكلُ مِن طعام الناس ليأكلوا من طعامه , والبخيلُ لا يأكلُ من طعام الناس لئلاّ يأكلوا من طعامه )) .
فالسخاء ليس في الإعطاء فحسب , بل في مقدِّماته أيضاً ؛ بأن يَمُدّ الرجلُ يدَه إلى‏ طعامٍ يُدعى‏ إليه ؛ تواضعاً لِما يُقدّم له , واستجابةً لدعوةِ الإخوان , وتشجيعاً لهم على‏ أن يأكلوا من عنده , وكذا تشجيعاً لهم على‏ الكرم . ألم نقرأ قولَ مولانا الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) في مواعظه الشريفة : (( مَن قَبِلَ عطاءَك فقد أعانَكَ على‏ الكرم )) .
أمّا الجُود , فيقول الشيخُ الجليل محمّد مهدي النراقيّ (رحمه الله) في بيانه : اتّصافُه [المنفق‏] بالجود بقدْرِ ما تتّسع له نفسُه من قليلٍ أو كثير . وتختلفُ درجاتُ ذلك ؛ فاصطناعُ المعروف أمرٌ وراءَ ما تُوجبه العادةُ والمُروّة , وهو الجودُ بشرطِ أن يكون عن طيبةٍ من النفس , ولا يكون لأجلِ غرضٍ من خدمةٍ أو مدحٍ أو ثناء ؛ إذ مَن يبذلُ المالَ بعِوضِ المدحِ والثناءِ أو غيرِه فليس بجواد , بل هو بيّاعٌ يشتري المدحَ بماله ؛ لكونِ المدحِ ألذَّ عنده من المال .
فالجودُ هو بذلُ الشي‏ء عن طيبةٍ من القلبِ من غير غرض , فإذا لم يكن غرضُه إلاّ الثوابَ في الآخرة , ورفعَ الدرجات , واكتسابَ فضيلةِ الجود , وتطهيرَ النفسِ عن رذيلةِ البُخل سُمّي جواداً .
و أمّا في بيان السماحة فنُوردُ هاتينِ الروايتين :
قال أمير المؤمنين عليٌ لولده الحسن (سلام الله عليهما) : (( يا بُنيَّ , ما السماحة ؟ )) .
قال : (( البذلُ في العسر واليُسر )) .
وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( خيارُكم سمحاؤُكم , وشِرارُكم بُخلاؤُكم )) .
ثمّ قال (سلام الله عليه) : (( إنَّ صاحبَ الكثير يهونُ عليه ذلك (أي البِرّ) , وقد مدح الله (عزَّ وجلَّ) صاحبَ القليل فقال : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر : 9] .
والإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه) يجمع كلَّ فضائل الكرم والسخاءِ , والجود والسماحة , ويضمُّ إليها مراقي الخصال والصفات الحميدةِ الطيّبة والأخلاق المحمودةِ , هذا ما حكتْه لنا سيرتُه الطاهرة .
فإذا كان السخاء من الإيمان ؛ لقولِ الرسول المعظّم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( إنَّ السخاء من الإيمان )) , ولقولِه (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( إنَّ‏ أفضلَ الناسِ إيماناً أبسطُهم كفَّاً )) , فمَن ينافسُ الحسينَ (عليه السّلام) في‏ ثبات إيمانه ورسوخه وشموخه ؟!
وإذا كان للسخاء معالم ؛ منها الابتداءُ بالأَوْلى‏ , ومعرفةُ ما يجبُ بذلُه , والصدورُ عن طيبِ قلب , والإنفاق خالصاً لوجهِ الله تعالى‏ , وما إلى‏ ذلك , فمَنْ يزاحمُ الإمامَ الحسينَ (سلامُ الله عليه) في هذه المعارف والمعاني والحالات ؟!
لقد بذل (صلواتُ الله عليه) حتّى‏ عُرِف أنَّه لا يخشى‏ النفاد ؛ لأنَّه أحسنَ الظنَّ بالله تعالى‏ ؛ إذ هو الرزَّاق ذُو القوَّةِ المتين . فكانَ (عليه السّلام) كما قال وكما دعا ؛ حيث ورد عنه (سلام الله عليه) في جملةِ حِكَمِه قولُه : (( إنَّ أجودَ الناسِ مَنْ أعطى‏ مَنْ لا يرجوه )).
ولقد أعطى‏ مَنْ يئس من الناس , وأعطى‏ فوق ما ينتظر المعسر . ولا تستغرب وهو القائل : (( مالُكَ إنْ لم يكنْ لك كنتَ له , فلا تُبقِ عليه ؛ فإنَّه لا يُبقي عليك , وكُلْه قبل أنْ يأكلَك )) .
ولقد زهد (صلواتُ الله عليه) في الدنيا , وأحبَّ للناس أن يأخذوا منها حاجاتِهم , ولو أعطاهم مِن عنده ما يخلّفُ لديه خصاصة . فما أوفقَه (سلام الله عليه) مصداقاً لقول جَدِّه المصطفى‏ (صلّى الله عليه وآله) : (( ما جُبِلَ وليُّ الله إلاّ على‏ السخاء . والسخاءُ ما يقعُ على‏ كلِّ محبوبٍ أقلُّه الدنيا . ومِن علاماتِ السخاء أن لا يُبالي مَن أكلَ الدنيا , ومَن ملكها ؛ مؤمنٌ أو كافر , ومطيعٌ أو عاصٍ , وشريفٌ أو وضيع .
يُطعم غيرَه ويجوع , ويكسو غيرَه ويعرى‏ , ويُعطي غيرَه ويمتنعُ من قبول عطاءِ غيره , ويُمَنُّ بذلك ولا يَمُنّ , ولو ملكَ الدنيا بأجمعها لم يرَ نفسه فيها إلاّ أجنبيّ , ولو بذلها في ذات الله (عزَّ وجلَّ) في ساعةٍ واحدةٍ ما مل‏ء ))(1) . أو في روايةٍ : (( ما مَلّ )) .
فالسخيّ مَن بذل ولم يخشَ الفقر , وأطعمَ غيرَه وجاع , وأعطى‏ غيرَه وامتنع من قبولِ عطاءِ غيره إذا كان ذلك الغيرُ مُغرضاً , أو كان السخيُّ يخشى‏ على‏ نفسِه الطمع . إذاً فالسخاء ما حظيَ بخصلة العفَّة والإباء , فهذا من كرمِ النفس وعزّتِها .
ولقد ذَكَر لنا التاريخُ أنَّ الإمامَ موسى‏ بن جعفرٍ الكاظم (عليه السّلام) قال : (( إنَّ الحسنَ والحسين (عليهما السّلام) كانا لا يقبلانِ جوائزَ معاوية بنِ أبي سفيان ))(2) ؛ ذلك أنَّ معاويةَ كان يحاول بجوائزه أن يستميلَ‏ الإمامين (عليهما السّلام) ـ وحاشاهما ـ ليقولا له بالإمامةِ الشرعيّة , والخلافة على‏ المسلمين , وهيهات هيهات ذلك ! هذا من جهة .
ومن جهةٍ اُخرى‏ كان يحاول أن يقول للناس : إنَّ الأئمَّةَ ـ حاشاهم ـ أهلُ دنيا ؛ ألا ترَونَ كيف يفرحون بالهدايا , ويطمعون بالعطايا , ويتنازلون بذلك عن شؤون الدين واُمور المسلمين ؟.
