انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لما قتل أصحاب الحسين (عليه السلام) و لم يبق معه إلا أهل بيته خاصة و هم ولد علي (عليه السلام) و ولد جعفر و ولد عقيل و ولد الحسن و ولده عليهم السلام اجتمعوا يودع بعضهم بعضا و عزموا على الحرب فما أحقهم بوصف من قال:
قوم إذا اقتحموا العجاج‏ رأيتهم‏ شمسا و خلت وجوههم أقمارا
لا يعدلون برفدهم عن سائل‏ عدل الزمان عليهم أو جارا
و إذا الصريخ دعاهم لملمة بذلوا النفوس و فارقوا الأعمارا
و بقول من قال:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم‏ شم الأنوف من الطراز الأول‏
يغشون حتى ما تهر كلابهم‏ لا يسألون عن السواد المقبل‏
و يقول كعب بن مالك:
قوم على بنيانهم من هاشم‏ فرع أشم و سؤدد ما ينقل‏
قوم بهم نظر الاله لخلقه‏ و بجدهم نصر النبي المرسل‏
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم‏ تندى إذا اعتذر الزمان الممحل‏
روى الشيخ الفاضل الألمعي علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة عن كتاب معالم العترة الطاهرة عن العوام بن حوشب قال: بلغني أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نظر إلى شباب من قريش كأن وجوههم سيوف مصقولة ثم رئي في وجهه كآبة حتى عرفوا ذلك فقالوا: يا رسول اللّه ما شأنك؟ قال: إنا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا و إني ذكرت ما يلقى أهل بيتي من بعدي من أمتي من قتل و تطريد و تشريد .
للسيد حيدر الحلي (رحمه الله).
بنفسي و آبائي نفوس أبية يجرعها كأس المنية مترف‏
تظل بأسياف الظلال دماؤهم‏ و تلغى وصايا اللّه فيهم و تحذف‏
و هم خير من تحت السماء بأسرهم‏ و أكرم من فوق السماء و أشرف‏
و هم يكشفون الخطب لا السيف في الوغى‏ بأمضى شبا منهم و لا هو أرهف‏
إذا هتف الداعي بهم يوم من دم ال فوارس أفواه الظبا تترشف‏
أجابوا ببيض طائعا يقف القضا إلى حيث شاءت ما يزال يصرف‏
و من تحتها الآجال تسري و فوقها لواء من النصر الإلهي يرفرف‏
لهم سطوات تملأ الدهر دهشة و تنبسر منها الشم و الأرض ترجف‏
عجبت لقوم مل‏ء ادراعهم ردى‏ و مل‏ء رداءيهم تقى و تعفف‏
يغولهم غول المنايا و تغتدي‏ بأطلالهم ريح الحوادث تعصف‏
كرام قضوا بين الأسنة و الظبا كراما و يوم الحرب بالنقع مسدف‏
هداة أجابوا داعي اللّه فانتهى‏ بهم لقصور في ذرى الشهب أسرف‏
فما خلت في صرف القضا يصرف القضا و ان جبال الحتف بالحتف تنسف‏
بنفسي رءوس من لوى أنوفها من الضيم مذ كان الزمان لتأنف‏
أبت أن تشم الضيم حتى تقطعت‏ بيوم به سمر القنا تتقصف‏
ألا قل لأبناء السبيل ألا اقنطوا فقد مات من يحنو عليكم و يعطف‏
فأية نفس ليس تذهب حسرة عليهم و قلب بالأسى ليس يتلف‏
فتقدم علي بن الحسين الأكبر (عليه السلام) و أمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي‏ .
أقول عروة بن مسعود هو أحد السادة الأربعة في الإسلام و أحد رجلين عظيمين في قوله تعالى حكاية عن كفار قريش‏ وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏ و هو الذي أرسلته قريش للنبي (صلى اللّه عليه و آله) يوم الحديبية فعقد معه الصلح و هو كافر ثم أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع المصطفى من الطائف و استأذن النبي (صلى اللّه عليه و آله) في الرجوع لأهله فرجع و دعا قومه إلى الإسلام فرماه واحد منهم بسهم و هو يؤذن للصلاة فمات فقال‏ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما بلغه ذلك: مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه إلى اللّه فقتلوه.
كذا في شرح الشمائل المحمدية في شرح قوله صلى اللّه عليه و آله: و رأيت عيسى ابن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود .
و روى الجزري في أسد الغابة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: أربعة سادة في الإسلام: بشر بن هلال العبدي و عدي بن حاتم و سراقة بن مالك المدلجي و عروة بن مسعود الثقفي‏ .
و كان علي بن الحسين (عليهما السلام) من أصبح الناس وجها و أحسنهم خلقا فاستأذن أباه في القتال فأذن له ثم نظر إليه نظر آيس منه و أرخى (عليه السلام) عينه و بكى‏ .
و روي أنه (عليه السلام) رفع شيبته نحو السماء و قال: اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا و خلقا و منطقا برسولك كنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه اللهم امنعهم بركات الأرض و فرقهم تفريقا و مزقهم تمزيقا و اجعلهم طرائق‏ قددا و لا ترض الولاة عنهم أبدا فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا.
ثم صاح بعمر بن سعد: ما لك قطع اللّه رحمك و لا بارك اللّه لك في أمرك و سلط عليك من يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي و لم تحفظ قرابتي من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله. ثم رفع صوته و تلا {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33، 34].
ثم حمل علي بن الحسين (عليهما السلام) على القوم‏ و هو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي‏ نحن و بيت اللّه أولى بالنبي‏
من شبث و شمر ذاك الدني‏ أضربكم بالسيف حتى ينثني‏
ضرب غلام هاشمي علوي‏ و لا أزال اليوم أحمي عن أبي‏
تاللّه لا يحكم فينا ابن الدعي‏
و شد على الناس مرارا و قتل منهم جمعا كثيرا حتى ضج الناس من كثرة من قتل منهم‏ و روي أنه قتل على عطشه مائة و عشرين رجلا .
و في المناقب أنه قتل سبعين مبارزا ثم رجع إلى أبيه و قد أصابته جراحات كثيرة فقال: يا أبة العطش قد قتلني و ثقل الحديد أجهدني فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوى بها على الأعداء . فبكى الحسين (عليه السلام) و قال: وا غوثاه يا بني قاتل قليلا فما أسرع ما تلقى جدك محمدا (صلى اللّه عليه و آله) فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا .
و قيل أنه (عليه السلام) قال: يا بني هات لسانك فأخذ بلسانه فمصه و دفع إليه‏ خاتمه و قال: امسكه في فيك و ارجع إلى قتال عدوك فإني أرجو أنك لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا. فرجع إلى القتال و هو يقول:
الحرب قد بانت لها الحقائق‏ و ظهرت من بعدها مصادق‏
و اللّه رب العرش لا نفارق‏ جموعكم أو تغمد البوارق‏
فلم يزل يقاتل حتى قتل اتمام المائتين‏ و كان أهل الكوفة يتقون قتله (قتاله ظ) فبصر به مرة بن منقذ بن النعمان العبدي الليثي فقال: علي آثام العرب ان مرّ بي يفعل مثل ما كان‏ يفعل إن لم أثكله أباه. فمر يشد على الناس بسيفه فاعترضه مرة بن منقد فطعنه‏ فصرع (فانصر ع خ ل) و احتواه الناس فقطعوه بأسيافهم.
فإن أكلت هندية البيض شلوه‏ فلحم كريم القوم طعم المهند
و في المناقب: فطعنه مرة بن منقذ العبدي على ظهره غدرا فضربوه بالسيف‏ .
و قال أبو الفرج: و جعل يكر كرة بعد كرة حتى رمي بسهم فوقع في حلقه فخرقه و أقبل يتقلب في دمه ثم نادى: يا أبتاه عليك السلام هذا جدي رسول اللّه يقرئك السلام و يقول عجل القدوم إلينا (علينا خ ل) و شهق شهقة فارق الدنيا .
و قال السيد (رحمه الله): فجاء الحسين (عليه السلام) حتى وقف عليه و وضع خده على خده‏ .
و قال حميد بن مسلم: سماع أذني يومئذ من الحسين (عليه السلام) يقول: قتل اللّه قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الرحمن و على انتهاك حرمة الرسول‏ و انهملت عيناه بالدموع ثم قال: على الدنيا بعدك العفا .
و في روضة الصفا: رفع الحسين (عليه السلام) صوته بالبكاء و لم يسمع أحد إلى ذلك الزمان صوته بالبكاء .
أقول: و يعجبني في هذا المقام أن أتمثل بأبيات أبي تمام رحمه اللّه:
ألا في سبيل اللّه من عطلت له‏ فجاج سبيل اللّه و انثغر الثغر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دما ضحكت عنه الأحاديث و الذكر
فتى دهره شطران فيما ينوبه‏ ففي بأسه شطر و في جوده شطر
فتى مات بين الطعن و الضرب ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
و ما مات حتى مات مضرب سيفه‏ من الضرب و اعتلت عليه القنا السمر
غدا غدوة و الحمد نسج رداءه‏ فلم ينصرف إلا و أكفانه الأجر
تردى ثياب الموت حمرا فما دجى‏ له الليل الا و هي من سندس خضر
و في زيارته المروية عن الصادق (عليه السلام) بأبي أنت و أمي من مذبوح و مقتول من غير جرم و بأبي أنت و أمي دمك المرتقى به إلى حبيب اللّه و بأبي أنت‏
و أمي من مقدم بين يدي أبيك يحتسبك و يبكي عليك محترقا عليك قلبه يرفع دمك بكفه إلى أعنان السماء لا ترجع منه قطرة و لا تسكن عليك من أبيك زفرة .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): و خرجت زينب أخت الحسين (عليه السلام) مسرعة تنادي: يا أخياه و ابن أخياه و جاءت حتى أكبت عليه فأخذ الحسين (عليه السلام) برأسها (بيدها خ ل) فردها إلى الفسطاط و أمر فتيانه فقال: احملوا أخاكم‏ فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه‏ .
أقول: اختلفت كلمات العلماء في أول شهيد من أهل بيت سيد الشهداء (عليه السلام) هل هو علي الأكبر أو عبد اللّه بن مسلم بن عقيل؟ فذهب إلى كل واحد منهما طائفة و ما ذكرناه هو الأصح عندنا كما اختاره الطبري و الجزري و الأصبهاني و الدينوري و الشيخ المفيد و السيد ابن طاوس و غير هؤلاء و يؤيد ذلك الزيارة المشتملة على أسماء الشهداء «السلام عليك يا أول قتيل من نسل خير سليل» .
فقول الشيخ الأجل نجم الدين جعفر بن نما: فلما لم يبق معه إلا الأقل من أهل بيته خرج علي بن الحسين (عليه السلام) ضعيف و إن احتمل أن يكون المراد ما ذكروه و لكن يأباه سياق كلامه رحمه اللّه‏ .
و اختلفوا أيضا في سنه الشريف اختلافا عظيما:
فقال محمد بن شهرآشوب‏ و محمد بن أبي طالب الموسوي: أنه ابن‏ ثماني عشرة سنة .
و قال الشيخ المفيد: إن له يومئذ تسع (بضع خ ل) عشرة سنة .
فعلى هذا يكون هو أصغر من أخيه الإمام زين العابدين (عليه السلام) .
و قيل: إنه ابن خمس و عشرين سنة .
و قيل: غير ذلك فيكون هو الأكبر. و هذا هو الأصح و الأشهر.
قال فحل الفقهاء الشيخ الأجل محمد بن إدريس الحلي في السرائر في خاتمة كتاب الحج: فإذا كانت الزيارة لأبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) يزار ولده علي الأكبر و أمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي و هو أول قتيل في الوقعة يوم الطف من آل أبي طالب. و ولد علي بن الحسين هذا في إمارة عثمان و قد روى عن جده علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
و قد مدحه الشعراء و روي عن أبي عبيدة و خلف الأحمر أن هذه الأبيات قيلت في علي بن الحسين الأكبر المقتول بكربلاء قدس اللّه روحه:
لم تر عين نظرت مثله‏ من محتف يمشي و لا ناعل‏
يغلي بني اللحم حتى إذا أنضج لم يغل على الأكل‏
كان إذا شبت له ناره‏ يوقدها بالشرف الكامل‏
كيما يراها بائس مرمل‏ أو فرد حي ليس بالأهل‏
أعني ابن ليلى ذا السدى و الندى‏ أعني ابن بنت الحسب الفاضل‏
لا يؤثر الدنيا على دينه‏ و لا يبيع الحق بالباطل‏
و قد ذهب شيخنا المفيد (رحمه الله) في كتاب الإرشاد إلى أن المقتول بالطف هو علي الأصغر و هو ابن بنت الثقفية و أن عليا الأكبر هو زين العابدين أمه أم ولد و هي شاه زنان بنت كسرى يزدجرد .
قال محمد بن إدريس: و الأولى الرجوع إلى أهل هذه الصناعة و هم النسابون و أصحاب السير و الأخبار و التواريخ مثل الزبير بن بكار- ثم ذكر أسماء جماعة منهم- و قال: و هؤلاء جميعا أطبقوا على هذا القول و هم أبصر بهذا النوع. انتهى كلامه رفع مقامه‏ .
