ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

[من خصائص ومناقب وفضائل الحسين : ]
1- علمُ الإمام الحسين (عليه السلام)‏
إنَّ ما نعرفه و يشهد له تاريخ و سيرة النبي الاعظم و الائمة الاطهار عليهم السلام، هو أنَّ علمهم و معارفهم هي مواهب الهية و لم يتتلمذوا على‏ يد احد و لم يدخلوا في ايِّ مكتبة و مدرسة.
فالنبي الاكرم كان يتلقى‏ العلم من المصدر الالهي و صار مصدراً لكل هذه المعارف و العلوم و الشرائع المحكمة.
لقد فتح النبي (صلى الله عليه و آله) مدرسة بقيت لاربعة عشر قرناً يفتخر الفلاسفة و العلماء الكبار بتلقي دروسها، و ينتقون من معارفها و ينهلون من فيوضاتها و يجرعون من كاسات علومها الحقّة.
و كذلك معارف و علوم علي (عليه السلام) و سائر الائمة، فهي افاضات ربّانية و هبات الهية و علوم محمّدية استقوها من النبي المصطفى‏ (صلى الله عليه و آله).
فايُّ مدرسة في تلك الفترات المظلمة يمكنها ان تخرِّج مثل هؤلاء الافذاذ، ليكونوا اساتذة العالمين في كل فنون العلم حتى‏ في زمن صباهم و طفولتهم، و يكونوا مراجعَ لكبار المراجع في المسائل العلمية الدقيقة، و حلّالي عويصات المشكلات الفلسفية و الفقهية عند كبار العلماء و الفلاسفة؟
انها المدرسة السماوية فقط، التي من شأنها تخريج هؤلاء الاساتذة.
إنَّ الاحاديث المعتبرة تدلّ على‏ انَّ النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله) قد علَّم علياً و ابناءه عليهم السلام علوماً خاصة، و انه أملى‏ على‏ عليٍّ (عليه السلام) كتاباً كتبه عليٌ بيمينه، كان و لازال محفوظا في هذا البيت، كمرجع و مستندٍ يرجعون اليه، و في الحقيقة انَّ برامج و تعليمات الائمة عليهم السلام و سيرتهم و اسلوبهم هو اكمال و تتميم اهداف النبي في تربية المجتمع البشري و هدايته.
و من مثل حديث الثقلين المتواتر و المشهور، و الذي ارجع النبيُّ فيه الامّة الى‏ هؤلاء الاطهار، تتجلى‏ لنا صلاحيتهم العلمية التامّة و تظهر و تتضح لياقتهم و اهليتهم لهذا المقام.
اضف الى‏ ذلك الروايات الكثيرة الواردة بطرق اهل السِنَّة و الدّالة على‏ تميُّز علي (عليه السلام) من بين سائر اصحاب النبي (صلى الله عليه و آله) في اهتمام الرسول به، و تلقّيه المعارف و العلوم و الفيوضات النبوية، فحقَّ له ان يكون المرجع العام للمسلمين في المسائل‏
العلمية و العلوم الشرعية، و كان الكلَّ منتهياً اليه في معرفته.
لقد كان عليُّ (عليه السلام) أعلم الصحابة، و كان علم الصحابة مجتمعين لا يساوي شيئاً في قبال علم علي (عليه السلام)، و كان الكل محتاجاً لعليِّ و كان عليُّ مستغنٍ عن الجميع.
فعليُّ (عليه السلام)، و مضافاً الى‏ استعداداته الخاصة و مواهبه الالهية التي لم يُشاركه فيها احدٌ من الصحابة، حتى‏ صار حلّال المشكلات في عهود الخلفاء الثلاثة، و الممتاز في فهم و درك الاحكام و المعارف و العلوم الغامضة و المسائل المشكلة و حقائق الوحي و كليّات القواعد الدينية، كان اختصاص النبي و تفرّده به، له الاثر الكبير في تربية عليّ و صياغته علمياً و روحياً، فطالما كان علي ينهل العلم من محمد (صلى الله عليه و آله)، و قد شرح اللَّه صدره الى‏ درجة انه تمكن من فتح الف باب من العلم من باب واحد تعلّمه من رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله).
لقد كان تتلمُذُ عليٍّ (عليه السلام) على‏ يد النبي (صلى الله عليه و آله) تتلمذاً خاصاً لا نظير له، فصار علي نسخة مطابقة للأصل.
و لذا، فصورة النظام الإسلامي، كلها واضحة و متجلّيةٌ في سلوك عليٍّ و سيرته و متجسمةٌ في فعاله و اقواله.
و من بعد عليِّ (عليه السلام) اختص ولداه الحسن والحسين (عليهما السلام) بهذا المنصب الالهي و القيادة العلمية و الدينية، فكانا الملاذ و الملجأ للناس في المسائل الإسلامية و علوم التفسير و الاحكام الشرعية، فكان خطابهم هو الفيصل المقبول عند الناس، و كانت سيرتهم و سلوكهم هما الميزان و النموذج الذي يُحتذى‏ به.
فاذا ما أمعنت النظر في حالات الإمام الحسين (عليه السلام) و جدته مقتفياً لأثر بصيرة نافذةٍ و منهجٍ غيبي، فعلمه و احتجاجاته مع خصوم اهل البيت، خاصة معاوية و مروان، و الكتب التي تبادلها مع معاوية، و خطبه التي القاها بمناسبات مختلفة، و دعاؤه يوم عرفة و ادعيته الاخرى‏ المنقولة في كتب المسلمين عامة، خير دليلٍ على‏ هذا المدّعى‏.
و ما أثر عنه في توديعه للصحابي الجليل ابي ذر- الذي كان من أجلّة صحابة النبي و من السابقين، حيث ذكر ابن الاثير و في أسد الغابة إنَّ اباذر كان خامسَ من إعتَنق الإسلام و عدَّ الكثير من مناقبه عندما نفاه عثمان الى‏ الربذة بعد ان طرده معاوية من الشام، و كان الحسين (عليه السلام) في جملة من شيَّعه و ودعه و هم الإمام علي و الحسن و عمّار و عقيل، قال الحسين (عليه السلام) لابي ذر: «يا عمّاهُ إنَّ اللّهَ قادرٌ عَلى‏ أنْ يُغَيِّر ما قَدْ تَرى‏، و اللّه كلَّ يَومٍ في شأنٍ، و قد مَنَعَكَ القومُ دُنْياهُمْ وَ مَنَعْتَهُم دينَك، و ما أغناك عمّا منعوكَ، و أحْوَجَهُم الى‏ ما مَنَعَتَهُمْ، فاسْأَلْ اللّهَ الصَبْرَ و النّصْرَ و استعِذ بِهِ مِنَ الجَشَع و الجَزعِ فانَّ الصَّبرَ مِن الدِّين و الكَرَمِ، و انَّ الجَشَعَ لا يُقدِّمُ رزقاً و لا يُؤَخّرُ أجَلًا»
و هذه الكلمات قالها الإمام الحسين (عليه السلام) مرتجلًا و كان يومئذٍ في نحو الثلاثين من عمره، يخاطب بها رجلًا مسنّا فاضلًا جليلًا من الصحابة، فكانما أودع هذه الكلمات شعارَ حياته كاملةً منذ ادرك الدنيا الى‏ ان فارقها في مصرعه بكربلاء، و هي تعبِّر عن قدس مقام و روحانية الحسين العالية و علمه و معرفته و غناه و كمال بصيرته.