قال محمّدُ بنُ طلحةَ الشافعيّ : وقد اشتهر النقلُ عنه (صلواتُ الله عليه) (أي الحسين عليه السّلام) أنَّه كان يُكرم الضيف , ويمنحُ الطالب , ويصلُ الرحم , ويُنيلُ الفقير , ويُسعفُ السائل , ويكسو العاري , ويُشْبع الجائع , ويُعطي الغارم , ويشدّ من الضعيف , ويُشفقُ على‏ اليتيم , ويُعين ذا الحاجة , وقَلَّ أن وَصَلَه مالٌ إلاّ فرَّقَه .
ونُقل أنَّ معاويةَ لمَّا قدِمَ مكَّةَ وصله بمالٍ كثير , وثيابٍ وافرة , وكسواتٍ وافية , فردَّ الجميعَ عليه ولم يقبلْه منه , وهذا سجيّةُ الجواد , وشِنشنة الكريم , وسمةُ ذي السماحة , وصفةُ مَن قد حوى‏ مكارمَ الأخلاق ؛ فأفعالُه المَتْلُوَّةُ شاهدةٌ له بصفةِ الكرم , ناطقةٌ بأنَّه متَّصفٌ بمحاسنِ الشِّيم .
ولقد أجاد مَن قال في مدح الأئمّة (عليهمُ السّلام) :
كرُموا وجادَ قبيلُهم مِن قبلِهم‏ وبنوهُمُ مِن بعدهم كُرَماءُ
فالناسُ أرضٌ في السماحةِ والندى وهمُ إذا عُدَّ الكرامُ سماءُ
وكلُّ ما قيل في الكرم والسخاء , والجود والسماحة ينطوي في أخلاق الإمام الحسين (سلام الله عليه) ويصغر ؛ ذلك لأنَّ أخلاق الحسين (عليه السّلام) ـ ومنها الكرم ـ هي على‏ أفضل النيّةِ وأصلحها , وأنورِ الحكمةِ وأعقلها .
ثمّ إنَّ الكرمَ الحسينيّ يشملُ كلَّ ما ورد من خصائصَ وفضائلَ يحملها السخاءُ والجود والسماحة , حتّى‏ لَيتميَّز عن كرمِ الناسِ باقترانِه بأخلاقٍ اُخرى‏ , ومعانٍ عُلْويَّةٍ اُخرى‏ , ومحاسنَ شريفةٍ اُخرى‏ . فهو كرمٌ مقترنٌ بخلُقٍ طيّبٍ آخر , وهو كرمٌ مع فضلٍ نافل آخر .
تعالوا نتعرّف على‏ ذلك ونحن نمشي مع الحسين (عليه السّلام) في أخلاقه , وتعالَوا نتبيَّنْ ذلك من خلال الأخلاق الحسينيّة .
1 ـ السخاء مع الموعظة
فقد كان الإمامُ الحسين (عليه أفضلُ الصلاةِ والسّلام) يُقرن الكرمَ المادّيّ بالكرم المعنويّ ؛ فيُسدي النصيحةَ والموعظة ما أمكنه إلى‏ مَن جاء يسأله , ولا يبخل عليه بحكمةٍ أو وصيّةٍ تنفعه ؛ فالمرءُ قد يحتاج إلى‏ المال , لكنَّه إلى‏ المواعظ أحوج .
عن عبد الرحمن العرزميّ , عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( جاء رجل إلى‏ الحسنِ والحسين (عليهما السّلام) وهما جالسانِ على‏ الصفا , فسألهما فقالا : إنَّ الصدقةَ لا تحلُّ إلاّ في دَينٍ مُوجِع , أو غرْمٍ مُفظع , أو فَقْرٍ مُدقع , ففيكَ شي‏ءٌ من هذا ؟ قال : نعم . فأعطَياه , وقد كان الرجلُ سألَ عبد الله بنَ عمر وعبدَ الرحمنِ بنَ أبي بكر فأعطياه ولم يسألاهُ عن شي‏ء , فرجع إليهما فقال لهما : ما لكُما لم تسألاني عمَّا سألني عنه الحسنُ والحسين ؟!
وأخبرهما بما قالا , فقالا : إنَّهما غُذِّيا بالعلمِ غذاءاً ))(3) .
وجاء الحسينَ (عليه السّلام) رجلٌ من الأنصار يريد أن يسأله حاجة , فقال (عليه السّلام) : (( يا أخا الأنصار , صُن وجهَكَ عن بِذلةِ المسألة , وارفعْ حاجتَكَ في رقعة ؛ فإنّي آتٍ فيها ما سارّك إنَّ شاء الله )) . فكتب : يا أبا عبد الله , إنَّ لفلانٍ عَلَيَّ خمسمئةِ دينار , وقد ألحَّ بي , فكلّمْه ينظرْني إلى‏ ميسرة .
فلمّا قرأ الحسينُ (عليه السّلام) الرقعة دخل إلى‏ منزله , فأخرج صُرَّةً فيها ألفُ دينار , وقال له : (( أمَّا خمسمئة فاقضِ بها دَينَك , وأمَّا خمسمئة فاستعنْ بها على‏ دهرك , ولا ترفعْ حاجتَكَ إلاّ إلى‏ أحدِ ثلاثة ؛ إلى‏ ذي دِين , أو مُروَّة , أو حسب ؛ فأمَّا ذو الدِّين فيصون دينَه ؛ وأمَّا ذو المُروَّةِ فإنَّه يستحيي لمروّته ؛ وأمَّا ذو الحسب فيعلم أَنَّك لم ‏تُكرمْ وجهَك أن تبذلَه له في حاجتِك , فهو يصون وجهَك أن يَرُدَّك بغيرِ قضاءِ حاجتِك ))(4) .
ولو وقفنا متأمّلين في هذه الرواية لوجدنا :
أوّلاً : أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) جمع إلى‏ الكرمِ الماليّ الكرمَ المعنويّ ؛ بإسداءِ الحكمةِ والموعظة .
ثانياً : أعطانا درساً في الأخلاق والشخصيّة , وهو ألاّ يُسرعَ المرءُ إلى‏ السؤال , السؤال هو بذلُ ماءِ الوجه فلا يسترخصْه لأتفهِ الأسباب ؛ كأن يبذّرُ فيعتمد على‏ السؤال , أو يتكاسل عن العمل ويرجو إعانةَ الناس ؛ فمِن سماتِ شخصيّة المؤمن الحياء , أمَّا كثرةُ السؤال فتُذهب الحياء .
ثمَّ إذا اضطُرَّ المرءُ إلى‏ المسألة فعليه :
أ ـ أن يتكتّمَ ويتحرَّج في الطلب , ويتّخذ أشرفَ الأسباب إلى‏ الاقتراض مثلاً , وأحفظها لكرامته .
ب ـ أن يختارَ من الناس مَن يحفظُ عليه ماءَ وجهه وكرامتَه , وقد وفَّرَ علينا الإمامُ الحسين (عليه السّلام) وعلى‏ السائل عناءَ البحث عمّن يحفظ ماءَ وجهه وكرامته ؛ حيث دلاّه على‏ ثلاثة ؛ إمَّا ذي دِين , أو مروّة , أو حسَب .
ثالثاً : جمع الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) إلى‏ الكرم كفايةَ السائل , فلم‏ يُعطِه نصفَ المبلغ مثلاً وقال له اطلبْ نصفَه الآخر من غيري , بل أعطاه ما يسدّ به دَينَه , ثمَّ زاد على‏ ذلك بأن وهبَه خمسَمئةِ دينارٍ اُخرى‏ يتوسَّع بها , ويُوسِّع بها على‏ عياله ؛ فالمَدينُ لا بدَّ أن يكون عيالُه في ضائقة , ويستعين بها على‏ ما بعد الدَّين ؛ لكي لا يستدينَ مرَّةً اُخرى‏ .
