ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

أما شجاعته (عليه السلام) فقد قال كمال الدين رحمه الله اعلم وفقك الله على حقائق المعاني و وفقك لإدراكها أن الشجاعة من المعاني القائمة بالنفوس و الصفات المضافة إليها فهي تدرك بالبصيرة لا بالبصر و لا تمكن معرفتها بالحس مشاهدة لذاتها إذ ليست أجساما كثيفة بل طريق معرفتها و العلم بها مشاهدة آثارها فمن أراد أن يعلم أن زيدا موصوف بالشجاعة فطريقه أن ينظر إلى ما يصدر منه فإذا أحدقت الرجال و حدقت الآجال و حقت الأوجال و تضايق المجال و حاق القتال فإن كان مجزاعا مهلاعا مرواعا مفزاعا فتراه يستركب الهزيمة و يستبقها و يستصوب الدنية و يتطوقها و يستعذب المفرة و يستفوقها و يستصحب الذلة ويتعلقها مبادرا إلى تدرع عار الفرار من شبا الشفار مشيحا عن الفخار باقتحام الأخطار في مقر القراع بكل خطار فذلك مهبول الأم مخبول الفهم مفلول الجمع معزول عن السمع مضروب بينه وبين الشجاعة بحجاب مكتوب بينه و بين الشهامة بإبراء في كتاب و لا تعرف نفسه شرفا و لا تجد عن الخساسة و الدناءة منصرفا.
وإن كان مجسارا مجزارا كرارا صبارا يسمع من أصوات وقع الصوارم نغم المزاهر المطربة ويسرع إلى مصاف التصادم مسارعته إلى مواصلة النواضر المعجبة خائضا غمرات الأهوال بنفس مطمئنة و عزيمة مطنبة يعد مصافحة الصفاح غنيمة باردة و مرامحة الرماح فائدة عائدة و مكافحة الكتائب مكرمة زائدة و مناوحة المقانب منقبة شاهدة يعتقد أن القتل يلحقه ظلل الحياة الأبدية و يسعفه حلل المحامد السرمدية و يزلفه في منازل الفخار العلية المعدة للشهداء الأحدية جانحا إلى ابتياع العز بمهجته و يراها ثمنا قليلا جامحا عن ارتكاب الدنايا و إن غادره جماحه قتيلا.
يرى الموت أحلى من ركوب دنية و لا يغتدي للناقصين عديلاو يستعذب التعذيب فيما يفيده نزاهته عن أن يكون دليلا.
فهذا مالك أزمة الشجاعة و حائزها و له من قداحها معلاها و فائزها قد تفوق بها لبان الشرف و اغتذاه و تطوق درة سحابه المستحلى و تحلاه و عبق نشر أرجه المنتشر مما أتاه و نطق فعله بمدحه و إن لم يفض فاه و صدق و الله واصفه بالشجاعة التي يحبها الله.
وإذا ظهرت دلائل الآثار على مؤثرها و أسفرت عن تحقق مثيرها و مشمرها فقد صرح النقلة في صحائف السير بما رأوه و جزموا القول بما نقله المتقدم إلى المتأخر فيما رووه أن الحسين (عليه السلام) لما قصد العراق و شارف الكوفة سرب إليه أميرها يومئذ عبيد الله بن زياد الجنود لمقابلته أحزابا و حزب عليه الجيوش لمقاتلته أسرابا و جهز من العساكر عشرين ألف فارس و راجل يتتابعون كتائبا و أطلابا فلما حضروه و أحدقوا به شاكين في العدة و العديد ملتمسين منه نزوله على حكم ابن زياد و بيعته ليزيد فإن أبى ذلك فليؤذن بقتال يقطع الوتين و حبل الوريد و يصعد الأرواح إلى المحل الأعلى و يصرع الأشباح على الصعيد فتبعت نفسه الأبية جدها و أباها و عزفت عن التزام الدنية فأباها و نادته النخوة الهاشمية فلباها و منحها بالإجابة إلى مجانبة الذلة وحباها فاختار مجالدة الجنود و مضاربة ظباها و مصارمة صوارمها و شيم شباها و لا يذعن لوصمة تسم بالصغار من شرفه خدودا و جباها.
وقد كان أكثر هؤلاء المخرجين لقتاله قد شايعوه و كاتبوه و طاوعوه و عاهدوه و تابعوه و سألوه القدوم عليهم ليبايعوه فلما جاءهم كذبوه ما وعدوه و أنكروه و جحدوه و مالوا إلى السحت العاجل فعبدوه و خرجوا إلى قتاله رغبة في عطاء ابن زياد فقصدوه فنصب (عليه السلام) نفسه و إخوته وأهله و كانوا نيفا و ثمانين لمحاربتهم و اختاروا بأجمعهم القتل على متابعتهم ليزيد و مبايعتهم فاعتلقتهم الفجرة اللئام و رهقتهم المردة الطغام و رشقتهم النبال و السهام و أوثقتهم من شبا شفارها الكلام.
