انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لما ذكرت خبر استشهاد مسلم رأيت من المناسب ذكر خبر استشهاد ابنيه و ان استشهدا بعد سنة من مقتله، فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن أحد شيوخ أهل الكوفة انّه قال: لمّا قتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) أسر من معسكره غلامان صغيران فأتي بهما عبيد اللّه بن زياد، فدعا سجّانا له فقال: خذ هذين الغلامين إليك، فمن طيب الطعام فلا تطعمهما، و من البارد فلا تسقهما و ضيّق عليهما سجنهما، و كان الغلامان يصومان النهار فاذا جنّهما الليل أتيا بقرصين من شعير و كوز من ماء القراح.
فلمّا طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنّة قال أحدهما لصاحبه: يا أخي قد طال بنا مكثنا و يوشك أن تفنى أعمارنا و تبلى أبداننا، فاذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، و تقرّب إليه بمحمد (صلى الله عليه واله)لعلّه يوسّع علينا في طعامنا و يزيدنا في شرابنا.
فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير و كوز من ماء القراح فقال له الغلام الصغير: يا شيخ أ تعرف محمدا؟ قال: فكيف لا أعرف محمدا و هو نبيّي؟ قال: أ فتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال: و كيف لا أعرف جعفرا و قد أنبت اللّه له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء؟ قال: أ فتعرف عليّ بن أبي طالب؟ قال: و كيف لا أعرف عليا و هو ابن عم نبيّي و أخو نبيّي؟
قال له: يا شيخ فنحن من عترة نبيك محمد (صلى الله عليه واله)و نحن من ولد مسلم بن عقيل بن ابي طالب بيدك أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا و من بارد الشراب فلا تسقينا، و قد ضيّقت علينا سجننا.
فانكبّ الشيخ على أقدامهما يقبلهما و يقول: نفسي لنفسكما الفداء، و وجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبيّ اللّه المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخذا أي طريق شئتما.
فلمّا جنّهما الليل أتاهما بقرصين من شعير و كوز ماء القراح، و وقفهما على الطريق و قال لهما: سيرا يا حبيبيّ الليل و اكمنا النهار حتى يجعل اللّه عز و جل لكما من أمركما فرجا و مخرجا، ففعل الغلامان ذلك.
فلمّا جنهما الليل انتهيا الى عجوز على باب فقالا لها: يا عجوز انّا غلامان صغيران غريبان حدثان، غير خبيرين بالطريق، و هذا الليل قد جنّنا أضيفينا سواد ليلتنا هذه فاذا أصبحنا لزمنا الطريق، فقالت لهما، فمن انتما يا حبيبيّ فقد شممت الروائح كلّها فما شممت رائحة هي أطيب من رائحتكما؟
فقالا لها: يا عجوز نحن من عترة نبيك محمد (صلى الله عليه واله)هربنا من سجن عبيد اللّه بن زياد من القتل، قالت العجوز: يا حبيبيّ انّ لي ختنا فاسقا قد شهد الوقعة مع عبيد اللّه بن زياد أتخوّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما، قالا: سواد ليلتنا هذه فاذا أصبحنا لزمنا الطريق، فقالت: سآتيكما بطعام ثم اتتهما بطعام فأكلا و اشربا.
(و في رواية اخرى قالا: لا حاجة لنا الى طعام لكن افرشي لنا و سادة كي نقضي فوائتنا) فلمّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي انّا نرجو أن نكون قد امنّا ليلتنا هذه فتعال حتى أعانقك و تعانقني و أشمّ رائحتك و تشمّ رائحتي قبل أن يفرق الموت بيننا، ففعلا الغلامان ذلك و اعتنقا و ناما.