ثمَّ لا يفوتنا أنَّ الرجلَ حينما قدِم إلى‏ الإمام الحسين (سلام الله عليه) كأنّه كان قد نوى‏ سؤالَ حاجته , فلمَّا أرشده الحسين (عليه السّلام) إلى‏ صيانةِ وجههِ عن بذلة المسألة , ورفعِ حاجته في رقعة , كتب الرجلُ يسألُه أن يُكلِّمَ دائنَه في أن يُمهلَه إلى‏ حين السعةِ والميسرة , ولم يكتبْ له في رقعته أن هبني ما أحتاجه وهو خمسُمئةِ دينار .
وكأنّه قد تعلَّم الدرس سريعاً , وكأنَّ الإمامَ الحسين (عليه السّلام) قد كافأه على‏ ذلك ؛ بأن أكرمَه بما يقضي به دَينَه , وكافأه بخمسمئةِ دينارٍ اُخرى‏ على‏ حسن تعلّمه للدرس الأخلاقيّ , وهو صيانه الوجه عن بذلة المسألة , فصانَ وجهَه عن مطالبةِ الدائن , وعن المسألة في المستقبل , ووفّى‏ (عليه السّلام) بما وعدَه بأن يُؤتيَه ما يسرّه , وكان ما يسرّه قضاء دينه , والسعة في المستقبل .
فكان إلى‏ كرم الحسين (عليه السّلام) التكريم والمكافأة والرحمة ؛ لأنَّ
المَدينَ يشعرُ بالذلِّ , ويشعر بالقلق غالباً .
قال النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( لا تزال نفسُ المؤمن معلَّقةً ما كان عليه دَين ))(5) .
وقال الإمام عليٌّ (عليه السّلام) : (( إيَّاكُمْ والدَّين ؛ فإنَّه هَمٌّ بالليل , وذُلٌّ بالنهار ))(6) . هذا في الدَّين , أمَّا في المعيشة فيقول نبيُّ الرحمة (صلّى‏ الله عليه‏ وآله) : (( إنَّ النفسَ إذا أحرزتْ قُوتَها استقرَّتْ ))(7) .
وقد جادَ الإمامُ الحسين (عليه السّلام) على‏ هذا الرجل السائل بالرحمة حين رفع عنه دَينَه , وأمَّنَ له قُوتَه للمستقبل , وكلُّ هذا كان مع الموعظة .
ذلك الكرمُ المعنويّ , فسلامُ الله عليك يا أبا عبد الله , يابن رسول ‏الله , أيُّها الغصنُ الأشمُّ العاطر من الشجرةِ النبويّة والدوحة الهاشميّة .
2 ـ السخاء مع حفظ ماء الوجه
ولا يخفى‏ على‏ اللبيب أنَّ السائل إذا كان ذا عزَّةٍ وكرامة لا يهون عليه أن يبذلَ ماءَ وجهه إلاّ إذا اضطُرَّ لذلك , ووجدَ ذا دينٍ أو مروءةٍ أو حسب , فينهض إليه يعرض حاجته , فتتعثّرُ قدماه بأذيال الحياء , وتتردّد خطاه فيقوم بدافع الفاقة والضائقة , ويُحجم اُخرى‏ بدافع العزّة والإباء , ثمَّ لا يجدُ بُدَّاً من أن يُعرِبَ عن حاجته وهو يُحسُّ أنّه باعَ ماء وجهه ولا يدري ماذا سيشتري به ؟
أيحصَلْ على‏ ما يفكّ به ظنكَه , أم يرجعُ خائباً محروماً وقد ذهب ماءُ وجهه في غير موضعه ؟
هذا ما يجول في خاطر السائل , أمَّا مَن يقْدمُ على‏ ريحانةِ المصطفى‏ أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) فإنَّه لا يَرجِعُ إلى‏ أهله وعياله إلاّ بالعطاءِ موفوراً , وبالكرامةِ محفوفاً , قد قضى‏ الحسينُ (عليه السّلام) له حاجتَه , ونفّسَ كربتَه , ويسّر عُسرتَه , وحلَّ ضائقتَه بكرمه الغزير . وكلُّ ذلك يحظى‏ به السائلُ عنده مع حفظ ماء الوجه , يشتريه بالتكريم ممّنِ اضطُرَّ إلى‏ بيعه .
أعطى‏ السائلَ الذي أتى‏ إليه ألفاً , فأخذ ينقدها , فقال الخازن : بعتَنا شيئاً ؟
قال السائل : ماءَ وجهي .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( صَدَق , أعطِه ألفاً وألفاً وألفاً ؛ (الأوّل) لسؤالِك , (الألف الثاني) لماءِ وجهك , (الألف الثالث) لأنّك أتيتنا ))(8) .
وأعطاه رجلٌ قطعةً , فقال له الإمامُ الحسين (عليه السّلام) : (( حاجتُك مقضيّة )) , قبل قراءتها , فقيل له : هلاّ رأيتَ ما فيها .
قال : (( يسألُني الله عن وقوفه بين يدَيّ حتّى‏ أقرأها ))(9) .
وفي روايةٍ اُخرى‏ : قيل له : يابنَ رسولِ الله , لو نظرتَ في رقعته ثمَّ رددتَ الجوابَ على‏ قدْرِ ذلك .
فقال : (( يسألُني الله تعالى‏ عن ذُلِّ مَقامِه بين يدَيّ حتّى‏ أقرأَ رقعتَه ))(10) .
أيُّ تقوى‏ هذه ! وأيُّ عاطفةٍ شفّافةٍ تلك ! إنَّه الحسين سبطُ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , ورث عن جَدِّهِ الأخلاقَ العظيمة , فحظيَ منه الناس بالكرمِ المُكْرِم , وبالعطاء والتكريم , وبالجود والكرامة .
ويبلغُ شرفُ السخاءِ عن الإمام الحسين (عليه السّلام) أنَّ سائلاً يتوهَّمُ فيأتي الحسينَ يظنُّه الحسنَ أخاه (سلام الله عليهما) ؛ لأنّه كان قد وعدَه بمكافأة , فلم يفشله , ولم يخيّبْه , ولم يكشف له توهّمَه , وإليك الرواية بتفاصيلها كما ينقلُها الخوارزميّ , حيث يقول :
خرج الحسن (عليه السّلام) إلى‏ سفرٍ , فمرَّ براعي غنم , فنزل عنده فألطفه وبات عنده , فلمَّا أصبح دلّه على‏ الطريق , فقال له الحسن (عليه السّلام) : (( إنّي ماضٍ إلى‏ ضيعتي ثمّ أعود إلى‏ المدينة )) . ووقّت له وقتاً وقال له : (( تأتيني به )) .
فلمّا جاء الوقتُ شُغل الحسنُ بشي‏ءٍ من اُموره عن قدوم المدينة , فجاء الراعي وكان عبداً لرجلٍ من أهل المدينة , فصار إلى‏ الحسين وهو يظنُّه الحسنَ , فقال : أنا العبدُ الذي بتَّ عندي ليلةَ كذا , ووعدتَني أن أصيرَ إليك في هذا الوقت .
وأراه علاماتٍ عرَف الحسينُ أنّه الحسن , فقال الحسينُ له : (( لمَنْ أنت يا غلام ؟ )) .
فقال : لفلان .
فقال : (( كم غنمُك ؟ )) .
قال : ثلاثمئة . فأرسل إلى‏ الرجل فرغّبه حتّى‏ باعه الغنمَ والعبدَ , فأعتقه ووهبَ له الغنمَ ؛ مكافأةً لما صنع مع أخيه , وقال : (( إنَّ الذي باتَ عندك أخي , وقد كافأْتُكَ بفعلِكَ معه ))(11) .