هذا و الحسين (عليه السلام) ثابت لا تخف حصاة شجاعته و لا تجف عزيمة شهامته و قدمه في المعترك أرسى من الجبال.
وقلبه لا يضطرب لهول القتال و لا لقتل الرجال و قد قتل قومه من جموع ابن زياد جمعا جما وأذاقوهم من الحمية الهاشمية رهقا و كلما و لم يقتل من العصابة الهاشمية قتيل حتى أثخن في قاصديه و قتل و أغمد ظبته في أبشارهم و جدل فحينئذ تكالبت طغام الأجناد على الجلاد و تناسبت الأجلاد في المفاضلة بالحداد و ثبت كثرة الألوف منهم على قلة الآحاد و تقاربت من الأنوف الهاشمية الآجال المحتومة على العباد فاستبقت الأملاك البررة إلى الأرواح و باء الفجرة بالآثام في الأجساد فسقطت أشلاؤهم المتلاشية على الأرض صرعى تصافح منها صعيدا و نطقت حالهم بأن لقتلهم يوما تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا و تحققت النفوس المطمئنة بالله كون الظالم و المظلوم شقيا و سعيدا و ضاقت الأرض بما رحبت على حرم الحسين (عليه السلام) و أطفاله إذ بقي وحيدا. فلما رأى (عليه السلام) وحدته و رزء أسرته و فقد نصرته تقدم على فرسه إلى القوم حتى واجههم و قال لهم: يا أهل الكوفة قبحا لكم و تعسا حين استصرختمونا والهين فأتيناكم موجفين فشحذتم علينا سيفا كان في أيماننا و حششتم علينا نارا نحن أضرمناها على أعدائكم و أعدائنا فأصبحتم ألبا على أوليائكم و يدا لأعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم و لا ذنب كان منا إليكم فلكم الويلات هلا إذ كرهتمونا و السيف ما شيم و الجأش ما طاش و الرأي لم يستحصد و لكنكم أسرعتم إلى بيعتنا إسراع الدنيا و تهافتم إليها كتهافت الفراش ثم نقضتموها سفها و ضلة وطاعة لطواغيت الأمة و بقية الأحزاب و نبذ الكتاب ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا و تقتلونا ألا لعنة الله على الظالمين.
ثم حرك إليهم فرسه و سيفه مصلت في يده و هو آيس من نفسه عازم على الموت و قال هذه الأبيات
أنا بن علي الخير من آل هاشم كفاني بهذا مفخر حين أفخر
وجدي رسول الله أكرم من مشى ونحن سراج الله في الخلق تزهر
و فاطمة أمي سلالة أحمد وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر
وفينا كتاب الله أنزل صادقا وفينا الهدى و الوحي و الخير
يذكرو نحن ولاة الحوض نسقي محبنا بكأس رسول الله ما ليس ينكر
وشيعتنا في الناس أكرم شيعة ومبغضنا يوم القيامة يخسر
ثم دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقاتل و يقتل من برز إليه منهم من عيون الرجال حتى قتل
نهم مقتلة كثيرة فتقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جمعه و سيأتي تفصيل ما جرى بعد ذلك في
صل مصرعه (عليه السلام) إن شاء الله.
هذا وهو كالليث المغضب لا يحمل على أحد منهم إلا نفحه بسيفه فألحقه بالحضيض فيكفي ذلك في تحقيق شجاعته و شرف نفسه شاهدا صادقا فلا حاجة معه إلى ازدياد في الاستشهاد آخر كلام كمال الدين رحمه الله.
