ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

الصبر : خصيصةٌ فاضلة يُعجَب بها الناس ويجلّونها , ويُكْبرون صاحبها , ويتمنّون أنّها فيهم , ولكن قليلٌ هم الذين يحظون بها .
والصبر : خلقٌ ينطوي على‏ معانٍ ساميةٍ رفيعة , منها : الإيمان بالله , والتسليم لقضاء الله , والرضا بأمر الله , والشكر على‏ ما يريده ويحبّه الله . كما يعبّر عن قوّة الجَنان , ورجاحة العقل , وثبات القلب , واطمئنان النفس وهدوئها , ويشير إلى‏ الزهد وحسن التوكّل على‏ الله , والثقة به سبحانه وتعالى‏ , والتصديق بوعده وهو القائل : { يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10] .
وفي تعريف الصبر قال علماء الأخلاق : هو ضدُّ الجزع , وهو ثبات النفس , أو هو احتمال المكاره من غير جزع , أو هو قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل ؛ أوامرَ ونواهي .
وفي الرواية قال جبرئيل (عليه السّلام) في تفسير الصبر : تصبر في الضرّاء كما تصبر في السرّاء , وفي الفاقة كما تصبر في الغنى‏ , وفي البلاء كما تصبر في العافية , فلا يشكو حالَه عند المخلوق .
وفي رواية : فلا يشكو خالقه عند المخلوق بما يصيبه من البلاء .
وفي بيان أنواع الصبر قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( الصبر ثلاثة ؛ صبرٌ على‏ المصيبة , وصبرٌ على‏ الطاعة , وصبرٌ عن المعصية ))(1) .
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( الصبر صبران ؛ صبرٌ عند المصيبة , حسنٌ جميل , وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرّم الله عليك ))(2) . وعنه (سلام‏ الله عليه) أيضاً قال : (( الصبر صبران ؛ صبرٌ على‏ ما تكره , وصبرٌ عمّا تحبّ ))(3) .
والصبر يوحي بأنَّ هناك صراعاً ومقاومة , وقتالاً وغلبة , أو أنَّ هنالك طرفَينِ متنازعين , وهناك نتيجة , والصبر هو الذي يحدّد النتيجة . قال الإمام عليّ (عليه السّلام) : (( الإيمان على‏ أربع دعائم ؛ على‏ الصبر , واليقين , والعدل , والجهاد . والصبر منها على‏ أربع شعب ؛ على‏ الشوق , والشفق , والزهد , والترقّب ؛ فمن اشتاق إلى‏ الجنّة سلا عن الشهوات , ومَن أشفق من النار اجتنب عن المحرّمات , ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات , ومن ارتقب الموت سارع إلى‏ الخيرات ))(4) .
والصبر ليس تحمّلاً وحسب , إنّما هو شكرٌ وتسليمٌ لله (جلّ ثناؤه) أيضاً . والصبر ليس ‏مقاومة وحسب , إنّما هو مبادرةٌ للقتال ضدَّ جنود الضلال والتضليل أحياناً . والصبر ليس إمساكاً للنفس عن اقتراف المعاصي وحسب , إنّما هو أيضاً نهوضٌ وعزم على‏ عمل الخير وإتمامه بنيّةٍ سليمةٍ صالحة ؛ فهو مقيّدٌ بقوله تعالى :‏ {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد : 22] .
ومن هنا يتمايز الصابرون ؛ فمنهم‏ من يتصبّر لوجه الناس , لا عن إيمانٍ أو رضاً أو تسليمٍ لقضاء الله سبحانه وتعالى‏ , ومنهم من يرجو بصبره نوال ثوابه تبارك وتعالى‏ , أو يتحاشى‏ به عقاباً , ولكن منهم مَن يصبر طاعةً لله (جلّ وعلا) , وحبّاً ورضاً وتسليماً لأمره (عزّ وجلّ) , فلا يشكو ولا يضجر ولا يعترض .
والصبر درجات وأنواع , منه صبر العوامّ على‏ وجه التجلّد , وهو لا ثواب عليه ؛ إذ لا يكون لله , ومنه صبر الزهّاد والعبّاد لتوقّع ثواب الآخرة وخشية عقابها , ومنه صبر العارفين الذين يتلذّذون بالمكروه ؛ لأنّه من عند المحبوب الله (جلّ جلاله) ؛ إذ خصّهم به دون الناس فصاروا ملحوظين بشرف نظرته سبحانه , وموعودين بطيّب بشارته , {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة : 155 - 157] .
والإمام الحسين (عليه السّلام) قد أخلص النيّة لله (عزّ شأنه) , وسلّم له أمره , وصبر أيَّ صبر ... حتّى‏ قال في زيارته حفيدُه الإمام المهديّ (عليه السّلام) : (( وجاهدت في الله حقَّ الجهاد , وكنت لله طائعاً , ولجدّك محمدٍ (صلّى‏ الله عليه وآله) تابعاً , ولقول أبيك سامعاً , وإلى‏ وصيّة أخيك مسارعاً , ولعماد الدين رافعاً , وللطغيان قامعاً , وللطُّغاة مقارعاً , وللاُمّة ناصحاً , وفي غمرات الموت سابحاً , وللفسّاق مكافحاً , وبحجج الله قائماً , وللإسلام والمسلمين راحماً , وللحقّ ناصراً , وعند البلاء صابراً ... ))(5) .
فصبر الحسين (سلام الله عليه) كان جهداً وجهاداً ومجاهدة , وكان معبّراً عن الطاعة المطلقة الخالصة لله سبحانه وتعالى‏ , وعن الشجاعة المذهلة . فالصبر مع أنّه إمساكٌ للنفس عن الجزع هو ثباتٌ على‏ قدم الشجاعة , قال الإمام عليّ (عليه السّلام) في مجمل غرر حكمه ودرر كلِمِه : (( الشجاعة صبر ساعة (6) . الصبر شجاعة ))(7) .
