ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه
تُبحث الشجاعة في جملة القوى الغضبيّة لدى الإنسان من الرذائل والفضائل ؛ فمن الرذائل في القوَّةِ الغضبيّة التهوّر , وهو الإقدام على ما لا ينبغي , والخوض في ما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف , ولا ريب أنّه من المهلكات في الدنيا والآخرة(1) .
ومن الرذائل أيضاً الجبن , وهو سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره مع كونها أَولى . ويلزمه من الأعراض الذميمة مهانة النفس , والذلّة , وسوء العيش , وطمع الناس فيما يملكه , وقلّة ثباته في الاُمور , والكسل , وحبُّ الراحة .
وهو يوجب الحرمان من السعادات بأسرها , وتمكين الظالمين من الظلم عليه , وتحمّله للفضائح في نفسه وأهله , واستماع القبائح من الشتم والقذف , وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة والعار , وتعطيل مقاصده ومهمّاته ؛ ولذلك ورد في ذمّه من الشريعة ما ورد .
قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً )) .
والتهوّر والجبن كلاهما متطرّفان متضادّان بين الإفراط والتفريط , ووسطهما الشجاعة , ولكن ما هي الشجاعة في نظر علماء الأخلاق ؟
يقول الشيخ محمّد مهدي النراقيّ : إنّ الشجاعة هي طاعة قوّة الغضب العاقلة في الإقدام على الاُمور الهائلة , وعدم اضطرابها بالخوض في ما يقتضيها رأيها . ولا ريب في أنّها أشرف الملكات النفسيّة , وأفضل الصفات الكماليّة . وقد وصف اللّه خيار الصحابةِ بها في قوله : {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح : 29] , وأمر اللّه نبيَّه بها بقوله : {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 73] ؛ إذ الشدّة من لوازمها وآثارها , والأخبار مصرّحةٌ باتّصاف المؤمن بها .
قال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( إنّ المؤمن أشدُّ من زبرِ الحديد ؛ إنَّ زبُرَ الحديد إذا دخل النار تغيّر , وإنَّ المؤمن لو قُتل ثمّ نُشر ثمّ قُتل لم يتغيّر قلبه )) .
وقال الإمام الكاظم (عليه السّلام) : (( إنَّ المؤمن أعزُّ من الجبل ؛ الجبل يُستفلّ بالمعاول , والمؤمن لا يُستفلُّ دينه بشيء )) .
فالشجاعة إذاً من القوى الغضبيّة العاقلة التي تترفّع من جهة عن الجُبن والخوف المذموم , وعن الذلّةِ والدناءةِ والضَّعة , ومِن جهة اُخرى تتريّث من التهوّر والموقف المتعجّل والكلمة التي لا تمرُّ بتحليل الفكر الناضج .
قال الإمام الحسن العسكريّ (عليه السّلام) : (( إنّ للسخاء مقداراً , فإنْ زاد عليه فهو سرف , وللحزم مقدار , فإن زاد عليه فهو جبن , وللاقتصاد مقدار , فإن زاد عليه فهو بخل , وللشجاعة مقدار , فإن زاد عليه فهو تهوّر ))(3) .
فإذا اعتدلت القوّة الغضبيّة واتّسمتْ بالعقل كانتْ شجاعة , وكانت صفةً شريفة , وطاقةً نافعة . قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( السخاء والشجاعة غرائز شريفة يضعها اللّه سبحانه فيمَنْ أحبّه وامتحنه ))(4) . وقال (سلام الله عليه) أيضاً : (( الشجاعة نصرةٌ حاضرة , وقبيلةٌ ظاهرة ))(5) .
ومثْل هذه الخصلة النبيلة ضروريٌّ أن يتحلّى بها الأنبياء (صلوات اللّه عليهم) ؛ فهي من الكمالات الشريفة , والفاقد لها مجرّدٌ عن الرجولة . والنبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) هو سيّدُ الأنبياء والمرسلين , فالشجاعة فيه أعلى وأظهر , ولقد وُصف بها فقال أنَسُ بن مالك : كان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أشجعَ الناس , وأحسن الناس , وأجود الناس .
قال : لقد فزع أهل المدينة ليلةً , فانطلق الناس قِبَلَ الصوت , فتلقّاهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وقد سبقهم , وهو يقول : (( لم تراعوا )) , وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف , قال : فجعل يقول للناس : (( لم تراعوا , وجدناه بحراً أو إنّه لبحر ))(6) .
وعن الإمام عليٍّ (عليه السّلام) أيضاً قال : (( رأيتني يوم بدر ونحن نلوذُ بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو أقربنا إلى العدوّ , وكان من أشدّ الناس يومئذ بأساً )) .
وعنه (عليه السّلام) قال : (( كنّا إذا أحمرَّ البأس , ولقيَ القوم القوم , اتّقينا برسول اللّه , فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدوّ منه ))(7) .
وعن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال : (( إنّ اللّه تبارك وتعالى خصَّ رسوله بمكارم الأخلاق , فامتحنوا أنفسكم ؛ فإنْ كانت فيكم فاحمدوا اللّه (عزّ وجلّ) , وارغبوا إليه في الزيادة منها )) . فذكرها عشرة : اليقين , والقناعة , والصبر , والشكر , والحلم , وحسن الخلق , والسخاء , والغيرة , والشجاعة , والمروّة(8) .
والأَولى برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أهل بيته , أوصياؤه وخلفاؤه من بعده ؛ عليٌّ والحسن والحسين والتسعة المعصومون من ذرّيّة الحسين (صلوات اللّه عليهم) . وإذا كان الأئمة (سلام الله عليهم) كلُّهم معروفين بالشجاعة , فإنَّ هذه الصفة الشريفة ظهرت في الإمام الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء بما يناسب الموقف .
يقول الشيخ التستريّ في معرض بيانه للخصائص الحسينيّة : الشجاعة , ولها كيفيّة خاصّة بالحسين (عليه السّلام) ؛ ولذا قيل : الشجاعة الحسينيّة . فقد ظهرت منه في يوم الطفّ في حالته شجاعةٌ ما ظهرت مِن أحد أبداً(9) .
وإذا أردنا معرفة بعض السرّ في ذلك علينا أن نقف عند هذه الرواية : عن إبراهيم بن عليٍّ الرافعيّ , عن أبيه , عن جدّته بنت أبي رافع قالت : أتتْ فاطمة بنت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بابنَيها الحسنِ والحسين (عليهما السّلام) إلى رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) في شكواه الذي تُوفّي فيه , فقالت : (( يا رسول اللّه , هذانِ ابناك فورّثْهما شيئاً )) .
قال : (( أمّا الحسن فإنَّ له هيبتي وسؤدي , وأمّا الحسين فإنَّ له جرأتي وجودي ))(10) .
وفي رواية اُخرى قريبة منها , رَوَتْ زينب بنت أبي رافع , عن اُمّها قالت : قالت فاطمة (عليه السّلام) : (( يا رسول اللّه , هذان ابناك فانحلْهما )) .
فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( أمّا الحسن فنحلتُه هيبتي وسؤددي , وأمّا الحسين فنحلتُه سخائي وشجاعتي ))(11) .
فالمهمّة الإلهيّةُ التي كُلّف بها الإمام الحسين (سلام الله عليه) اقتضتْ أن تظهر فيه الشجاعة بأجلى صورها , وبشكل مبكّر , وخاتمة جليلة ؛ فقد تواجد الإمام الحسين (عليه السّلام) في ساحة الفروسيّة منذ نعومة أظفاره وحداثة سنّه , ومارس فنون استعمال السلاح , وكان متهيّئاً للدفاع عن رسالة الإسلام والحفاظ على بيضة الدين , وصدّ العدوان عن المسلمين .
ثمّ ما إن شبّ قليلاً حتّى شهدت له ثلاث معارك بأنّه الفتى الشجاع الذي يغوص وسط الاشتباك , وهُنّ : الجمل , وصفّين , والنهروان . وقد اشترك (سلام الله عليه) في فتح طبرستان , ثمّ شهدت له الحياة السياسيّة في عهد معاوية ومن بعده يزيد أنّه صاحب المواقف الشجاعة , والكلمة الثابتة , والمنطق الحقّ في وجوه الطغاة , فما كان من التاريخ إلاّ أن سجّل له ذلك باعتزاز وافتخار .
قال الشيخ الإربليّ : وشجاعة الحسين (عليه السّلام) يُضرب بها المثَل , وصبره في مأقط الحراب(12) أعجز الأواخر والاُوَل , وثباته إذا دعيت نزال ثبات الجبل , وإقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل , ومقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادَلَ مقام جدّه (صلّى الله عليه وآله) ببدر فاعتدل , وصبره على كثرة أعدائه وقلّة أنصاره صبر أبيه (عليه السّلام) في صفّين والجمل(13) .
وقال الاُستاذ عبد الحفيظ أبو السعود في الحسين (عليه السّلام) : عنوان النضال الحرّ , والجهاد المستميت , والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة , وعدم الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين(14) .
والحقيقة أنّ الشجاعة لا تعدّ من الأخلاق الفاضلة , ولا يثاب عليها إلاّ إذا تحلّت بالصفات التالية :
1 ـ الوعي والبصيرة
فالشجاع قبل كلّ شيء عليه أن يعرف أحكام الجهاد في سبيل اللّه , متى يكون , وكيف شرائطه , وما هي حدوده ؟ وإلى غير ذلك من الاُمور الشرعيّة ؛ لكي يعرف متى يحمل السلاح , ومَنْ يقابل به , وإلى مَنْ يوجّهه , ومتى يضعه ؟ وهذه الاُمور لا تخفى على سيّدنا الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ حيث هو ربيب بيت الوحي , ووريث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) .
عن الحكم بن عتيبة قال : لقيَ رجلٌ الحسين بن عليّ (عليه السّلام) بالثعلبيّة وهو يريد كربلاء , فدخل عليه فسلّم عليه , فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( من أيّ البلدان أنت ؟ )) .
فقال : من أهل الكوفة .
قال : (( يا أخا أهل الكوفة , أما واللّه لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا , ونزوله على جدّي بالوحي . يا أخا أهل الكوفة , مستقى العلم من عندن , أفعلموا وجهلنا ؟! هذا ما لا يكون )) .
فالإمام الحسين (سلام الله عليه) اتّصفتْ شجاعته بالعلم واقترنتْ به ؛ فهو يعرف متى يتكلّم , ومتى يتحرّك , وإلى أين يتّجه , وماذا يقول , ويعرف تكليف نفسه وتكليف الناس .
وقد سُئل يوماً عن الجهاد ؛ سنّة أو فريضة , فقال (عليه السّلام) : (( الجهادُ على أربعة أوجه ؛ فجهادان فرض , وجهاد سنّة لا يقام إلاّ مع فرض , وجهاد سنّة . فأمّا أحد الفرضين فجهاد الرجل نفسَه عن معاصي اللّه , وهو مِنْ أعظم الجهاد , ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض .
وأمّا الجهاد الذي هو سنّةٌ لا يقام إلاّ مع فرض فإنّ مجاهدة العدوّ فرضٌ على جميع الاُمّة , لو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب , وهذا هو من عذاب الاُمّة , وهو سنّةٌ على الإمام , وحدُّه أن يأتي العدوَّ مع الاُمّة فيجاهدهم .
وأمّا الجهاد الذي هو سنّة فكلُّ سنّة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال ؛ لأنها إحياء سنّة , وقد قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : مَنْ سنَّ سنّةً حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمِل بها إلى يوم القيامة , من غير أن يُنقص من أجورهم شيئاً )) .
وهذا البيان المفصّل يكشف لنا عن علم محيط بالشريعة , فإذا انطلق الجهاد من هذا العلم كان جهاداً نيّراً , وإذا قامت به الشجاعة كانت شجاعةً واعية , وكان الإقدام على هدىً وبصيرة .
وقد رأى الإمام الحسين (صلوات اللّه عليه) أنَّ الظرف الذي عاشه آخر أيّامه المباركة قد استدعى حكم الجهاد في سبيل اللّه تعالى , حيث تمّت شروطه , واقتضى الحال نهوضاً لا تقيّة معه , فلا بدَّ أن تُقدَّم الدماء والأنفس دون الدين .
2 ـ الهدفيّة
فالشجاعة ما لم تحمل هدفاً مقدّساً وغايةً نبيلة فإنّها تهوّرٌ وإلقاءٌ بالنفس إلى التهلكة , في حين إذا جاءت عن نيّة مخلصة للّه تعالى , وشخّصت الهدف الإلهيّ , آتتْ ثوابها , وختمت لصاحبها بالشرف الرفيع , وقبول العمل , أو بكلتيهما مع التوفيق للشهادة في سبيل اللّه (عزّ وجلّ) .
والنيّة ـ كما يقول الفقهاء وعلماء الأخلاق ـ شرطٌ في العبادات كلّها ؛ فلا يصحُّ شيءٌ من الأفعال بدون النيّة . قال النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّما الأعمال بالنيّات )) . فإذا ما نوى المرءُ الرياءَ فقد حبط عمله , وصارتْ طاعته معصية .
ومنْ يشكّ في نيّة الإمام الحسين (عليه السّلام) وهو يعلم أنه قادمٌ على معركة يُقتل فيها ليحيا الإسلام , وأرض يغدر فيها به لتفيق الاُمّة ؟! وقد صرّح بذلك مرّات ومرات , من ذلك أنه (سلام الله عليه) كتب إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة كتاباً هذا نصُّه : (( بسم اللّه الرحمن الرحيم , من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم . أمّا بعد , فإنَّ مَن لَحِق بي استُشهد , ومن تخلّف لم يدرك الفتح . والسّلام )) .
