ادلة امامته عليه السلام
فضائل الامام عليه السلام و مناقبه

لقد تجلى بما بيناه تحبيذ العقل و الشرع الاقدام على الهلكة إذا تحققت هناك مصلحة تقاوم مفسدة الهلكة من ابقاء دين و شريعة أو ابراز حقيقة لا تظهر إلا به كما في أمر الحسين عليه السّلام يوم وقف ذلك الموقف المدهش فتلا على الملأ صحيفة بيضاء رتلتها الحقب و الأعوام.
فلقد عرّف صلوات اللّه عليه بنهضته المقدسة الأمم الحاضرة و المتعاقبة أعمال الأمويين و من سن لهم خرق نواميس الشريعة و التعدي على قداسة قوانينها، و قد استفادت الأمم من اقدام أبيّ الضيم عليه السّلام على الموت و بذله كل ما لديه من جاه و حرمات في سبيل تأييد الدعوة المحمدية دروسا عالية و عرفوا كيفية الثبات على المبدأ و أنه يستهان في تحرير النفوس عن الجور و إنقاذها من مخالب الظلم كل غال و رخيص.
و إذا كان محمد بن الحسن الشيباني ينفي البأس عن رجل يحمل على الألف مع فقد احتمال النجاة أو النكاية بالعدو و لا يكون هذا الاقدام منه إلقاء بالتهلكة لأن فيه نفع المسلمين و تقوية عزائمهم و بعث روح النشاط فيهم للدفاع عن المبدأ و الموت تحت راية العز «1».
فأبو عبد اللّه الحسين عليه السّلام يفضل كل أحد فإنه باقدامه على أولئك الجمع المغمور بالاضاليل و إن أزهق نفسه المقدسة و نفوس الأزكياء من أهل بيته و صحبه و عرّض حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم للسلب و الأسر إلا أنه سجل أسطرا نورية على جبهة الدهر في احقية نهضته و بطلان تمويهات عدوه الحائد عن سنن الحق المتمرد في الطغيان فهو الفاتح المنصور و أن المتجهر عليه راسب في بحر الضلال هاتك لحرمات اللّه تعالى متعد على نظم الإسلام التي قررها صاحب الدعوة الإلهية.
و إنّي لأعجب ممن ذهب إلى أن الحسين عليه السّلام كان يظن موافقة الكوفيين له و قد تخلف ظنه فإنّا لو تنازلنا و قلنا بأن الحسين لم يكن عنده العلم العام لما كان و يكون و ما هو كائن و لكن أين يذهب عنه العلم بما يقع من الحوادث بواسطة إخبار جده و أبيه الوصي بأنه مقتول بأرض كربلا ممنوع من الورود و معه ذووه و صحبه قضاء محتوما، أليس هو الذي أعلم أم سلمة بقتله حين أبدت له خوفها من سفره هذا لأنّ الصادق المصدق الذي لا ينطق عن الهوى صلى اللّه عليه و آله و سلم أعلمها بقتله بأرض كربلا ممنوعا عن الورد.
و فيما قال لها إنّي أعلم اليوم الذي أقتل فيه و الساعة التي أقتل فيها و أعلم من يقتل من أهل بيتي و أصحابي أتظنين أنك علمت ما لم أعلمه و هل من الموت بد فإن لم أذهب اليوم ذهبت غدا.
و قال لأخيه عمر الأطرف إنّ أبي أخبرني بأنّ تربتي تكون إلى جنب تربته أتظن أنك تعلم ما لم أعلمه. و قال لأخيه محمد بن الحنفية شاء اللّه أن يراني قتيلا و يرى النساء سبايا.
و قال لابن الزبير: لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم و قال لعبد اللّه بن جعفر: إني رأيت رسول اللّه في المنام و أمرني بأمر أنا ماض له. و في بطن العقبة قال لمن معه: ما أراني إلا مقتولا فإني رأيت في المنام كلابا تنهشني و أشدها عليّ كلب ابقع و لمّا أشار عليه عمرو بن لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى أن ينظر ما يكون عليه حال الناس قال عليه السّلام: ليس يخفى علي الرأي و لكن لا يغلب على أمر اللّه و إنهم لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي.
إلى غير ذلك من تصريحاته و تلويحاته في المدينة و مكة و الطريق إلى الكوفة كما ستقرؤها بتمامها فإنها شاهدة على أنه عليه السّلام كان على علم و يقين بأنه مقتول في اليوم الموعود به بأرض كربلاء، ثم هل يتردد أحد في هذا و هو يقرأ خطبته بمكة حين أراد السفر منها إلى العراق التي يقول فيها: كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلا فيملأن مني اكراشا جوفا و أجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم.
فدلت هذه الأجوبة من الحسين عليه السّلام لمن طلب منه التريث في السفر أو الذهاب في أرض اللّه العريضة على وقوف سيد الشهداء على أمره و لم تخف عليه نوايا الكوفيين و لكنّه سر إلهي تعلق به خاصة و لأجل إلقاء الحجة على هذا الخلق‏ المتعوس كانت استغاثاته و استنصاراته يوم الطف قبل نشوب الحرب و بعده.
و إنما لم يصارح بما عنده من العلم لكل من رغب في اعراضه عن السفر إلى الكوفة لعلمه بأن الحقائق لا تفاض لأي متطلب بعد اختلاف الأوعية سعة و ضيقا و تباين المرامي قربا و بعدا فلذلك عليه السّلام يجيب كل أحد بما يسعه ظرفه و تتحمله معرفته و عقليته فإن علم أهل البيت عليهم السّلام صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو مؤمن امتحن اللّه قلبه بالإيمان.
______________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 309.