أيُّ خلُقٍ هذا ! حَفِظَ به ماءَ وجهِ العبدِ إذ جاءه متوهّماً بعد أن ظنَّ أنَّه الحسنُ (عليه السّلام) , فكافأه أصالةً عن نفسه الشريفة , ونيابةً عن أخيه , ولم ‏يردَّه لتوهّمه . وقد أحسنَ المكافأةَ أيّما إحسانٍ ؛ بأن أعتقه , واشترى‏ له غنماً كثيرة فيتحرّر بذلك من رقِّ العبوديّة لذلك الرجل , ومن رقِّ سؤال الناس والحاجة المُحرجة ؛ فيكفّ يدَه ولسانَه عن السؤال , ولا يبذل ماءَ وجهه للناس .
وهو (سلام الله عليه) شجّع على‏ الإحسان لأنّه يُحبّه , وكافأَ عليه ليسودَ المعروف ولا ينقطعَ سبيلُه , وأكرمَ القادمَ عليه وإن كان متوهّماً ؛ فحفِظ عليه ماءَ وجهه ؛ فبذلك جمع إلى‏ السخاءِ الماديّ السخاءَ المعنويّ , وردَّ الغلامَ العبدَ إلى‏ أهله حُرَّاً مكرَّماً , مسروراً مطمئنَّاً , قد رُفع عنه همُّ العيش وذلَّةُ الرقِّ والعبوديّة للناس .
وليس عجيباً أن يصدر ذلك من رجلٍ ورث أكرمَ الخلْق محمّداً (صلّى‏ الله عليه وآله) , إنَّما العجيبُ حقَّاً أن يُبخَلَ على‏ هذا الكريم بقطرةِ ماء بعد أن أجهده القتال أمام الآلافِ المؤلّفة من جيش عمر بن سعد , وقد قال له الشمر : لا تذوقه حتّى‏ تَرِدَ النار ! وناداه رجل : يا حسين , ألاَ ترى‏ الفراتَ كأنّه بطونُ الحيّات ؟ فلا تشرب منه حتّى‏ تموتَ عطشا ! من هوان الدنيا على‏ الله إذ يشتدّ العطشُ بالكريم , فيحول بينه وبين الماءِ لئيم !
وقد عُرف الإمام الحسين (سلام الله عليه) بصدقات السرّ . يقول العالم الشيخ جعفر التستريّ (رضوان الله عليه) في جملةِ خصائص الحسين (عليه السّلام) : ومنها الصدقات , فقد تحقّقتْ منه خصوصيّةٌ فيها ما سُمعتْ من غيره ؛ وذلك أنّه رأَوا في ظهره يومَ الطفِّ ثفنات , فسُئل السجّادُ ولدُه (عليه السّلام) عنها , فقال : (( إنَّ ذلكَ ممّا كان ينقلُه في الليلِ على‏ ظهرِه للأرامل والأيتام )) .
قال الراثيّ :
وإنَّ ظَهراً غدا للبِرِّ ينقلُه سرّاً إلى‏ أهله ليلاً لَمكسورُ
أجل , فذلك الظهر لا أدري كم هوتْ عليه سيوفُ الغدر , وطعنتْ به رماحُ الكفر حتّى‏ مزّقتْه وكسّرته كما كسّرتْ ... ! كسّرتْ ذلك العاتقَ الشريفَ الذي حمل إلى‏ الجياع والمساكين , والأطفال واليتامى‏ والأرامل ما يسدّون به جَوعتَهم , ويحفظون به ماءَ وجوههم .
قد ضربوا عاتقَه المُطَهَّر بضربةٍ كبا لها على‏ الثَّرى
ذلك بعد أن جمع الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى‏ الكرم الرحمةَ الرقيقة , والاُبوَّةَ الشفيقة , والسترَ على‏ ذُلِّ المحتاجين , والكرامةَ على‏ مَن يشعُر بعار السؤال حتّى‏ أنسى‏ القادمينَ عليه أنّهم سائلون ؛ لجميلِ ما أكرمهم به , وطيبِ ما قابلهم به .
جاء أعرابيّ إلى‏ الحسين (عليه السّلام) فقال : يابنَ رسول الله , قد ضمنتُ دِيةً كاملةً وعجزتُ عن أدائها , فقلتُ في نفسي : أسألُ أكرمَ الناس , وما رأيتُ أكرمَ مِن أهل رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( يا أخا العرب , أسألك عن ثلاثِ مسائل ؛ فإن أجبتَ عن واحدةٍ أعطيتُك ثلُثَ المال , وإن أجبتَ عن اثنتين أعطيتُك ثلُثَي المال , وإن أجبتَ عنِ الكلِّ أعطيتُك الكلّ )) .
فقال الأعرابيّ : يابن رسول الله , أمِثلُكَ يسألُ مثلي وأنتَ من أهل العلمِ والشرف ؟!
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( بلى‏ , سمعتُ جدّي رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) يقول : المعروف بقدْرِ المعرفة )) .
فقال الأعرابيّ : سَلْ عمّا بدا لك , فإن أجبتُ وإلاّ تعلّمتُ منك , ولا قوَّةَ إلاّ بالله .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أيُّ الأعمالِ أفضل ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الإيمان بالله .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فما النجاةُ مِن الهَلَكة ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الثقة بالله .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فما يزين الرجل ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : علمٌ معه حِلْم .
قال : (( فإن أخطأه ذلك ؟ )) .
فقال : مالٌ معه مروّة .
قال : (( فإن أخطأه ذلك ؟ )) .
فقال : فَقْرٌ معه صبر .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فإن أخطأه ذلك ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : فصاعقةٌ تنزل من السماء وتُحرقه ؛ فإنَّه أهلٌ لذلك .
فضحك الإمام الحسين (عليه السّلام) ورمى‏ له بصُرّةٍ فيها ألفُ دينار , وأعطاه خاتمَه وفيه فصٌّ قيمتُه مئتا درهم , وقال : (( يا أعرابيّ , أعطِ الذهبَ إلى‏ غرمائك , واصرفِ الخاتمَ في نفقتك )) .
فأخذ الأعرابيّ ذلك وقال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام : 124](12).
وهنا تعالوا نتوقّف عند هذه الرواية لنرى‏ ماذا كان غيرُ الكرم الحسينيّ ؟
أوّلاً : إنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) أنسى‏ الأعرابيّ مسألتَه وحاجتَه , فارتفع حَرَجُه , وذهبتْ عنه ذلّتُه . وليس ذلك فحسب , فإنَّه (سلام الله عليه) غيَّر جَوَّ المسألة والحاجة والطلب إلى‏ جوِّ السؤال والجواب والعلم , فإذا بالأعرابيّ يجدُ نفسَه أمامَ عالِمٍ يُريد أجوبةً منه , وإن تظاهر ذلك العالِمُ أنَّه يُحبّ أن يسمع إجاباتِ المسائل الثلاث , حتّى‏ تساءل الأعرابيّ متعجّباً : يابن رسول الله , أمثْلُك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف ؟!
وهذا يدلُّ على‏ أنَّ الأعرابيّ لم يشعرْ أنَّه في جوِّ امتحان , إنَّما في جوٍّ علميّ تُطرح فيه الأسئلة ويُطلبُ منه ما ينفع المستمعين ؛ فأجاب على‏ أيِّ الأعمال أفضل , وما النجاة من الهلكة ؟ وكان السؤال الثالث : ما يزينُ الرجل ؟ فأجاب : علْمٌ معه حِلْم .