و روى‏ ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج 4 ص 323 عن نافع بن الازرق رئيس فرقة الازارقة الخوارج حينما قال نافع للامام الحسين (عليه السلام):
صِفْ لي ربّكَ الذي تعبُدْ!
فقال الحسين (عليه السلام): «يا نافِعْ مَنْ وَضَع دينَهُ عَلى‏ القِياس لم يَزَلْ الدّهَرَ في الالتباس مائلًا ناكباً عَنِ المناهج، ظاعناً بالاعْوجاج، ضالًّا عن السَبيل قائِلًا غَيرَ الجميل، يابْنَ الازرق، اصفُ إلهي بما وَصَفَ بِهِ نَفسَهُ، لا يُدرَكَ بالحواسُ و لا يُقاسُ بالنّاسِ قريبٌ غيرَ مُلتَصِقْ و بَعيدٌ غَيْرَ مستقصي يُوَحَّدُ و لا يُبَعَّضْ، معروفٌ بالآيات موصوفٌ بالعَلاماتُ لا إلهَ إلّا هو الكبير المتعال»
فبكى‏ ابن الازرق و قال: «ما أحسَنَ كلامك»
فقال له الحسين (عليه السلام): بلغني انك تشهد بكفري و كفر أبي و أخي!
فقال ابن الازرق: «أمَا و اللَّه يا حُسين لئن كانَ ذلك، لَقَدْ كُنْتُم منارَ الإسلام و نُجومُ الاحكام»
ثم استشهد الحسين (عليه السلام) بقوله تعالى‏: «و أمّا الجدارُ فَكانَ لغُلامَيْنِ يَتيمَيْنِ»
و أتمّ الحجّة عليه.
و كان معاوية اذا اراد ان يبين لجلسائه علم الحسين (عليه السلام) و فضله، يقول: «إذا دَخَلتَ مَسْجِدُ رسولِ اللَّه فرأيت حَلَقَةً فيها قومٌ كأنَّ على‏ رؤوسهم الطَيْرُ، فَتِلكَ حَلَقَةُ أبي عبد اللّهِ، مؤتزراً الى‏ انصاف ساقَيْه»
و يقول العلايلي: «كذلك يظهر المعنى‏ الحي في محل القداسة على‏ المؤمنين الذين ينشرون أشعَّةً من سيمائهم تورث الناظر خَشيةً في اطمئنان، و سكوناً في دعَة، كأنما زَوَت الى‏ قواعدهم. فما أنت بناظرٍ جماعةً في مواضع من المعبد في معالم من الأرض، بل يتداركك حين تنظر كأن الملأ الأعلى‏ تجسَّم و انتشر في أشخاص استعلى بهم أو اعتلوا به فوق دنيا الناس‏ (ما اجتمعَ قومٌ على‏ ذكر اللَّه إلّا حفّت بهم الملائكة و غَشِيَهُم الروح و ذكرهم اللَّه فيمن عنده) و في رواية (في ملأ عنده).
قد تكون كلمةً ساذجةً طَفَحَ بشعورها قلب ساذج، لَو صدرت من غير معاوية الملك، الذي كان يَجمع أسباب السيطرة و الرهبة و القِنْفَخريَّة على‏ نفسه جمعاً ليظهر بكل ذلك غير تارك منها إلّا ما يزيده في مظهر الجبروت قوة.
و أما هي معاوية نفسه فإنها ذات وجه آخر بمعان أخرى‏.، فقد نظر الى‏ الحسين (عليه السلام) من جانبه الذي انزَوَت إليه الدنيا بعظائمها، و توافرت لديه أشياؤها حتى‏ بدا كأنما انجمعت الدنيا في ناحية مكانه، و هذا ما يجعل للكلمة قيمة أخرى‏.
فان معاوية لم تحُل به أُبَّهات الملك عن أن يرى‏ المعنى‏ الالهي في الحسين (عليه السلام) بما له من رَهَبات، تَزَعُ النفس الإنسانيّة الجامحة و تردها رداً عنيفاً الى‏ حدود عُبُوديتها، حتى‏ تُبصِر ما تلبَّس به بُطُلًا من الباطل و آلا من الآل، فتظل مَشدوهةً مأخوذة كالذي يكون مع خاطرة أو فكرة. ثم تنقب قوتها التي اشتقت من طبيعة المبالغة، ضعفاً فيه طبيعة المبالغة.
فكان معاوية ينظر الى‏ نفسه بما أحاطها به من أشياء الدنيا، و الى‏ الحسين (عليه السلام) بما أحاطته به الحقيقة العظمى‏ من أشيائها، فيرى‏ نسبةً كما بين العدم و الوجود، ثم ينظر فيرى‏ في الوجهة المقابلة منبَعَث النور الذي يُعشي فَيبهرَ، و في الوجهة الأخرى‏ متراكم الظلال و مختلط الأشباح و الأوهام.
و هذه ساعة تستيقظ فيها النفس الى‏ حقيقتها، فترى‏ كل شى‏ء على‏ حقيقته، و نِعِمَّا هي كلمة معاوية في جلوة سمابها على‏ دنياه بما جمعت.
و كان الحسين (عليه السلام) اذا برز للناس يتحلَّقون بين يديه صفاً بعد صف حتى‏ يذهب فيهم البصر، و يقعون عليه وقوع الطير في اليوم الحرور على‏ ثمد يتبرَّد به و يَتَصابُّه، و كأنهم بذلك يهربون و لو ساعة من اسر الشهوات و عبودية أنفسهم، ليقولوا كلمة الايمان خالصة بها قلوبهم، كما كان يعبر الصحابة حينما يعرجون الى‏ النبي (صلى الله عليه و آله)‏ «هيّاً بنا لنُؤمِنَ بِربّنا ساعَةً»
و المؤمن مُؤمنٌ في كل الحالات، و لكن الحضور في محضر رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) و حلقة افادة ولده العزيز الحسين، و التذوق من حلاوة الايمان و الاستزادة من العلم و المعرفة، و استشعار عوالم الغيب و جداناً، لا تتيسر دائماً و في كل المحافل و المجامع، يقول ابن كثير: «انَّ الحُسين خَرَجَ و ابنُ الزُبير من المدينة الى‏ مكة و أقاما بها عَكَف الناسُ على‏ الحُسين يفدونَ الَيْه و يُقدمون عليه و يَجلسونَ حواليهِ و يَستمعون كلامَه و يَنتَفِعونَ بمايُسمَعُ منهُ و يضبطون ما يَرْوُونَ عَنْهَ.»
و يقول العلايلي: «و الذي ينبغي أن لا يفوتنا في هذا الخبر، التعبير بكلمة (عكف) و هي تفيد في كل مشتقاتها معنى‏ التعلق و الانقطاع. فما كانت بواحد إلّا الحسين (عليه السلام) رجلًا عُلِّقَه‏ كل الناس عَرَضاً، كأنما هم من ناحية الدنيا يشهدون فيه حقيقة أخرى‏ من عالم الابداع الالهي. فهو إذا نطق كأنما انطلق لسان الغيب يعبر عن رموزه و يكشف عن خفاياه، و إذا صمت كأنما راح الغيب يعبر عن معناه بطريقة أُخرى‏ بلحن آخر، فإن من الحقائق ما لا يعبر عنه إلّا الصمت العميق، كالنقطة في ثنايا السطور، فإنها تعطى معنى‏ لا يقوم إلّا بها، و لا يتم إلّا اذا كانت، و هي بعدُ إشارة سلبية و لكنها تدل على‏ غرض إيجابي؟، أو كقرار النغمة الصامت فإنه جزء من تمام اللحن الناطق.