وخطب (عليه السّلام) في مكة قبل سفره إلى كربلاء , فقال : (( كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء , فيملأن منّي أكراشاً جوفا , وأجربةً سغبا , لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم )) .
أمّا الهدف الذي خرج من أجله الإمام الحسين (عليه السّلام) فهو طاعة اللّه تعالى وطلب مرضاته , ثمّ ما يتحقّق بتوفيق اللّه (عزّ وجلّ) من :
أ ـ إقامة للعدل
ب ـ دَمْغ للظلم
ج ـ تحصين للدين
د ـ إيقاظ للمسلمين
هـ ـ إعلاء لكلمة الحقّ , وتنكيس لكلمة الباطل
و ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ز ـ فضح الظالمين والمنحرفين
وقد عبّر الإمام الحسين (سلام الله عليه) عن هذا الهدف الشريف بشجاعة ثابتة , ولمرّات عديدة . وقف عند قبر رسول اللّه يناجي ربَّه قائلاً : (( اللّهمّ إنَّ هذا قبر نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله) , وأنا ابن بنت نبيّك , وقد حضرني من الأمر ما قد علمت . اللهمَّ إنّي اُحبُّ المعروف , وأنكر المنكر , وأسألك يا ذا الجلال والإكرام , بحقّ القبر ومَنْ فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضاً , ولرسولك رضاً )) . فالنيّة واضحة , والدعاء مفصحٌ عنه , والهدف بيّن , وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد عبّر عن ذلك أيضاً في وصيّة إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة , حيث كتب له فيها : (( ... وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً , ولا مفسداً ولا ظالماً , وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله) ؛ اُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ... )) .
أجل , فمثْلُ الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يقْدم إلاّ على مثْل هذا ؛ فهو الذي خلصت نيّته للّه (جَلّ وعلا) , وعرف ماذا أمر اللّه تعالى في شريعته , وانشدّ قلبه إلى طاعة اللّه (عزّ وجلّ) وحده ؛ فلا يقوم إلاّ للّه سبحانه , و لِمَ لا وهو الذي قال النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) فيه وفي أخيه الحسن (عليهما السّلام) : (( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ))(15) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( الحسن والحسين إمامان , إنْ قاما وإنْ قعدا ))(16) .
وأخرج ابن تيمية (فقيه الحنابلة) قال : قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) , وقد أشار إلى الحسين : (( هذا إمام , ابن إمام , أخو إمام , أبو أئمّة تسعة ))(17) .
وقد مرّ علينا أنّ من صفات الإمام ـ كما ذكرها عليّ بن موسى الرضا (عليه السّلام) ـ : (( أمين اللّه في خلقه , وحجّتُه على عباده , وخليفته في بلاده , والداعي إلى اللّه , و الذابّ عن حُرُم اللّه ... ))(18) .
فيتعيّن بذلك أنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) يعلم ما ينبغي , ويعني ما يقوله وما يُقْدم عليه , وهدفه هو إرادة اللّه تبارك وتعالى التي دعت إلى إقامة العدل وإزاحة الجور , وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل .
وقد عاش الإمام الحسين (عليه السّلام) في ظلّ أوضاع أزرتْ بالمسلمين , وهدّدتْ شريعة سيّد المرسلين ؛ حيث حكم بنو اُميّة , وما أدرانا ما بنو اُميّة !
أخرج الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطيّ الحافظ في تفسيره (الدرّ المنثور) قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة قال : قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( اُريت بني اُميّة على منابر الأرض , وسيملكونكم , فتجدونهم أرباب سوء )) .
واهتمّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) لذلك , فأنزل اللّه : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } [الإسراء : 60].
وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن عليّ أنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أصبح وهو مهموم , فقيل : ما لك يا رسول اللّه ؟ فقال : (( إنّي اُريت في المنام كأنَّ بني اُميّة يتعاورون منبري هذا )) . فقيل : يا رسول اللّه , لا تهتّم ؛ فإنّها دنيا تنالهم . فأنزل اللّه : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء : 60].
وأخرج البيهقيّ في الدلائل , وابن عساكر في تاريخه , عن سعيد بن المسيِّب قال : رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بني اُميّة على المنابر فساءه ذلك , فأوحى اللّه إليه إنّما هذه دنيا اُعطوها , فقرّت عينه , وهي قوله : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [الإسراء : 60] يعني بلاءً للناس .
وجاء في (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير : المراد بالشجرة الملعونة بنو اُميّة . وفي (التفسير الكبير) للفخر الرازيّ قال : قال ابن عبّاس : الشجرة بنو اُميّة . وجاء بمعناه في تفسير (النيسابوريّ) المسمّى بـ (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) .
وأخرج إمام المعتزلة ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة), عن المدائنيّ أنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) رُفع له مُلْك بني اُميّة , فنظر إليهم يعلون منبره واحدٌ واحد , فشقَّ ذلك عليه , فأنزل اللّه تعالى في ذلك قرآناً قال له : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء : 60] .
قال الآلوسي : والشجرة الملعونة في عبارة بعض المفسّرين هي بنو اُميّة . إلى أن قال : وفيه من المبالغة في ذمّهم ما فيه , وجعل ضمير (نُخوِّفُهم) على هذا لما كان له أو لا , أو للشجرة باعتبار أنَّ المراد بها بنو اُميّة , (ولعنهم) لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة , والفروج المحصنة , وأخذ الأموال من غير حلّها , ومنع الحقوق عن أهلها , وتبديل الأحكام , والحكم بغير ما أنزل اللّه تعالى على نبيّه (عليه الصلاة والسّلام) , إلى غير ذلك من القبائح العظام , و المخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيّام . وجاء لعنهم في القرآن على الخصوص وعلى العموم .
وأخرج المؤرّخ والمحدّث (المتّقي الهنديّ) في كتابه الشهير (كنز العمّال) , عن عمر بن الخطّاب في قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم : 28، 29] , قال عمر : هما الأفجرانِ من قريش ؛ بنو المغيرة وبنو اُميّة .
ولكنَّ الغريب حقّاً أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي ولّى بني اُميّة على الشام ! حتّى إذا جاء عثمان بن عفّان ثبّتهم على الحكم , وأطلق يدهم في الأموال , ووسّع لهم في السلطة على غير الشام , ومدّ لهم في الصلاحيّات .
وأخرج المؤرّخ المعروف (الخطيب البغداديّ) في تاريخه , عن علقمة والأسود قالا : أتينا أبا أيّوب الأنصاريّ عند منصرفه من صفّين , فقلنا له : يا أبا أيّوب , إنّ اللّه أكرمك بنزول محمّد (صلّى الله عليه وآله) وبمجيء ناقته ؛ تفضّلاً من اللّه وإكراماً لك أناخت ببابِكَ دون الناس , ثمّ جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلاّ اللّه .
فقال : يا هذا , إنَّ الرائد لا يكذبُ أهله , وإنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أمرنا بقتال ثلاثة مع عليٍّ (كرّم اللّه وجهه) ؛ بقتال الناكثين , والقاسطين , والمارقين ... إلى أن قال أبو أيّوب الأنصاريّ : وأمّا القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم . يعني معاوية وعمْراً .