و ناهيك به فارسا في هذا الميدان نقابا يخبر عن مكنون هذا الأمر بواضح البيان. و يؤيد ذلك مضمون الأبيات الواردة في مدحه (عليه السلام) و ما رواه أبو الفرج عن مغيرة قال: قال معاوية من أحق الناس بهذا الأمر؟ قالوا أنت. قال: لا أولى الناس بهذا الأمر علي بن الحسين بن علي جده رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و فيه شجاعة بني هاشم و سخاء بني أمية و زهو ثقيف‏ .
ثم اعلم أنه يظهر من بعض الروايات و الزيارات أن له (عليه السلام) ولدا و أهلا.
أما الرواية فقد رويت عن ثقة الإسلام الكليني عطر اللّه مرقده عن علي بن إبراهيم القمي عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي رضوان اللّه عليهم أجمعين عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يتزوج المرأة و يتزوج أم ولد أبيها. فقال: لا بأس بذلك. فقلت له: بلغنا عن أبيك أن علي بن‏ الحسين (عليهما السلام) تزوج ابنة الحسن بن علي و أم ولد الحسن (عليه السلام) و ذلك أن رجلا من أصحابنا سألني أن أسألك عنها. فقال (عليه السلام) : ليس هكذا إنما تزوج علي بن الحسين (عليه السلام) ابنة الحسن (عليه السلام) و أم ولد لعلي بن الحسين المقتول عندكم- الخ. و رواه الحميري بسند صحيح مثله‏ .
و أما الزيارة ففي الزيارة الطويلة المروية عن الثمالي عن الصادق (عليه السلام) قال في زيارة علي بن الحسين المقتول بالطف: صلى اللّه عليك و على عترتك و أهل بيتك و آبائك و أبنائك‏ .
و أما أمه هل كانت في كربلا أم لا؟ لم أظفر بشي‏ء من ذلك. و اللّه العالم.
(و منهم عبد اللّه بن مسلم بن عقيل رضي اللّه عنه)
قال محمد بن أبي طالب: أول من برز من أهل بيت الحسين (عليه السلام) عبد اللّه بن مسلم بن عقيل و هو يرتجز و يقول:
اليوم ألقى مسلما و هو أبي‏ و فتية بادوا على دين النبي‏
ليسوا بقوم عرفوا بالكذب‏ لكن خيار و كرام النسب‏
من هاشم السادات أهل النسب‏
فقاتل حتى قتل ثمانية و تسعين رجلا في ثلاث حملات ثم قتله عمرو بن صبيح الصيداوي و أسد بن مالك لعنهما اللّه‏ .
قال أبو الفرج: أمه رقية بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
قال الشيخ المفيد و الطبري: ثم رمى رجل من أصحاب عمر بن سعد يقال له‏ عمرو بن صبيح عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع عبد اللّه يده على جبهته يتقيه فأصاب السهم كفه و نفذ إلى جبهته فسمرها به فلم يستطع تحريكها ثم انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله قدس اللّه روحه‏ .
قال ابن الأثير في الكامل: و بعث المختار إلى زيد بن رقاد الحباني كان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم و كفه على جبهته و كان ذلك الفتى عبد اللّه بن مسلم بن عقيل و أنه قال حين رميته: اللهم انهم استقلونا و استذلونا فاقتلهم كما قتلونا ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر و كان يقول جئته و هو ميت فنزعت سهمي الذي قتلته من جوفه و لم أزل أنضنض الآخر عن جبهته حتى أخذته و بقي النصل فلما أتاه أصحاب المختار خرج إليهم بالسيف فقال لهم ابن كامل: لا تطعنوه و لا تضربوه بالسيف و لكن ارموه بالنبل و الحجارة ففعلوا ذلك به فسقط فأحرقوه حيا لعنه اللّه و أخزاه‏ .
(و منهم عون بن عبد اللّه بن جعفر رضي اللّه عنه)
قال الطبري: فاعتورهم الناس من كل جانب فحمل عبد اللّه بن قطبة الطائي ثم النبهاني على عون بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب فقتله‏ .
و في المناقب أنه برز قائلا:
ان تنكروني فأنا ابن جعفر شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجناح أخضر كفى بهذا شرفا في المحشر
فقتل ثلاثة فوارس و ثمانية عشر راجلا قتله عبد اللّه بن قطبة الطائي انتهى‏ .
قال أبو الفرج: و أمه زينب العقيلة بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أمها فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و إياه عنى سليمان بن قبة بقوله:
و اندبي إن بكيت عونا أخاه‏ ليس فيما ينوبهم بخذول‏
فلعمري لقد أصيبت ذو القربى‏ فبكى على المصاب الطويل‏
و العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة عليها السلام في فدك فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي (عليهما السلام) .
أقول: ينبغي أن يعلم أنه كان لعبد اللّه بن جعفر ابنان مسميان بهذا الاسم عون الأكبر و عون الأصغر أحدهما أمه زينب العقيلة سلام اللّه عليها و ثانيهما أمه جماعة (جمانة خ ل) بنت المسيب بن نجبة الفزاري. و اختلفت كلمات المؤرخين في الذي قتل مع الحسين (عليه السلام) و الظاهر أن المقتول بالطف هو الأكبر ابن زينب سلام اللّه عليها و الأصغر قتل يوم حرة واقم قتله أصحاب مسرف بن عقبة الملعون. قاله أبو الفرج‏ .
(و منهم محمد بن عبد اللّه بن جعفر رضي اللّه عنهم)
و حمل عامر بن نهشل التيمي على محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب عليهم السلام فقتله‏ و أمه الخوصاء بنت حفصة من بني بكر بن وائل و إياه عنى سليمان بن قبة بقوله:
و سمي النبي غودر فيهم‏ قد علوه بصارم مصقول‏
فإذا ما بكيت عيني فجودي‏ بدموع تسيل كل مسيل‏
و في المناقب أنه برز و هو ينشد:
أشكو إلى اللّه من العدوان‏ فعال قوم في الردى عميان‏
قد بدلوا معالم القرآن‏ و محكم التنزيل و التبيان‏
و أظهروا الكفر مع الطغيان‏
فقتل عشرة أنفس قتله عامر بن نهشل التيمي (التميمي خ ل) .
و ذكر أبو الفرج: انه قتل بعده أخوه لأمه و أبيه عبيد اللّه بن عبد اللّه بن جعفر و في المناقب: و روي أن عبيد اللّه بن عبد اللّه أخاه قتله بشر بن حويطر القانصي‏ .
(و منهم عبد الرحمن بن عقيل رضي اللّه عنه)
و شد عثمان بن خالد بن أسير الجهني و بشر بن سوط الهمداني القانصي على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه‏ .