وقيل للحسن بن عليّ (عليه السّلام) : ما الشجاعة ؟
فقال : (( موافقة الأقران , والصبر عند الطعان ))(8) .
ولقد صبر الإمام الحسين (سلام الله عليه) على‏ الطاعات الطويلة , وعن المعاصي الثقيلة , وعلى‏ مصائبَ جمّة , إلاّ أن تُهتك حرماتُ الدين وتهان كرامة المسلمين فذلك ما لم يصبر عليه . وله في جدّه رسول الله المصطفى‏ (صلّى‏ الله عليه وآله) اُسوة ؛ حيث وقف يوماً فقال : (( قد صبرتُ في نفسي وأهلي وعِرضي , ولا صبر لي على‏ ذكر إلهي ))(9) . فأنزل الله (عزّ وجلّ) : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه : 130].
وصبر الإمام الحسين (عليه السّلام) صبر الحكماء العقلاء حتّى‏ كانت نهضته في موقعها المناسب مكاناً وزماناً ؛ فصبر لله , وقام لله (جلّ وعلا) . وقد كتب إلى‏ أخيه (محمّد بن الحنفيّة) : (( فمن قبِلني بقبول الحقّ فالله أولى‏ بالحقّ , ومَن ردَّ عَلَيَّ هذا أصبر حتّى‏ يقضيَ الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين ))(10) . حتّى‏ إذا استوجب الأمر أن يصبر على‏ المسير قام (عليه السّلام)‏ صابراً كما انتظر صابراً ؛ فذهب إلى‏ مكّة ووقف هناك يقول للناس خاطباً : (( ألاَ ومَن كان فينا باذلاً مهجتَه , موطّناً على‏ لقاء الله نفسَه , فلْيرحل معنا ؛ فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله ))(11) .
واعترضه في الطريق (أبو الهرم) وسأله : يابن رسول الله , ما الذي أخرجك عن حرَم جدّك ؟
فأجابه (عليه السّلام) : (( يا أبا هرم , إنَّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت , وأخذوا مالي فصبرت , وطلبوا دمي فهربت ... ))(12) .
أمّا الذي لم‏ يصبر عليه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) , وهو الغيور , فهو أن يرى‏ بني اُميّة ينزون على‏ منبر رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ؛ يحرّفون الكلم عن مواضعه , ويحكمون بما لم يُنزل الله به كتاباً , ويذلّون عباد الله , ويهينون أولياء الله , ويعودون بالناس القهقرى‏ إلى‏ الجاهليّة الاُولى‏ , ويهلكون الحرث والنسل , ويشيعون الفساد والإفساد , ويسلبون الأموال , ويقتلون الرجال , ويهتكون الأعراض .
فوقف يعلنها ثورةً دونها الأبدان والأنفس والدماء , فقال خاطباً : (( ألاَ ترون إلى‏ الحقّ لا يُعمَل به , وإلى‏ الباطل لا يُتناهى‏ عنه ؟! ليرغب المؤمنُ في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى‏ الموت إلاّ سعادة , والحياةَ مع الظالمين إلاّ برَماً ))(13) .
وأيّ صبرٍ هذا حينما يقْدم المرء على‏ الموت , يرفع إليه قدميه مقْبلاً عليه , راغباً فيه , يراه السعادةَ بعينها ؛ ذلك لأنّه لا يستطيع الصبر على‏ ظلم الظالمين , ولا يقوى‏ أن يرى‏ كيف تُهتك مقدّسات الدين !
فصبرَ الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما كلّفه الله بالصمت , وصبر أيضاً حينما كلّفه سبحانه وتعالى‏ بالسفر إلى‏ كربلاء , وصبر في كلّ موقف بما يقتضيه حكم الله (عزّ وجلّ) . ولم يُعرف منه أنّه ضعف في موقفٍ أو حالة , بل كان إذا حدّث الخصوم يريد لهم النصيحة في الله لا إنقاذَ نفسه من سيوفهم , وهو الذي قالها في مكّة على‏ مسامع الملأ : (( كأنّي بأوصالي تتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء , فيملأن منّي أكراشاً جُوفاً , وأجربةً سُغباً . لا محيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم ))(14) .
ولم يقف الحسين (سلام الله عليه) يطلب الحياة من الغدرَة يريد أن يؤجّل بطلبه أجلاً هو يعلمه , حاشاه وهو القائل لاُمّ سلمة (رضوان الله عليها) : (( إنّي أعلم اليومَ الذي اُقتل فيه , والساعةَ التي اُقتل فيها , وأعلم مَن يُقتل من أهل بيتي وأصحابي . أتظنّين أنّك علمتِ ما لم أعلمْه ؟! وهل من الموت بُدّ ؟! فإن لم‏ أذهب اليوم ذهبتُ غداً )) .
وقال لابن الزبير : (( لو كنتُ في جُحْر هامةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى‏ يقضوا فيَّ حاجتهم )) .
وقال لعبد الله بن جعفر : (( إنّي رأيت رسول الله في المنام وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له )) .
وفي بطن العقبة قال لمَن معه : (( ما أراني إلاّ مقتولاً ؛ فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني , وأشدُّها علَيَّ كلبٌ أبقع ))(15) .