ويبدو أنَّ الأسئلة الثلاثة قد انتهت , إلاّ أنّنا نرى‏ أنَّ أسئلةً اُخرى‏ قد طُرحتْ بصيغةٍ متتابعة , وهي : فإن أخطأه ذلك ؟ وإذا لم تكن أسئلة فهي تفريعات على‏ السؤال الثالث . ولم نسمع من الأعرابيّ اعتراضاً على‏ تجاوز السؤال الثالث إلى‏ الرابع فالخامس فالسادس , أو قُلْ إن شئتَ : على‏ التفريعات الإضافيّة الثلاثة للسؤال الثالث , إنَّما مضى‏ يُجيب وكأنّه نسيَ أنّه قد جاءَ بحاجةٍ , وهي قضاءُ ديةٍ كاملةٍ في عاتقه ؛ ممّا يدلُّ على‏ أنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) قد خلقَ له جَوَّاً آخرَ ذهب فيه عن الأعرابيّ ما قد أحرجه من السؤال في قضاءِ حاجته .
ودليلٌ بيِّنٌ على‏ ذلك أنَّ السؤال الأخير قد أجاب عليه بجملةٍ دعتِ الحسين (عليه السّلام) يضحك , فكان جوَّ إخاءٍ ومفاكهة , ومفاكهةُ الإخوان من الأخلاق الفاضلة , لا سيّما إذا كانت معقولةً لا إسرافَ فيها , وجاءت مُذهبةً للهمّ , مزيلةً للتعبِ والعناء.
ثانياً : جعل الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) عطاءَه للأعرابيّ بصيغة مكافأةٍ علميّة لا بصيغةِ صدقةٍ على‏ سؤال , وهذا أحفظُ لماءِ الوجه , وأكرم للرجل الوجيه الذي يحمل في صدره علماً .
ثالثاً : من خلال المباحثة العلميّة النافعة يستفيد القارئ أنَّ الحسين (عليه السّلام) يشجّع على‏ العلم , ويدعو إلى‏ ذكر الله , وقد استطاع أن يُظهرَ علمَ الأعرابيّ . وأقول : علم الأعرابيِّ ؛ لأنَّ الإمامَ الحسين (عليه السّلام) أقرَّ على‏ أجوبته , فهي صحيحة بالنسبة لأمثاله على‏ أقلِّ الفروض , ولو كانت خطأً لردَّ عليها . ولم يخلُ اللقاءُ أو المجلس من ذكرٍ لله تعالى‏ , ومن استفادةٍ علميّة للحاضرين إذا كان هناك مَن حضر .
رابعاً : كان من كرم الإمام الحسين (عليه السّلام) أن زاد الأعرابيّ على‏ حاجته , فأعطاه مبلغ الدية , ووهبَه خاتمَه لينفق ثمنه على‏ ما يحتاجه , وبهذا يجمع الإمام الحسين (سلام الله عليه) إلى‏ السخاء حفظَ ماءِ الوجه , والتذاكرَ في العلم , والعطاء بما يزيد على‏ السؤال ؛ فلعلَّ سائلاً يخجل أن يطلب أمرين : مبلغَ الدية مثلاً , وما يستعين به على‏ حاجاته ونفقات عياله . وقد كفاه الإمام الحسين (عليه السّلام) الأمر الثاني ؛ فأعطاه خاتمَه من غير أن يسألَه ذلك . فسلامٌ عليك يا سليلَ النبوَّة ووريث الإمامة .
ولعلَّك استأنستَ بالرواية , وقد يحدوك الاستئناسُ إلى‏ أن ترجعَ إليها تقراُها ثانيةً , لكنّي ـ وإن كنتُ لا أقف في طريق رجعتك إليها ـ أدعوك إلى أن
تقرأ الرواية من قلم الفخر الرازيّ , حيث كتب في تفسيره المعروف‏ (التفسير الكبير): ... أعرابيٌّ قصد الحسين بن عليّ (رضي الله عنهما) فسلّم عليه وسأله حاجةً , وقال : سمعتُ جدَّك يقول : (( إذا سألتُم حاجةً فاسألوها من أحدِ أربعة ؛ إمَّا عربيّ شريف , أو مَولىً كريم , أو حامل القرآن , أو صاحب وجهٍ صبيح )) ؛ فأمَّا العرب فشرفتْ بجَدِّك , وأمَّا الكرمُ فبدأ بكم وسيرتكم , وأمَّا القرآنُ ففي بيوتكم نزل , وأمَّا الوجهُ الصبيح فإنّي سمعتُ رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) يقول : (( إذا أردتُم أن تنظروا إليَّ فانظروا إلى‏ الحسنِ والحسين )) .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( ما حاجتُك ؟ )) .
فكتبها على‏ الأرض , فقال الحسين (عليه السّلام) : (( سمعتُ أبي عليّاً يقول : قيمةُ كلِّ امرى‏ءٍ ما يُحسنه . وسمعتُ جَدِّي يقول : المعروف بقدر المعرفة . فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنتَ في جوابِ واحدةٍ فلك ثلُثُ ما عندي , وإن أجبتَ عنَ اثنتينِ فلك ثلُثا ما عندي , وإن أجبتَ عن الثلاث فلك كلُّ ما عندي , وقد حُمل إليَّ صُرَّةٌ مختومةٌ من العراق )) .
فقال : سلْ , ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله .
فقال : (( أيُّ الأعمالِ أفضل ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الإيمان بالله .
قال : (( فما نجاةُ العبدِ من الهلكة ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الثقة بالله .
قال : (( فما يَزينُ المرء ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : علْمٌ معه حلْم .
قال : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) .
قال : فمالٌ معه كرم .
قال : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) .
قال : ففقْرٌ معه صبر .
قال : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) .
قال : فصاعقةٌ تنزل من السماء فتحرقه .
فضحك الحسين (عليه السّلام) ورمى‏ بالصرّة اليه .
3 ـ السخاء مع الحياء
والحياء صفةٌ معروفةٌ عند أهل البيت (سلام الله عليهم) ؛ إذ هم أشدُّ الناسِ حياءً من الله تعالى‏ , وكلّما أرادوا أن يُعطوا خالط عطاءهمُ الحياء ؛ لأنّهم (صلوات الله عليهم) يستقلّون هباتِهم , وقد عزفتْ نفوسهم عن حطامِ الدنيا , ورجَوا للناس أن تُقضى‏ حوائجُهم , ولولا خشية الإسراف لبذلوا ما يبهتُ له السائل ؛ إذ مروّتُهم أعلى‏ ممّا يطلبهُ الناسُ ويحتاجونه .
جاء رجلٌ إلى‏ الإمام محمّد الجواد (عليه السّلام) فقال له : أعطنِي على‏ قدْرِ مروّتِك .
فقال (عليه السّلام) : (( لا يَسَعُنِي )) .
فقال : على‏ قدْري .
قال (عليه السّلام) : (( أمَّا ذا فَنَعَم . يا غلامُ , أعطِه مئتَي دينار ))(13) .
وإذا كان في المرء حياءٌ فإنَّك تنتظرُ منه خصالاً طيّبةً اُخرى‏ ؛ لأنَّ النبيّ الأكرم (صلّى‏ الله عليه وآله) قال : (( أمّا الحياء فيتشعّب منه اللّينُ والرأفةُ والمراقبةُ لله في السرِّ والعلانية , والسلامةُ واجتنابُ الشرِّ , والبشاشةُ والسماحة , والظفرُ وحُسنُ الثناء على‏ المرءِ في الناس ... ))(14) .
