انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام
من مصارع الحسين (عليه السلام)
الكتاب : : ص119-130.
المؤلف : .
_________________________
ضعوا أقدام التوكّل في ركاب اليقين ، واثنوا أعنّة التأمل على قرابيس الحقيقة والتعيين ، وامتشقوا لوامع الثكل من أجفان الأسف والتهوين ، وأسرعوا وثبة الوجل واستحضروا نوائي الحنين ، وأغرقوا شكائم النياحة والزجل في مضامير الوصب والأنين ، وتصوّروا أقدام الغطارفة الكُمّل والأماجد الميامين ، على مشتبكات الوشيج الأسل والتثام كلّ باتر سنين وشاركوهم في المقام الأنبل والمسكن الأمين ، فلقد والله فازوا بغاية الأمل ، وجادوا بالنفيس الثمين ، تجرّعوا كاساة حرارة النكل فبردت غللهم من ضرام التوهين ، وصبروا على اقتحام لجج الخوف والوجل ، واطمأنّوا في القرار المكين ، ولله درّ من قال من الأبدال ولقد أجاد :
قوم كأوّلهم في الفضل آخرهم
والفضل أن يتساوى البدء والعقب
فمنذر مصطفىً بالوحي منتجب
ومرتضى مجتبى بالهدي منتخب
الواهبون لدى البأساء ما وجدوا
والطالبون بصدر الرمح ما طلبوا
والمدركون إذا ما أزمة بخلت
بصرفها وتخلّت عندها الصحب
وكم لهم حين جدّ الخطب من قدم
رست عُلاً والجبال القود تضطرب
ولا كيومهم في كربلاء وقد
جدّ البلا وارجحنّت عندها الكرب
وفتية وردوا ماء المنون بها
ورد المضاضة ظمآن الحشا سغب
من كلّ أبيض وضّاح الجبين له
نوران من جانبيه الفضل والنسب
تجلو العفاة لهم تحت القنا غرراً
تلاعب البيض فيها والقنا السلب
أمة ! أميّة أن تعلو لها شرف
ويصبح الرأس مخدوماً له الذنب

ودون ما يممّت هند وجارتها
هند السيوف وحرب دونه الحرب
جاءت ليستعبد الحرّ اللئيم وفي
عود العلا عند عجم الضيم مضطرب
فشمّرت للوغى فرسانها طرباً
وامتاز بالسبك عن ما دونها الذهب

روي في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » : أنّه لمّا استشهد الحرّ برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، فلمّا حاذ الحسين (عليه السلام) قال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، أستودعك الله.
فأجابه الحسين : « وعليك السلام ، ونحن خلفك ». وقرأ (عليه السلام) : {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب : 23].
ثمّ نادى برير : اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريّين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربّ العالمين وذريّته الباقين.
وكان برير زاهداً عابداً ، وكان أقرأ أهل زمانه ، فحمل على القوم وهو يقول :
أنا برير وأبو خضير
ليث يروع الأسد عن الزير
يعرف فينا الخير أهل الخير
ذلك فعل الخير من برير
فلم يزل يقاتل حتّى قتل عشرين فارساً وثلاثين راجلاً ، فخرج إليه يزيد بن معقل واتّفقا على المباهلة إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب منهما وأن يقتل المحقّ المبطل منهما ، فتلاقيا فقتله برير وقتل معه عدّة من الرجال ، فتكاثروا عليه فقتلوه رحمة الله عليه ، فلمّا قتل برير عظم ذلك على الحسين (عليه السلام) (1).
قال : فخرج من بعده وهب بن حباب الكلبي ، فأحسن في الجلاد وبالغ في الجهاد ، وكانت امرأته ووالدته معه ، فقالت له أمّه : جاهد بين يدي ابن بنت رسول الله.
فقال : أفعل يا أمّاه ولا أقصّر.
ثمّ إنّه شدّ على قلب الجيش واقتحم المعمعة وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن الكلب
سوف تروني إذ ترون ضربي
وحملتي وصولتي في الحرب
أدرك ثاري بعد ثار صحبي
ليس جهادي في الوغى باللعب
وأدفع الكرب أمام الكرب
فلم يزل يقاتل حتّى قتل عشرين فارساً ، ثمّ رجع إلى أمّه وامرأته فقال : يا أمّاه ، ارضيت عنّي بنصرتي للحسين ؟
فقالت له : والله ما أرضي عنك إلاّ أن أراك قتيلاً بين يدي الحسين.