فلما كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتى قرع الباب قرعا خفيفا فقالت العجوز: من هذا؟ قال: أنا فلان، قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة و ليس هذا لك بوقت؟
قال: ويحك افتحي الباب قبل ان يطير عقلي، و تنشق مرارتي في جوفي، جهد البلاء قد نزل‏
بي، قالت: ويحك ما الذي نزل بك؟ قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد اللّه بن زياد فنادى الامير في معسكره: من جاء برأس واحد منهما فله الف درهم و من جاء برأسهما فله الفا درهم، فقد أتعبت و تعبت و لم يصل في يدي شي‏ء فقالت العجوز: يا ختني احذر ان يكون محمد خصمك في القيامة، قال لها: ويحك انّ الدنيا محرص عليها، فقالت: و ما تصنع بالدنيا و ليس معها آخرة قال: انّي لأراك تحامين عنهما كأنّ عندك من طلب الامير شي‏ء فقومي فان الامير يدعوك، فقالت: و ما يصنع الامير بي و إنمّا انا عجوز في هذه البريّة، قال: إنمّا لي (الطلب) افتحي لي الباب حتى اريح و أستريح، فاذا اصبحت بكّرت في أي الطريق آخذ في طلبهما، ففتحت له الباب و أتته بطعام و شراب، فأكل و شرب.
فلما كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف البيت فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، و يخور كما يخور الثور، و يمس بكفّه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير، فقال له: من هذا؟ قال: أما انا فصاحب المنزل فمن أنتما؟ فأقبل الصغير يحرك الكبير، و يقول: قم يا حبيبي فقد و اللّه وقعنا فيما كنّا نحاذره.
قال لهما: من أنتما؟ قالا له: يا شيخ ان نحن صدقناك فلنا الامان؟ قال: نعم، قالا: أمان اللّه و امان رسوله و ذمّة اللّه و ذمّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: نعم، قالا و محمد بن عبد اللّه على ذلك من الشاهدين؟ قال: نعم، قالا: و اللّه على ما نقول وكيل و شهيد؟ قال، نعم: قالا له: يا شيخ فنحن من عترة نبيك محمد (صلى الله عليه واله)هربنا من سجن عبيد اللّه بن زياد من القتل، فقال لهما: من الموت هربتما، و الى الموت وقعتما الحمد للّه الذي اظفرني بكما، فقام الى الغلامين فشدّ اكتافهما، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين.
فلمّا انفجر عمود الصبح دعا غلاما له اسود يقال له: فليح، فقال له: خذ هذين الغلامين فانطلق بهما الى شاطئ الفرات و اضرب اعناقهما و ائتني برؤوسهما لأنطلق بهما الى عبيد اللّه بن زياد، و آخذ جائزة الفي درهم، فحمل الغلام السيف و مشى أمام الغلامين فما مضى الّا غير بعيد حتّى قال احد الغلامين: يا اسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول اللّه (صلى الله عليه واله)قال: انّ مولاي قد أمرني بقتلكما فمن أنتما؟ قالا له: يا أسود نحن من عترة نبيّك محمد (صلى الله عليه واله)هربنا من سجن عبيد اللّه بن زياد من القتل أضافتنا عجوزكم هذه، و يريد مولاك قتلنا، فانكبّ الاسود على أقدامهما يقبّلهما و يقول: نفسي لنفسكما الفداء، و وجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبيّ اللّه المصطفى، و اللّه لا يكون محمد خصمي في القيامة، ثمّ عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، و طرح نفسه في الفرات و عبر الى الجانب الآخر فصاح به مولاه يا غلام عصيتني؟ فقال: يا مولاي إنمّا أطعتك ما دمت لا تعصي اللّه، فاذا عصيت اللّه فأنا منك بري‏ء في الدنيا و الآخرة.