ويفسّر هذا ما أورده المتّقي الهنديّ في (كنز العمّال)(16) , عن محمّد بن‏ عمرو بن حسين قال : كنّا مع الحسين (عليه السّلام) بنهر كربلاء , فنظر إلى‏ شمر بن ذي الجوشن فقال : (( صدق الله ورسوله , قال رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) : كأنّي أنظرُ إلى‏ كلبٍ أبقع يلغ في دماء أهل بيتي )) . وكان شمر أبرص(17) .
وقد أجاد في وصفه الشاعرُ المسيحيّ (پولس سلامة) في إحدى قصائده التي حواها ديوانه (عيد الغدير) , حيث قال :
أبرصاً كان ثعلبيَّ السِماتِ‏ أصغر الوجهِ أحمرَ الشعَراتِ‏
ناتئَ الصدغ أعقفَ الأنف‏ مُسْ ـودَّ الثنايا مشوَّهَ القسَماتِ‏
صِيغ من جبهةِ القرود وألو انِ الحرابي وأعينِ الحيّاتِ‏
منتن الريح لو تنفّس في الأس ـحار عاد الصباحُ للظلماتِ‏
يستر الفجرَ أنفُه ويولّي‏ إن يصعّدْ أنفاسَه المنتِناتِ‏
ذلك المسخ لو تصدّى‏ لمر ة ٍ لَشاهتْ صحيفةُ المرآةِ
رعبَ الاُمَّ حين مولده المش ـؤوم والاُمُّ سُحنةُ السَّعَلاةِ
ودعاه (ذو الجوشن) النذل شمر لم يشمّرْ إلاّ عن المُوبِقاتِ‏
لم يحرّك يداً لإتيان خيرٍ فإذا هَمَّ هَمَّ بالسيّئاتِ(18)‏
فالإمام الحسين (عليه السّلام) حاشاه أن يرجو من هؤلاء خيراً , لكنّه التكليفُ يستدعي أن يبلّغ حتّى‏ يقطع على‏ كلّ ذي عذرٍ عذرَه ؛ فيعلّم الجاهل , ويخبر الغائب , وينبّه الغافل , ويضع الحجّة البالغة والمحجّة الناصعة الدامغة أمام أعين الناس . وإلاّ فهو يعلم أنّه مقتول , فلمّا أشار عليه عمرو بن لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى‏ أن ينظر ما يكون عليه حال الناس , قال (عليه السّلام) : (( لن‏ يخفى عَلَيّ الرأي , ولكنْ لا يُغلب على‏ أمر الله , وإنّهم لا يدَعوني حتّى‏ يستخرجوا هذه العلَقَة مِن جوفي ))(19) .
وهذا هو الصبر , ولا ينافيه أن تسحّ عيناه الكريمتان بالدموع الغزيرة في مواقف عديدة ؛ فالبكاء معبّرٌ عن حزن رحمة , وعن رقّةِ قلب , وسخاء عاطفة . وقد عُرف به الأنبياء والمرسلون (صلوات الله عليهم) . يقول أحد الشعراء في اُرجوزةٍ له :
انظر إلى‏ بكاءِ حضرةِ الصفي‏ آدمَ بعد مَخدعٍ وقد خُفي‏
بكاؤُه أيضاً على‏ هابيل في أربعينَ ليلةً قتيلا
أمَا سمعتَ من بكاءِ يوسُفِ‏ في السجن بعد قولهِ المتّصفِ‏
وانظر إلى‏ البكاء من يعقوبه‏ ذَهابَ عينهِ على‏ محبوبه
انظر إلى‏ الحقّ إلى‏ خليلهِ‏ بكاءَه بكاء إسماعيلهِ‏
انظر إلى‏ الخِضر إلى‏ بكائهِ‏ لأجل آلِ الله عن بلائهِ‏
وانظر إلى‏ بكاء حضرة النبي‏ السيّدِ المكرّمِ المنتجَبِ‏
دموع عينيهِ على‏ رُقيّهْ معروفةٌ مشهورةٌ مرويّهْ
انظر إلى‏ بكائه وغمّهِ‏ لابن أبي طالب ابن عمّهِ‏
لجعفر الشهيد عند موتهِ‏ ولابنه الصغيرِ بعدَ فوتهِ‏
لاُمّه الفاطم بنتِ الأسدِ كاُمّه زوجةِ عمٍّ أمجدِ
اسمع بكاءَه على‏ النجاشي‏ سلطانِ حبشانٍ بلا تحاشي‏
انظر إلى‏ دموعه في الحادثهْ لموت إبراهيمَ وابن الحارثهْ
انظر إلى‏ دموعه المطهَّره‏ لذكر اُمّ المؤمنين الطاهره‏
فالحزن والبكاء من طبائع النفس البشريّة , والأنبياء والأولياء أرقُّ الناس عاطفة ؛ فبكى‏ آدم (عليه السّلام) على‏ ولَده هابيل وحزن عليه , وبكى‏ يعقوب (عليه السّلام) على‏ ولده يوسف حتّى‏ ابيضّت عيناه من الحزن , وأمّا المصطفى‏ الأكرم (صلّى‏ الله عليه وآله) ـ وكان الأصبرَ في الشدائد والمصائب , والأثبتَ في النوائب ـ فقد بكى‏ وحزن , ولم يكن ذلك جزعاً من نازلة , أو اعتراضاً على‏ قضاء الله , أو سخطاً على أمره , حاشاه .
في صحيح البخاريّ , عن أنس بن مالك قال : دخلنا مع رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) على‏ أبي سيف القين , [وكان ظئراً لإبراهيم , فأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إبراهيم فقبّله وشمّه] ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم (عليه السّلام) يجود بنفسه , فجعلتْ عينا رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) تذرفان , فقال له عبد الرحمن ‏بن عوف : وأنت يا رسول الله تبكي !
