ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

الغَيرة أو الحميّة : هي السعي في محافظة ما يلزم محافظته , وهي من نتائج الشجاعة وكبر النفس وقوّتها . قال أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السّلام) : (( على‏ قدر الحميّة تكون الشجاعة ))(1) . وقال (سلام الله عليه) أيضاً : (( ثمرةُ الشجاعة الغَيرة ))(2) .
والغيرة هي من شرائف الملكات , وبها تتحقّق الرجوليّة , والفاقد لها غير معدودٍ من الرجال . وهي تعبُّر ـ فيما تعبّر عنه ـ عن الاعتزاز بالشرف‏ والكرامة , وعن اليقظة والمروءة والنخوة , وهذه من مثيرات الشجاعة , ومن دواعي رفض العدوان .
ومقتضى‏ الغيرة والحميّة في الدين أن يجتهد المرء في حفظه عن بدع المبتدعين , وانتحال المبطلين , وإهانة من يستخفُّ به من المخالفين , وردّ شبه الجاحدين , ويسعى‏ في ترويجه , ولا يتسامح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومقتضى‏ الغيرة على‏ (الحريم) ألاّ يتغافل عن حفظِهنّ عن أجانب الرجال , وعن الاُمور التي تُخشى‏ غوائلها , ويمنعهنّ عن جميع ما يمكن أن يؤدّي إلى‏ فسادٍ وريبة .
وأمّا مقتضى‏ الغيرة على‏ الأولاد أن تراقبهم من أوّل أمرهم , فإذا بدأتْ فيهم مخائل التمييز فينبغي أن يؤدَّبوا بآداب الأخيار , ويُعلّموا محاسنَ الأخلاق والأفعال , والعقائد الحقّة.
ولأهميّة الغيرة في حفظ المقدّسات وسلامة الاُمّة وشرف كرامتها جاءت الآيات الكريمة والأحاديث المنيفة تؤكّد عليها , وتبيّن فضائلها وتدعو إليها ؛ إذ هي خلقٌ من أخلاق الله تبارك وتعالى‏ , ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين , والأئمّة الهداة المهديّين (صلوات الله عليهم أجمعين) .
قال رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( ألاَ وإنَّ الله حرّم الحرام , وحدّ الحدود , وما أحدٌ أغير من الله , ومن غيرته حرّم الفواحش ))(3) .
وعنه (صلّى‏ الله عليه وآله) أيضاً قال : (( إنّي لغيور , والله (عزّ وجلّ) أغير منّي , وإنّ الله تعالى‏ يحبّ من عباده الغيور ))(4) .
والغيرة مفصحة عن الإيمان ؛ لقول المصطفى‏ (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( إنَّ الغيرة من الإيمان ))(5) . وهي من نتائج القوّة الغضبيّة في الإنسان , قد تُنتج‏ مساوئَ أخلاقيّة كالتهوّر وسوء الظنّ والغضب المذموم , وقد تنتج محاسن أخلاقيّة كالغضب لله تعالى‏ , والشجاعة والعزّة والإباء .
وقد عُرِفَ الإمام الحسين (عليه السّلام) بخلق الغيرة على‏ الدين والحريم والأولاد , وهو الذي تربّى‏ في ظلّ أغير الناس جدّه المصطفى‏ , وأبيه المرتضى‏ , واُمّه فاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم) , وعاش في بيت العصمة والطهارة والنجابة , والشرف المؤبّد والكرامة , ونشأ في أهل بيتٍ لم‏ تنجّسهم الجاهليّة بأنجاسها , ولم تلبسهم من مدلَهِمّات ثيابها .
فالنبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) كان ـ كما يقول الإمام عليّ (عليه السّلام) ـ لا يصافح النساء , فكان إذا أراد أن يبايع النساء اُتِيَ بإناءٍ فيه ماء فغمس يده ثمّ يخرجها , ثمّ يقول : (( اغمسن أيديكنّ فيه فقد بايعتكن ))(6) .
أمّا ابنته فاطمة (صلوات الله عليها) فقد سألها أبوها (صلّى‏ الله عليه وآله) يوماً : (( أيُّ شي‏ءٍ خيرٌ للمرأة ؟ )) .