و في الخبر صورة كاملة لمقام الحسين (عليه السلام)، في زمن لم ينتف من طغيان السلطة و تحامل المتغلب، و لكن أَنَّى‏ للقوة أن تحول بين الإنسان و قلبه، أو بينه و بين ما هو من ضميره، فإن القوة لا تعمل إلا في حدودها، و لا تجد مضاءها إلّا في ملابساتها، و هي كيفما امتدت بأسباب فإنها لا تحيك في مواطن الشعور. و الخبر بعد ذلك يعرفنا بأن الحسين (عليه السلام) كان مكثراً من الحديث و الرواية، و لم يكن كما تشاء بعض كتب الأخبار تصويره بانه كان مقلًا نزر الآثار.»
ثم ينقل العلايلي بعد ذلك، ما رُوي عن الحسين (عليه السلام). و يقول ايضاً: «الأخبار عن الحسين (عليه السلام) في هذا الباب أكثر من أن تحصى‏، و لقد كان يجئ بالمدهشات في الفُتيا و ما إليها من العلم، حتى‏ قال فيه ابن عمر: «إنَّه يُغَرُّ العلم غرَّاً».
فكما ان الطيور تزقّ الطعام زقّاً، فكذلك الحُسين (عليه السلام) زُقَّ العلم زقّاً في بيت النبوة و الولاية، و اغتذى‏ من اصابع علم رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله)، و ارتضع من ثدي معارف الإسلام، فنمى‏ و تربّى‏ على‏ ذلك.
2- عبادة سيد الشهداء (عليه السلام)‏
. روى‏ ابن عبد البر و ابن الاثير عن مصعب بن الزبير انه قال: «كانَ الحُسَينُ فاضِلًا دَيِّناً كثير الصَلوةِ و الصَومِ و الحَجّ.»
و قال عبد اللَّه ابن الزبير في وصف عبادة الحسين (عليه السلام): «لَقَدْ كانَ قَوّاماً باللّيلِ صَوّاماً بالنّهار»
و يقول العقّاد: «و كانَتْ لَهُ صَلوات يؤدّيها غير الصلوات الخَمْس، و ايّام من الشهرِ يَصومُ نَهارها و يقوم ليلها، و لم يفته الحَجّ».
و كان (عليه السلام) يصلّي في اليوم و اللّيلة الفَ ركعة، و حجَّ البيت ماشياً خمس و عشرين حجّة تقادُ معه نجائبه. و هذا دليل كمال عبادته و خضوعه للَّه ‏عزوجل.
و ذات يوم شوهد في احد اركان الكعبة داعياً متوسلًا:
«إلهي نَعَّمتَني فَلَمْ تجدني شاكراً، و إبتليتني فَلَمْ تجدني صابراً، فَلا أنتَ سَلَبّتَ النعمةَ بترك الشكر، و لا أدَمْتَ الشِدَّة بتركِ الصَبْر، إلهي ما يكونُ مِنَ الكريمِ إلّا الكَرمْ» و من اراد الوقوف على‏ احوال سيد الشهداء في دعائه و مناجاته و طلبه و مسكنته بين يدي اللَّه عزوجل فليراجع دعاءَه يوم عرفه فإنه كافٍ في توضيح المطلب.
فقد روى‏ بشر و بشير ابنا غالب الاسدي، قالا: كنّا مع الحسين بن علي (عليهما السلام) عشيّة عرفه فخرج (عليه السلام) من فسطاطه متذللًا خاشعاً فجعل يمشي هوناً هَوناً حتّى‏ وقف هو و جماعة من اهل بيته و ولده و مواليه في ميسرة الجبل مستقبل البيت ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين ثم قال: «الحمدُ للَّه ‏الّذي لَيسَ لقضائه دافعٌ و لا لعطائه مانعٌ و لا كصُنعِهِ صُنعُ صانِع و هو الجواد الواسع...»
و هو الدعاء المعروف بدعاء الحسين يوم العرفه و المذكور في كتب الادعية و الزيارة. فقرأ الدعاء حتى‏ وصل الى‏ هذه الجملة: «و صلى‏ اللَّه على‏ خيرته مُحمّدٍ خاتم النبيّين و آله الطيّبين الطاهرين المخلّصينَ و سَلَّمْ». ثم اندفع في المسألة و اجتهد في الدعاء و عيناه سالتا دموعاً حتى‏ وصل الى‏ قوله: «و ادْرَء عنّي شرَّ فَسَقَةِ الجنِّ و الإنْسْ» ثم رفع رأسه و بصره الى‏ السماء و عيناه ماطرتان كأنَّهُما مزادّتان و قال بصوت عال: «يا أسْمَعَ السَامعينَ» الى‏ ان وصل الى‏ فقرة: «و أنت على‏ كلِّ شئٍ قَديرٌ يا رَبّ» و كان يُكرر قوله‏ «يا رب» و شَغل من حَضَر ممن كان من حوله عن الدعاء لأنفسهم و اقبلوا على‏ الاستماع لَهُ و التأمين على‏ دعائه ثمَّ عَلَتْ اصواتُهم بالبكاء معه و غربَت الشمس و افاض الناس مَعَهُ الى‏ مزدلفة.
3- سخاء الحسين (عليه السلام)‏
عُرف اهلُ البيت عليهم السلام بالجود و الكرم فصاروا مضرب المثل بذلك، و قد نزلت آيات كثيرة في امير المؤمنين (عليه السلام) و أهل بيته، ثناءً من الباري عزوجل لجوده و انفاقه في رضا اللَّه فملأ ذكرُ عليٍّ الآفاق حين تصدق بدرهمه الوحيد و قرص خبزه و خبز اولاده و امهم فاطمة للفقراء و المساكين و ابناء السبيل مؤثرين على‏ انفسهم على‏ خصاصة كانت بهم.
فكم من ليلة بات علي و أهل بيته جياعاً لاجل اطعام و اشباع غيرهم من الفقراء في سبيل اللَّه ، و كم من رداءٍ و هبة عليُّ لفقير كان عليُّ احوجَ منه لذلك الرداء.