فقال : (( يابن عوف , إنّها رحمة )) . ثمّ أتبعها باُخرى , فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( [إنّ] العين تدمع , والقلب يحزن , ولا نقول إلاّ ما يرضي ربَّنا , وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) .
يقول الشهيد الثاني زين الدين عليّ بن أحمد الجُبعي العاملي (رضوان‏ الله عليه) : اعلم أنَّ البكاء بمجرّده غير منافٍ للصبر ولا للرضا بالقضاء , وإنّما هو طبيعةٌ بشريّة , وجِبلّةٌ إنسانيّة , ورحمةٌ رحميّة أو حبيبيّة , فلا حرج في إبرازها , ولا ضرر في إخراجها ما لم تشتمل على‏ أحوالٍ تأذن بالسخط , وتنبئ عن الجزع .
والحسين (سلام الله عليه) بكى‏ على‏ مَن قُتل من أهل بيته , وعلى‏ من ظمئ منهم . يقول الشيخ التستري : إنَّ الطبائع البشريّة موجودةٌ فيهم ( في أهل البيت (عليهم السّلام) ) , فيعرضهم الجوع والعطش عند أسبابه , وتحترق قلوبهم لما يرد عليهم .
وقد بكى‏ على‏ ابن أخيه القاسم بن الحسن ـ وهو غلام‏ لم‏ يبلغ الحلم ـ حينما برز إلى‏ الحرب , فاعتنقه حتّى‏ غُشي عليه , وبكى‏ على‏ ولده عليٍّ الأكبر حين برز إلى‏ الميدان , وحين استُشهد , وبكى‏ على‏ أخيه العبّاس حين وجَده قطيعَ اليدين , مُطفأ العينين ؛ واحدةٌ قد نبت فيها السهم , والاُخرى‏ قد جمد عليها الدم , والرأس مفضوخٌ بعمودٍ قد نثر دِماغه على‏ كتفَيه , والسهام تجمّعت على‏ بدنه الشريف .
وهنا نقف على‏ صبر الإمام الحسين (عليه السّلام) في خصائصه ؛ فالصبر الحسينيّ امتاز عن غيره , وتفرّد في أحايين كثيرة , فلنتأمّل في ذلك :
الخصّيصة الاُولى‏
إنَّ الصبر عادةً تُعرف درجته من خلال عظم المصيبة وشدّة الموقف ؛ فمَن صبر على‏ فقد مال غيرُ مَن صبر على‏ فقد الولد , ومَن صبر على‏ نازلة الموت وهو على‏ فراشه يحيط به أبناؤه وأهله غيرُ مَن صبر على‏ القتل الفضيع في ساحة المعركة وأهلُ بيته ينظر إليهم أشلاءَ ضحايا , مجزَّرين على‏ صعيد المنايا , ويرى‏ مصارع الشهداء من عشيرته , وأبنائه وإخوته , وأصحابه وبني عمومته . ومَن صبر على‏ تكليف إبلاغ الحقّ غيرُ مَن صبر على‏ القتال دونه .
ولقد خُصّ الصبر الحسينيّ بأنّه كان على‏ أمرٍ عظيم , وتكليف جسيم , وقضيّةٍ مهولة , ومسؤوليّةٍ تأريخيّة تنوء بها الجبال , ويتعيّن بها شأن الدين والاُمّة . يقول الشيخ جعفر التستريّ : قد اختُصَّ ( الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ) بخصوصيّةٍ في الجهاد ؛ فاُمر بجهادٍ خاصٍّ في أحكامه لم يؤمَر به أحدٌ قبله بالنسبة إلى‏ أحكامه , وذلك من وجوه :
الأوّل : من شرائط الجهاد في أوّل الأمر أن يكون الواحد بعشرة لا بأزيد , فيلزم ثبات كلّ واحد في مقابل عشرٍ من الكفار . ثمّ خفّف الله عنهم وعلم أنَّ فيهم ضعفاً , فجعل شرط الوجوب أن يكون الواحد باثنين ؛ فإذا كان عدد العدوّ زائداً على‏ المئة بالنسبة إلى‏ العشرة بعد نسخ الأوّل لم يجب الجهاد . ولكن قد كتب عليه ( أي الإمام الحسين (عليه السّلام) ) مقاتلته وحده في مقابل ثلاثين ألفاً أو أزيد .
الثاني : لا جهاد على‏ الصبيان , ولا على‏ الهِمِّ وهو الشيخ الكبير . وقد شُرّع الجهاد في واقعته على‏ الصبيان مثل القاسم , وابن العجوز , بل مثل عبد الله بن الحسن , وعلى‏ الشيخ الكبير كحبيب ‏بن مظاهر .
الثالث : أن لا يظنّ الهلاك , وهناك قد علم (عليه السّلام) بأنّه يُقتل , فقال لأصحابه : (( أشهد أنّكم تُقتلون جميعاً , ولا ينجو أحدٌ منكم إلاّ ولدي عليّ )) , أي السجّاد زين العابدين (عليه السّلام) .
ثمّ إنّهم (أي أعداؤه) قد خالفوا في السلوك معه أحكام السلوك التي جعل الله للكفّار حين الجهاد , وهي كثيرة :
ـ منها : في الشهر الحرام , ولكن حيث قاتلوه فيه قاتلهم فيه .
ـ ومنها : أن لا يُقتل فيه صبيّ ولا امرأة من الكفّار , وقد قتلوا ( أي أعداء الحسين (عليه السّلام) ) منه صبياناً , بل رضعاناً ؛ فرضيعٌ حين أراد تقبيله , ورضيعٌ حين أراد منهم سقيَه .