ولم تأتِ روايةٌ تلوم هذا الصحابيَّ الجليل المتفقّه أبا أيّوب الأنصاريّ لأنه حارب بني اُميّة باعتبارهم القاسطين المنحرفين , ولكنَّ الأقلام الحاقدة حملت اللائمّة على الإمام الحسين (سلام الله عليه) حينما حمل سيفه وزحف إلى كربلاء , وأخذت تطبّق على الواقعة آية التهلكة , مع أنّ الإقدام على الشهادة ليس إعانةً على إزهاق النفوس , لا سيّما وأنّ الجهاد بأحكامه الإلهيّة دعا إلى إنقاذ الرسالة , وبثّ روح العزّة في المسلمين إذا خنعوا لسلاطين الجور والفساد ,
وحمل السلاح في وجه المحاربين , ولقد قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب , ورجلٌ تكلّم بكلمة حقٍّ عند سلطان جائر فقتله )) .
وأخرج الحاكم في (المستدرك على الصحيحين) , عن أبي برزة الأسلميّ قال : كان أبغض الأحياء إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بنو اُميّة .
وأخرج أيضاً عن أبي سعيد الخدريّ , قال : قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من اُمتي قتلاً وتشريداً , وإنَّ أشدَّ قومنا لنا بغضاً بنو اُميّة )).
وجاء في صحيح الترمذيّ ج 2 , ومستدرك الصحيحين 3 / 170 , وتفسير ابن جرير 30 / 167 , وتفسير الفخر الرازيّ , والدرّ المنثور للسيوطيّ , وجامع البيان للطبريّ 30 / 167 , وغيرها في تفسير الآية الشريفة {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر : 3] أنها مؤوّلةٌ بملْك بني اُميّة , وقد دام ألف شهر .
وأبرز حكّام بني اُميّة معاوية بن أبي سفيان الذي مال الناس إليه بالترغيب والترهيب ؛ فنسوا دينهم , وتخلّفوا عن أئمّة الحقّ والهدى , وهو الذي نقل لنا التاريخ عنه فسقه وفجوره , وقتله للصحابة ...
قال ابن حجر العسقلانيّ : تواترت الأحاديث عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنَّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية , وأجمعوا على أنّه قُتل مع عليٍّ بصفّين .
وأخرج إمام الحنابلة (أحمد بن حنبل) في مسنده عن عبد اللّه بن بريدة , قال : دخلت أنا وأبي على معاوية , فأجلسنا على الفرش , ثمّ أتانا بالطعام فأكلنا , ثمّ أتانا بالشراب فشرب معاوية , ثمّ ناوله أبي فقال أبي : ما شربته منذ حرّمه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) .
وطالما حذّر منه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , وأشار إليه بإصبع الإنذار , وقد نقل الرُّواة في ذلك الكثيرَ الكثير , منه على سبيل المثال لا الحصر : أخرج ابن حجر الهيتميّ في كتابه (مجمع الزوائد) , عن عمرو بن الحمق الخزاعيّ قال : إنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قال لي ذات يوم : (( يا عمرو , هل لك أن اُريك آية النار تأكل الطعام وتشرب الشراب وتمشي في الأسواق ؟ )) .
قلت : بلى بأبي أنت واُمّي !
قال : (( هذا وقومه آية النار )) , وأشار إلى معاوية .
وروى البلاذريّ في (أنساب الأشراف) الجزء الأوّل , قال عبد الله بن عمرو بن العاص : كنت جالساً عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , فقال : (( يطلع عليكم من هذا الفجّ رجلٌ يموت ـ يوم يموت ـ على غير ملّتي )) .
قال عبد اللّه : وتركت أبي يلبس ثيابه , فخشيت أن يطلع , فطلع معاوية .
وفي كتاب (صفّين) لابن مزاحم / 244 , قال البراء بن عازب : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية , فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( اللّهمّ العن التابع والمتبوع , اللّهمّ عليك بالاُقيعس )) .
فقال ابن البراء لأبيه : مَن الاُقيعس ؟
قال : معاوية .
والاُقيعس في اللغة : الرجل أخرج صدره , كناية عن التكبّر , أو لأنّه كان كبير البطن حتّى صار يُضرب بكبره المثل . وقد ذكر المؤرّخون أنَّ معاوية إذا جلس افترش كرشه على فخذيه فسترهما , ولم يبد منه سوى عيني ركبتيه .
وإذا كان هذا لا يكفي المسلمين أن يعرفوا من هو معاوية , وما ينبغي عليهم من التكليف تجاهه , فتعالوا نقف عند هذا الخبر . في (ميزان الاعتدال) للذهبيّ 2 / 7 , روى عبّاد بن يعقوب , عن شريك عن عاصم , عن زرّ , عن عبد اللّه , قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه )) . وقد صحّح الذهبيُّ الحديث , ثمّ رواه في الكتاب نفسه 2 / 129 عن أبي سعيد الخدريّ , وذكر نحوه عن أبي جذعان .
ورواه أيضاً ابن حجر في تهذيب التهذيب 5 / 110 , و7 / 324 بنصّ قريب : (( إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه )) , و8 / 74 أنَّ عمراً روى عن الحسن أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال : (( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه )) .
ثمّ جاء المناويّ فقال في كتابه المعروف بـ (كنوز الحقائق) / 9 : أقول : يُحتمل قويّاً أن يكون المراد من المنبر في قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : (( إذا رأيتم معاوية على منبري ... )) هو مطلق المنبر ؛ بدعوى أنّ كلّ منبر يُصعَد عليه في الإسلام ويُخطَبُ عليه فهو منبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , ويُحتمل أن يكون المراد منه هو خصوص منبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في المدينة كما يؤيّده بل يدلُّ عليه ما تقدّم في حديث أبي سعيد : (( إذا رأيتم معاوية على‏ هذه الأعواد ... )) .
وعلى‏ كلّ حال فإنَّ معاوية حسب الأحاديث المتقدّمة ممّن يجب قتله بحكم النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , وقد تسامح فيه المسلمون ؛ أمّا وجوب قتله على‏ الاحتمال الأوّل فواضح , وأمّا على‏ الثاني فلِما رواه ابن سعد في الطبقات (4 / 136 ـ القسم الأوّل) من مجيء معاوية إلى‏ المدينة , وصعوده على‏ منبر النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسديّ , عن أيّوب , عن نافع قال : لمّا قدم معاوية المدينة حلف على‏ منبرِ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ليقتلنَّ ابن عمر.
هكذا أمر رسولُ ‏الله (صلّى‏ الله عليه وآله) بياناً منه لانحراف معاوية , ولكنَّ معاوية هذا تولّى‏ ولاية الشام في عهد «عمر بن الخطاّب» بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان , ولاّه عمر وهو الذي عُرف بشدّته في محاسبته للولاة , وصرامتُه نُقلتْ مع أبي هريرة بعد أن عزله من ولاية البحرين واتّهمه بسرقة بيت مال المسلمين , لكنّه لم يرد عن «عمر» أنّه حاسب معاوية ! ثمّ لا ندري كيف فات خليفةَ المسلمين أنَّ الطلقاء لا يحقُّ لهم أن يتولَّوا ؟!
