انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

ربما يستعصي البيان عن الإفاضة في القول في هذا الفصل لشدّة وضوحه ، وربما أعقب الظهور خفاءً ؛ فإنّ منْ أبرز الصفات الحميدة في الهاشميِّين الشجاعة ، وقد جُبلوا عليها ، وبالأخص الطالبيِّين ، وقد أوقفنا على هذه الظاهرة الحديث النّبويّ : ( لو ولدَ النّاسَ أبو طالبٍ كُلَّهمْ لكانوا شُجعاناً (1) . (
إذاً فما ظنّك بطالبيٍّ أبوه أمير المؤمنين (عليه السّلام) قاتل عمر بن عبد ود ، ومزهق مرحب ، وقالع باب خيبر ، وقد عرق في ولده البسالة كُلّها والشهامة بأسرها ، وعلّمه قراع الكتائب ، فنشأ بين حروبٍ طاحنة وغارات شعواء ، وخؤولته العامريّون الذين شهد لهم عقيل بالفروسية ؟!
وللخؤولة كالعمومة عرق ضارب في الولد ، ومن هنا قالت العرب : ( فلان مُعِمٌّ مُخْوِلٌ ) إذا كان كريمهم ، وحوى المزايا الحميدة عنهما(2) ، ولم يعقد أمير المؤمنين (عليه السّلام) على اُمِّ البنين إلاّ لتلد له هذا الفارس المغوار والبطل المُجرّب ، فما أخطأت إرادته الغرض ، ولا عدى سهمه المرمى .
فكان أبو الفضل رمز البطولة ومثال الصولات ، يلوح البأس على أسارير جبهته ، فإذا يَمّم كميّاً قصده الموت معه ، أو التقى بمُقبل ولاّه دبره ، ولم يبرح هكذا تشكره الحرب والضرب ، وتشكوه الهامات والأعناق ، ما خاض ملحمة إلاّ وكان ليلها المعتكر ، ولم يلفَ في معركة إلاّ وقابل ببشره وجهها المُكفهر .
يُـمـثّـلُ الـكرّارَ في كرَّاتِهii بلْ في المعانِي الغُرِّ مِنْ صفاتِهِ
لـيـسَ يـدُ الـلّهِ سِوى أبيهii iiوقُـدرةُ الـلّـهِ تَـجـلََّتْ فيهِ
فَـهـو iiيـدُ اللّهِ وهذا ساعدُه iiتُـغـنِـيكَ عَنْ إثباتِهِ مشاهدُهْ
صَـولـتُهُ عندَ النّزالِ صولتُهْii لـولا الـغُلوُّ قُلتُ iiجلَّتْ قُدرتُه
وهل في وسع الشاعر أنْ ينضد خياله ، أو يتسنّى للكاتب أنْ يسترسل في وصف تلك البسالة الحيدريّة ، وجوهر الحقيقة قائمٌ بنفسه ، ماثلٌ أمامَ الباحث بأجلى مِن كُلّ هاتيك المعرفات في مشهد يوم الطَّفِّ ؟!
ولَعمري ، إنّ حديث كربلاء لم يُبقِ لسابقٍ في الشجاعة سبقاً ، ولا للاحقٍ طريقاً إلاّ الالتحاق به ، فلقد استملينا أخبار الشجعان في الحروب والمغازي يوم شأوا الأقران في الفروسيّة ، فلم يعدهم في الغالب الاستظهار بالعدد ، وتوفّر العتاد ، وتهيء ممدّات الحياة من المطعم والمشرب ، وفي الغالب إنّ الكفاية بين الجيشين المتقابلين موجودة .
يسترسل المؤرّخون لذكر شجعان الجاهليّة والحالة كما وصفناها ، واهتزّوا طرباً لقصة ربيعة بن مكدم ، وهي : إنّ ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان من بني مالك بن كنانة كان أحد فرسان مضر المعدودين ، خرج بالظعينة وفيها اُمّه اُمّ سنان من بني أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة ، واُخته اُمّ عزَّة ، وأخوه أبو القرعة ، ورأى الظعينة دُريد بن الصمّة ، فقال لرجل معه : صح بالرجل أنْ خَلِّ الظعينة وانجُ بنفسك . وهو لا يعرفه .