فقالت له امرأته : بالله لا تفجعني بنفسك.
فقالت له أمّه : يا بنيّ ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعته يوم القيامة.
فرجع فلم يزل يقاتل حتّى قطعت يداه ، فلمّا رأته زوجته أخذت عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : قاتل يا وهب فداك أبي وأمّي ، قاتل دون الطيّبين ، قاتل دون حرم رسول ربّ العالمين.
فاقبل كي يردّها إلى النساء ، فأبت وقالت : لن أعود حتّى أموت معك. فاستغاث زوجها بالحسين ، فأتاها الحسين (عليه السلام) وقال لها : « جزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي رحمك الله ».
فقاتل بعلها حتّى قتل ـ على ما نقل ـ من القوم خمسين رجلاً ما بين فارس وراجل ، ثمّ قتل ; ، فجاءت إليه إمرأته وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، فأمر عمر بن سعد غلاماً له فضربها بعمود من حديد ، فشدخ رأسها فماتت رحمة الله عليها ، وكانت أوّل امرأة قتلت في عسكر الحسين (عليه السلام) (2).
ثم برز خالد بن عمر وقاتل قتال المشتاقين إلى لقاء ربّ العالمين ، ثمّ كرّ على
القوم كرّة الليث الجريء وهو ينشد ويقول :
صبراً على الموت بني قحطان
كيما تكونوا في رضى الرحمان
ذي المجد والعزّة والبرهان
وذي العلا والطول والإحسان
يا أبتا قد صرت للجنان
في قصر فضل حسن البنيان

ولم يزل يحمل فيهم حتّى قتل ، رحمة الله عليه (3).
ثمّ برز من بعده عمر بن خالد الأزدي وقاتل قتال الأبطال وجدّل بسيفه الرجال وهو يقول :
إليك يا نفسي إلى الرحمان
وأبشري بالروح والريحان
اليوم تجزين على الإحسان
ما كان منك غابر الأزمان
ما خطّ في اللوح لدى الديّان
لا تجزعي فكلّ حيّ فان

ثم قاتل حتّى قتل رحمة الله عليه (4).
وبرز من بعده سعد بن حنظلة التميمي ، فودّع الحسين (عليه السلام) وحمل على القوم وهو ينشد ويقول :
صبراً على الأسياف والأسنّة
صبراً عليها لدخول الجنّة
وحور عين ناعمات هنّة
لمن يريد الفوز لا بالظنّة

ثمّ اقتحم القلب وقاتل قتالاً شديداً حتّى قتل رحمة الله عليه (5).
ثمّ برز من بعده مسلم بن عوسجة فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء ، وهو يرتجز يقول :
إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد
من فرع قوم من ذرى بني أسد
الأبيات ، وأضاف :
ما خط باللوح لدى الديّان
فاليوم زال ذاك بالغفران
لا تجزعي فكلّ حيّ فان
والصبر أحضى لك بالأمان
فقاتل حتّى سقط عن فرسه إلى الأرض وبه رمق فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين : « رحمك الله يا مسلم ». ثمّ قال (عليه السلام) : {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب : 23] ، ودنا منه حبيب وقال : يعزّ علَيّ مصرعك يا مسلم ، فأبشر بالجنّة.
فقال له قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخير.
فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إلَيّ بجميع ما أهمّك.
فقال له مسلم : إنّي أوصيك بهذا خيراً ـ وأشار بيده إلى الحسين (عليه السلام) ـ فقاتل دونه حتّى تموت.
فقال له حبيب : لأنعمنّك عيناً. ثمّ مات ;.
قال : وصاحت جاريته : يا سيّداه ، يا ابن عوسجاه. فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة. فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمّهاتكم ، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلّون عزّكم ، أتفرحون بقتله ؟ ولقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين (6).