فإذا قدِم سائلٌ على‏ أهل البيت (عليهم السّلام) سارعوا إلى‏ قضاءِ حاجته ؛ يستحون أن يرَونَ على‏ وجهه ذُلَّ المسألة وانكسارَ السائل , ويستحون أن يُؤخِّروه , أو يُعطوه دونَ ما يأمُل , أو دونَ حاجته . فإذا كان السائل ممّن هو أهلٌ للعطاء أكرموه وزادوا في إكرامه ؛ حياءً منهم أن يردّوه بقضاءِ حاجته وحسب .
رُويَ أنَّ رجلاً جاء إلى‏ الإمام الحسن (عليه السّلام) وسأله حاجة , فقال له الإمام : (( يا هذا , حقُّ سُؤالِكَ إيَّايَ يَعظُمُ لَدَيَّ , ومعرفتي بما يجب تكبرُ عَلَيَّ , ويدي تعجزُ عن نيلِكَ بما أنت أهلُه , والكثيرُ في ذاتِ الله (عزَّ وجلَّ) قليل , وما في مُلكي وفاء بشكرك ؛ فإن قبِلتَ منّي الميسور , ورفعتَ عنّي مؤونةَ الاحتيالِ والاهتمام لما أتكلّفُه مِن واجبِك , فعلتُ )) .
فقال الرجل : يابنَ رسولِ الله , أقبَلُ القليل , وأشكرُ العطيّة , وأعذرُ على‏ المنع .
فدعا الحسن (عليه السّلام) بوكيله , وجعل يُحاسبُه على‏ نفقاتِه حتّى‏ استقصاها , فقال : (( هاتِ الفاضلَ من الثلاثمئةِ ألفِ درهم )) . فأحضر خمسينَ ألفاً .
قال : (( فما فُعل بالخمسمئة دينار ؟ )) .
قال : هي عندي .
قال : (( أحضِرْها )) .
فأحضرها , فدفع الدراهمَ والدنانيرَ إلى‏ الرجل وقال : (( هاتِ مَن يحملُها )) .
فأتاه بحمّالين , فدفع الحسَنُ إليهم رداءَه لكراءِ الحمل , فقال له مَواليه : والله , ما عندنا درهم .
فقال (عليه السّلام) : (( لكنّي أرجو أن يكونَ لي عند الله أجرٌ عظيم ))(15) .
وجاء بعضُ الأعراب , فقال الإمام الحسن (عليه السّلام) : (( أعطوهُ ما في الخزانة )) .
فقال الأعرابيّ : يا مولاي , ألاَ تركتَني أبوح بحاجتي , وأنشرُ مِدحتي ؟!
فأنشأ الإمام الحسن (سلام الله عليه) :
نحن اُناسٌ نوالُنا خضِلُ‏ يرتع فيه الرجاءُ والأملُ‏
تجود قبل السؤالِ أنفسُنا خوفاً على‏ ماءِ وجهِ مَن يَسَلُ‏
هكذا هم أهلُ البيت (سلامُ الله عليهم) , يجودونَ قبل السؤال , ويزيدون على‏ طلب السائل , ومع ذلك فإنَّ أوجُهَهم النورانيّة يجلّلُها الحياء حالَ الإعطاء , في حين يُنتظَرُ مِن المعطي أن يشعرَ بالفخر والعزّة إذا أرادَ أن يعطي .
يقول الشيخ التستريّ وهو يعدّد خصائصَ الإمام الحسين (عليه السّلام) : ومنها العطاءُ للسائلين , فله (عليه السّلام) خصوصيّةٌ , وهي الحياء عند العطاء ؛ فالناسُ تعرضُ لهم حالةُ ردِّ السائل , وهو (عليه السّلام) له حالاتٌ عجيبة تعرضُ له عند سؤالِ أحد , فتراه (عليه السّلام) يرقُّ على‏ السائلِ لحاجته حين يُريد أن يُعطيَه سُؤْلَه , وتراهُ يرقُّ على‏ السائل بسبب الذُّلِّ العارضِ له حين إعطائه له , لا لفقرِه واحتياجِه وصعوبةِ ذلك , بل لأجلِ السائل وحيائه .
وكأنّه يُريد أن يقول : إنَّ الحسين (عليه السّلام) كان إذا رأى‏ السائلَ رقَّ لحاله , واستحيا من حيائه .
وفدَ أعرابيٌّ إلى‏ المدينة فسألَ عن أكرمِ الناس بها , فدُلَّ على‏ الحسين (عليه السّلام) , فدخل فوجدَه مصلّياً , فوقف بإزائه وأنشأ :
لم يخبِ اليومَ مَن رجاكَ ومَن‏ حرَّكَ مِن دونِ بابِكَ الحلَقَهْ‏
أنتَ جوادٌ وأنتَ مُعتمَدٌ أبوكَ قد كانَ قاتلَ الفسَقَهْ‏
لولا الذي كانَ مِن أوائلِكمْ كانتْ علينا الجحيمُ منطبقهْ‏
فسلّم الحسينُ (عليه السّلام) وقال : (( يا قنبر , هل بقيَ مِن مالِ الحجاز شي‏ء ؟ )) .
قال : نعم , أربعةُ آلافِ دينار .
قال : (( هاتها ؛ فقد جاءَ مَن هو أحقُّ بها منّا )) .
ثمّ نزع (عليه السّلام) بُرْدَيهِ ولفَّ الدنانيرَ فيها , وأخرجَ يدَه مِن شقِّ البابِ حياءً مِن الأعرابيّ , وأنشأ :
خذْها فإنّي إليكَ معتذرٌ واعلمْ بأنّي عليكَ ذو شفقَهْ‏
لو كان في سيرِنا الغداةَ عصاً أمستْ سمانا عليكَ مندفِقَهْ‏
لكنَّ رَيبَ الزمانِ ذو غِيَرٍ والكفُّ منّي قليلةُ النفَقَهْ‏
فأخذها الأعرابيُّ وبكى‏ , فقال له الإمامُ الحسين (عليه السّلام) : (( لعلَّكَ استقللْتَ ما أعطيناكَ ! )) .
قال : لا , ولكنْ كيف يأكلُ الترابُ جُودَكَ ؟!
بكى‏ الأعرابيّ لاحتماله أن يأكلَ الترابُ جُودَ الحسين (عليه السّلام) , وليتَه رأى‏ كيف أكلتِ السيوفُ والرماحُ جسَدَه في ساحةِ الطفِّ حين اجتمع اللئام على‏ الكريم ابنِ الكرام , فأَعملوا في ذلك البدنِ القُدسيّ سيوفَ الحقد والكفر , ورماحَ الخُبثِ والغدر , وسهامَ الجُبنِ والنفاق , حتّى‏ وقفتْ اُختُه العقيلة زينب (عليها السّلام) على‏ ذلك الجسد المبضّع , فشكتْ إلى‏ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ما كان من القوم , قائلة : يا محمّداه ! صلّى‏ عليك مليكُ السماء , هذا حسينٌ مُرمَّلٌ بالدماء , مقطَّعُ الأعضاء .
والحسين (سلام الله عليه) ذلك الكريمُ السخيّ الذي جاء بما عنده ؛ فأشبع الجياع , وسقى‏ العطاشى‏ وجفناه يرتدّانِ عن حياءٍ ألاّ يردّ سائلاً إلاّ بما يسرُّه , وبما لم يرجُه مِن عطاءٍ وافر , فإذا ظمئ في كربلاء قال له أعداءُ الله : لا تذوق الماء , ولا تشرب منه حتّى‏ تموتَ عطشاً ! وأبَوا أن يسقوه .