فلمّا رأى ربيعة أنّ الرجل قد ألحّ عليه ، ألقى زمام النّاقة وحمل على الرجل فصرعه ، فبعث دريد آخر فصرعه ربيعة ، فبعث الثالث ليعلم خبر الأوَّلَين فقتله ربيعة وقد انكسر رمحه ، فلمّا وافاه دُريد ورأى الثلاثة صرعى ورمحه مكسوراً ، قال له : يا فتى ، مثلُكَ لا يُقتل ، وهؤلاء يثأرون ولا رمح لك ، ولكنْ خُذ رمحي وانجُ بنفسك والظعينة . ثُمّ دفع إليه رمحه ورجع دريد إلى القوم ، وأعلمهم أنّ الرجل قتل الثلاثة وغلبه على رمحه ، وقد منع بالظعينة ، فلا طمع لكم فيه (3) .
هذا الذي حفظته السّيرة مأثرة لربيعة بن مكدم بتهالكه دون الظعائن حتّى انكسر رمحه ، ولكنْ أين هو من ( حامى الظعينة ) يوم قاتل الاُلوف ، وزعزع الصفوف عن المشرعة حتّى ملك الماء وملأ القربة ، والكُلّ يرونه ويحذرونه ؟!
وأنّى لربيعة من بواسل ذلك المشهد الرهيب فضلاً عن سيّدهم أبي الفضل (عليه السّلام) ، فلقد كان جامع رأيهم ، فلم يقدهم إلاّ إلى محلِّ الشرف ، مُنكباً بهم عن خطَّة الخسف والضّعة ، على حين أنّ الأبطال تتقاذف بهم سكرات الموت ؟!
هذا وللسبط المُقدّس (عليه السّلام) طرف شاخص إلى صنوه البطل المُقدام كيف يرسب ويطفو بين بُهمِ الرجال ، ووجهُهُ مُتهلّلٌ لكرّاته ، ولحرائر بيت النّبوَّة أملٌ موطَّد لحاميةِ الظعائن .
وإليك مثالاً من بسالته الموصوفة في ذلك المشهد الدامي ، وهي لا تدعك إلاّ مُذعناً بما له من ثبات ممنع عند الهزاهز ، وطُمأنينة لدى الأهوال .
الأوّل : في اليوم السّابع من المُحرَّم حُوصر سيّد الشُّهداء (عليه السّلام) ومَن معه ، وسُدّ عنهم باب الورود ، ونفذ ما عندهم من الماء ، فعاد كُلٌّ منهم يعالج لهب الأوام (4) ، وبطبع الحال كانوا بين أنّةٍ وحنّة ، وتضوّرٍ ونشيج ، ومُتطلّبٍ للماء إلى متحرٍّ ما يبلّ غلته ، وكُلُّ ذلك بعين ( أبي علي (عليه السّلام) ) والغيارى من آله ، والأكارم من صحبه ، وما عسى أنْ يجدوا لهم وبينهم وبين الماء رماحٌ مُشرعة وبوارقٌ مُرهفة في جمعٍ كثيف يرأسهم عمرو بن الحجّاج ، لكنْ ( ساقي العِطاشى ) لمْ يتطامن على تحمّل تلك الحالة .
أَو تَشتَكي العَطشَ الفَواطمُ عِندَهُ وَبصدرِ صعدَتِهِ الفراتُ المُفعمُ
وَلو اِستَقَى نَهـرَ المَـجرَّةِ لارتَقَى وَطَـويلُ ذابلِهِ إِلَيها سُلـَّمُ
لَو سَدُّ ذي القَرنينِ دُونَ ورودِهِ نَسَفتْهُ هِمَّتُهُ بِما هوَ أَعظَمُ
في كَفِّهِ اليُسرى السَّقاءُ يقلُّهُ وَبِكَفِّهِ اليُمنَى الحسامُ المِخْذَمُ
مثل السَّحابةِ لِلفَواطمِ صَوبُهُ ويُصيبُ حاصبُهُ العَدوَّ فَيُرجَمُ
هناك قيّض الحسين (عليه السّلام) لهذه المُهمّة أخاه العبّاس ، في حين أنّ نفسه الكريمة تُنازعه إلى ذلك قبل الطلب ، ويحدوه إليه حفاظه المُرُّ ، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية وإنْ كان دونه شقّ المرائر وسفك المُهج ، وضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ، وبعث معهم عشرين قربة ، وتقدّم أمامهم نافع بن هلال الجملي ، فمضوا غير مبالين وكُلّ بحفظ الشريعة ; لأنّهم محتفون بشتيم من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فتقدّم نافع باللّواء ، وصاح به عمرو بن الحجّاج : مَن الرجل ؟ وما جاء بك ؟
قال : جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه . فقال له : اشرب هنيئاً . قال نافع : لا واللّه ، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن ترى من آله وصحبه عِطاشى . فقال : لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، وإنّما وُضعنا هاهنا لنمنعهم الماء . ثُمّ صاح نافع بأصحابه : املأوا قربكم .