في ترجمة (معاوية بن أبي سفيان) ذكر ابن الأثير : وروى‏ عبد الرحمن‏ بن أبزي عن عمر أنّه قال : هذا الأمر من أهل بدر ما بقي منهم أحد , ثمّ في أهل اُحد ما بقي منهم أحد , ثمّ في كذا وكذا , وليس فيها لطليق , ولا لولدِ طليق , ولا لمسلمة الفتح شي‏ء .
وفي ترجمة (عبد الرحمن بن غُنْم الأشعريّ) قال ابن عبد البرّ : ويُعرف بصاحب معاذ ؛ لملازمته له , وسمع من عمر بن الخطّاب , وكان من أفقه أهل الشام , وهو الذي فقّه عامّة التابعين بالشام , وكانت له جلالة وقدْر , وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند عليٍّ (عليه السّلام) رسولين لمعاوية .
وكان ممّا قال لهما (عبد الرحمن بن غُنم الأشعريّ) : عجباً منكما ! كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان عليّاً أن يجعلها شورى‏ وقد علمتما أنّه ـ أي عليّ (عليه السّلام) ـ قد بايعه المهاجرون والأنصار , وأهل الحجاز وأهل العراق , وأنّ من رضيه خيرٌ ممّن كرهه , ومَنْ بايعه خيرٌ ممّن لم‏ يبايعه ؟! وأيُّ مدخلٍ لمعاوية في الشورى‏ وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة , هو وأبوه من رؤوس الأحزاب ؟!
قال : فندما (أبو هريرة وأبو الدرداء) على مسيرهما ... .
وقد أسّس معاوية لنفسه فترة خلافة عثمان استعداداً للوثبة على‏ الخلافة , فلمّا قُتل عثمان أحدث الفتن , وأراق دماء ثمانين ألفاً من المسلمين في حرب صفّين , وبعد صفّين أرسل السرايا والجيوش إلى‏ أطراف البلاد لإيجاد الفوضى‏ والبلبلة بين المسلمين . واختلق الأحاديث لتثبيت سلطته , وتبرير قمعه للناس , كما اختلق فِرَقاً (سياسيّةً ـ دينيّة) باسم الإسلام تتّخذ اسم المرجئة مرّة , والجبريّة اُخرى‏ ؛ لتحريم الثورة ضدَّه .
وقد أراد الإمام الحسن (سلام الله عليه) أن يقتل معاوية ؛ ائتماراً بأمر رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , لكنَّ الناس خذلوه ونكثوا عهدهم معه , فاضطُرّ إلى‏ الصلح . بعده دخل معاوية الكوفة وقد وقّع على‏ وثيقة الصلح أن يتقيّد بشرع الإسلام , فأطبق جيشه على‏ الكوفة , وخاطب أهلها قائلاً : يا أهل الكوفة , أتروني اُقاتلكم على‏ الصلاة والزكاة والحجّ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ؟! ولكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وعلى‏ رقابكم , وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون . ألاَ إنّ كلَّ مالٍ أو دمٍ اُصيبَ في هذه الفتنة فمطلول , وكلّ شرطٍ شرطته فتحت قدمَيَّ هاتين .
وكان ذلك إلغاءً صريحاً ونقضاً فاضحاً لبنود وثيقة الصلح , وقد شفع ذلك بتدبير مؤامرة اغتيال الإمام الحسن (عليه ‏السّلام) ؛ فأغرى‏ به زوجته (جعدة بنت الأشعث) فقتلته بالسمّ , وقد منّاها أن يزوّجها ابنه يزيد فلم يفِ لها بذلك بعد جريمتها.
وقد استطاع الإمام الحسن (سلام الله عليه) بوثيقة الصلح أن يفضح معاوية ؛ لعلمه (عليه السّلام) أنَّ معاوية لا يتقيّد بشرط . وقد خدع معاويةُ الناسَ بادّعاءاته , فجاءتْ وثيقة الصلح فأبانت للناس غدره ؛ حيث توّج ابنه (يزيد) خليفةً له وملِكاً على‏ الاُمّة من بعده , مع أنَّ الوثيقة التي وقّعها معاوية تقضي أن يكون الإمام الحسن (عليه السّلام) خليفة المسلمين بعد موت معاوية , فإن تُوفّي الحسن (سلام الله عليه) قبل معاوية فالإمام الحسين (عليه السّلام) هو وليُّ الأمر .
حتّى‏ إذا استتبّت الاُمور لمعاوية أظهر ما استبطنه من الأحقاد ؛ فأشاع الإرهابَ وأثار الفتن العرقيّة , والتعصبّات الجاهليّة , والعنعنات القبليّة , وأعمل القتلَ في موالي عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ؛ فكتب إلى‏ قائدٍ من قوّاد جيوشه : فاقتل كلَّ مَن لقيتَه ممّن ليس هو على‏ مثْل رأيك , واضرب كلَّ ما مررت به من القرى‏ واحرِبِ الأموال ؛ فإنَّ حربَ الأموال شبيهٌ بالقتل , وهو أوجع للقلب .
وكتب إلى‏ ولاته في جميع الأمصار : انظروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان , وأسقطوا عطاءه ورزقه . ثمّ أمر أن يُلعَن أولياء الله على‏ المنابر ؛ فشُتم الإمام عليٌّ (عليه السّلام) على‏ منابر بني اُميّة ألف شهر , أكثر من ثمانين سنة ؛ ولذا اُوّلت الآية { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر : 3] ذلك التأويل الذي ذكرناه .
أمّا حقده على‏ النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , ونعرته الجاهليّة , فيكفي في ذلك بياناً هذه الرواية : روى‏ مطرف بن مغيرة بن شعبة قال : وفدت مع أبي على‏ معاوية , فكان أبي يتحدّث عنده ثمّ ينصرف إليَّ وهو يذكر معاوية وعقله , ويعجب بما يرى‏ منه .
وأقبل ذات ليلةٍ ـ أي المغيرة بن شعبة ـ وهو غضبان , فأمسك عن العشاء , فانتظرته ساعةً وقد ظننت أنّه لشي‏ءٍ حدث فينا أو في عملنا , فقلت له : ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة ؟
قال : يا بنيّ , جئتك من عند أخبث الناس !
قلت : ما ذاك ؟
قال : خلوت بمعاوية فقلت له : إنّك بلغت مناك يا أمير المؤمنين , فلو أظهرت عدلاً , وبسطت خيراً ؛ فإنّك كبرت , ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم , فو الله ما عندهم اليوم شي‏ءٌ تخافه .