ـ ومنها : أن لا يُحرَق زرعُهم (أي مِن قِبل الكفّار) , وقد حُرق بعضُ خيامه (عليه السّلام) حين حياته , وأرادوا حرقها مع مَن فيها , وحرقوها بعد قتله .
ـ ومنها : أن لا يهجموا دفعةً ....
ثمّ يقول مضيفاً : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له (عليه السّلام) من ذلك قسمٌ لم يكلَّف به غيره ؛ فإنّه كُلّف به مع العلم بالضرر , له كيفيّات ... .
كلّ هذه التكاليف , والمصاعب والأتعاب , والهموم والآلام , والمصائب والفجائع , والحسين (عليه السّلام) صبر ولم يهن ولم يضعف , ولم ‏يشكّ ولم ‏يخفّف على‏ نفسه طاعةً لله (جلّ وعلا) , فأيُّ صبرٍ ذاك !
الخصّيصة الثانية
قد يصبر المرء ولكن على‏ ذلّةٍ وهوان , أو يرى‏ الصبر في السكوت والقعود , والتنحّي عن ساحة الصراع المرير . وقد رأينا بعض الصحابة والتابعين حينما كُلّفوا بالوقوف في وجه الكفر والظلم اتّخذوا لأنفسهم مساجد ومحاريب , أو صوامع يتعبّدون فيها ؛ فتطير أخبار صلاحهم في البلدان , ويأمنون بعد ذلك سطوة السلطان . فلا يُعرَفون إلاّ بالزهد وعناء العبادة وترك الدنيا , في حين أنَّ زهدهم لم‏ يكن بالأموال , بل زهدوا بالثواب العظيم , وأنَّ عبادتهم تلك كانت معاصيَ ؛ إذ لم‏ يكلّفهم بها الله تعالى‏ , إنّما كلّفهم بالكلمة الحقّة العادلة في وجه السلطان الظالم الجائر , فتركوا ذلك ولم يأتمروا , وعصوا الله , والعبادة هي الطاعة .
كذا لم يكن مكثهم في المساجد والمحاريب تعبيراً عن ترك حبّ الدنيا , بل كان تعبيراً عن حبّ الدنيا ؛ لأنّهم حين قبعوا في زواياهم تلك أرادوا الحفاظ على‏ أنفسهم , والإبقاء على‏ حياتهم ودنياهم وإن مات الدين وسُحقت كرامة المسلمين . لكنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) كان ممّن عُرف بصبره على‏ طاعة الله , وفي الوقت ذاته عُرف بصبره عن معصية الله , وكان الانزواء في تلك المرحلة التأريخيّة من أكبر المعاصي ؛ إذ يمكّن الكفرَ من الشريعة , ويمكّن الطغاةَ من رقاب الناس .
وكان من صبر الحسين (صلوات الله عليه) أن اقتحم ساحة المواجهة ضدّ رؤوس الضلال والفساد والظلم , وجابه الطواغيتَ بجميع صورهم وقواهم , وعرّض نفسه المقدّسة للصعاب من أجل إنقاذ الرسالة الإسلاميّة والاُمّة الإسلاميّة ؛ فبهجومه هجم على‏ كلّ انحراف , وببريق سيفه كشف كلّ حقيقة , وبنهضته نبّه كلَّ غافل ونائم ؛ فكان صبره متحلّياً بالإباء لا بالخنوع , وبالوعي والعزّة لا بالانزواء والخضوع .
وقد شهدت له ساحة الطفّ أنّه الصبور ؛ فمع قلّة العدد , وخذلان الناصر , وكثرة العدوّ , وشدّة الموقف , وذلك العطش القاتل , وحراجة الحال , وسوء حال العيال من الأرامل واليتامى‏ والأطفال , هجم الحسين (عليه السّلام) على‏ أعدائه المتجمّعين آلافاً متراصّةً فشتّتهم , وكرّ عليهم فكشفهم مرّات , وسيفه المنتضى‏ يقرأ على مسامع الأوباش خطب العزّة والكرامة والإباء , والشجاعة والصبر والفداء .
طمِعت أن تسومه القوم ضيم وأبى الله والحسامُ الصنيعُ‏
كيف يلوي على‏ الدنيّة جِيد لِسوى‏ الله ما لواه الخضوعُ‏
ولديه جأشٌ أردُّ من الدرْ ع لظمأى‏ القنا وهُنَّ شروعُ‏
وبه يرجع الحفاظ لصدرٍ ضاقت الأرضُ وهي فيه تضيعُ‏
فأبى‏ أن يعيش إلاّ عزيز أو تجلَّى‏ الكفاحُ وهو صريعُ‏
فتلقّى‏ الجموع فرداً ولكن‏ كلُّ عضوٍ في الرَّوع منه جُموعُ‏
رمحُه مِن بَنانهِ وكأنْ مِن‏ عزمهِ حدُّ سيفه مطبوعُ‏
زوّجَ السيفَ بالنفوس ولكن‏ مهرُها الموت والخضابُ النجيعُ‏
بأبي كالئاً على‏ الطفّ خدر هو في شفرة الحسام منيعُ(20)
فأيُّ صبرٍ هذا في موقف كذاك !
الخصّيصة الثالثة
إنَّ أشدَّ الشجعان صبراً لا يقْدم على‏ ساحةٍ يتأكّد أنّه مقتول عليها , إنّما يخطو إلى‏ معركةٍ يتفاءل فيها بالنصر أو يحتمله ولو قليلاً على‏ أقلّ الفروض . أمّا أن يقْدم مبارزٌ على‏ معركةٍ لا يتفاءل بها إلاّ بالشهادة , ولا يرى‏ إلاّ أنّه مقتول هو وأهل بيته , ثمّ يخطو بحزم , ويتقدّم بعزم , فذلك هو الصبر في أعلى‏ درجاته .