روى‏ ابن عساكر في تاريخه عن ابن هشام القنّاد انه كان يحمل الى‏ الحسين (عليه السلام) بالمتاع من البصرة و لعلَّهُ لا يقومُ حتى‏ يهب عامَّتَه. و روى‏ أيضا: أنَّ سائلًا خرج يتخطى أزقة المدينة حتى‏ أتى‏ باب الحسين (عليه السلام) فقرع الباب و أنشأ يقول:
لم يخب اليوم من رجاك و من‏ حرك من خلف بابك الحلقة
أنت ذو الجود أنت معدنه‏ أبوك قد كان قاتل الفسقة
و كان الحسين (عليه السلام) واقفاً يصلى‏ فخفف من صلاته و خرج الى‏ الاعرابي فرأى‏ عليه أثر ضرٍّ و فاقة، فرجع و نادى‏ بقنبر فأجابه لبيك يا ابن رسول اللَّه قال ما تبقّى‏ معك من نفقتنا. قال مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال هاتها فقد أتى‏ من هو أحق بها منهم، فأخذها و خرج يدفعها الى‏ الاعرابي و أنشأ يقول:
خذها فإني إليك معتذر و اعلم بأني عليك ذو شفقه‏
لو كان في سيرنا عصا تمد اذن‏ كانت سمانا عليك مندفقه‏
لكنّ ريبَ الزّمان ذو غِيَر و الكفُّ منّا قليلةُ النفقة


فأخذها الاعرابي و ولّى و هو يقول: «اللّهُ أعلَمْ حيث يجعل رسالَتَهُ‏ »
و رُوي أنَّ الحسين (عليه السلام) دخل على‏ اسامة بن زيد، و هو مريض و هو يقول واغماه، فقال له الحسين (عليه السلام) و ما غمك يا أخي. قال: ديني و هو ستون الف درهم، فقال الحسين (عليه السلام) هو عليّ قال إني أخشى‏ أن أموت. فقال: لن تموت حتى‏ أقضيها عنك فقضاها قبل موته. و روى‏ البحراني ان الحسين (عليه السلام) كان جالساً في مسجد جده رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) بعد وفاة أخيه الحسن (عليه السلام) و كان عبد اللَّه بن الزبير جالساً في ناحية المسجد و عتبة بن أبي سفيان في ناحية أُخرى، فجاء أعرابي على‏ ناقة فعقلها بباب المسجد و دخل فوقف على‏ عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد (عليه السلام)، فقال الاعرابي اني قتلت ابن عم لي و طولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئاً، فرفع رأسه إلى‏ غلامه و قال ادفع إليه مائة درهم، فقال الاعرابي ما أريد إلّا الدية تماماً ثم تركه و أتى‏ عبد اللَّه بن الزبير و قال له مثل ما قال لعتبة، فقال عبد اللَّه لغلامه ادفع اليه مائتي درهم، فقال الاعرابي ما أريد إلّا الدية تماماً، ثم تركه و أتى‏ الحسين (عليه السلام) فسلم عليه و قال يا ابن رسول اللَّه اني قتلت ابن عمٍّ لي و قد طولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئاً، فأمر له الحسين (عليه السلام) بعشرة آلاف درهم وقال هذه لقضاء ديونك و عشرة آلاف درهم اخرى‏ و قال هذه تلم بها شعثك و تحسن بها حالك و تنفق منها على‏ عيالك. فأنشأ الاعرابي يقول:
طربتُ و ما هاجَ لي مَعبَقُ‏ و لا لي مقامٌ و لا مَعشَق‏
و لكن طربت لآل الرسول‏ فلذَّ لي الشعرُ و المنطق‏
هم الأكرمون هم الأنجبون‏ نجومُ السماء بهم تُشرقُ‏
سبقتَ الأنام إلى‏ المُكرمات‏ و أنت الجواد فلا تُلحقُ‏
أبوك الذي سادَ بالمُكرمات‏ فقصِّر عن سبقه السُبَّق‏
به فتح اللّهُ بابَ الرشاد و بابُ الفسادِ بكُمْ مغلق‏
4- أدبُ الحُسين (عليه السلام) و رأفته:
لقد كان الحسين (عليه السلام) في الذروة، في حُسن معاشرته للناس و أدبه و شفقته‏ وعفوه.
روى‏ جمال الدين محمد الزرندى الحنفي المدني عن علي بن الحسين (عليه السلام) عن أبيه الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: «سمعت الحسين يقول: لو شتمني رجل في هذه الاذن و أومى الى‏ اليمنى و اعتذر لي في الاخرى‏ لقبلت ذلك منه، و ذلك أن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) حدثني أنه سمع جدي رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) يقول: لا يرد الحوض من لم يقبل العذر من محق أو مبطل
لقد كان الحسين (عليه السلام) في قمّة الأدب و المحبّة و الرأفة و العطف و المودة في اهله و اولاده و نسائه.
روى‏ ابن قتيبة أن رجلًا أتى‏ الحسن بن علي (عليهما السلام) يسأله. فقال الحسن إن المسألة لا تصح إلا في غُرم فادح أو فقر مدقع أو حَمالة مُفظِعَة، فقال الرجل ما جئت إلّا في إحدهن، فأمر له بمائة دينار ثم أتى‏ الرجل الحسين بن علي (عليهما السلام) فسأله فقال له مثل مقالة أخيه فردَّ عليه كما رد على‏ الحسن فقال كم أعطاك؟ قال مائة دينار فنقصه ديناراً. كره أن يساوى أخاه، ثم أتى‏ الرّجل عبد اللَّه بن عمر فسأله فأعطاه سبعة دنانير و لم يسأله عن شي‏ء، فقال له الرجل إني أتيت الحسن و الحسين و اقتص كلامهما عليه و فعلهما به فقال عبد اللَّه : وَيحك و أنّى تجعلني مثلهما إنهما غُرَّا العلم غُرَّا المال. روى‏ ياقوت المستعصمي عن أنس قال: كنت عند الحسين بن علي (عليهما السلام)‏ فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان، فحيّته بها، فقال لها: «أنتِ حُرَّةٌ لِوَجهِ اللَّه تعالى‏»
قال: فقلت له: «جاريةٌ تجيئك بطاقةِ رَيْحان فَتَعتقُها؟»
قال (عليه السلام): كذا أدّبَنا اللَّه ... قال تبارك و تعالى‏: «و إذا حُيّيتُمْ بتَحيَّةٍ فحيّوا بأحسَنَ مُنْها أوْ ردُّوها » و كان أحسَنَ مُنْهاعِتْقُها»
يقول العقّاد بعد ذكره لهاذين البيتين عن الحسين (عليه السلام)‏
لَعَمرُكَ إنَّني لأُحبُّ داراً تكونُ بها سُكَينَة و الربابُ‏
أُحبُّهُما و أبذلُ كُلَّ مالي‏ و ليسَ لعاتبٍ عِنْدي عِتابُ‏
و هُما- البيتان معبران عن خُلُقِهِ في بيته و بين أهله فقد كان من أشدِّ الآباء حَدباً على‏ الأبناء و اشدِّ الازواج عطفاً على‏ النساء، و من وفاء زوجاته بعد مماته ان الرّباب هذه التي ذكرت في البيتين السابقين خَطَبَها أشرافُ قُريش بعد مقتله فقالت: «ما كنْتُ لا تخذَ حَماً بعد رسول اللَّه » و بقيت سنةً لايظلُها سقف حتى‏ فَنِيَتْ. و ماتت و هي لا تفتر عن بكائه و الحزن عليه.
5- طلبُ الحق:
لا تجد نظيراً لآل عليِّ في العالم، في طلب العدل و حماية المظلوم و مقارعة الظالم.
فحكومتهم، حكومةُ الحق و العدل، و سيرتهم و سلوكهم و دينهم إقامة العدل‏ و أخذ حقِ المظلومين، فلا يقرُّ لهم قرار اذا ما سمعوا بظليمةً حتى‏ يأخذوا الحق للمظلوم من الظالم.
و ما ذكر في كتب التاريخ عن عدل عليّ (عليه السلام) يُدلّكَ على‏ عشق عليّ للحق، و فنائه في العدالة، و قد اوصى‏ عليّ ولديه الحسنين بقوله: «كُونا للظّالم خَصْماً و للمَظلومِ عَوْناً»
و الحُسين (عليه السلام)، ابنُ عليٍّ و وارثُه، فلم يكن ليصبر على‏ ظلم بني أميّة و عمّالهم، فكانت ثورثُه ثورة الحق ضد الظلم و الاضطهاد و الجور، و كانت نهضتُه نهضة نجاة المظلومين و المقهورين.
فلم يكن عند الحسين (عليه السلام) كما عند جدّه و أبيه و أخيه شئٌ الذَّ و احلى‏ من صور عبادة اللَّه و العدالة و القسط، و لا أمرَّ من مناظر و صور الظلم و الجور و الفساد، فكان، بقدر إمكانه مدافعاً عن شرف و كرامة و ناموس و ارواح و اموال المسلمين.