ثمّ برز من بعده عمرو بن قرظة الأنصاري واستأذن الحسين (عليه السلام) ، فأذن له فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتّى قتل جمعاً كثيراً من اللعناء ، وجمع بين سداد وتقى ، وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه السلام) سهم إلاّ اتّقاه بصدره ، ولا سيف إلاّ تلقّاه بنحره ، فما وصل إلى الحسين سوء حتّى أثخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (عليه السلام) وقال : أوفيت يا ابن رسول الله ؟
قال : « نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله منّي السلام وأعلمه أنّي في الأثر ». ثمّ قاتل حتّى قتل ، رحمة الله عليه (7).
ثمّ تقدّم جون مولى أبي ذر الغفاري ، وكان عبداً أسوداً ، فقال له الحسين (عليه السلام) : « أنت في حلّ من بيعتي ، فإنّما تبعتنا طلباً للعافية ، فلا تبتلي ببلائنا ».
فقال : يا ابن رسول الله ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟! والله إنّ ريحي لنتن ، وحسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفّس علَيّ بالجنة ، حتّى يطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضّ وجهي ، والله لا أفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم. فلم يزل كذلك حتّى أذن له الحسين ، فبرز للقتال وهو يقول :
كيف ترى الفجّار ضرب الأسود
بالمشرفي القاطع المهنّد
بالسيف ذدنا عن بني محمّد
أذبّ عنهم بالسنان واليد

أرجو بذاك الفوز عند المورد
من الإله الأحد الموحّد
إذ لا شفيع عنده كأحمد
فقاتل حتّى قتل (8). فوقف عليه الحسين (عليه السلام) وقال : « اللهم بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرف بينه وبين محمّد وآله الأطهار » (9).
وروي عن الباقر (عليه السلام) ، عن علي بن الحسين (عليه السلام) : « أنّ النّاس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى ، فوجدوا جونا بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك والعنبر ، رضوان الله عليه » (10).
قال : وبرز من بعده عمرو بن خالد الصيداوي (11) وقال للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبد الله جعلت فداك ، قد هممت بأن ألحق بأصحابي وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيداً من أهلك أو قتيلاً.
فقال له الحسين : « تقدّم فإنا لاحقون بك بعد ساعة ».
فتقدّم وقاتل حتّى قتل ، رحمة الله عليه (12).
قال : وجاء حنظلة بن سعد الشامي (13) ووقف بين يدي الحسين (عليه السلام) يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره ، وأخذ ينادي : {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر : 30 - 32] ، يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم بعذاب منه وقد خاب من افترى (14).
ثمّ التفت إليه الحسين (عليه السلام) وقال له : « يا ابن سعد رحمك الله ، إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم من الحق ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين » ؟
فقال للحسين (عليه السلام) : أفلا نروح إلى ربّنا ونلحق بإخواننا ؟
فقال : « بلى ، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى ».
فتقدّم فقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الشدائد والأهوال حتّى قتل ، حرمة الله عليه (15).
قال الراوي : وحضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين (عليه السلام) زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي أن يتقدّما أمامه بنصف من تخلف من رجاله ، ثم صلّى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين سهم فوقاه سعيد بن عبد الله بنفسه ، فما زال لا يتخطّاه حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللّهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللّهم أبلغ نبيّك محمداً عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت ثوابك في نصرة ذريّة نبيّك. ثمّ قضى نحبه ، رحمة الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى النبل بالأحجار والسيوف والرماح (16).
ثمّ برز من بعده سويد بن عمرو بن أبي مطاع وتقدّم أمام الحسين (عليه السلام) واستأذنه إلى الحرب ، فخرج فقاتل قتال الأسد الباسل ، وصبر على مصالات نار الخطب النازل ، حتّى أثخن بالجراح وسقط بين القتلى ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتّى سمعهم يقولون : قتل الحسين ، فتحامل وأخرج سكّيناً من خُفّه وجعل يقاتلهم بها حتّى قتلوه ، رحمة الله عليه (17).
قال : وخرج شابّ قتل أبوه في المعركة وكانت أمّه معه ، فقالت له : اخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه واله). فخرج ، فقال الحسين (عليه السلام) : « هذا شابّ قُتل أبوه ، ولعلّ أمه تكره خروجه ».