لمّا عزم الحسين (عليه السّلام) على‏ الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة (رضي الله عنها) , فقالت : يا بنيَّ , لا تُحزنّي بخروجك إلى العراق ؛ فإنّي سمعت جدَّك يقول : (( يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق , في أرضٍ يقال لها : كربلا )) .
فقال لها : (( يا اُمّاه , وأنا والله أعلم ذلك , وإنّي مقتولٌ لا محالة , وليس لي من هذا بدّ , وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه , وأعرف مَن يقتلني , وأعرف البقعة التي اُدفن فيها , وإنّي أعرف مَن يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي , وإن أردتِ يا اُمّاه اُريك حفرتي ومضجعي )) .
ثمّ أشار (عليه السّلام) إلى‏ جهة كربلاء , فانخفضت الأرض حتّى‏ أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره , وموقفه ومشهده , فعند ذلك بكت اُمُّ سلمة بكاءً شديداً , وسلّمت أمرَه إلى‏ الله , فقال لها : (( يا اُمّاه , قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً , وقد شاء أن يرى‏ حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين , وأطفالي مذبوحين مظلومين , مأسورين مقيّدين , وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً )) .
وقد نقلتْ لنا كتب الحديث عشرات الروايات من عشرات المصادر عن طرقٍ عديدة لجميع المذاهب الإسلاميّة في شأن إخبار الله تعالى‏ أنبياءه ونبيّنا (صلوات ‏الله عليهم) بشهادة الحسين (عليه السّلام) , وإخبار الرسول وأمير المؤمنين والحسن (عليهم السّلام) بشهادته (عليه السّلام) , ما يجتمع لها كتابٌ كبير .
فإنْ يقْدم الرجل على‏ موتٍ محقّق , وقتلٍ مؤكّد ثمّ لا يهتزّ ولا يتردّد فذلك هو الصبر في أرسخ مواقفه وأشمخ وقفاته . وأن يتقدّم الرجل إلى‏ ساحةٍ رهيبةٍ يعلم يقيناً أنَّ فيها مصرعه فتلك هي الشجاعة في أبهى‏ صورها وأعزّ أوصافها . وتلك هي الصلابة الحسينيّة , وذلك هو ربط الجأش وشدّة العزيمة , وليست ‏الشجاعة الحقيقيّة عند من دخل معركة يحتمل فيها النصر والغلبة , ويتوقّع الخروج منها سالماً غانماً .
إنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) تقدّم لا يعبأ بالموت ؛ إذ كان أصبر عليه في طاعة الله وسبيله من الحياة الذليلة مع الظالمين , بل كان الإمام الحسين (صلوات ‏الله عليه) وهو القائل : (( وأيم الله , ليقتلوني )) , يجد أنَّ في الحياة موتاً , وأنَّ في الموت حياة إذا كان العيش ذلّة , والموت بعد جهادٍ شرفاً وعزّة . وقد أثبت الإمام الحسين (عليه السّلام) ذلك بصبره , ولله درُّ القائل فيه :
وجدَ الردى‏ في العزّ عينَ حياتهِ‏ ورأى‏ مع الذُّلِّ الحياةَ مَماتا
ما مات بل غنم الحياةَ مشيَّعٌ‏ تحت الصوارمِ والأسنّةِ ماتا
وكذا لله درّ القائل فيه (عليه السّلام) :
نفسي الفداءُ لسيّدٍ خانت مواثقَه الرعيّهْ‏
رامت اُميّةُ ذُلَّه‏ بالسِلم لا عزّت اُميّهْ‏
حاشاه مِن خوف المنيّ ـة والركونِ إلى‏ الدنيّهْ‏
فأبى‏ إباءَ الاُسْد مخ ـتاراً على‏ الذُلِّ المنيّهْ ‏
وأجاد الاُستاذ أحمد حسن لطفي في كلمته : إنَّ الموت الذي كان ينشده ( الحسين (عليه السّلام) ) فيها كان يمثّل في نظره مُثُلاً أروع من كلّ مثُل الحياة ؛ لأنّه الطريق إلى‏ الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهى‏ ؛ لأنّه السبيل إلى‏ الانتصار وإلى‏ الخلود , فأعظم بطل ينتصر بالموت على‏ الموت .
الخصّيصة الرابعة
إنَّ من مقامات الصبر الرضا بالمقدّر , والرضا‏ بقضاء الله تبارك وتعالى‏ , وهذه هي درجة الزاهدين . جاء عن رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) أنّه قال : (( إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه ؛ فإن صبر اجتباه , وإن رضي اصطفاه )) .
ومن مقامات الصبر صبر الصدّيقين الذين يحبّون ما يصنع به مولاهم ؛ يرضون ويبتهجون ويتلذّذون بورود المكروه من الله سبحانه , ويعتبرون ذلك التفاتاً من المحبوب , وكلُّ ما يفعله المحبوب محبوب .
نزل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في منزل شقوق في مسيره إلى‏ كربلاء , فأتاه رجلٌ من العراق فسأله , فأخبره بحاله , ثمّ قال (عليه السّلام) : (( إنَّ الأمر لله يفعل ما يشاء , وربُّنا تبارك كلَّ يومٍ هو في شأن ؛ فإن نزل القضاء فالحمد لله على‏ نعمائه , وهو المستعان على أداء الشكر ... )) , ثمّ أنشد :
فإن تكنِ الدنيا تُعدّ نفيسةً فدارُ ثوابِ الله أعلا وأنبلُ
فكلّ شي‏ءٍ يقضيه الله تعالى‏ خيرٌ ورحمةٌ حتّى‏ الموت , بل حتّى‏ القتل طاعةً له سبحانه . وقد تعجّب الناس كيف استقبل الإمام الحسين (عليه السّلام) ذلك القتل الرهيب بصدرٍ ملؤه الرضا‏ بقضاء الله , والتسليم لأمر الله , وهذه صفةٌ عرفت فيه , وخلقٌ ظهر عليه .