و من جملة ما نقل عن الحسين (عليه السلام) و الذي يكشف عن مدى‏ حرص الحسين على‏ كرامة المسلمين و شرفهم، هو قصة أرينب (أو زينب) بنت إسحاق، زوجة عبد اللَّه بن سلام.
فهذه القصة المعروفة تكشف النقاب عن انحطاط و سقوط و فساد بني امية و عن رَذالة معاوية و يزيد و تجردهم عن كلِّ القيم الاخلاقية حتى‏ أبسطها، و تدلك على‏ ضحالة هموم المتسلطين على‏ رقاب المسلمين.
و قد نقل هذه الحكاية ابن قتيبة، الشبراوي، العلايلي، النويري، و ابن بدرون، العقاد و آخرون‏ مضافاً الى‏ ذكرها في كتاب مستقل باسم «أُرينبْ» و لما كانت هذه القصة طويلة، طوينا كشحاً عن سردها باكملها، و لكن نذكر مجملها كشاهدٍ على‏ مدّعانا:
طمع يزيد، الذي كان يعيش حياة المجون و الخلاعة و اللعب و معاقرة الخمرة و الغناء و الرقص، طمع في إمراة سمع بجمالها و دلالها و هي أرَينب زوجه عبد اللَّه بن سلام، و التي كان من وظائف يزيد و ابيه حماية و صون عرضها و شرفها، و كانت أرينب أو زينب هذه على‏ ما قيل اشهر فتيات زمانها بالجمال و كانت زوجة والي معاوية على‏ العراق عبد اللَّه بن سلام القرشي. فمرض يزيد في حبِّها و اخفى‏ سرَّه عن أهله حتى‏ استخرجه منه بعض خصيان القصر الذين يعينونه على‏ شهواته... فلما علم أبوه سرَّ مرضه ارسل في طلب عبد اللَّه ابن سلام و استدعى‏ اليه أبا هريرة و أباالدرداء، فقال لهما ان له ابنة يريد زواجها و لم يرض لها خليلًا غير ابن سلام، لدينه و فضله و شرفه و رغبة معاوية في تكريمه و تقريبه. فخدع ابن سلام بما بلغه و فاتح معاوية في خطبة ابنته، فوكَّل معاوية الأمر إلى‏ أبي هريرة ليبلِّعها و يستمع جوابها. فكان جوابها المتفق عليه بينها و بين أبيها أنها لا تكره ما اختاروه، و لكنها تخشى‏ الضرَّة و تشفق أن يسوقها إلى‏ ما يغضب اللَّه . فطلق ابن سلام زوجته و استنجز معاوية و عده.. فإذا هو يلويه به و يقول بلسان ابنته انها توجس من رجل يطلق زوجته و هي ابنة عمه و أجمل نساء عصره..
و قيل إنَّ الحسين (عليه السلام) سمع بهذه المكيدة، فسأل أبا هريرة أن يذكره عند زينب خاطبا.. فصدع أبو هريرة بأمره و قال لزينب: «إنك لا تعدمين طلاباً خيراً من عبد اللَّه بن سلام.»
قالت: «من»؟ قال: «يزيد بن معاوية و الحسين بن علي، و هما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرجال.»
و استشارته في اختيار أيهما، فقال: «لا أختار فم أحد على‏ فم قبَّله رسول اللَّه ، تضعين شفتيك في موضع شفتيه»
فقالت: «لا أختار على‏ الحسين بن علي أحداً و هو ريحانة النبي و سيد شباب اهل الجنة»
فقال معاوية متغيظاً:
أنعِمي أُمَّ خالدٍ رُبَّ ساعٍ لِقاعِدٍ
و لم يلبث الحسين (عليه السلام) أن ردها إلى‏ زوجها قائلا:
«ما أدخلتها في بيتي و تحت نكاحي رغبة في مالها و لا جمالها، و لكن أردت إحلالها لبعلها»
6- زهد الإمام الحسين (عليه السلام):
لعلَّ من ابرز شواخص زهد الإمام الحسين (عليه السلام) و رغبته عن الدنيا هو فداؤه و بذله روحَه و ارواح اولاده و اخوته و اصحابه طلباً للحق، و تحمل كل تلك البليات و المصائب في كربلاء.
فمن لم يستحقر الدنيا باموالها و نعيمها و زينتها و مغرياتها، لا يقوى‏ على‏ مثل تلك التضحيات في سبيل اللَّه و الحق و القيم، حتى‏ انه شاهد أجساد فلذات كبده يقطعون إرباً إرباً، و سمع أنين عطش أطفاله و لوعتهم، و عاين دموع نسائه و بناته‏ المهراقة، فكل ذلك أوجع قلبه المفحم بالحب و العاطفة و الشفقة و الرأفة، مضافاً الى‏ عشرات الجراحات التي لا يسعها الّا جسمُ الحسين (عليه السلام) الصارخ لنصرة دين اللَّه ، الثابت عن الخنوع و الاستسلام للباطل، ثبات الجبل الاشمِّ قبال الاعاصير.
نعم لقد اقترحوا عليه التنازل و لو بالقليل ليزيد و ابداء المرونة في موفقه الصُلب، بما لا يُقلل من شأنه و مقامه مقابل السماح له و لاهله بالعيش الرغيد و عدم التعرض له.
و لكن، لم يكن الحسين (عليه السلام) بالذي يبيع مصالح المسلمين و عزتهم من اجل حياة ذليلة، و لم يكن الحسين (عليه السلام) ليغضَّ الطرف عن تجاوزات بني اميّة على‏ الاحكام الشرعية الإسلامية، و لم يكن الحسين (عليه السلام) ليقبل بمتاع زائف في قبال إمضاء خروقات الحكم الفاسد الظالم لتعاليم السماء و اضفاء الشرعية عليها، و لم يكن من المتسامحين في الحق و في اداء الدور الذي كُلِّفَ به من قبل اللَّه تعالى‏.
ان حُسيناً هو ابن الذي قال: «و اللَّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي على‏ أنْ أتركَ هَذا الأمر ما تَركتُه حتّى‏ أهْلَكَ دُونَهُ أو يُظهره اللَّه »
ان الحسين (عليه السلام) هو ابن القائل: «إنَّ دنياكم هذِهِ أهْوَنُ عليَّ مِنْ عَفطَةِ عَنْزٍ»
يقول العلايلي: «هذا الجانب عظيم و غريب عند الإمام الشهيد، فقد كان مستهيناً بالحياة و مستهيناً بالموت، غير ناظر إلى‏ شي‏ء إلا برهان ربه، الذي امتزجت به نفسه فهو يفتديه بكل شي‏ء هان أو عزَّ، و من ثم كان جديراً بأن يسمى‏ «البَنَّاء الثاني في الإسلام» بعد جده المصطفى‏ (صلى الله عليه و آله)، و بأنه المجدد لبناية التوحيد كما يقول الشاعر الهندى «معين الدين اجميري» رحمه اللَّه » و يقول ايضاً: «لقد انصرف «الحسين (عليه السلام)» بكل نفسه عن الدنيا و ما إليها». فالحسينُ اذن، كأبيه امام الزاهدين الذي قال: «و اللَّه إنَّ إبْنَ أبيطالب آنَسُ بالمَوتِ من الطِفل بثدي أُمِّه» «و ما أنا إلّا كقاربٍ وَرَدْ أو كطالِبٍ وَجَدْ»
و قال الوَلَد: «إنّي لا أرى‏ الموت إلّا سَعادَةً و لا الحياةَ مع الظالِمينَ إلّا بَرَماً»
قال ابن شهر آشوب في معرض حديثه عن زهد الحسين (عليه السلام): قيل للحسين: «ما أعْظَمَ خَوفِكَ مِنْ رَبِّك»
فقال (عليه السلام): «لا يأمنُ القيامَةَ إلّا من خافَ اللهَ في الدُّنيا»
7- تواضع الحسين (عليه السلام):
كلما ازداد الإنسان معرفةً بربّه و توحيده، و كثر عِلمُه و حكمته، كلما ازداد خضوعاً و تواضعاً، فالكبر ينشأ من الجهل و قلّة المعرفة و الغفلة و الغرور.