فقال الشاب : أمّي أمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :
حسين أميري ونعم الأمير
سرور فؤاد البشير النذير
عليّ وفاطمة والداه
فهل تعلمون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضحى
له غرّة مثل بدر منير
وقاتل حتّى قتل ، واحتزوا رأسه ورموا به إلى نحو عسكر الحسين ، فأخذت أمّه رأسه وقالت : أحسنت يا ولدي ، ويا سرور قلبي ، ويا قرة عيني. ثم رمت برأس ولدها فأصابت رجلاً فقتله ، وأخذت عموداً وحملت عليهم وهي تقول :
أنا عجوز سيّدي ضعيفة
خاوية بالية نحيفة
أضربكم بضربة عنيفة
دون بني فاطمة الشريفة
وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين بصرفها ودعا لها (18).
قال : وبرز من بعده زهير بن القين وهو يرتجز ويقول :
أنا زهير وأنا ابن القين
أذود بالسيف عن الحسين
إن حسيناً أحد السبطين
من عترة البرّ التقي الزّين
أضربكم ولا أرى من شين
يا ليت نفسي قسّمت قسمين (19)
فقاتل قتالاً يشيب الوليد ، ويرعب من هوله قلب الصنديد ، حتّى قتل كما روي مئة وعشرين فارساً وستّين راجلاً ، فشدّ عليه كثير بن عبد الله ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه ، فقال الحسين (عليه السلام) حين صرع زهير : « لا أبعدك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك ، لعن الّذين مسخوا قردة وخنازير » (20).
ثمّ برز من بعده حبيب بن مظاهر الأسدي فشدّ شدّة السرحان وأدخل نفسه في حلق الطعان ، وهو ينشد مرتجزاً ويقول :
أنا حبيب وأبي مظاهر
وفارسٌ قومٌ ونار تسعر
وأنتمُ عند العديد أكثر
ونحن أعلى حجّة وأظهر
وأنتمُ عند الوفاء أغدر
ونحن أوفى منكم وأصبر
فلم يزل يقاتل حتّى شدّ عليه رجل من تميم فطعنه ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير لعنه الله على رأسه بالسيف فوقع ونزل التميمي فاحتزّ رأسه (21).
وروى أبو مخنف في وقعة الطف : ص 230 ، وعنه الطبري في تاريخه : 5 : 439 وفيه : فلا يزال الرجل من أصحابه الحسين قد قتل ، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم ، وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يقتل منهم.
قال : فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين : يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتّى أقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها.
قال : فرفع الحسين رأسه ثمّ قال : « ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها ». ثم قال : « سلوهم أن يكفّوا عنا حتّى نصلّي ». فقال لهم الحصين بن تميم : إنّها لا تقبل ! فقال له حبيب بن مظاهر : زعمت ! الصلاة من آل رسول الله (صلى الله عليه واله) لا تقبل وتقبل منك يا حمار ؟!
قال : فحمل عليهم حصين بن تميم ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبّ ووقع عنه وحمله أصحابه فاستنقذوه ، وأخذ حبيب يقول :
أقسم لو كنّا لكم أعدادا
أو شطركم ولّيتم الأكتادا
يا شرّ قوم حسباً وآدا
قال : وجعل يقول يومئذ :
أنا حبيب وأبي مظاهر
فارس هيجاء وحرب تسعر
أنتم أعد عدّة وأكثر
ونحن أوفى منكم وأصبر
ونحن أعلى حجة وأظهر
حقّاً وأتقى منكم وأعذر
وقاتل قتالاً شديداً ، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله.
ثمّ برز من بعده غلام تركي للحسين (عليه السلام) وكان قارئاً للقرآن ، موحّداً للعليّ الديّان ، فبرز وهو ينشد ويقول :
البحر من طعني وضربي يصطلي
والجوّ من سهمي ونبلي يمتلي
إذا حسامي في يميني ينجلي
ليشف قلب الماجد المبجّل
فقتل جماعة منهم ثمّ خرّ صريعاً ، فشدّ الحسين على قاتله وقال له : « قتلني الله إن لم أقتلك ». فضربه بالسيف على هامته أخرجه من شرايف صدره (22) ، ثمّ وقف على الغلام وبكى ، ووضع خدّه على خدّه ، ففتح الغلام عينيه فرأى الحسين (عليه السلام)فتبسّم ثمّ صار إلى ربّه (23).