فثار معاوية واندفع يقول : هيهات , هيهات ! ملك أخو تيمٍ فعدل , وفعل ما فعل , فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره , إلاّ أن يقول قائل : قال أبو بكر . ثمّ ملك أخو عديٍّ فاجتهد وشمّر عشر سنين , فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره , إلاّ أن يقول قائل : عمر . ثمّ ملك أخونا عثمان , فملك رجلٌ لم يكن أحدٌ في مثل نسبه , فعُمل به ما عُمل , فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره .
وإنَّ أخا هاشم ـ يعني رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ـ يُصرخ به في كلّ يومٍ خمس مرّات : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله , فأيُّ عملٍ يبقى‏ بعد هذا لا اُمَّ لك ! والله سحقاً سحقاً , والله دفناً دفناً !
ثمّ ما أن استقرّت الأحوال لمعاوية حتّى‏ كانت له اجتهاداتٌ ـ يطول بيانها ـ في تغيير الأحكام الإسلاميّة , بدّل منها ما بدّل حتّى‏ سُمّي بعضها بأوّليّات معاوية .
ثمّ جاء من بعده يزيد , وما أدراك ما يزيد ! جاء في كتاب (صحيح البخاريّ) ج 9 كتاب الفتن ـ باب قول النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( هلاك اُمّتي على‏ يدي اُغيلمةٍ سفهاء )) , حدّثنا موسى‏ بن إسماعيل , حدّثنا عمرو بن يحيى‏ بن سعيد بن عمر بن سعيد , قال : أخبرني جدّي قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) بالمدينة ومعنا مروان , قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : (( هلكةُ اُمّتي على‏ يدي غلمةٍ من قريش )) .
يقول شارح صحيح البخاريّ ابنُ حجر العسقلانيّ في (فتح الباري) 13 / 7 و 8 : إنَّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللَّهمَّ لا تدركني سنة ستّين , ولا إفادة الصبيان .
قال ابن حجر : وفي هذا إشارةٌ إلى‏ أنَّ أوّل الاُغيلمة كان في سنة ستّين , وهو كذلك ؛ فإنّ يزيد بن معاوية استُخلف فيها وبقي إلى‏ سنة 64 هـ فمات , ثمّ وُلّيَ ولده معاوية ومات بعد أشهر .
وقال الشارح أيضاً : إنَّ أوّل هؤلاء الغلمان يزيد كما دلّ عليه قول أبي هريرة سنة ستّين وإمارة الصبيان .
وروى‏ ابن حجر العسقلانيّ في كتابه : (مجمع الزوائد 5 / 241) عن مُسند أبي يعلى‏ , والبزّاز , وابن حجر الهيتميّ في (الصواعق المحرقة / 132) عن مسند الرويانيّ , عن أبي الدرداء قال : سمعت النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول : (( أوّل من يبدّل سنّتي رجلٌ من بني اُميّة يُقال له : يزيد )) .
أمّا أبو يعلى‏ والبزّاز فقد رويا أنَّ النبيَّ (صلّى‏ الله عليه وآله) قال : (( لا يزال أمر اُمّتي قائماً بالقسط حتّى‏ يكون أوّل من يثلمه رجلٌ من بني اُميّة يقال له : يزيد )) .
وأخرج القاضي نعمان المصريّ في كتابه (المناقب والمثالب / 71) , عن النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) أنّه نظر يوماً إلى‏ معاوية يتبختر في حبره , وينظر إلى‏ عطفيه , فقال مخاطباً إيّاه : (( أيّ يومٍ لاُمّتي منك ! وأيّ يوم لذرّيّتي منك من جُروٍ يخرج من صلبك , يتّخذ آيات الله هزواً , ويستحلُّ من حرمتي ما حرّم الله (عزّ وجلّ) )) .
وفي كنز العمّال للمتّقي الهنديّ 6 / 39 هذا الحديث : (( يزيد ! لا بارك الله في يزيد ؛ نُعِيَ إليَّ الحسين واُوتيت بتربته , واُخبرت بقاتله ... واهاً لفراخ آل محمّد من خليفةٍ مستخلفٍ مترف يقتل خلَفي وخلَف الخلَف ! )) .
أخرجه الطبرانيٌّ عن معاذ , وذكره‏ ابن حجر الهيثميّ في (مجمع الزوائد 9 / 189) عن معاذ بن جبل , إلاّ أنّه قال : قال النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( يزيد ! لا بارك الله في يزيد )) . ثمّ ذرفت عيناه , ثمّ قال : (( نُعِيَ إليَّ حسين )) . وذكره المناويّ في (فيض القدير) وقال : أخرجه ابن عساكر عن سلمة بن الأكوع , ورواه عنه ابن نعيم والديلميّ .
وفي (كنز العمّال 6 / 223) أيضاً : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( لا بارك الله في يزيد الطعّان اللّعّان , أما إنّه نُعي إليّ حبيبي حسين , واُوتيتُ بتربته , ورأيتُ قاتله , أما إنّه لا يُقتل بين ظهرانَي قومٍ فلا ينصروه إلاّ [عمّهم الله] بعقاب )) . أخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب .
ومَن لم يسمع بهذه الأحاديث النبويّة الصريحة فلا بدَّ أنّه سمِع بسيرة يزيد , وقد سار بها الركبان , وشاعت بين البلدان ؛ فقد نشأ يزيد نشأةً بعيدةً عن أجواء الإسلام ؛ فمنطقة (حوّارين) التي عاشتْ فيها اُمّه وأهلها كانت ذات جوّ مسيحيّ , وظلّ يزيد بعد نشأته هناك يحنّ إلى‏ (حوّارين) ويتردّد عليها بين الحين والآخَر .
وقد آل الأمر إلى‏ يزيد بعد أن هلك معاوية وهو هناك , ومات يزيد نفسه وهو هناك في (حوّارين) متشاغلاً بالخمور والفجور , ولم يَعُدْ إلاّ بعد عشرة أيّام من هلاك أبيه , فصلّى‏ على‏ قبره إذ كان مدفوناً .
يقول الاُستاذ (عبد الله العلايليّ) في كتابه حول الإمام الحسين (عليه السّلام) (سموّ المعنى‏ في سموّ الذات) / 59 : إذا كان يقيناً أو يشبه اليقين أنَّ تربية يزيد لم تكن إسلاميّةً خالصة , أو بعبارة اُخرى : كانت مسيحيّةً خالصة فلم ‏يبقَ ما يُستغرب معه أن يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما عليه الجماعة الإسلاميّة , لا يحسب لتقاليدهما واعتقاداتها أيَّ حساب , ولا يقيم لها وزناً , بل الذي نستغرب أن يكون على‏ غير ذلك .
ويقول الاُستاذ عمر أبو النصر : أمّا اُستاذ يزيد أو أساتذته إذا كانوا غير واحد , فإنّهم مجهولون , وقد أسف «لامنس» المستشرق اليسوعيّ لهذا النقص التاريخيّ ؛ لأنّه يعتقد أنّ اُستاذ يزيد لا يبعد أن يكون مسيحيّاً من‏ مشارقة النصارى‏ , خصوصاً ويزيد نفسه قد كلّف كاهناً مسيحيّاً بتثقيف ولده خالد .
لقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحيّة قبل الإسلام , وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين , فتأثّر بسلوكهم إلى‏ حدٍّ بعيد ؛ فكان يشرب الخمر معهم ويلعب بالكلاب .
ويصفه السيّد مير علي الهنديّ مقارناً إيّاه بأبيه , فيقول : كان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه , ولكنّه ليس بداهيةٍ مثله , كانت تنقصه القدرة على‏ تغليف تصرّفاته القاسية بستارٍ من اللباقة الدبلوماسيّة الناعمة , وكانت طبيعته المنحلّة وخلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقةٌ ولا عدل , وكان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بها وهو ينظر إلى‏ آلام الآخرين , وكان بؤرةً لأبشع الرذائل , وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهدٍ على‏ ذلك , لقد كانوا من حثالة
المجتمع .
وروى‏ الطبريّ في تاريخه 7 / 43 من شعر ابن عرادة , أنّ يزيد كان شرّيباً للخمر طوال حياته حتّى‏ الموت , وقد مات بين كأس الخمر وزقّ الخمر , والمغنّية وآلة الطرب , قال :
أبنَي اُميّة إنّ آخِرَ ملكِكمْ جَسَدٌ بحوّارين ثَمَّ مُقيمُ‏
طرقتْ منيّتُه وعند وسادِهِ كوبٌ وزقٌّ راعف مرثومُ‏
[ومرنة] تبكي على‏ نشوانه بالصنج تقعد تارةً وتقومُ‏
وقد عُرف عنه الإدمان , حتّى‏ إنَّ بعض المصادر تعزو سبب هلاكه إلى‏ أنّه شرب مقداراً كبيراً من الخمرة فأصابه انفجار .
وكان قد اصطفى‏ جماعةً من الخلعاء والماجنين , فكان يقضي معهم لياليه بين الشراب والغناء , وفي طليعة ندمائه الأخطل , الشاعر المسيحيّ الخليع ؛ فكانا يشربان ويسمعان الغناء , وإذا أراد السفر صحبه معه , ولمّا هلك يزيد وآلَ السلطان إلى‏ عبد الملك ‏بن مروان قرّب الأخطل ؛ فكان يدخل عليه بغير استئذان , وعليه جُبّة خزّ , وفي عنقه سلسلةٌ من ذهب , والخمر يقطر من لحيته .
وفي تاريخ ابن كثير 8 / 228 : كان يزيد صاحب شراب , فأحبّ معاوية أن يعظه في رفق , فقال : يا بُنيّ , ما أقدرك على‏ أن تصل حاجتك من غير تهتّكٍ يذهب بمروءتك وقدْرِك , ويشمت بك عدوّك , ويسي‏ء بك صديقك .
ثمّ قال : يا بُنيّ , إنّي منشدك أبياتاً فتأدّب بها واحفظها .
فأنشده :
انصبْ نهارَك في طِلابِ العُل واصبر على‏ هجر الحبيب القريبْ‏
حتّى‏ إذا الليل أتى‏ بالدُّجى واكتحلت بالغمض عينُ الرقيبْ‏
فباشرِ الليل بما تشتهي فإنَّما الليلُ نهار الأريبْ‏
كم فاسقٍ تحسبه ناسك قد باشر الليل بأمرٍ عجيبْ‏
غطّى‏ عليه الليلُ أستارَه فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيبْ‏
ولذّة الأحمق مكشوفةٌ يسعى‏ بها كلُّ عدوٍّ مريبْ‏
وأضاف ابن كثير .. قائلاً : وكان في يزيد أيضاً إقبالٌ على‏ الشهوات , وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات .
أمّا اليعقوبي فقد أورد في تاريخه 2 / 220 أنّ معاوية لمّا أراد أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس طلب من زياد بن أبيه أن يأخذ بيعة المسلمين في البصرة , فكان جواب زياد له : ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى‏ بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود , ويلبس المصبّغات , ويُدمن الشراب , ويمشي على‏ الدفوف , وبحضرتهم الحسين بن عليّ , وعبد الله بن عبّاس , وعبد الله بن الزبير , وعبدالله‏ بن عمر ؟! ولكن تأمره يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ؛ [فعسانا] أن نُمَوِّهَ على‏ الناس .
وأرسل معاويةُ يزيدَ إلى‏ الحجّ , وقيل : بل أخذه معه , فجلس يزيد بالمدينة على‏ شراب , فاستأذن عليه عبد الله بن عبّاس والحسين بن عليّ , فأمر يزيد بشرابه فرُفع , وقيل له : إنّ ابن عبّاس إن وجد ريح شرابك عرفه . فحجبه وأذِنَ للحسين , فلمّا دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب , فقال : (( ما هذا يابن معاوية ؟ )) .
فقال : يا أبا عبد الله , هذا طيبٌ يصنع لنا بالشام .
ثمّ دعا بقدحٍ فشربه , ثمّ دعا بقدحٍ آخر فقال : اسقِ أبا عبد الله يا غلام .
فقال الحسين : (( عليك شرابك أيّها المرء )) .
فقال يزيد :
ألا يا صاحِ للعجبِ دعوتُك ثمَّ لم تُجبِ‏
إلى‏ القيناتِ واللذّ تِ ‏والصهباء والطربِ‏
وباطيةٍ مكللّةٍ عليها سادةُ العربِ‏
وفيهنّ التي تبلتْ فؤادَك ثمّ لم تَتُبِ‏
فوثب الحسين عليه وقال : (( بل فؤادَك يابن معاوية تبلتْ )) .
وذكر اليعقوبي أنّ معاوية حجّ وحاول أن يأخذ البيعة من أهل مكّة والمدينة , فأبى‏ عبد الله بن عمر وقال : نبايع من يلعب بالقرود والكلاب , ويشرب الخمر ويُظهر الفِسْق ؟! ما حجّتنا عند الله ؟!
وقال عبد الله بن الزبير : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق , وقد أفسد علينا ديننا .
وفي رواية أنّ الحسين (عليه السّلام) قال لمعاوية : (( كأنّك‏ تصف محجوب , أو تنعت غائب , أو تُخبر عمّا كان احتويته لعلمٍ خاصّ . وقد دلّ يزيد من نفسه على‏ موقع رأيه ؛ فخذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش , والحمام السبق لأترابهنّ , و القينات ذوات المعازف , وضروب الملاهي تجده ناصراً , ودَعْ عنك ما تحاول )) .