قلت شجاعة الحسين (عليه السلام) يضرب بها المثل و صبره في مأقط الحرب أعجز الأواخر و الأول و ثباته إذا دعيت نزال ثبات الجبل و إقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل و مقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادل مقام جده ص ببدر فاعتدل و صبره على كثرة أعدائه و قلة أنصاره صبر أبيه (عليه السلام) في صفين و الجمل و مشرب العداوة واحد فبفعل الأول فعل الآخر ما فعل فكم من فارس مدل ببأسه جدله ع فانجدل و كم من بطل طل دمه فبطل و كم حكم سيفه فحكم في الهوادي و القلل فما لاقى شجاعا إلا و كان لأمه الهبل و حشرهم الله و جازى كلا بما قدم من العمل و إذا علمت أن شعار الحسين (عليه السلام) و أصحابه أعل يا حق و شعار أعدائه أعل هبل علمت أن هؤلاء في نعيم لا يزول و أولئك في شقاء لم يزل و كما قتل أبوه و انتقل إلى جوار ربه قتل هو و انتقل و كان له عند الله مرتبة لا تنال إلا بالشهادة فتم له ما أراد و كمل و باء قاتلوه بنار الله المؤصدة في الآخرة و لا يهدي الله من أضل و ما سلموا من آفات الدنيا بل عجلت لهم العقوبة فعمت من رضي و من خذل و من قتل فتبا لآرائهم الغائلة و عقولهم الذاهلة فلقد أعماهم القضاء إذ نزل و ختم الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم فما منهم إلا من جار عن الصواب و عدل فما أنصف و لا عدل و ضلوا عن الحق فما لهم فيه قول و لا عمل و قبحا و شقحا لتلك القلوب التي غطاها الرين فلم تفرق بين ما علا و استفل و سوأة لتلك الوجوه التي شوهها الكفر و الفسوق و العصيان و سودها الخطأ و الخطل و سبة لتلك الأحلام الطائشة التي عذلت لإنكارها الحق بعد معرفة فسبق السيف العدل و غطى على بصائرها حب الدنيا الدنية فمالت إلى العاجل ففاتها الأجل و العاجل ما حصل و كيف لا تصدر عنهم هذه الأفعال و كبيرهم المدعو بأمير مؤمنيهم استشهد بشعر ابن الزبعري فكأنما بده به و ارتجل:
ليت أشياخي ببدر شهدوا وقعة الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا و استهلوا فرحا واستحر القتل في عبد الأشل
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل
والناس على دين ملوكهم كما ورد في الحديث و المثل.
فلقد ركبوا مركبا وعرا و أتوا أمرا أمرا و فعلوا فعلا نكرا و قالوا قولا هجرا و استحلوا مزاقا مرا و بلغوا الغاية في العصيان و وصلوا إلى النهاية في إرضاء الشيطان و أقدموا على أمر عظيم من إسخاط الرحمن و كم ذكرهم الحسين (عليه السلام) أيام الله فما ذكروا و زجرهم عن تقحم نار الجحيم فما انزجروا و عرفهم ما كانوا يدعون معرفته فما عرفوا و لا فهموا منذ أنكروا و أمرهم بالفكر في هذا الأمر الصعب فما ائتمروا في كل ذلك ليقيم عليهم الحجة و يعذر إلى الله في تعريفهم المحجة {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } [نوح: 7] {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25] ونادى لسان حال الحسين (عليه السلام) {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح: 26، 27]
فاستجاب الله دعاءه (عليه السلام) و خصه بمزيد العناية و الإكرام و نقله إلى جواره مع آبائه الكرام و وقع الفناء بعده في أولئك الطغام و دارت عليهم دوائر الانتقام و الاصطلام فقتلوا في كل أرض بكل حسام و انتقلوا إلى جوار مالك في نار جهنم و أصحاب الحسين (عليه السلام) إلى جوار رضوان في دار السلام فصارت ألوف هؤلاء الأغنام آحادا و جموعهم أفرادا و ألبسوا العار آباء و أولادا فأحياؤهم عار على الغابر و الأولون مسبة للآخر و استولى عليهم الذل و الصغار وخسروا تلك الدار و هذه الدار و كان عاقبة أمرهم إلى النار و بئس القرار و كثر الله ذرية الحسين (عليه السلام) و أنماها و ملأ بها الدنيا و رفعها و أعلاها و إذا عرفت أن كل حسيني في الدنيا من ولد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ظهر لك كيف بارك الله في ذريته الطاهرة و زكاها و إذ فكرت في جموع أعدائهم و انقراضهم تبينت أن العناية الإلهية تولت هذه العترة الشريفة و أبادت من عاداها و سعدت في الدنيا و الآخرة و سعد من والاها و قد تظاهرت الأخبار أن الله تعالى اختارها و اصطفاها و اختار شيعتها و اجتباها.
ولما رأى الحسين (عليه السلام) إصرارهم على باطلهم و ظهور علائم الشقاء على أخلاقهم و فعائلهم و أن إبليس و جنوده قادوا في أشطانهم و حبائلهم علم بسعادة من قتلوه و شقاوة قاتلهم و تحقق أنه قد طبع الله على قلوبهم فلا ينجع فيهم نصح ناصحهم و لا عذل عاذلهم فجد في حربهم على بصيرة و اجتهد و صبر صبر الكرام على تلك العدة و ذلك العدد و تفصيل ذلك يأتي في باب مصرعه (عليه السلام).
ويعز علي أن يجري بذكره لساني أو يسمح بسطره بناني أو أتمثله في خاطري و جناني فإني أجد لذكره ألما و أبكي لمصابه دمعا و دما و أستشعر لما بلغ منه هما و ندما و لكن لا حيلة فيما جرى به القضاء و القدر و إن ذممنا الورد فإنا نحمد الصدر والله يجازي كلا على فعله و لا يبعد الله إلا من كفر.