و في المناقب أنه برز و هو يرتجز:
أبي عقيل فاعرفوا مكاني‏ من هاشم و هاشم إخواني‏
كهول صدق سادة الأقران‏ هذا حسين شامخ البنيان‏
و سيد الشيب مع الشبان‏
فقتل سبعة عشر فارسا قتله عثمان بن خالد الجهني‏ .
و عن تاريخ الطبري أخذ المختار رجلين اشتركا في دم عبد الرحمن بن عقيل ابن أبي طالب و في سلبه كانا في الجبانة فضرب عنقهما ثم أحرقهما بالنار. عليهما لعائن اللّه تعالى‏ .
(و منهم جعفر بن عقيل رضي اللّه عنه)
و أمه أم الثغر بنت عامر من بني كلاب و يقال أمه الخوصاء بنت عمرو بن عامر الكلابي فبرز قائلا:
أنا الغلام الأبطحي الطالبي‏ من معشر في هاشم من غالب‏
و نحن حقا سادة الذوائب‏ هذا حسين أطيب الأطائب‏
فرماه عبد اللّه بن عزرة (عروة خ ل) الخثعمي فقتله‏ .
و في المناقب فقتل رجلين و في قول خمسة عشر فارسا قتله بشر بن سوط الهمداني لعنه اللّه‏ .
(و عبد اللّه الأكبر بن عقيل)
أمه أم ولد قتله كما نقل عن المدائني عثمان بن خالد بن أشيم (أسيد خ ل) الجهني و رجل من همدان.
و محمد بن مسلم بن عقيل أمه أم ولد قتله أبو مرهم الأزدي و لقيط بن إياس الجهني رواه أبو الفرج‏ عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) .
و محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب الأحول «قد هم».
قال أبو الفرج: أمه أم ولد قتله لقيط بن ياسر الجهني رماه بسهم فيما رويناه عن المدائني عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم. و ذكر محمد بن علي بن حمزة أنه قتل معه جعفر بن محمد بن عقيل و وصف أنه سمع أيضا من يذكر أنه قتل يوم الحرة.
و قال أبو الفرج: و ما رأيت في كتاب الأنساب لمحمد بن عقيل ابنا يسمى جعفرا و ذكر أيضا محمد بن علي بن حمزة عن عقيل بن عبد اللّه بن عقيل بن محمد بن عبد اللّه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب أن علي بن عقيل و أمه أم ولد قتل يومئذ فجميع من قتل يوم الطف من ولد أبي طالب سوى من يختلف في أمره اثنان و عشرون رجلا. انتهى‏ .
و عن كتاب المعارف لابن قتيبة قال: و خرج ولد عقيل مع الحسين بن علي ابن أبي طالب فقتل منهم تسعة نفر و كان مسلم بن عقيل أشجعهم‏ .
(و خرج القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب «ع» و أمه أم ولد)
قيل لما نظر الحسين (عليه السلام) إليه قد برز اعتنقه و جعلا يبكيان حتى غشي عليهما ثم استأذن الحسين (عليه السلام) في المبارزة فأبى (عليه السلام) أن يأذن له فلم يزل الغلام يقبل يديه و رجليه حتى أذن له فخرج و دموعه تسيل على خديه و هو يقول:
ان تنكروني فأنا ابن الحسن‏ سبط النبي المصطفى المؤتمن‏
هذا حسين كالأسير المرتهن‏ بين أناس لا سقوا صوب المزن‏
فقاتل قتالا شديدا حتى قتل على صغره خمسة و ثلاثين رجلا .
و في المناقب أنه أنشأ يقول:
اني أنا القاسم من نسل علي‏ نحن و بيت اللّه أولى بالنبي‏
من شمر ذي الجوشن أو ابن الدعي‏
و في أمالي الصدوق: و برز من بعده- أي بعد علي بن الحسين (عليهما السلام) - القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام و هو يقول:
لا تجزعي نفسي فكل فان‏ اليوم تلقين ذرى الجنان‏
فقتل منهم ثلاثة ثم رمي عن فرسه رضوان اللّه عليه‏ .
و ذكر مثله الفتال النيسابوري‏ .
و روى أبو الفرج و الشيخ المفيد و الطبري عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر و في يده السيف‏ و عليه قميص و إزار و نعلان قد انقطع شسع احداهما ما أنسى أنها اليسرى فقال عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي لعنه اللّه: و اللّه لأشدن عليه. فقلت له: سبحان اللّه و ما تريد إلى ذلك يكفيك قتله هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه من كل جانب. قال:
و اللّه لأشدن عليه. فشد عليه فما ولى وجهه حتى ضرب رأسه‏ بالسيف فوقع الغلام لوجهه فقال: يا عماه. قال: فجلى الحسين (عليه السلام) كما يجلي الصقر ثم شد شدة ليث أغضب و ضرب عمرا بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق‏ فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ثم تنحى عنه الحسين (عليه السلام) و حملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من الحسين (عليه السلام) فلما حملت الخيل استقبلته بصدورها و جالت فتوطأته فلم يرم حتى مات لعنه اللّه و أخزاه.
و انجلت الغبرة فإذا أنا بالحسين (عليه السلام) قائم على رأس الغلام و الغلام يفحص برجليه و الحسين (عليه السلام) يقول بعدا لقوم قتلوك و من خصمهم يوم القيامة فيك جدك ثم قال: عز و اللّه على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا ينفعك صوته (اجابته خ ل) هذا يوم و اللّه كثر واتره و قل ناصره. ثم احتمله (حمله خ ل) على صدره فكأني أنظر إلى رجلي الغلام تخطان في الأرض‏ و قد وضع الحسين (عليه السلام) صدره على صدره. قال: فقلت في نفسي ما يصنع به فجاء حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين و قتلى قد قتلت حوله من أهل بيته فسألت عن الغلام فقيل: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام‏ .
و روي أنه قال الحسين (عليه السلام) : اللهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا و لا تغادر منهم أحدا و لا تغفر لهم أبدا صبرا يا بني عمومتي صبرا يا أهل بيتي لا رأيتم هوانا بعد ذلك اليوم أبدا .
أقول: و يعجبني أن أنشد في رثاء هذا المظلوم قول السيد حيدر الحلي المرحوم:
لقد مات لكن ميتة هاشمية لهم عرفت تحت القنا المتقصد
لعمري لئن لم يقض فوق فراشه‏ فموت أخي الهيجاء غير موسد
و إن لم يشاهد موته غير سيفه‏ فذاك أحق الصدق في كل مشهد
و في الزيارة الطويلة التي زار بها المرتضى علم الهدى رضي اللّه عنه‏ :
«السلام على القاسم بن الحسن بن علي و رحمة اللّه و بركاته و السلام عليك يا بن حبيب اللّه السلام عليك يا بن ريحانة رسول اللّه السلام عليك من حبيب لم يقض من الدنيا و طرا و لم يشف من أعداء اللّه صدرا حتى عاجله الأجل وفاته الأمل فهنيئا لك يا حبيب حبيب رسول اللّه ما أسعد جدك و أفخر مجدك و أحسن منقلبك» .