قال : وجعل أصحاب الحسين (عليه السلام) يتسارعون إلى القتل بين يديه ويبذلون الأرواح لديه ، ولله درّ من قال :
يبرزون الوجوه تحت ظلال
الموت والموت منهم يستظلّ
كرماء إذ الضبا غشيتهم
منعتهم أحسابهم أن يولّوا
فوا لهف نفسي لتلك الأقمار المنيرة على التراب ، كيف كسفتها مواضي السيوف والحراب ، ولتلك الأنوار الساطعة كيف طمست أشعتها أكف النصّاب ، و وا حرّاه لهاتيك الأجسام الزاكيات ترضّ متونها سنابك العاديات ، والجثث الصاحيات تعفّرها فراعل (24) الفلوات ، و واكرباه لتلك الرؤوس القمريّة تشال على اليعاسيب القعضبيّة ، ولتلك النفوس الشريفة تزهقها الأبدان الخبيثة ، فالأمر لله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، أو لا تكونون يا أولى النهى ، كمن أورثه مصابهم الأرزا داء الوجد والأسى (25) ، فرثاهم بما أحرق الضمائر ، وأشجى ، وهو من بعض شيعتهم الأتقياء.
___________
(1) رواه السيّد مختصراً في الملهوف : ص 160.
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 432 مع إضافات ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 66 ، والمجلسي في البحار : 45 : 15.
(2) رواه السيّد في الملهوف : ص 161 مع إضافات.
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 16.
(3) ورواه الخوارزمي في المقتل 2 : 14.
(4) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع اختلاف قليل في بعض ألفاظ
(5) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع إضافة بيت :
يا نفس للراحة فاطرحنّة
وفي طلاب الخير فارغبنّه
فمن بغانا حائداً عن الرشد
وكافراً بدين جبّار صمد
(6) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 15 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 435 ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 68 ، والسيّد في الملهوف : ص 161.
(7) ورواه السيّد في الملهوف : ص 162 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 22.
ورواه ملخّصاً الخوارزمي في المقتل : 2 : 22 ، والطبري في تاريخه : 5 : 434 ، والسماوي في كتاب ابصار العين في أنصار الحسين : ص 92.
(8) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105.
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلاً عن محمّد بن أبي طالب.
(9) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105.
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلاً عن محمّد بن أبي طالب.
(10) ورواه السماوي في إبصار العين : ص 105 ، والمجلسي في البحار : 45 : 23 عن محمّد بن أبي طالب.
(11) هذا هو الظاهر ، وفي النسخة : « خالد بن عمر الصيداوي ».
(12) رواه السيّد في الملهوف : ص 164 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 23.
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 ، والسماوي في إبصار العين : ص 66.
ورواه مختصراً الطبري في تاريخه : 5 : 446.
(13) في الإرشاد : 2 : 105 وتاريخ الطبري : 5 : 443 : « الشبامي ». وهم بطن من همدان.
(14) اقتباس من سورة طه : 20 : 61.
(15) ورواه السيّد في الملهوف : ص 146 ، وعنه وعن المناقب المجلسي في البحار : 45 : 23.
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 مع اختلاف في الألفاظ ، والطبري في تاريخه : 5 : 443 ، والمفيد مختصراً في الإرشاد : 2 : 105.
(16) رواه السيّد في الملهوف : ص 165.
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 17 ، والطبري مختصراً في تاريخه : 5 : 441.
(17) الملهوف : 165 ـ 166.
(18) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 21 ـ 22.
(19) زاد في المقتل للخوارزمي :
ذاك رسول الله غير المين
أضربكم ولا أرى من شين
(20) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 20.
وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص 232.
(21) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 18.
(22) الشراسيف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن. ( لسان العرب)
(23) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24.
(24) الفرعل : ولد الضبع ، والجمع : فراعل وفراعلة.
(25) الوجد والأسى : الحزن. ( المعجم الوسيط ).