فدعا ابنه فقال: يا بنيّ إنمّا اجمع الدنيا حلالها و حرامها لك، و الدنيا محرص عليها، فخذ هذين الغلامين إليك فانطلق بهما الى شاطئ الفرات، فاضرب اعناقهما و ائتني برؤوسهما لأنطلق بهما الى عبيد اللّه بن زياد و آخذ جائزة الفي درهم فأخذ الغلام السيف و مشي امام الغلامين، فما مضيا الا غير بعير حتى قال احد الغلامين يا شابّ ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنّم؟ فقال: يا حبيبيّ فمن انتما؟ قالا: من عترة نبيّك محمد (صلى الله عليه واله)يريد والدك قتلنا، فانكبّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما و يقول لهما مقالة الاسود و رمى بالسيف ناحية و طرح نفسه في الفرات و عبره، فصاح به أبوه يا بنيّ عصتني؟ قال: لأن أطيع اللّه و أعصيك أحبّ إليّ من أن أعصي اللّه و أطيعك.
قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحد غيري و أخذ السيف و مشى أمامهم فلمّا صار الى شاطئ الفرات سلّ السيف من جفنه فلمّا نظر الغلامان الى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما و قالا له:
يا شيخ انطلق بنا الى السوق و استمتع بأثماننا و لا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غدا، فقال: لا و لكن اقتلكما و أذهب برؤوسكما الى عبيد اللّه بن زياد و آخذ جائزة الفين، فقالا له: يا شيخ أ ما تحفظ قرابتنا من رسول اللّه؟ فقال: ما لكما من رسول اللّه قرابة، قالا له:
يا شيخ فائت بنا الى عبيد اللّه بن زياد حتى يحكم فينا بأمره، قال: ما الى ذلك سبيل الّا التقرب إليه بدمكما، قالا له: يا شيخ أ ما ترحم صغر سننا؟ قال: ما جعل اللّه لكما في قلبي من الرحمة شيئا.
قالا: يا شيخ ان كان و لا بد فدعنا نصلّي ركعات، قال: فصلّيا ما شئتم ان نفعتكما الصلاة، فصلّى الغلامان أربع ركعات ثم رفعا طرفيهما الى السماء فناديا: «يا حي يا حليم يا احكم الحاكمين احكم بيننا و بينه بالحق».
فقام الى الاكبر فضرب عنقه و أخذ برأسه و وضعه في المخلاة، و أقبل الى الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه و هو يقول: حتى ألقى رسول اللّه و أنا مختضب بدم أخي فقال: لا عليك سوف الحقك بأخيك، ثم قام الى الغلام الصغير فضرب عنقه و أخذ رأسه و وضعه في المخلاة، و رمى ببدنهما في الماء و هما يقطران دما و مرّ حتى أتى بهما عبيد اللّه بن زياد، و هو قاعد على كرسيّ له و بيده قضيب خيزران فوضع الرأسين بين يديه.
فلمّا نظر إليهما قام ثم قعد ثلاثا ثم قال: الويل لك أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوز لنا: قال: فما عرفت لهما حقّ الضيافة؟ قال: لا، قال: فايّ شي‏ء قالا لك؟ (فقصّ عليهما قالاه بتمامه و قال:) بعد ما صليا رفعا طرفيهما الى السماء و قالا:
«يا حي يا حليم يا احكم الحاكمين احكم بيننا و بينه بالحق».
قال عبيد اللّه بن زياد: فانّ احكم الحاكمين قد حكم بينكم، من للفاسق؟ قال: فانتدب له رجل من أهل الشام فقال: أنا له، قال: فانطلق به الى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، و لا تترك أن يختلط دمه بدمهما و عجّل برأسه.
ففعل الرجل ذلك و جاء برأسه و نصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل و الحجارة و هم يقولون: هذا قاتل ذرية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ .
يقول المؤلف: انّي استبعد استشهاد هذين الغلامين بهذه الكيفية و هذا التفصيل، لكنّي ذكرت هذه الرواية تبعا للشيخ الصدوق الذي هو رئيس محدّثي الشيعة و مروّج علوم الائمة عليهم السّلام و لوجود بعض العلماء و الأجلّاء من أصحابنا في سلسلة سند هذه الرواية و اللّه تعالى هو العالم.