يا ليتَ لا عذِبَ الفراتُ لواردٍ وقلوبُ أبناءِ النبيِّ ظِماءُ
وبدلَ أن يُسقى‏ الماء سُقيَ الرماحَ ؛ رماحَ اللُّؤْم , وفي هذا يقول الشريف الرضيّ :
يا رسولَ الله لو عاينتَهمْ‏ وهمُ ما بين قَتْلٍ وسبا
من رميضٍ يُمنع الظِّلَّ ومِنْ‏ عاطشٍ يُسقى‏ أنابيبَ القنا
4 ـ السخاء مع الرأفة
فالإمامُ الحسين (سلام الله عليه) قد أضفى‏ على‏ الاُمَّةِ اُبوّتَه الحانية ؛ حيث مسح على رأسها بيدِه الشفيقة , وحباها بعواطفه الرقيقة , واختلط ذلك بكرمِه وجوده , فكان السائلُ عنده يغتبط بلطف الإمامِ الحسين (سلام ‏الله عليه) وعطفه عليه أكثر ممّا يفرحُ بالأموال والهدايا ؛ لأنّه يُحسّ أنَّ في عطاء الحسين (عليه السّلام) رحمةً وحناناً . وهو (سلام الله عليه) على‏ سرّ أبيه عليٍّ (عليه السّلام) الذي قال فيه أبو الطفيل : رأيتُ عليّاً (عليه السّلام) يدعو اليتامى‏ فيُطعمُهم العسَل , حتّى‏ قال بعضُ أصحابه : لَودَدْتُ أنّي كنتُ يتيماً .
وكذا الإمامُ الحسين (عليه السلام) , أنِسَ السائلون عنده برأفته أكثرَ من اُنسِهم بدراهمه ودنانيره , وطابتْ أنفسُهم بكرم أخلاقه أكثر ممّا طابتْ بكرم يده ؛ إذ وجدوه محبّاً للخير , باذلاً في ذلك جهدَه , مقرناً به لطفَه وحنانَه وعطفَه .
وقد كان في عطائه قضاءُ حاجةِ المُضطرّ , وتنفيس كُربةِ المكروب , وإغاثةُ الملهوف , وإحقاق الحقّ وبذل المال في محلّه , وإدخال السرور على‏ المهموم , وفكّ العسر عن المغموم . وكان من عطفه على‏ الناس أن توسّطَ في نيل ما يحتاجونه حتّى‏ لدى‏ الفاسقين .
دخل الحسين (عليه السّلام) على‏ معاويةَ يوماً وعنده أعرابيٌّ يسأله حاجة , فأمسكَ معاويةُ وتشاغل بالحسين (عليه السّلام) , فقال الأعرابيّ لبعضِ مَن حضر : مَن هذا الذي دخل ؟ قالوا : الحسينُ بنُ عليّ . فقال الأعرابيُّ للحسين (عليه السّلام) : أسألُك يابنَ بنتِ رسولِ الله لمّا كلّمتَه في حاجتي .
فكلّمَه الحسين (عليه السّلام) في ذلك فقضى‏ حاجتَه , فقال الأعرابيّ :
أتيتُ العبشميَّ فلم يَجُدْ لي‏ إلى‏ أنْ هزّه إبنُ الرسولِ‏
هو ابنُ المصطفى‏ كرماً وجوداً ومِن بطنِ المُطهّرةِ البتولِ‏
وإنَّ لهاشمٍ فضلاً عليكم كما فضْلُ الربيعِ على‏ المُحُولِ‏
فقال معاوية : يا أعرابيّ , أعطيكَ وتمدحُه ؟!
فقال الأعرابيّ : يا معاوية , أعطيتَني مِن حقِّه , وقضيتَ حاجتي بقوله .
وكان مِن حبِّ الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) للخير والرحمة أن كافأ عليهما ؛ فقد رُوي عنه (عليه السّلام) أنّه قال : (( صحَّ عندي قولُ النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) : أفضلُ الأعمالِ بعد الصلاة إدخالُ السرور في قلب المؤمنِ بما لا إثمَ فيه . فإنّي رأيتُ غلاماً يواكلُ كلباً , فقلتُ له في ذلك , فقال : يابنَ رسول الله , إنّي مغمومٌ أطلبُ سروراً بسروره ؛ لأنَّ صاحبي يهوديٌّ اُريد أنْ اُفارقه )) .
فأتى‏ الحسينُ إلى‏ صاحبه بمئتي دينارِ ثمناً له , فقال اليهوديّ : الغلامُ فداءٌ لخُطاك , وهذا البستانُ له , ورددتُ عليك المال .
فقال (عليه السّلام) : (( وأنا قد وهبتُ لك المال )) .
قال : قبلتُ المالَ ووهبتُه للغلام .
فقال الحسينُ (عليه السّلام) : (( أعتقتُ الغلامَ ووهبتُه له جميعاً )) .
فقالتِ امرأته : قد أسلمتُ ووهبتُ زوجي مهري .
فقال اليهوديّ : وأنا أيضاً أسلمتُ وأعطيتُها هذه الدار .
فما أن رأى الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) هذا الغلام يواكل الكلب ويطلب سروره بسرور كلبه حتّى بادر إلى‏ إكرامه والشفقة عليه ؛ بأن ذهب إلى‏ صاحبه اليهوديّ ليشتريَه منه و يحرّره .
والرواية مؤنسة ولا تتأخّر في الدخول إلى‏ قلب كلّ طيّب , وقد نحدّث أنفسنا أن نعود عليها نطالعها من جديد , لكنّي ـ وإن كنتُ اُحبُّ ذلك ـ لا أجد بأساً أن نسمع الرواية من أخطب خوارزم على تفصيل فيها , حيث قال :
قال الحسنُ البصريّ : كان الحسينُ بن عليّ سيّداً زاهداً , ورعاً صالحاً , ناصحاً حسن الخلق , فذهب ذات يومٍ مع أصحابه إلى‏ بستانه , وكان في ذلك البستان غلام له اسمه (صافي) , فلمّا قرب من البستان رأى الغلامَ قاعداً يأكل خبزاً , فنظر الحسين (عليه السّلام) إليه , وجلس عند نخلةٍ مستتراً لا يراه , وكان يرفع الرغيفَ فيرمي بنصفه إلى‏ الكلب ويأكل نصفه الآخر , فتعجّب الحسين من فعل الغلام , فلمّا فرغ الغلام من أكله قال : الحمد لله ربّ العالمين , اللهم اغفرْ لي واغفر لسيّدي , وباركْ له كما باركت على أبويه , برحمتك يا أرحم الراحمين .
فقام الحسين وقال : (( يا صافي )) .
فقام الغلامُ فزعاً وقال : يا سيّدي وسيّد المؤمنين , إنّي ما رأيتك , فاعفُ عنّي .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( اجعلني في حلٍّ يا صافي ؛ لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك )) .
فقال صافي : بفضلك ياسيّدي وكرمك , وبسؤددك تقول هذا !
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب , وتأكل النصف الآخر , فما معنى ذلك ؟ )) .
فقال الغلام : إنّ هذا الكلب ينظر إليّ حين آكل , فأستحي منه يا سيّدي لنظره إليّ , وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء , فأنا عبدك وهذا كلبك , فأكلنا رزقك معاً .
فبكى‏ الحسين (عليه السّلام) وقال : (( أنت عتيق لله , وقد وهبت لك ألفَي دينار بطيبةٍ من قلبي )) .
فقال : إن أعتقتني فأنا اُريد القيام ببستانك .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( إنّ الرجل إذا تكلّم بكلام فينبغي أن يصدّقه بالفعل , فأنا قد قلت : دخلتُ بستانك بغير إذنك , فصدّقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك , غير أنّ أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب , فاجعلهم أضيافاً لك , وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة , وبارك لك في حسن خلقك وأدبك )) .