عن إسماعيل بن يحيى‏ المزنيّ قال : سمعت الشافعيّ يقول : مات ابنٌ للحسين (عليه السّلام) فلم يُرَ به كآبة , فعوتب على‏ ذلك فقال : (( إنّا أهل البيت نسأل الله (عزّ وجلّ) فيعطينا , فإذا أراد ما نكره فيما يحبّ رضينا )).
ولمّا سقط الحسين (عليه السّلام) ونالته السهام والسيوف والرماح ما نالته , قال هلال بن نافع : كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه , فو الله ما رأيت قتيلاً قطُّ مضمَّخاً بدمه أحسنَ منه وجهاً ولا أنور ! ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله.
ولمّا اشتدّ به الحال , رفع طرفه إلى‏ السماء وقال : (( اللّهمّ متعالي المكان , عظيمُ الجبروت , شديد المحال , غنيٌّ عن الخلائق , عريض الكبرياء , قادر على‏ ما تشاء , قريبُ الرحمة , صادق الوعد , سابق النعمة , حسَن البلاء , قريبٌ إذا دعيت , محيطٌ بما خلقت , قابل التوبة لمَن تاب إليك , قادر على‏ ما أردت , ومدرك ما طلبت , شكورٌ إذا شُكرت , ذكورٌ إذا ذُكرت . أدعوك محتاجاً , وأرغب إليك فقيراً , وأفزع إليك خائفاً , وأبكي إليك مكروباً , وأستعين بك ضعيفاً , وأتوكّل عليك كافياً .
اللّهمّ احكم بيننا وبين قومنا ؛ فإنّهم غرّونا وخذلونا , وغدروا بنا وقتلونا , ونحن عترةُ نبيّك , وولْدُ حبيبك محمّدٍ (صلّى‏ الله عليه وآله) الذي اصطفيته بالرسالة , وائتمنتَه على‏ الوحي , فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين .
صبراً على‏ قضائك يا ربّ , لا إله سواك يا غياثَ المستغيثين , ما لي‏ ربٌّ سواك , ولا معبود غيرك . صبراً على‏ حكمك يا غياث مَن لا غياث له , يا دائماً لا نفاد له , يا محييَ الموتى‏ , يا قائماً على‏ كلِّ نفسٍ بما كسبت , احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين )) .
وهذا هو التسليم لله (جلّ وعلا) , وعين الرضا‏ بقضائه وإن كان قتلاً مؤلماً , وذلك هو الصبر الذي دونه كلُّ صبر , ومَن يقوى‏ أو يثبت على‏ موقف كهذا ؟!
فإن يك إسماعيلُ أسلمَ نفسَه‏ إلى‏ الذبحِ في حِجر الذي هو راحمُهْ‏
فعاد ذبيحُ الله حقّاً ولم تكنْ‏ تصافحُه بيضُ الظُّبا‏ وتسالمُه‏ْ
فإنَّ حسيناً أسلَم النفسَ صابر على الذبح في سيفِ الذي هو ظالمُهْ‏
ومِن دون دين الله جاد بنفسِه‏ وكلّ نفيسٍ كي تُشاد دعائمُهْ‏
ورضّت قراه العادياتُ وصدرَه‏ وسِيقت على‏ عُجف المطايا كرائمُهْ
الخصّيصة الخامسة
إنَّ الصبور ـ مهما صبر ـ قد لا يُوفَّق أن يقضي عمره وهو راسخ القدمين على‏ ساحة الصبر , فلا بدّ أن يعتريه الوهن والضعف , والضجر والملل , والتأفّف والتضجّر في موقفٍ ما , أو في حالةٍ عصيبةٍ لا تتحمّلها نفسه .
أمّا أن يبدأ بالصبر , ويواصل حياته على‏ ما فيها من نكبات في صبر , ويختمها في أشدّ المحن بصبر , فذلك عُرف به الحسين (صلوات الله عليه) . وقد كشف الصبرَ الحسينيَّ تلك المصائبُ المهولة , وساحة كربلاء قد ذُهلت من صبر سيّد الشهداء وشجاعته . يقول الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ثلاثةٌ لا تُعرف إلاّ في ثلاثة مواطن ؛ لا يُعرف الحليم إلاّ عند الغضب , ولا الشجاع إلاّ عند الحرب , ولا أخٌ إلاّ عند الحاجة ))(21) .
فقد ينجح المرء في دخول الأمر الصعب ولكنّه لا يقوى‏ على‏ المواصلة في التحمّل , وقد يواصل لكنّه لا يستطيع الثبات ؛ فتراه يهتزّ ويسقط . وقد يثبت حيناً لكنّه لا يختم حياته بذلك , والخاتمة هي المعوّل عليه . قال النبيُّ الأعظم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( خير الاُمور خيرها عاقبة(22) . ملاك العمل خواتيمه(23) . الاُمور بتمامها , والأعمال بخواتمها ))(24) .
ولكي نتعرّف على‏ صور مهيبةٍ من صور الصبر الحسينيّ تعالوا نقف عند هذه الواقعة : يقول المؤرّخون بعد ذكر شهادة الأصحاب وأهل بيت
الحسين (عليه السّلام) , وبقائه وحيداً في ساحة المعركة : تقدّم الحسين (عليه السّلام) نحو القوم مصلتاً سيفه , فدعا الناسَ إلى‏ البراز , فلم ‏يزل يقتل كلَّ مَن برز إليه حتّى‏ قتل جمعاً كثيرا .