فقالت : (( أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل )) .
فضمَّها إليه وقال : (( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ))(7) .
وأمّا أمير المؤمنين (سلام الله عليه) فيكفي ما ذكره يحيى‏ المازنيّ حيث قال : كنت جوار أمير المؤمنين (عليه السّلام) مدّةً مديدة , وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته , فوالله ما رأيت لها شخصاً , ولا سمعت لها صوتاً , وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) تخرج ليلاً , والحسن عن يمينها , والحسين عن شمالها , وأمير المؤمنين أمامها , فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل , فسأله الحسن مرّةً عن ذلك , فقال : (( أخشى‏ أن ينظر أحدٌ إلى‏ شخص اُختك زينب ))(8) .
هذه الخَفِرة عقيلة بني هاشم (سلام الله عليها) كان لا بدّ من أجل إنقاذ الدين , وفضح الجاهليّين أن تخرج إلى‏ كربلاء لتثبت أنَّ بني اُميّة لا يرقبون في مؤمنٍ إلاّ ولا ذمّة , ولا يحفظون حرمةً لرسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ؛ حيث اُسرت بناته في كربلاء , وساقهنَّ أعداء الله في مسيرة وعرة إلى‏ الكوفة , ثمَّ إلى‏ الشام , في حالٍ من الجوع والإعياء , واُسكِنَّ الخرائب مقيّداتٍ بالحبال .
ويأبى‏ ذلك لهنَّ كلُّ غيور لولا الغيرة على‏ الدين ؛ حيث لا يُنقذُ الدين إلاّ في موقفٍ يُقتل فيه حزب الله النجباء بيد حزب الشيطان الطلقاء , وتؤسر فيه بنات الرسالة , ويقضي الأطفال بين الجوع والعطش والهلع , وحوافر الخيل والضياع في الصحارى . إنَّ كلَّ ذلك من أجل الدين الذي دونه الأنفس وكلُّ عزيز .
ولقد كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أغير الناس على‏ دين الله ؛ فأقدم على ما أحجم عنه غيرُه , وقدّم ما بخل به غيره , وقد شهدت له مواقف كربلاء أنّه الغيور الذي لم‏ تشغله الفجائع ولا أهوال الطفّ عن حماسة حرم رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) .
في يوم العاشر , وبعد أن قُتل جميع أنصار الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وأهل بيته , وقُبيلَ الاشتباك بالآلاف صاح عمر بن سعد بالجمع : هذا ابن الأنزع البطين , هذا ابن قتّال العرب , احملوا عليه من كلّ جانب .
فأتته (عليه السّلام) أربعة آلاف نبلة , وحال الرجال بينه وبين رحله , فصاح بهم : (( يا شيعة آل أبي سفيان , إن لم يكن لكم دين , وكنتم لا تخافون المعاد , فكونوا أحراراً في دنياكم , وارجعوا إلى‏ أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون )) .
فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة ؟
قال : (( أنا الذي اُقاتلكم , والنساء ليس عليهنّ جناح , فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً )) .
فقال الشمر : لك ذلك .
وقصده القوم , واشتدّ القتال وقد اشتدّ به العطش , قيل : وقصده‏ القوم من كلِّ جانب , وافترقوا عليه أربع فرق من جهاته الأربع ؛ فرقة بالسيوف وهم القريبون منه , وفرقة بالرماح وهم المحيطون به , وفرقة بالسهام والنبال وهم الذين في أعالي التلال ورؤوس الهضاب , وفرقة بالحجارة وهم رجّالة العسكر . ازدحم عليه العسكر , واستحرى‏ القتال , وهو يقاتلهم ببأسٍ شديد وشجاعةٍ لا مثيل لها .
وحمل (عليه السّلام) من نحو الفرات على عمرو بن الحجّاج , وكان في أربعة آلافٍ , فكشفهم عن الماء , وأقحم الفرسَ الماء , فلما مدّ الحسين يده ليشرب ناداه رجل : أتلتذُّ بالماء وقد هُتكت حرمك ؟! فرمى‏ الماء ولم يشرب , وقصد الخيمة .