فقال الغلام : إن وهبت لي بستانك فأنا قد
سبّلته لأصحابك وشيعتك .
فأغدق الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) على الغلام لطفه ورحمته ومكافأته , وشجّعه على روح العطف , وأعطاه درساً بليغاً في الأخلاق بانَ أثرُه لساعته ؛ إذ أصرَّ الغلام بعد أن علم بعتقه أن يُقيم في بستان الإمام الحسين (عليه السّلام) , وحين علم بأنَّ البستان هبة له جعله سبيلاً لأصحاب الحسين (سلام الله عليه) .
ومن الرواية نستشفّ كأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد ضمَّ إلى‏ سخائه حياءً من الغلام ألاّ يُكرمه على خصلةٍ فيه طيّبة , كما ضمَّ إليه رأفة بالغلام فلم يتركه إلاّ على‏ حالٍ ميسورة بعد أن جعل عطاءه له مكافأةً على خلقٍ كريم .
وروى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) ‏2 / ‏43 ح‏154 , عن الحسين بن عليّ (عليه السّلام) أنّه دخل المستراح فوجد لقمةً ملقاة , فدفعها إلى‏ غلامٍ له فقال : (( يا غلام , اذكرني بهذه اللقمة إذا خرجت )) .
فأكلها الغلام , فلمّا خرج الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) قال : (( يا غلام , أين اللقمة ؟ )) .
قال : أكلتها يا مولاي .
قال : (( أنت حرٌّ لوجه الله تعالى )) .
قال له رجل : أعتقته يا سيّدي ؟!
قال : (( نعم , سمعت جدّي رسول الله (صلّى‏ الله‏ عليه وآله) يقول : مَن وجد لقمةً ملقاةً فمسح منها أو غسل ما عليها , ثمّ أكلها , لم‏ تستقرَّ في جوفه إلاّ أعتقه الله من النار )) .
5 ـ السخاء مع المكافأة العالية
إنّ الإسلام دين الإنسانيّة والخير والمحبة , وقد دعا الناسَ إلى‏ أسباب السّلام والمودّة والتعارف . ومن دعواته الأخلاقيّة أن حثَّ الناسَ على‏ مكافأة أهل المعروف , فقال النبيُّ الأكرم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( مَن آتاكم معروفاً فكافئوه , وإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا الله له حتّى تظنّوا أنّكم قد كافأتموه ))(16) .
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( أطل يدك في مكافاة مَن‏ أحسن إليك , فإن لم تقدر فلا أقلَّ من أن تشكره ))(17) .
ودعا الإسلام إلى‏ تعظيم أهل المعروف وتشجيعهم ؛ ليسود الخير في الاُمَّة , وتشيع الاُلفة والتعاون والتكافل بين الناس . وقد أنزل الله أهل المعروف في الآخرة منزلةً رفيعة ؛ إذ قال رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ))(18) .
وقال (صلّى‏ الله عليه وآله) أيضاً : (( أوّل مَن يدخل الجنّة المعروف وأهله , وأوّل من يرد علَيَّ الحوض ))(19) .
فلهم الفضل ؛ إذ جاؤوا بما يحبُّ الله تعالى من الأفعال الحسنة , ولهم الفضل ؛ إذ سبقوا إلى‏ الخير ؛ لذا ينبغي مكافأتهم . قال الإمام موسى الكاظم (عليه السّلام) : (( المعروف غلٌّ , لا يفكُّه إلاّ مكافأة أو شكر ))(20) .
هكذا يشعر أهل الحياء والعزّة إذا اُسدي إليهم معروف , حيث يرونه غلاّ لا يتحمّلونه حتّى يفكّوه بالمكافأة , والمكافأة الحقيقيّة ما فاقتِ المعروف الذي قُدِّم لهم . ففي قوله تعالى‏ : {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن : 60], قال الإمام الكاظم (عليه السّلام) : (( جرت في المؤمن والكافر , والبرّ والفاجر ؛ مَن صُنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به , وليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتّى ترى‏ فضلك ؛ فإن صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء ))(21) .
وفي وصايا أمير المؤمنين (عليه السّلام) وحكمه : (( إذا حُيّيت بتحيّة فحيّ بأحسن منها , و إذا اُسديتْ إليك يدٌ فكافِئْها بما يُربي عليها , والفضل مع ذلك للبادئ ))(22) .
وبما أنّ أهل البيت (عليهم السّلام) هم أكثر الناس حياءً وعزّة , وإباءً وكرامة , فقد بادروا إلى‏ مكافأة أهل المعروف بما يُربي ويغطّي عليه ؛ سموّاً من عند أنفسهم , وتشجيعاً للإحسان وحسن الصنيعة , وإكراماً لأهل الفضل والخير .
وقد عُرف الكرم الحسينيّ فيما عُرف به بالمكافأة إليه , حتّى لم ‏يُطق بعضهم ذلك , فسأل الإمامَ الحسين (عليه السّلام) عن ذلك مستغرباً . روى أبو جعفر المدائنيّ في حديث طويل : خرج الحسن والحسين (عليهما السّلام) وعبدالله‏ بن جعفر حجّاجاً , ففاتتهم أثقالهم , فجاعوا وعطشوا , فرأوا في بعض الشعاب خباءً رثّاً وعجوزاً , فاستسقوها فقالت : اطلبوا هذه الشويهة .
ففعلوا , واستطعموها فقالت : ليس إلاّ هي , فليقم أحدكم فليذبحها حتّى أصنع لكم طعاماً . فذبحها أحدهم , ثمَّ شوت لهم من لحمها فأكلوا وقيّلوا عندها , فلمّا نهضوا قالوا لها : نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه , فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا ؛ فإنّا صانعون بك خيراً . ثمّ رحلوا .
فلمّا جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضرباً , ثمّ مضت الأيّام فأضرّت بها الحال , فرحلت حتّى اجتازت بالمدينة , فبصر بها الحسن (عليه السّلام) فأمر لها بألف شاة , وأعطاها ألف دينار , وبعث معها رسولاً إلى‏ الحسين (عليه السّلام) فأعطاها مثل ذلك , ثمّ بعثها إلى‏ عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك.
وروي أنّ عبد الرحمن السلميّ علّم ولد الحسين (عليه السّلام) الحمد , فلمّا قرأها على أبيه أعطاه (أي أعطى الحسينُ عبدَ الرحمن السلميّ) ألفَ دينار , وألف حُلّة , وحشا فاهُ درّاً , فقيل له في ذلك , فقال : (( وأين يقع هذا من عطائه ؟ )) , يعني تعليمه لولده . وفي رواية أنّه (عليه السّلام) قال : (( أين يقع هذا من حقّه ؟ )).
فقد كان (سلام الله عليه) أشدَّ الناس وأحرصهم على‏ مراعاة الحقوق , وإكرام أهل المعروف حتّى غطّى‏ فضلُه فضلَهم , وجاد بما لا يُتوقّع ؛ إذ تجاوز المثْل , وفاق المكافأة .
قال أنس بن مالك : كنت عند الحسين (عليه السّلام) فدخلت عليه جارية , فحيّتْه بطاق ريحان , فقال لها : (( أنتِ حرّة لوجه الله )) .
يقول أنس : فقلت له : تجيئك بطاقةِ ريحان لا خطر لها فتُعتقها !
قال : (( كذا أدّبنا الله , قال الله : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) , وكان أحسن منها عتقها )) .
وأين العتق من طاقة ريحان ؟! لكنّه الحسين رجل الكرم‏ والتكريم , وصاحب العطاء والمكافأة , وقد أبت