و قد ذمَّت الآيات القرآنية الكريمة، و الاحاديث النبوية الشريفة، الكبر، و مدحت التواضع. و اذا كان التواضع مطلوباً، فهو من القادة و الزعماء اكثر مطلوبيةً و ينبغي عليهم الابتعاد و التخلص من الكبر و الغرور الخيلاء، فان تكبرهم يُبعدهم عن قلوب افراد المجتمع و يُنَفّرُ الناس عنهم، و يُفردهم عن الامَّة و يعزلهم.
و الجهلاء، و بمجرد أنْ ينالوا يسيرا من حُطام الدنيا، يدخلهم الخيلاء و التكبر، فيستحقرون الناس، و يحاولون فرض آرائهم مهما كانت سخيفة.
إنَّ من أبرز ملامح الحكم الاسلامي، كما كان في زمن امير المؤمنين (عليه السلام)، هو تواضع ولاة الأمر و القضاء و الغاء الفوارق الطبقية و القومية التي كانت سائدة في الانظمة الحاكمة قبل الإسلام.
لقد كان عليُّ (عليه السلام) يعيش مع المسلمين كأحدهم، يسعى‏ في قضاء حوائجهم، و يهتم بنفسه بحوائجه، فكان يتسوّق بنفسه لنفسه، و يحمل متاعه بردائه أو عباءته و ياتي به الى‏ داره، و في نفس الوقت كان يستمع الى‏ شكاوى‏ الناس و ينظر فيها، و كان يلبس الخشن من اللباس و هو مع ذلك يُرقِعَه و يتقشف، و كان يصلح نعليه بنفسه و امام الناس، و طعامُه الجشب، فطالما كان يأكل الخبز و الملح أو اللبن، و لكنه لم يكن مع ذلك يأمر الاخرين بمثل ذلك، فهو الخليفة و عليه ان يواسي أضعف الرعية حالًا، و من هنا صار عليٌّ مظهرَ العدالة الإنسانية و الزهد الفريد.
كان و هو الخليفة يحضر مجلس الترافع و القضاء، اذا ما اشتكى‏ عليه شاكٍ، فيجلس كما يجلس المدعي، و كم من مرّة لم يُحكم لصالحه و لم يُقلل ذلك من شأن الخلافة و الخليفة.
لقد روّض عليُّ نفسَهُ بالزهد و التواضع و بساطة العيش و عوّدها على‏ القناعة، كيلا تطغى‏ غريزة الطمع فتجرُّهُ الى‏ الحيف و اختلاس بيت المال و صرفه في التجملات و القصور الفارهة.
و قد ورد في الرواية: «مَنْ أرادَ ان يتَمثَّلَ لَهُ الرِجالُ فليتبوَّء مَقْعَدَهُ مِنَ النّار» فمن الفاسد في مقياس الحق و العدل الاسلامي، أنْ يلبس الخليفة و يركب و يسكن، أفضل ما يلبس و يركب و يسكن عُمالُه، و ان يحيط نفسه بجهاز حاكم مبذر مسرف ليتميز عن سائر المسلمين، متخلّقاً باخلاق الجاهلية.
إنَّ هذه العادات القبيحة، هي ما اعتادت عليه حكومة بني أميّة حيث جددت اعراف الجاهلية، و هذا الانحراف ارجع خلافة الممالك الإسلامية الى‏ طرز الجاهلية في الحكم.
و سنتطرق في الصفحات اللاحقة انشاء اللَّه الى‏ تفصيل هذا الأمر و نكتفي هنا بالحديث عن تواضع الإمام الحسين (عليه السلام).
لقد كان الحسين (عليه السلام) على‏ تواضعه، مُهاباً مبجلًا من قبل الناس، و عندما كان يسير هو و اخوه الحسن المجتبى‏ الى‏ الحجِّ، كان كبار الصحابة، يترجلون احتراماً لهما، و لم يكن هذا الاحترام للحسين (عليه السلام) من أجل قصر مُجلَّل يسكنه الحسين أو مركب و دابة غالية الثمن، او لكثرة غلمانه و جنوده و خدمه و حشمهِ، فلقد كان الحسين (عليه السلام) يعيش بين الناس و معهم، متواضعا بسيطا في عيشه، و كان يذهب الى‏ الحجِّ في كل سنة و يجلس مع الناس، و يجالس الفقراء و يحضر الجماعات و يعود المرضى‏ و يشترك في تشييع الجنائز و يجلس في مسجد النبي (صلى الله عليه و آله) مع اصحابه، و يجيب دعوة الفقراء الى‏ طعامهم و يدعوهم الى‏ طعامه، و كان يحمل الخبز و الطعام بنفسه الى‏ الفقراء و المعوزين و الأيتام و الارامل.
و عندما جرّده اهل الكوفة الظالمين عن ملابسه يوم عشاوراء، وجدوا آثار حمل الجراب على‏ كتفه الشريف، فسألوا عن ذلك فاجابهم الإمام السجاد، بان ذلك آثار حمل الطعام الى‏ فقراء المدينة و ايتامهم.
8- خلوص الايمان و الثبات‏
يُعتبر الايمان بالهدف من اهم عوامل الاستقامة و الثبات و الاستمرارية عند ارباب و زعماء النهضات الاصلاحية الدينية و الاجتماعية، فاذا كان القائد على‏ يقين من حقانية اهدافه، سار بخطىً راسحة نحو تلك الاهداف و لم تنهه عقبات الطريق مهما بدت كأداء، فهو يستلهم قوته و عزمه من ايمانه و يقينه ذاك.
و اذا ما استقرأنا تاريخ الانبياء، و خاصة خاتمهم محمد المصطفى‏ (صلى الله عليه و آله) و امعنّا النظر في سيرته، لوجدنا إنَّ عمدة اسباب نجاحه هو ايمانه القاطع و الثابت، و يقينه الجازم بنبوته و وحي السماء له، و مع مثل ذلك الايمان، دعا النبيُّ (صلى الله عليه و آله) الى‏ التوحيد أشدَّ الناس وحشية و جهلًا و عناداً من بين عبدة الاوثان، و حمل راية الدعوة الى‏ كل الملل، و مع انَّ العقبات التي كانت تعترض طريقة، كانت كثيرة و كبيرة، لكنّه نادى‏ باعلى‏ صوته و بكل قوة قلب و اطمئنان خاطر: «قُولوا لا إله إلّا اللَّه تُفْلِحُوا»
و هذا الايمان الراسخ و العزم الذي لايلين كان بيِّناً و ملازماً له صلوات اللَّه عليه طيلة حياته المثخنة بجراح الاحداث و البليات. ففي حروبه و غزواته، و ابّان الفتح و ايام الانكسار الظاهري و في بداية الدعوة و قلة الناصر و تسلّط الكفار و الضغوط المادية و الروحية، في كل تلك الحالات، كان النبي (صلى الله عليه و آله) يُنفذ برامجه بكل إطمئنان و يتقدم نحو الهدف بخطوات ثابتة هادئة مستقرة.