و في البحار: قال بعد مقتل القاسم: ثم خرج عبد اللّه بن الحسن (عليه السلام) الذي ذكرناه أولا و هو الأصح أنه برز بعد القاسم و هو يقول:
ان تنكروني فأنا ابن حيدره‏ ضرغام آجام و ليث قسوره‏
على الأعادي مثل ريح صرصره‏
فقتل أربعة عشر رجلا ثم قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي فاسود وجهه‏ . قال أبو الفرج: كان أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يذكر أن حرملة بن كاهل الأسدي قتله‏ .
قلت: سيجي‏ء مقتله في ضمن مقتل الحسين (عليه السلام) .
(و منهم أبو بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام)
أمه أم ولد و هو أخو القاسم لأبيه و أمه.
قال أبو الفرج: ذكر المدائني في اسنادنا عنه عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد أن عبد اللّه بن عقبة الغنوي قتله. و في حديث عمير بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) أن عقبة الغنوي قتله و إياه عنى سليمان بن قبة بقوله:
و عند غنى قطرة من دمائنا و في أسد أخرى تعد و تذكر
و ذكر أبو الفرج أيضا: إن أبا بكر قتل قبل أخيه القاسم و لكن الطبري و الجزري و الشيخ المفيد و غير هؤلاء ذكروه بعد القاسم. و اللّه العالم‏ .
ذكر مقتل أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ‏
فلما رأى العباس بن علي (عليهما السلام) ‏ كثرة القتلى (القتل خ ل) في‏ أهله قال لإخوته من أمه و هم عبد اللّه و جعفر و عثمان: يا بني أمي تقدموا حتى أراكم قد نصحتم للّه و رسوله فإنه لا ولد لكم.
فتقدم عبد اللّه فقاتل قتالا شديدا فاختلف هو و هانئ بن ثبيت الحضرمي ضربتين فقتله هانئ‏ .
و في المناقب ذكر له هذا الرجز:
أنا ابن ذي النجدة و الافضال‏ ذاك علي الخير ذو الفعال‏
سيف رسول اللّه ذو النكال‏ في كل يوم ظاهر الأحوال‏
و روى أبو الفرج أنه كان يومئذ ابن خمس و عشرين سنة .
و تقدم بعده جعفر بن علي (عليه السلام) قائلا كما في المناقب:
اني أنا جعفر ذو المعالي‏ ابن علي الخير ذو النوال‏
ذاك الوصي ذو السنا و الوالي‏ حسبي بعمي جعفر و الخال‏
أحمي حسينا ذا الندى المفضال‏
فشد عليه هانئ بن ثبيت فقتله‏ .
و روى أبو الفرج عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) أن خولي بن يزيد الأصبحي لعنه اللّه قتل جعفر بن علي‏ .
قال ابن شهرآشوب: رماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينه‏ .
و برز عثمان بن علي (عليه السلام) قائلا:
إني أنا عثمان ذو المفاخر شيخي علي ذو الفعال الطاهر
هذا حسين سيد الأخاير و سيد الصغار و الأكابر
و كان ابن إحدى و عشرين سند و قد قام مقام أخويه‏ .
و روى أبو الفرج و غيره أن خولي بن يزيد رماه بسهم فأوهطه (فأسقطه خ ل) .
و في المناقب: رماه على جنبه فسقط عن فرسه و شد عليه رجل من بني أبان ابن دارم فقتله و أخذ رأسه‏ .
و روي عن علي (عليه السلام) انه قال: إنما سميته باسم أخي عثمان بن مظعون‏ .
و محمد الأصغر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أمه أم ولد رماه رجل من بني أبان بن دارم فقتله و جاء برأسه‏ .
و أبو بكر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يعرف اسمه و أمه ليلى بنت مسعود بن خالد قتله رجل من همدان. و عن المدائني أنه وجد في ساقية مقتولا لا يدرى من قتله‏ .
و في المناقب: ثم برز أبو بكر بن علي (عليه السلام) قائلا:
شيخي علي ذو الفخار الأطول‏ من هاشم الخير كريم المفضل‏
هذا حسين ابن النبي المرسل‏ عنه نحامي بالحسام المصقل‏
تفديه نفسي من أخ مبجل‏
فلم يزل يقاتل حتى قتله زحر بن بدر الجحفي و يقال عقبة الغنوي‏ .
و في المناقب أيضا: ثم برز أخوه عمر و هو يرتجز:
خلوا عداة اللّه خلوا من عمر خلوا عن الليث الحصور المكفهر
يضربكم بسيفه و لا يفر يا زحر يا زحر تدان من عمر
و قتل زحرا قاتل أخيه ثم دخل حومة الحرب‏ .
قلت: المشهور بين أهل التواريخ و السير أن عمر لم يشهد مع أخيه الحسين (عليه السلام) بالطف.
قال صاحب عمدة الطالب ما ملخصه: و تخلف عمر عن أخيه الحسين (عليه السلام) و لم يسر معه إلى الكوفة و لا يصح رواية من روى أن عمر حضر كربلا و مات عمر بنسع و هو ابن سبع و سبعين سنة و قيل خمس و سبعين سنة .
قال أبو الفرج: و قد ذكر محمد بن علي بن حمزة أنه قتل يومئذ إبراهيم بن علي (عليه السلام) و أمه أم ولد و ما سمعت بهذا عن غيره و لا رأيت لإبراهيم في شي‏ء من كتب الأنساب ذكرا .
و قال السيد: و روى مصنف كتاب المصابيح أن الحسن بن الحسن المثنى قتل بين يدي عمه الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم سبعة عشر نفسا و أصابه‏ عشر جراحة فوقع فأخذه خاله أسماء بن خارجة فحمله إلى الكوفة و داواه حتى برى‏ء و حمله إلى المدينة .
في البحار و عن مقتل الخوارزمي: و خرج غلام من تلك الأبنية و في أذنيه درتان و هو مذعور فجعل يلتفت يمينا و شمالا و قرطاه يتذبذبان فحمل عليه هانئ ابن بعيث (ثبيت. البحار) لعنه اللّه فقتله فصارت شهربانو تنظر إليه و لا تتكلم كالمدهوشة .