وفي رواية الشيخ الدربندي (رحمه الله) : فنفض الماء مِن يده , وحمل (عليه السّلام) على‏ القوم فكشفهم , فإذا الخيمة سالمة .
إنَّ الإمام (عليه السّلام) كان سيّد سادات أهل النفوس الأبيّة , والهمم العالية , فلمّا سمع أنَّ المنافقين يذكرون اسم الحرم والعترة الطاهرة كفَّ نفسَه عن شرب الماء بمحض ذكرهم هذا ؛ فقد سنَّ ـ روحي له الفداء ـ لأصحاب الشيم الحميدة والغيرة سُنّةً بيضاء , وطريقة واضحةً في مراعاة الناموس والغيرة.
وهذه خصّيصة شريفةٌ اُخرى من الخصائص الحسينيّة , حيث وقف عليها الشيخ التستري (أعلا الله مقامه) فقال : ومنها : الغيرة بالنسبة إلى‏ النفس , وبالنسبة إلى‏ الأهل والعيال .
أمّا بالنسبة إلى‏ النفس فأقواله في ذلك ؛ شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة , وأفعاله الدالّة على‏ ذلك كثيرة , لكن قد أقرح القلبَ واحدٌ منها , وهو أنّه (عليه السّلام) لمّا ضعف عن الركوب لضربة صالح بن وهب نزل أو سقط عن فرسه على‏ خدّه الأيمن , فلم تدعه الغيرة للشماتة , والغيرة على‏ العيال لأن يبقى‏ ساقطاً , فقام (صلوات الله عليه) , وبعد ذلك أصابته صدماتٌ أضعفته عن الجلوس , فجعل يقوم مرةً ويسقط اُخرى‏ , كلُّ ذلك لئلاّ يروه مطروحاً فيشمتون .
وأمّا بالنسبة إلى‏ العيال فقد بذل جهده في ذلك في حفر الخندق واضطرام النار فيه , وقوله : اقصدوني دونهم . ووصلت إلى‏ أنّه صبَّ الماء الذي في كفّه وقد أدناه إلى‏ فمه وهو عطشان لما سمع قول : إنّه قد هُتك خيمةُ حرَمك .
وحينما عاد الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى‏ المخيّم ورام توديع العيال الوداع الثاني ؛ ليسكّن روعتهم , ويخفّف لوعتهم , ويصبّرهم على‏ فراقه ... قال عمر بن سعد لأصحابه : ويحكم ! اهجموا عليه مادام مشغولاً بنفسه وحرمه , والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم .
فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتّى‏ تخالفت السهام بين أطناب المخيّم , وشكّ سهمٌ بعض اُزر النساء فدهشنَ واُرعبنَ , وصِحنَ ودخلن الخيمة ينظرن إلى‏ الحسين كيف يصنع , فحمل عليهم كالليث الغضبان , فلا يلحق أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله , والسهام تأخذه من كلِّ ناحية وهو يتّقيها بصدره ونحره .
ورجع إلى‏ مركزه يكثر من قول : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم .
بأبي من رسيم ضيماً فأبى‏ أن يُسام الضيمَ واختار الرّدى‏
كيف يأوي الضيمُ منه جانب هو مأوى‏ كلِّ عزٍّ وإبا
فغدا يسطو على‏ جمع العِدى‏ مثل صقرٍ شدّ في سرب القطا
شبل آسادٍ إذا ما غضبو زلزلوا الأرض بحملات الوغى(9)‏
***
يلقى‏ كتائبهمْ بجأش طامنٍ‏ والصدرُ في ضيق المجال رحيبُ‏
ويرى‏ إلى‏ نحو الخيامِ ونحوِهم‏ من طرْفهِ التصعيدُ والتصويبُ‏
للمشرفيّة والسهام بجسمِه‏ والسمهريّة للجراح ضروبُ‏
حتّى‏ هوى‏ فوق الصعيد وحان مِن‏ بدرِ التمام عن الأنامِ غروبُ(10)‏
ثمّ إنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لما سقط ولده عليّ الأكبر (عليه السّلام) أتاه مسرعاً وانكبّ عليه بعد أن كشف عنه قتَلتَه , فوضع خدَّه على خدّه وقال : (( على‏ الدنيا بعدك العفا ! يعزّ على‏ جدّك وأبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك , وتستغيث فلا يغيثونك ! ))(11) .