وشدّ عليهم أصحاب ابن الحجّاج ، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعضٌ يُقاتل ، وحاميهم ( ابنُ بجدتها ) مُسدّد الكماة ، المُتربِّي في حجر البسالة الحيدريّة والمُرتضع من لبانها ( أبو الفضل ) ، فجاؤوا بالماء وليس في القوم المناوئين مَن تُحدّثه نفسه بالدنوِّ منهم ؛ فرقاً من ذلك البطل المغوار ، فبُلّت غلّة الحرائر والصبية الطيِّبة من ذلك الماء ، وابتهجت به النّفوس (5) .
ولكنْ لا يفوت القارئ معرفة : إنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أنْ تُجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين ، رجالاً ونساءً وأطفالاً ، أو أنّهم ينيفون على المئتين على بعض الروايات ؟! ومِنَ المقطوع به أنّه لم تروِ أكبادهم إلاّ مرّة واحدة ، أو أنّها كمصّة الوشل ، فسرعان أنْ عاد إليهم الظمأ ، وإلى اللّه سبحانه المُشتكى .
الثاني : كان أصحاب الحسين (عليه السّلام) بعد الحملة الاُولى التي استشهد فيها خمسون ، يخرج الاثنان والثلاثة والأربعة ، وكُلٌّ يحمي الآخر من كيد عدوّه ، فخرج الجابريان وقاتلا حتّى قُتلا ، وخرج الغفّاريان فقاتلا معاً حتّى قُتلا ، وقاتل الحُرُّ الرياحي ومعه زهير بن القَين يحمي ظهره حتّى فعلا ذلك ساعة ، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم ، شدَّ الآخر واستنقذه حتّى قُتل الحُرُّ(6) .
وفي تاريخ الطبري ج6 ص255 : إنّ عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه ، وجابر بن الحارث السّلماني ، ومجمع بن عبد اللّه العائذي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة ، فلمّا أوغلوا فيهم عطف عليهم النّاس من كُلِّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم ، فندب إليهم الحسين (عليه السّلام) أخاه العبّاس ، فاستنقذهم بسيفه ، وقد جُرحوا بأجمعهم ، وفي أثناء الطريق اقترب منهم العدو ، فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح وقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد ، وفازوا بالسّعادة الخالدة .
ــــــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 / 78 ، كشف الغُمَّة 2 / 235 باختلاف ألفاظ الرواية بلفظ : (( للّه درُّ أبي طالب ! لو وَلد النّاسَ كلَّهم كانوا شُجعاناً )) . كما في كشف الغُمَّة للأربلي ، أو : (( لو ولدَ أبو طالبٍ النّاسَ كُلَّهُمْ لكانُوا شُجعاناً )) . كما في شرح النّهج .
(2) لسان العرب 11 / 224 ، تاج العروس 14 / 216 . وقد نظم هذه الخاصّة أبو بكر محمّد بن العبّاس الخوارزمي ، المُتوفّى سنة 373 ، ففي مُعجم البلدان 1 / 57 بمادة ( آمل ) إنّه قال :
بـآملَ مولدِي وبنُو جريرِ فأخوالِي ويحكِي المرءُ خالَهْ
فـها أنا رافضيٌّ عنْ تُراثٍ وغيرِي رافضيٌّ عنْ كَلالَهْ
عرّض بابن جرير صاحب التاريخ ؛ فإنّه أخو اُمّه ، وكان من أهل السُّنّة ، وإنّما نسبه إلى التشيّع الحنابلة لتصحيحه حديث الغدير ، فتشيّعه ادّعائي ، وهو المُعبّر عنه بـ ( الكلالة ) ؛ فإنّها في اللغة : ما لمْ يكن من النّسب لحاً . فقول الحموي في المُعجم : ( كذب الخوارزمي ; لأنّ ابن جرير من أعلام السُّنّة ) مبنيٌّ على عدم فهمه الغرض من البيت ، فالخوارزمي لمْ يعترف بتشيعهِ .
وقال الذهبي في تاريخه 27 / 68 ، وقال الحاكم في تاريخه : كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر ، وكان يُذاكرني بالأسماء والكنى حتّى يُحيّرني حفظه . . .
(3) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 16 / 312 .
(4) الأوام : العطش . راجع : لسانَ العرب 12 / 38 ، القاموس المحيط 4 / 77 ، مجمع البحرين للطّريحي 1 / 135 ، تاج العروس 16 / 38 .
(5) تاريخ الطبري 4 / 312 ، مقتل الحسين لأبي مخنف / 98 .
(6) تاريخ الطبري 4 / 340 ، مقتل الحسين لأبي مخنف / 160 .