و كان الحسين (عليه السلام) كجدّه الاكرم في ارتقاء الرتبة الاعلى‏ في الايمان بالهدف و الاطمئنان و اليقين بصحة السبيل.
كان يعتقد حقانية هدفه، و بطلان نهج الامويين، و إنَّ ما يقوم به انما هو لصلاح الامة الإسلامية و انقاذها، و كان يعرف انَّ السبيل الوحيد لافشال مخططات بني امية هو بالامتناع عن بيعة يزيد و الثورة ضدَّه.
كان الحسين (عليه السلام) متيقّناً إنَّ الطريق الذي سَلَكَهُ موافق لرضا الربِّ عزوجل و الرسول (صلى الله عليه و آله) و انه ينتهي به الى‏ الشهادة و السعادة. و من ثمَّ، اعلن صراحةً مخالفته لاستخلاف يزيد مع علمه المسبق بان ذلك سيكلّفَهُ غالياً، و استقبل كل المصائب و البليّات ليقينه بانها بعين اللَّه و رضاه.
فكما التاجر الذي يتيقن الربح الكبير في معاملة تجارية، لا يتراجع عنها أبداً فكذلك الحسين (عليه السلام) الذي تعامل مع ربّه معاملة يعلم بكل ارباحها و منافعها الدينية الاخروية، و من حَمَل مثل هذا اليقين باللَّه و بثوابه الجزيل، لا يقبل بالبديل، فمهما كانت التضحيات، كان النفع أعظم.
لقد كان ابو عبد اللَّه الحسين (عليه السلام) متيقناً وجوب دفع الاخطار المحدقة بالاسلام و المسلمين، و يعلم أيضاً ان ذلك متوقف حصراً على‏ استشهاده و تسليمه للبلاء بعد البلاء.
إقرأوا تاريخ واقعة كربلاء من البدء الى‏ الانتهاء، و ستجدون الايمان الراسخ بالقضية و الهدف و المصير و المسير، جلّياً واضح التجسّد في الحسين و ابنائه و اصحابه و نسائه و اخواته و بناته.
لقد كانت كلمات الحسين (عليه السلام) في المدينة و في مكة و في الطريق و في كربلاء، بمضمون واحد و ان اختلفت العبارات، ففي المدينة و عندما طلب منه الوليد ان يبايع يزيداً، قال الإمام الحسين (عليه السلام):
«إنّا أهلُ بَيتِ النّبوَة و مَعْدنُ الرّسالة و مختلَف الملائكة و مهبط الرحمةِ، بنا فَتَحَ اللَّه و بنا خَتَمَ و يزيدُ رَجُلٌ فاسقٌ شاربُ خمرٍ قاتل نفسٍ معلنٍ بالفسق، فمثلي لا يبايعُ مِثلَه»
و لما قال له مروان بن الحكم ان صلاحه في مبايعة يزيد قال (عليه السلام):
«إنا للَّه ‏و انا اليهِ راجعون و على‏ الإسلام السلام اذ إبْتُلِيَتْ الامّة براعٍ مثل يزيد»
فالحسين (عليه السلام) يرى‏ ان بيعة يزيد خيانةٌ للاسلام، و أنها تعني نهاية الإسلام و اضمحلاله، و الموافقة على‏ مبايعته يعني إمضاء تدمير الإسلام و انقراضه.
و ورد هذا المعنى‏ ايضاً عنه (عليه السلام) عند قبر جدِّه رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) و مواضع اخرى‏.
و في مكة، و في ضمن خطبته المعروفة «خُطَّ الموتُ على‏ وُلدِ آدم» اعلن الحسين (عليه السلام) صراحةً برامجه، و بَيَّن نهاية المطاف بوضوح.
و ذكر ابن الاثير عن عتبة بن سمعان الكلبي قال: لما ارتحلنا من قصر ابن مقاتل، و سرنا ساعة خَفَق رأسُ الحسين (عليه السلام) خفقة ثم انتبه فاقبل يقول: «إنّا للَّه ‏و إنّا إليهِ راجِعُون» و «الحمدُ للَّه ‏ربِّ العالمين» مرتين.
فاقبل اليه علي بن الحسين (عليهما السلام) و هو على‏ فرس فقال له: يا أبي جُعلتُ فداك مِمَّ استرجعت؟ و علامَ حمدت اللَّه ؟
قال الحسين (عليه السلام): يا بني انه عَرَض لي فارس على‏ فرس، فقال: القوم يسيرون و المنايا تسيرُ اليهم، فعلمت أنها أنفُسُنا نُعيتْ الينا.
فقال: يا أبتاه لا اراك اللَّه سوءاً ابداً، السنا على‏ الحق؟
قال: بلى‏ و الذي يرجع اليه العباد.
فقال: «يا ابت، فاذاً لا نُبالي أنْ نموتَ محقّين.»
فقال له الحسين (عليه السلام): «جزاكَ اللَّه مِن وَلَدٍ خَيرَ ما جزى‏ وَلَداً عَنْ والدِهِ.»
و في احد المنازل خطب خطبةً باصحابه و اصحاب الحُرِّ، و بعد ان حمد اللَّه و اثنى‏ عليه، قال:
«ايّها الناسُ إنَّ رسولَ اللّهِ (صلى الله عليه و آله) قال: مَن رأى‏ سلطاناً جائِراً مستحلًا لحُرُم اللّهِ ناكثاً لِعهدِ اللّهِ مخالفاً لِسنةِ رسولِ اللّهِ (صلى الله عليه و آله) يَعملُ في عبادِ اللّه بِالإثمِ و العُدوانِ فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ و لا قولٍ كان حقّاً على‏ اللَّه أن يُدخِلهُ مَدخلَهُ ألا و انَّ هؤلاء قد لَزِمُوا طاعةَ الشَيطانِ و تركوا طاعَةَ الرَّحمن و أظهروا الفَسادَ و عطَّلُوا الحدودَ و استأثَروا الفَيي و أحلُّوا حرامَ اللهِ و حرّموا حلالَه و أنا أحقُّ مَن غَيَّرَ».
و قال (عليه السلام) للفرزدق: «أنا أوْلى‏ مَنْ قامَ بنُصرة دين اللَّه و إعْزازِ شَرْعِهِ و الجهاد في سبيله لتكونَ كَلِمَةُ اللّهِ هيَ العُليا» و اصرح كلام صدر عنه في هذا المعنى‏، هو خطبته يوم عاشوراء في جيش عمر بن سعد، و التي تدل على‏ ثباته على‏ نفس المبادئُ و القيم التي اعلن عنها في المدينة و في مجلس الوليد، و انه لم يعدل عنها و لم يتغير ابداً، فقد جاء في خطبته البليغة تلك: «ألا و انَّ الدَعيَ ابنَ الدَعيّ قَد رَكزَ بَيْنَ إثنتين، بَيْنَ السلَّةِ و الذلّة، و هيهات منّا الذّلَة يأبى‏ اللَّه تعالى‏ ذلك لنا و رسولُه و المؤمنون و حُجورٌ طابت و طَهُرَتْ و أنوفٌ حَميَّة مِنْ أنْ نُؤثرَ طاعَةَ اللئامِ على‏ مصارعَ الكِرام»
9- شجاعة الحسين (عليه السلام)‏
قد يظنُّ البعض، إنَّ شجاعة الحسين (عليه السلام) هي تلك القوة العضلية الجسدية، و علمه بفنون القتال و الحرب، و قتل الابطال و الفرسان، و إنَّ أروع صور شجاعته هي حملاته و صولاته منفرداً على‏ جيش الاعداء و تفريق جموعهم و فرارهم بين يديه كفرار الاغنام بين يدي الذئب، و عندما يئسوا من منازلته و جبنوا، اخذوا يرشقونه بالحجارة و السهام، و هؤلاء و ان استطاعوا ان يقتلوا الحسين (عليه السلام) و يطعوا و يقطعوا رأسه و يرفعوه على‏ راس الرمح، و لكن لم يدع ايٌّ منهم إنّه استطاع ان يناجزه و يقتله، و انما اجتمع عليه نفرٌ بعد ان اثخن بالجراح و اضرَّ به العطش حتى‏ اسودّت السماء بعينه، و اعياه النزف و أضعفه، فاستبسل الجبناء بالاجهاز عليه بطريقة وحشية حاقدة باجمعهم حتى‏ اختلفوا في تعيين قاتله.