وكان يزيد شاعر , وقد أكثر من نظم الشعر في الخمر والغناء , ومنه :
معشرَ الندمانِ قُومو واسمعوا صوتََ الأغاني‏
واشربوا كأسَ مدامٍ واتركوا ذكْرَ المثاني
شغلتْني نغمة العي ـدانِ عن صوت الأذانِ‏
وتعوّضت من الحو ر عجوزاً في الدنانِ
وروى‏ صاحب الأغاني قائلاً : كان يزيد بن معاوية أوّلَ مَن سنّ الملاهي في الإسلام من الخلفاء , وآوى‏ المغنّين , وأظهر الفتك , وشرب الخمر , وكان ينادم عليها سرجون النصرانيّ مولاه , والأخطل ـ الشاعر النصرانيّ ـ , وكان يأتيه من المغنّين سائب خائر فيقيم عنده , فيخلع عليه .
وجاء في أنساب الأشراف للبلاذريّ : كان يزيد بن معاوية أوّلَ مَن أظهر شرب الشراب , والاستهتار بالغناء والصيد , واتّخاذ القيان والغلمان , و التفكّه بما يضحك منه المترفون من القرود , والمعافرة بالكلاب والديكة .
ثمّ روى‏ البلاذريّ عن شيخٍ من أهل الشام أنّ سبب وفاة يزيد أنّه حمل قردةً على‏ الأتان وهو سكران , ثمَّ ركض خلفها فسقط فاندقّتْ عنقه , أو انقطع في جوفه شي‏ء .
كما روى‏ عن ابن عيّاش أنّه قال : خرج يزيد يتصيّد بحوّارين وهو سكران , فركب وبين يديه أتان وحشيّة قد حمل عليها قرداً , وجعل
يركض الأتان ويقول :
أبا خلَفٍ احْتَلْ لنفسِك حِيلةً فليس عليها إن هلكتَ ضمانُ‏
فسقط واندقّتْ عنقه .
وقال ابن كثير في تاريخه 8 / 436 : اشتهر يزيد بالمعازف وشرب الخمور , والغناء والصيد , واتّخاذ القيان والكلاب والنطاح بين الأكباش , والدباب والقرود . وما من يوم إلاّ ويصبح فيه مخموراً , وكان يشدُّ القرد على‏ فرسٍ مسرجة بحبال ويسوق به , ويُلبس القردَ قلانسَ الذهب وكذلك الغلمان , وكان يسابق بين الخيل , وكان إذا مات القرد حزن عليه .
وقيل : إنّ سبب موته أنّه حمل قردة وجعلها ينقّزها فعضّتْه .
نعم , هذا يزيد , وقد كان اتّخذ لمشورته رجلاً من النصارى‏ اسمه (سرجون) الذي كان من ذي قبل مستودَعَ أسرار معاوية , فإذا تحيّر في أمر أتى‏ هذا النصرانيَّ فأخذ برأيه .
وكان يزيد يأمر بقطع الرؤوس وإرسالها إليه لينظر إليها بعين التشفّي وينشو , ويشبع نهمه الذي لا يشبع في سفك الدماء , وما أشبهه بجدّته (هند) آكلة الأكباد التي مثّلت بجسد حمزة بن عبد المطلب سيّد الشهداء في (اُحد) , ولاكتْ كبدَه الشريف تشفّياً لحقدها العجيب على‏ أولياء الله !
ثمّ كان ما كان من الإرهاب والقتل , والتشديد والتعذيب , وكثرة السجون والمفاسد والمظالم في عهد يزيد حتّى‏ أقرَّ عليه المقرّبون , وخشي على‏ أنفسهم الأتقياء .
ذكر مَعقِلُ بن سنان يزيدَ بن معاوية لمسرف (وهو مسلم بن عقبة) , فقال : إنّي خرجت كرهاً لبيعة هذا الرجل , وقد كان من القضاء والقدر خروجي إليه ؛ هو رجلٌ يشرب الخمر , ويزني بالحرم . ثمّ نال منه , وذكر خصالاً كانتْ في يزيد.
وأخرج الطبريّ عن المنذر بن الزبير أنَّ يزيد بعث إليه بمئة ألف ليشتري منه دينه ويبايعه لأجلها , فأخذ المنذرُ بن الزبير المال وخطب في أهل المدينة , وقال فيما قال : إنّه ـ أي يزيد ـ قد أجازني بمئة ألف , ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره ؛ والله إنّه ليشرب الخمر , واللهِ إنّه ليسكر حتّى‏ يدع الصلاة .
في حين ذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة / 132) : أخرج الواقديّ من طرق أنّ عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال : والله , ما خرجنا على‏ يزيد حتّى‏ خفنا أن نرمى‏ بالحجارة من السماء ؛ إنّه رجلٌ ينكح اُمّهات الأولاد , والبنات والأخوات , ويشرب الخمر , ويدع الصلاة .
وأورد ابن سعد في طبقاته 5 / 47 قريباً إلى‏ هذا النصّ , وهو أنَّ عبد الله بن ‏حنظلة قال : يا قوم , اتّقوا الله وحده لا شريك له , فو الله ما خرجنا على‏ يزيد حتّى‏ خفنا أن نُرمى‏ بالحجارة من السماء . إنّ رجلاً ينكح الاُمّهات والبنات والأخوات , ويشرب الخمر , ويدع الصلاة . والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت الله فيه بلاءً حسناً . فتواثب الناس يومئذٍ يبايعون من كلّ النواحي .
فأين هذا مِن قول مَن يقول : لا يجوز لعنُ يزيد ؛ لأنّه مسلم , وسبّ المسلم فسق ؟! ولا يجوز قتال يزيد ؛ لأنّ قتال المسلم كفر ؟!
تعالوا نقرأ ما كتبه العالم السُّنِّي المشهور (الآلوسي) في تفسيره :
مَن يقول : إنّ يزيد لم يعصِ بذلك ولا يجوز لعنه فينبغي أن ينتظم في سلسلة أنصار يزيد . وأنا أقول : إنَّ الخبيث لم يكن مصدِّقاً بالرسالة للنبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , وإنَّ مجموع ما فعله مع أهل حرم الله وأهل حرم نبيّه (صلّى‏ الله عليه وآله) وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات , وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالةً على‏ عدم تصديقه من إلقاء ورقةٍ من المصحف الشريف في قذَرٍ .
ولا أظنُّ أنّ أمره كان خافياً على‏ أجلّة المسلمين إذ ذاك , ولكن كانوا مغلوبين ... ولو سُلّم أنَّ الخبيث كان مسلماً فهو مسلمٌ جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان , وأنا أذهب إلى‏ جواز لعن مثله على‏ التعيين ولو لم يُتَصوَّرْ أن يكون له مثْلٌ من الفاسقين .
والظاهر أنّه لم يتب , واحتمال توبته أضعف من إيمانه . ويعجبني قول شاعر العصر , ذي الفضل الجلي , عبد الباقي أفندي العمريّ الموصلي , وقد سُئل عن لعن يزيد فقال :
يزيد على‏ لعني عريضٌ جنابُه فأغدو به طولَ المدى‏ ألعن اللعنا
ومَن يخشى‏ القيل والقال من التصريح بلعن ذلك الضلّيل فليقل : لعن الله (عزّ وجلّ) مَن رضيَ بقتل الحسين (عليه السّلام) , ومن آذى‏ عترة النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) بغير حقّ , وم