وبعد أن قتل مقتلةً عظيمة صاح عمرو بن سعد : هذا ابن الأنزع البطين , هذا ابن قتّال العرب , احملوا عليه من كلّ جانب . فصوّبت نحوه أربعة آلاف نبلة , فحمل (عليه السّلام) على‏ الميمنة حملة ليثٍ مغضب , وجراحاته تشخب دماً , ثمّ حمل على‏ الميسرة فتطاير العسكر من بين يديه , واتّجهوا نحو الخيام ... ثمّ ازدحم عليه العسكر , واستحرى‏ القتال وهو يقاتلهم ببأسٍ شديد , وشجاعةٍ لا مثيل لها .
قال عبد الله بن عمّار بن يغوث : فو الله ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتل ولْدُه وأهلُ بيته وصحبه أربطَ جأشاً منه , ولا أمضى‏ جَناناً , ولا أجرأَ مقْدماً ! ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدَّ فيها , ولم يثبت له أحد .
وفي‏ روايةٍ اُخرى‏ : فو الله ما رأيت مكسوراً قطّ قد قُتل ولْده وأهل بيته وأصحابه أربطَ جأشاً ولا أمضى‏ جَناناً منه , ولا أجرأ مقدماً ! والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله ؛ أن كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى‏ إذا شدَّ فيها الذئب .
قال ابن الأثير : المكثور : المغلوب , وهو الذي تتكاثر عليه الناس .
وقال آخر : ولقد كان يحمل فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً , فينهزمون مِن بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر , ثمّ يرجع إلى‏ مركزه وهو يقول : (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم )).
هكذا حتّى‏ غدروا به بالحجارة والسهام من بعيد , فصبر وصابر :
إلى‏ أن أتاه السهمُ مِن كفِّ كافرٍ ألا خاب باريها وضَلَّ المصوِّبِ‏
فخرَّ على‏ وجهِ الترابِ لوجهِه‏ كما خرّ مِن رأس الشناخيب أخشبِ
وأعياه النزف , فجلس على‏ الأرض ينوء برقبته ... لا يرى‏ منه إلاّ الصبر والرضا‏ عن الله تعالى‏ في جميع قضائه .
قال الشيخ التستري : وأمّا صبره (عليه السّلام) كما ورد ؛ ولقد عجِبتْ من صبره ملائكةُ السماوات . فتدبّرْ في أحواله وتصوَّرها حين كان مُلقىً على‏ الثرى‏ في الرمضاء , مجرّحَ الأعضاء بسهامٍ لا تعدُّ ولا تحصى‏ , مفطور الهامة , مكسورَ الجبهة , مرضوضَ الصدر من السهام , مثقوب الصدر بذي الثلاث شعب ؛ سهمٌ في نحره , وسهم في حنكه , وسهمٌ في حلقه .
اللسان مجروحٌ من اللَّوك , والكبِد محترق , والشفاه يابسة من الظمأ , القلب محروقٌ من ملاحظة الشهداء في أطرافه , ومكسورٌ من ملاحظة العيال في الطرف الآخر , الكفُّ مقطوعٌ من ضربة زرعة بن شريك , والرمح في الخاصرة , مخضّب اللحية والرأس , يسمع صوتَ‏ الاستغاثات من عياله , والشماتات من أعدائه , بل الشتم والاستخفاف من الأطراف , ويرى‏ بعينه إذا فتحها القتلى‏ الموضوعة بعضها على‏ بعض , ومع ذلك كلّه لم يتأوّه في ذلك الوقت , ولم تقطر من عينه قطرة دمع , وإنّما قال : (( صبراً على‏ قضائك , لا معبودَ سواك يا غياث المستغيثين )) . وفي الزيارة : (( ولقد عجبتْ من صبرك ملائكة السماوات )) .
وروي عن السجّاد (عليه السّلام) : (( كلّما كان يشتدّ الأمر كان يشرق لونه , وتطمئنُّ جوارحه , فقال بعضهم : انظروا كيف لا يبالي بالموت ؟! )) .
ــــــــــــــــــ
(1) اُصول الكافي 2 / 91 ح 15 , باب الصبر .
(2) الكافي 2 / 91 ح 11 .
(3) نهج البلاغة ـ قصار الحكم / 55 .
(4) نهج البلاغة ـ الحكمة 31 .
(5) زيارة الناحية المقدّسة , المزار ـ للشيخ محمّد ابن المشهدي / 501 .
(6) بحار الأنوار 78 / 11 , عن مطالب السؤول .
(7) تحف العقول / 143 .
(8) تحف العقول / 163 .
(9) الكافي 2 / 88 ح 3 ـ باب الصبر .
(10) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 188 .
(11) اللهوف / 53 .
(12) اللهوف / 62 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 226 .
(13) تاريخ الطبريّ 7 / 300 , وغيره كثير .
(14) اللهوف / 53 .
(15) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للسيّد عبد الرزّاق المقرّم الموسويّ / 65 .
(16) ج 7 / 110 .
(17) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) .
(18) عيد الغدير / 287 ـ 288 .
(19) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للمقرّم / 65 .
(20) الدرّ النضيد / 212 ـ 213 , والقصيدة للسيّد حيدر الحلّيّ .
(21) بحار الأنوار 78 / 229 , عن تحف العقول / 233 .
(22) أمالي الصدوق / 292 .
(23) الاختصاص / 342 .
(24) بحار الأنوار 77 / 165 , عن غوالي اللآلي 1 / 289 .