يقول ابن حجر في شرح الهمزية: «و كان أكثر مقاتليه المكاتبين له و المبايعين له فلما جاءهم فرّوا عنه الى‏ عدوه و كان الجيش الذي ارسله ابن زياد لمحاربته عشرين ألف مقاتل فحارب ذلك الجيش الكثير و معه من أهله نيف و ثمانون فقُتل أكثرهم و ثبت في ذلك الموقف ثباتاً باهراً و لولا انهم حالوا بينه و بين الماء ما قدروا عليه اذ هو الشجاع القرم الذي لا يحول و لا يزول». اذن، لقد كانت حملات الحسين (عليه السلام) و صولاته مظهراً من مظاهر شجاعته و ليست كل شجاعته، فالشجاعة التي نحن بصددها، و التي تعدُّ من جملة سجايا الحسين (عليه السلام) البارزة، هي تلك الحالة النفسانية و الروحية الوسط بين التهور و الجُبن، و التي تمنع صاحبها من الخوف و الجبن و الضعف و الفتور، و تردعه عن التهور و التجبّر و الظلم و الاسراف.
و هذه الملكة النفسانية، تقود القوة الجسمية العضلانية و توجهها نحو الاعتدال و الاستقامة، و حينئذٍ تعدُّ من الشجاعة، و الّا كانت وَبالًا على‏ صاحبها و صارت سبباً لملامة الناس له و ذمِّهم اياه.
و هذه الصفة، من اشرف صفات الكمال و الفضيلة، و ان تجليات الكمالات البشرية مرتبطة.
فالامّة التي تنعدم في افرادها تلك الشجاعة الروحية الاخلاقية، يكون مصيرها الى‏ العدم و الفناء، و تصير أسيرة سلطة الاجانب و الطامعين. فبقاء الأمم و عزَّتها و كرامتها، رهنُ ترجمتها للشجاعة.
فالتقيُّدات الزائدة، و الاحتياط بلا دليل، و خداع عوام الناس، و عدم قبول الرأي الآخر و النقد، و منع الحريّات، و كتم الانفاس و الفكر، و التهور في العمل، و التجاسر المجنون، و الضعف الروحي و عدم الصبر، و الظلم و العمالة للاجنبي، و خيانة الامّة، و السريُة و التستر في الامور، و الخنوع و الذلّ، كلها امور كاشفة عن فقدان الشجاعة. كما ان ضبط النفس و الثبات و الاستقامة، و الصراحة و مقاومة الصعاب و العقبات، و مواجهة منعطفات الحياة، و قبول النقد و الحوار البنّاء، و احترام حريات الآخرين، كلها امور تفرزها الشجاعة.
و كل مظاهر هذه الشجاعة قد تجسدت في الحسين (عليه السلام)، و كانت روحه مكانُ جسمُهُ، مركز عرض اسمى‏ مراتب الشجاعة حتى‏ صارت «الشجاعة الحسينية» مضرب المثل.
ينقل الشيخ الشبراوي عن بعض اهل العلم إنَّ آل البيت حازوا الفضائل كلها علما و حلما و فصاحة و صباحة و ذكاءً و بديهة وجوداً و شجاعة، فعلومهم لا تتوقف على‏ تكرار درس و لا يزيد يومهم فيها على‏ ما كان بالأمس بل هي مواهب من مولاهم من أنكرها و أراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس فما سألهم في العلوم مستفيد و وقفوا، و لا جرى معهم في مضمار الفضل قوم الّا عجزوا و تخلفوا و كم عاينوا في الجلاد و الجدال أمورا فتلقوها بالصبر الجميل و ما استكانوا و ما ضعفوا تفرّ الشقاشق اذا هدرت شقاشقهم و تصغى‏ الاسماع اذا قال قائلهم و نطق ناطقهم سجايا خصهم بها خالقهم.
ثم يضيف الشبراوي:
«و قد حل الإمام الحسين (عليه السلام) من هذا البيت الشريف في اوج ذراه و علافيه علوا تطامنت الثريا عن أن تصل الى‏ معناه، و لما انقسمت غنائم المجد كان له منها السهم الاوفر و الحظ الاكبر، و قد انحصرت جرثومة عزِّ هذا البيت فيه و في أخيه فكان لهما من خلال المجد و الفضل ما لا خلاف فيه، كيف لا و هم إبنا فاطمة البتول الملحظان بعين الودِّ و الرأفة و القبول من أشرف نبي و أكرم رسول:
هُما شَمَّرا للمَجْدِ يَبْتَنِيانِهِ‏ كأنْ لم يُؤسِّسْ والِدٌ لَهُما مَجْدا
و لو لَمْ يُجدّا، و استراحا و أقلَعا لما نَظَرا مِثلًا و لا وَجَدا نِدّا
ثم يقول:
«و الحسين (عليه السلام) أقدم بقوة الجنان الى‏ مقارعة الابطال الشجعان و منازلة السيف و السنان فكان (عليه السلام) في حرب أعدائه كرارا صبّارا يرى الفرار دناءةً و عاراً فلم يزل خائضا غمرات الاهوال بنفس مطمئنة و عزيمة مرحجنةٍ يرى‏ مصافحة الصفاح غنيمة و مراوحة الرماح فائدة جسيمة و بذل المهج و الارواح في نيل العزّ ثمناً قليلًا و يأبى الدنية و إنْ تركته قتيلًا:
يرى‏ الموت احلى‏ من ركوبِ دَنيَّةٍ و لَيْسَ بِعَيْشٍ عَيشُ مَنْ ركَبَ الذُّلا
ثم يقول:
عندما قصد الحسين (عليه السلام) الكوفة سمع ابن زياد بهذا الخبر و أرسل اليه عشرين الف مقاتل و أمرهم أن يأخذوا البيعة منه ليزيد و إن أبى‏ قتلوه. و عندما عرضوا عليه البيعة لم يقبل و تأسّى‏ بجدّه و أبيه و لم يرض بالعار و الذلّ و تجلّت فيه الشجاعة و النّجدة الهاشميّة مع أنه كان قد حوصر هو و أهل بيته و أعزّته و أصحابه و صار مرماً للرّماح و النّبال و أثر أن يبقى‏ ثابت القدم في الجهاد و صمد بشهامة عالية و بقوّة قلب لا نظير لها في مثل هذا الموقع الخطير و ناداهم قائلًا: «يا أهلَ الكُوفة ما رَأيتُ أَغدَرَ منكم قُبحاً لكم، و تَعساً لكم الوَيلُ ثمَّ الوَيلُ، إستَصرَختُمونا فأتيناكم، و أسرعتُم إلى‏ بيعتنا سُرعة ا