أقول: روى أبو جعفر الطبري عن هشام الكلبي قال: حدثني أبو الهذيل رجل من السكون عن هانئ بن ثبيت الحضرمي قال: رأيته جالسا في مجلس الحضرميين في زمان خالد بن عبد اللّه و هو شيخ كبير قال: فسمعته و هو يقول: كنت ممن شهد قتل الحسين (عليه السلام) . قال: فو اللّه إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس و قد جالت الخيل و تصعصعت إذ خرج غلام من آل الحسين (عليه السلام) و هو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه إزار و قميص و هو مذعور يلتفت يمينا و شمالا فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت إذ أقبل رجل يركض حتى إذا دنا منه مال عن فرسه ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف.
قال هشام: قال السكوني: هانئ بن ثبيت هو صاحب الغلام فلما عتب عليه كنى عن نفسه‏ .
فلم تر عيني كالصغار مصابهم‏ يقلب أكباد الكبار على الجمر
(مقتل مولانا العباس ابن أمير المؤمنين (عليهما السلام) )
قال الشيخ المفيد في الارشاد و الشيخ الطبرسي في أعلام الورى: و حملت الجماعة على الحسين (عليه السلام) فغلبوه على عسكره و اشتد به العطش فركب المسناة يريد الفرات و بين يديه العباس أخوه فاعترضته خيل ابن سعد و فيهم رجل من بني دارم فقال لهم: ويلكم حولوا بينه و بين الفرات و لا تمكنوه من الماء.
فقال الحسين (عليه السلام) : اللهم أظمه (أظمئه) فغضب الدارمي و رماه بسهم فأثبته في حنكه فانتزع الحسين (عليه السلام) السهم و بسط يديه تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدم فرمى به ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك. ثم رجع إلى مكانه و قد اشتد به العطش. و أحاط القوم بالعباس (عليه السلام) فاقتطعوه عنه فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رضي اللّه عنه. و كان المتولي لقتله زيد بن ورقاء الحنفي و حكيم بن طفيل السنبسي بعد أن أثخن بالجراح فلم يستطع حراكا قدس اللّه روحه‏ .
و روى السيد (رحمه الله) ما يقرب من ذلك‏ .
و روى الحسن بن علي الطبرسي أن الحسين (عليه السلام) رماه رجل ملعون بسهم فأثبت في جبهته فانتزعه العباس (عليه السلام) .
و ما ذكرناه من أنه أثبت في حنكه الشريف أشهر.
روى الطبري عن هشام عن أبيه محمد بن السائب عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة رحمه اللّه قال: حدثني من شهد الحسين (عليه السلام) في عسكره أن حسينا حين غلب على عسكره ركب المسناة يريد الفرات. قال: فقال رجل من بني أبان بن دارم: ويلكم حولوا بينه و بين الماء لا تتام إليه شيعته.
قال: فضرب فرسه و اتبعه الناس حتى حالوا بينه و بين الفرات فقال الحسين (عليه السلام) : اللهم أظمئه. قال: و ينتزع الأباني بسهم فأثبته في حنك الحسين (عليه السلام) .
قال: فانتزع الحسين (عليه السلام) السهم ثم بسط كفيه فامتلأتا دما ثم قال الحسين (عليه السلام) : اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك. قال: فو اللّه إن مكث الرجل إلا يسيرا حتى صب اللّه عليه الظمأ فجعل لا يروى.
قال القاسم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمن يروح عنه و الماء يبرد له فيه السكر و عساس فيه اللبن و قلال فيها الماء و انه ليقول: ويلكم اسقوني قتلوني (قتلني ظ) الظماء فيعطى القلة أو العس كان مرويا أهل بيت فيشربه فإذا نزعه من فيه اضطجع الهنيهة ثم يقول: ويلكم اسقوني قتلوني (قتلني ظ) الظماء. قال: فو اللّه ما لبث إلا يسيرا حتى انقد بطنه انقداد بطن البعير .
أقول: يظهر من كلام الشيخ ابن نما أن هذا الرجل اسمه زرعة بن أبان بن دارم.
قال: فرويت إلى القاسم بن أصبغ بن نباتة قال: حدثني من شاهد الحسين (عليه السلام) و قد لزم المسناة يريد الفرات و العباس (عليه السلام) بين يديه فجاء كتاب عبيد اللّه بن زياد إلى عمر بن سعد أن حل بين الحسين (عليه السلام) و أصحابه و بين الماء فلا يذوقوا منه قطرة. فبعثه لعمرو بن الحجاج بخمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة و منعوهم الماء فناداه عبد اللّه بن حصين الأزدي: يا حسين أ لا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء (السمك خ ل) و اللّه لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا أنت و أصحابك. فقال زرعة بن أبان بن دارم: حولوا بينه و بين الماء و رماه بسهم فأثبته في حنكه فقال (عليه السلام) : اللهم اقتله عطشا و لا تغفر له أبدا. و كان (عليه السلام) قد أتي بشربة فحال الدم بينه و بين الشرب فجعل يتلقى الدم و يقول هكذا إلى السماء .
و رويت عن الشيخ عبد الصمد عن الشيخ أبي الفرج عبد الرحمن بن جوزي أن الأباني كان بعد ذلك يصيح من الحر في بطنه و البرد في ظهره- و ساق إلى آخر ما ذكرناه عن الطبري‏ .
رجعنا إلى مقتل العباس بن علي قدس اللّه روحه:
قال صاحب عمدة الطالب عند ذكر عقب العباس ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) : و يكنى أبا الفضل و يلقب السقاء لأنه استسقى الماء لأخيه الحسين (عليه السلام) يوم الطف و قتل دون أن يبلغه إياه و قبره قريب من الشريعة حيث استشهد و كان صاحب راية الحسين في ذلك اليوم‏ .
روى الشيخ أبو نصر البخاري عن المفضل بن عمر أنه قال: قال الصادق (عليه السلام) : كان عمنا العباس (عليه السلام) نافذ البصيرة صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد اللّه (عليه السلام) و أبلى بلاء حسنا و مضى شهيدا و دم العباس في بني حنيفة (حنفية) و قتل و له أربع و ثلاثون سنة و أمه و أم إخوته عثمان و جعفر و عبد اللّه أم البنين بنت خزام بن خالد بن ربيعة- إلى أن قال- و قد روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل- و كان نسابة عالما بأنساب العرب و أخبارهم- انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارسا. فقال له: تزوج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها فتزوجها. و لما كان يوم الطف قال شمر بن ذي الجوشن الكلابي للعباس و إخوته: أين بنو أختي؟ فلم يجيبوه فقال الحسين لإخوته: أجيبوه و إن كان فاسقا فإنه بعض أخوالكم. فقالوا له: ما تريد؟
قال: اخرجوا إلي فإنكم آمنون و لا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم فسبوه و قالوا له:
قبحت و قبح ما جئت به أ نترك سيدنا و أخانا و نخرج إلى أمانك .. و قتل هو و إخوته الثلاثة في ذلك اليوم فما أحقهم بقول القائل: قوم إذا نودوا- الخ‏ . و روى الصدوق في حديث عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: رحم اللّه العباس فلقد آثر و أبلى و فدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله اللّه عز و جل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب (عليه السلام) و أن للعباس عند اللّه تبارك و تعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة .
و قال أبو الفرج: و العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) يكنى أبو الفضل و أمه أم البنين أيضا و هو أكبر ولدها و هو آخر من قتل من إخوته لأمه و أبيه لأنه كان له عقب و لم يكن لهم فقدمهم بين يديه فقاتلوا جميعا فحاز مواريثهم ثم تقدم فقتل فورثهم و إياه عبيد اللّه و نازعه في ذلك عمه عمر بن علي فصولح على شي‏ء رضي به‏ .
قال جرمي بن أبي العلاء عن زبير عن عمه ولد العباس بن علي يسمونه السقاء و يكنونه أبا قربة و ما رأيت أحدا من ولده و لا سمعت عمن تقدم منهم هذا .
و في العباس بن علي (عليه السلام) يقول الشاعر:
أحق الناس أن يبكى عليه‏ فتى أبكى الحسين بكربلاء
أخوه و ابن والده علي‏ أبو الفضل المضرج بالدماء
و من واساه لا يثنيه شي‏ء و جاد له على عطش بماء

و فيه يقول الكميت:
و أبو الفضل ان ذكرهم الحلو شفاء النفوس من أسقام‏
قتل الادعياء إذ قتلوه‏ أكرم الشاربين صوب الغمام‏
و كان العباس (عليه السلام) رجلا و سيما جميلا يركب الفرس المطهم و رجلاه تخطان في الأرض و كان يقال له: قمر بني هاشم و كان لواء الحسين بن علي (عليهما السلام) معه يوم قتل‏ .
ثم روى بسنده عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: عبأ الحسين (عليه السلام) أصحابه فأعطى رايته أخاه العباس بن علي‏ .
و روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن زيد بن رقاد الجهني (الجنبي خ ل) و حكيم بن الطفيل الطائي قتلا العباس بن علي.
و روي مسندا عن معاوية بن عمار عن جعفر (عليه السلام) أنه كانت أم البنين أم هؤلاء الأربعة الأخوة القتلى تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة و أحرقها فيجتمع الناس إليها يسمعون منها و كان مروان يجي‏ء فيمن يجي‏ء لذلك فلا يزال يسمع ندبتها و يبكي‏ .
و قال ابن شهرآشوب في المناقب: و كان عباس السقاء قمر بني هاشم صاحب لواء الحسين (عليه السلام) و هو أكبر الإخوان مضى يطلب الماء فحملوا عليه و حمل هو عليهم و جعل يقول:
لا أرهب الموت إذ الموت رقى‏ حتى أوارى في المصاليت لقا
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا اني أنا العباس أغدو بالسقا
و لا أخاف الشر يوم الملتقى‏
ففرقهم فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة و عاونه حكيم بن‏ الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فأخذ السيف بشماله فحمل عليهم و هو يرتجز:
و اللّه إن قطعتم يميني‏ اني أحامي أبدا عن ديني‏
و عن إمام صادق اليقين‏ نجل النبي الطاهر الأمين‏
فقاتل حتى ضعف فكمن له الحكم (الحكيم خ ل) بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه على شماله فقال:
يا نفس لا تخشي من الكفار و أبشري برحمة الجبار
مع النبي السيد المختار قد قطعوا ببغيهم يساري‏
فأصلهم يا رب حر النار
فقتله الملعون بعمود من حديد فلما رآه الحسين (عليه السلام) مصروعا على شط الفرات بكى و أنشأ يقول:
تعديتمو يا شر قوم بفعلكم‏ و خالفتموا قول‏ النبي محمد
أ ما كان خير الرسل وصاكم بنا أما نحن من نسل النبي المسدد
أ ما كانت الزهراء أمي دونكم‏ أ ما كان من خير البرية أحمد
لعنتم و أخزيتم بما قد جنيتم‏ فسوف تلاقوا حر نار توقد

أقول: إن شئت أن تعلم حالة مولانا الحسين (عليه السلام) عند مقتل أخيه و مقتل سائر إخوته و أهل بيته و أصحابه عليهم السلام فتأمل في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) و حاله عند قتل أعاظم أصحابه و أحبته كعمار بن ياسر و مالك الأشتر و محمد بن أبي بكر و أبي الهيثم بن التيهان و خزيمة بن ثابت و غيرهم رضوان اللّه عليهم.
فقد روي أنه (عليه السلام) خطب قبل وفاته بجمعة ثم تذكر قتل هؤلاء و قال: أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق أين عمار و أين ابن التيهان و أين ذو الشهادتين و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية و أبرد برءوسهم إلى الفجرة ثم ضرب (عليه السلام) يده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ثم قال (عليه السلام) : أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه و تدبروا الفرض فأقاموه أحيوا السنة و أماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا- الخ‏ .
قوله (عليه السلام) «و أبرد برءوسهم» أي حملت رءوسهم مع البريد إلى الفجرة و المراد منهم هاهنا أمراء عسكر الشام.
و روي أنه لما قتل عمار رضي اللّه عنه بصفين مع جماعة من أصحاب أمير المؤمنين فلما كان الليل طاف أمير المؤمنين (عليه السلام) في القتلى فوجد عمارا ملقى فجعل رأسه على فخذه ثم بكى و أنشأ يقول:
أيا موت كم هذا التفرق غنوة فلست تبقي لي خليل خليل‏
أراك بصيرا بالذين أحبهم‏ كأنك تمضي نحوهم بدليل‏
و في الديوان الشعر الأول هكذا:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي‏ أرحني فقد أفنيت كل خليل‏
و في البحار عن بعض تأليفات الأصحاب: ان العباس لما رأى وحدته أتى أخاه و قال: يا أخي هل من رخصة؟ فبكى الحسين (عليه السلام) بكاء شديدا ثم قال: يا أخي أنت صاحب لوائي و إذا مضيت تفرق عسكري. فقال العباس: قد ضاق صدري و سئمت من الحياة و أريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين. فقال الحسين (عليه السلام) : فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء. فذهب العباس (عليه السلام) و وعظهم و حذرهم فلم ينفعهم فرجع إلى أخيه فأخبره فسمع الأطفال‏ ينادون: العطش العطش. فركب فرسه و أخذ رمحه و القربة و قصد نحو الفرات فأحاط به أربعة آلاف ممن كانوا موكلين بالفرات و رموه بالنبال فكشفهم و قتل منهم على ما روي ثمانين رجلا حتى دخل الماء فلما أراد أن يشرب غرفة من الماء ذكر عطش الحسين و أهل بيته فرمى الماء و ملأ القربة و حملها على كتفه الأيمن و توجه نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق و أحاطوا به من كل جانب فحاربهم حتى ضربه نوفل الأزرق على يده اليمنى فقطعها فحمل القربة على كتفه الأيسر فضربه نوفل فقطع يده اليسرى من الزند فحمل القربة باسنانه و جاءه سهم فأصاب القربة و أريق ماؤها ثم جاءه سهم آخر فأصاب صدره فانقلب عن فرسه و صاح إلى أخيه الحسين (عليه السلام) أدركني. فلما أتاه رآه صريعا فبكى‏ .