ولمّا ضرب عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي رأس القاسم ابن الإمام الحسن (عليه السّلام) بالسيف وقع الغلام لوجهه , فقال : يا عمّاه ! فأتاه الحسين (عليه السّلام) كالليث الغضبان , فضرب عمراً بالسيف فاتّقاه بالساعد فأطنّها(12) من‏ المرفق , وانجلت الغبرة وإذا الحسين (عليه السّلام) قائمٌ على رأس الغلام وهو يفحص برجلَيه , والحسين يقول : (( بُعداً لقومٍ قتلوك ! خصمهم يوم القيامة جدُّك )) . ثمّ قال : (( عزَّ والله على‏ عمّك أن تدعوه فلا يجيبك , أو يجيبك ثمّ لا ينفعك ! ))(13) .
وروى بعضهم أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لمّا اُصيب بالسهام والحجارة , وأعياه نزف الدم , سقط على‏ الأرض لا يقوى‏ على‏ القيام والنهوض . فلبثوا هنيئةً وعادوا إليه وأحاطوا به , فنظر عبد الله بن الحسن السبط (عليه السّلام) ـ وله إحدى‏ عشرة سنة ـ إلى‏ عمّه وقد أحدق به القوم , فأقبل يشتدّ نحو عمّه , وأرادت زينب حبسه فأفلت منها , وجاء إلى‏ عمّه , وأهوى‏ بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام : يابن الخبيثة ! أتضرب عمّي ؟!
فضربه , واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى‏ الجلد فإذا هي معلّقة , فصاح الغلام : يا عمّاه ! ووقع في حجر الحسين (عليه السّلام) , فضمّه إليه وقال : (( يابن أخي , اصبر على‏ ما نزل بك , واحتسب في ذلك الخير ؛ فإنّ الله تعالى‏ يلحقك بآبائك الصالحين ))(14) .
وأخذه الإعياء فلا تقوى‏ جوارحه من شدّة النزف على‏ أن يجلس .
روى‏ بعضهم أنَّ أعداء الله أرادوا أن يتأكّدوا من عجزه عن القيام لمواجهتهم , فنادوا عليه بأنَّ رحله قد هُتك , فقام وسقط , وحاول النهوض غيرةً على‏ عياله فسقط , وجاهد ذلك ثالثةً فسقط , حينذاك اطمئنّوا أنّه لا يقوى‏ على‏ قيام .
وقد قال في خصائصه (الشيخ التستري) : وكان (عليه السّلام) حين وقوعه صريعاً مطروحاً يسعى‏ لتخليص أهله ومن يجئ إليه , فهو المطروح الساعي .
______________
(1) غرر الحكم / 215 .
(2) غرر الحكم / 158 .
(3) أمالي الصدوق / 257 .
(4) كنز العمال / الخبر 7076 .
(5) مَن لا يحضره الفقيه 3 / 381 .
(6) تحف العقول / 457 .
(7) المناقب , عن حلية الأولياء ـ لأبي نعيم , ومسند أبي يعلى , والآية في سورة آل عمران / 34 .
(8) زينب الكبرى‏ (عليها السّلام) / 22 .
(9) من قصيدة للسيّد محسن الأمين في كتابه (الدّر النضيد في مراثي السبط الشهيد) / 5 .
(10) للسيد الأمين أيضاً في الدّر النضيد / 26 .
(11) تاريخ الطبريّ 6 / 265 , ومقتل العوالم / 95 .
(12) أي قطعها .
(13) تاريخ الطبريّ 6 / 257 , والبداية والنهاية 8 / 186 .
(14) تاريخ الطبريّ 6 / 259 , واللهوف / 68 .