قلت: و ذكر الطريحي في كيفية قتله سلام اللّه عليه أنه حمل عليه رجل فضربه بعمود من حديد على أم رأسه ففلق هامته فوقع على الأرض و هو ينادي: يا أبا عبد اللّه عليك مني السلام‏ .
و قال ابن نما في حكيم بن الطفيل السنبسي: و كان قد أخذ سلب العباس (عليه السلام) و رماه بسهم‏ .
و في البحار قالوا: و لما قتل العباس قال الحسين (عليه السلام) : الآن انكسر ظهري و قلت حيلتي.
قلت: و لقد أجاد مادح آل الرسول أبو جعفر محمد ابن أمير الحاج الحسيني شارح قصيدة أبي فراس رحمه اللّه في مدح سيدنا العباس (عليه السلام) :
بذلت أيا عباس نفسا نفيسة لنصر حسين عز بالجد عن مثل‏
أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه‏ فحسن فعال المرء فرع على الأصل‏
فأنت أخو السبطين في يوم مفخر و في يوم بذل الماء أنت أبو الفضل‏
و قال الشيخ ابن نما في ذلك:
حقيقا بالبكاء عليه حزنا أبو الفضل الذي واسى أخاه‏
و جاهد كل كفار ظلوم‏ و قابل من ضلالهم هداه‏
فداه بنفسه للّه حتى‏ تفرق من شجاعته عداه‏
و جادله على ظمأ بماء و كان رضا أخيه مبتغاه‏
أقول: سرى البرق من نجد فجدد تذكاري لما ذكرت مواساة سيدنا العباس لأخيه و سيده الحسين صلوات اللّه عليه بلغ بخاطري أن أذكر قضية واحدة من مواساة والده أمير المؤمنين لأخيه و ابن عمه رسول اللّه صلى اللّه عليهما و آلهما لتكون زينة للكتاب وعدة ليوم الحساب.
قال الجاحظ في كتاب العثمانية بنقل ابن أبي الحديد عنه: و كان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة- إلى أن قال- و علي بن أبي طالب كان رافها وادعا ليس بمطلوب و لا طالب- الخ.
قال أبو جعفر الاسكافي في رده ما ملخصه: انا قد بينا بالأخبار الصحيحة و الحديث المرفوع المسند أنه (أي عليا) كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه و قلبه لمشركي قريش ثقيلا على قلوبهم و هو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب و صاحب الخلوات برسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في تلك الظلمات المتجرع لغصص المرار من أبي لهب و أبي جهل و غيرهما و المصطلى لكل مكروه و الشريك لنبيّه في كل أذى قد نهض بالحمل الثقيل و بان بالأمر الجليل و من الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق يخفي نفسه و يضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي و غيره فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق و القمح و هو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل و غيره لو ظفروا به لأراقوا دمه أ علي كان يفعل ذلك أيام الحصار في‏ الشعب أم أبو بكر؟ و قد ذكر هو حاله يومئذ فقال في خطبة له مشهورة: فتعاقدوا ألا يعاملونا و لا يناكحونا و أوقدت الحرب علينا نيرانها و اضطرونا إلى جبل وعر مؤمننا يرجو الثواب و كافرنا يحامي عن الأصل و لقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم و قطعوا عنهم المارة و الميرة فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء لا يرون وجها و لا فرجا قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم‏ .
و قال أبو جعفر (أي الاسكافي): لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان (أي الجاحظ) و الخطأ أقعده و الخذلان أصاره إلى الحيرة فما علم و عرف حتى قال ما قال فزعم أن عليا (عليه السلام) قبل الهجرة لم يمتحن و لم يكابد المشاق و أنه إنما قاسى مشاق التكليف و محن الابتلاء منذ يوم بدر و نسي الحصار في الشعب و ما مني به منه و أبو بكر وادع رافه يأكل مع من يريد و يجلس مع من يحب مخلى سربه طيبة نفسه ساكنا قلبه و علي (عليه السلام) يقاسي الغمرات و يكابد الأهوال و يجوع و يظمأ و يتوقع القتل صباحا و مساء لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش و عقلائها سرا ليقيم به رمق رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و بني هاشم و هم في الحصار و لا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) له بالقتل كأبي جهل بن هشام و عقبة بن أبي معيط و الوليد بن مغيرة و عتبة بن ربيعة و غيرهم من فراعنة قريش و جبابرتها و لقد كان يجيع نفسه و يطعم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) زاده و يظمئ نفسه و يسقيه ماءه و هو كان المعلل له إذا مرض و المؤنس له إذا استوحش و أبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم و لا يلحقه مما يلحقهم مشقة و لا يعلم بشي‏ء من أخبارهم و أحوالهم الا على سبيل الإجمال دون التفصيل ثلاث سنين محرمة معاملتهم و مناكحتهم و مجالستهم محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج و التصرف في أنفسهم فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة و نسي هذه الخصيصة و لا نظير لها- انتهى‏ .
هذه من علاه إحدى المعالي‏ و على هذه فقس ما سواها
و لقد أشار مادح أمير المؤمنين (عليه السلام) الشيخ الأزري (رحمه الله) إلى هذه الفضيلة بقوله:
من غدا منجدا له في حصار الشع ب إذ جد من قريش جفاها
يوم لم يرع للنبي ذمام‏ و تواصت بقطعه قرباها
فئة أحدثت أحاديث بغي‏ عجل اللّه في حدوث بلاها
فغدا نفس أحمد منه بالنفس‏ و من هول كل بؤس وقاها
كيف تنفك في الملمات عنه‏ عصمة كان في القديم أخاها
قلت: و لقد صدق أبو جعفر الاسكافي في قوله: و هو (عليه السلام) كان المعلل له (صلى اللّه عليه و آله) إذا مرض.
فقد روى ابن أبي الحديد عن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال: دخلت عليه «ص» صبيحة يوم قبل اليوم ال