انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

يسترسل بعض الكتّاب عن موقفه قبل الطَّفِّ ، فيُثبت له منازلة الأقران والضرب والطعن ، وبالغوا في ذلك حتّى حُكي عن ( المنتخب ) أنّه يقول : كان كالجبلِ العظيمِ ، وقلبُهُ كالطّود الجسيم ; لأنّه كان فارساً هُماماً ، وجسوراً على الضرب والطعن في ميدان الكفّار .
ويُحدّث صاحب الكبريت الأحمر ج3 ص24 عن بعض الكتب المعتبرة لتتبّع صاحبها : أنّه (عليه السّلام) كان عضداً لأخيه الحسين (عليه السّلام) يوم حمل على الفرات ، وأزاح عنه جيش معاوية ومَلَك الماء .
قال : وممّا يُروى : أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنين (عليه السّلام) شابٌّ على وجهه نقاب ، تعلوه الهيبة ، وتظهر عليه الشجاعة ، يُقدّر عمره بالسّبع عشرة سنة ، يطلب المبارزة ، فهابه النّاس ، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء ، فقال : إنّ أهل الشام يعدّونني بألف فارس ، ولكن أرسل إليه أحد أولادي ـ وكانوا سبعة ـ وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم ، فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه ، ولمّا برز إليه ألحقه بهم ، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته ، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميِّين ، ولم يعرفوه لمكان نقابه ، ولمّا رجع إلى مقرّه دعاه أبوه أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأزال النّقاب عنه ، فإذا هو ( قمر بني هاشم ) ولده العبّاس (عليه السّلام) .
قال صاحب الكبريت بعد هذه الحكاية : وليس ببعيد صحة الخبر ؛ لأنّ عمره يقدر بالسّبع عشرة سنة ، وقد قال الخوارزمي : كان تامّاً كاملاً .
وهذا نصّ الخوارزمي في المناقب ص147 : خرج من عسكر معاوية رجل يُقال له : كُريب ، كان شجاعاً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته ، فنادى : ليخرج إليّ عليٌّ . فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيدي فقتله ، ثُمّ برز إليه شرحبيل بن بكر فقتله ، ثُمّ برز إليه الحرث بن الحلاّج الشيباني فقتله ، فساء أمير المؤمنين (عليه السّلام) ذلك ، فدعا ولده العبّاس (عليه السّلام) ، وكان تامّاً كاملاً من الرجال ، وأمره أنْ ينزل عن فرسه وينزع ثيابه ، فلبس عليٌّ (عليه السّلام) ثياب ولده العبّاس وركب فرسه ، وألبس ابنه العبّاس ثيابه وأركبه فرسه ؛ لئلا يجبن كُريب عن مبارزته إذا عرفه ، فلمّا برز إليه أمير المؤمنين (عليه السّلام) ذكّره الآخرة ، وحذّره بأس اللّه وسخطه .
فقال كُريب : لقد قتلتُ بسيفي هذا كثيراً من أمثالك ، ثُمّ حمل على أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فاتّقاه بالدرقة وضربه عليٌّ (عليه السّلام) على رأسه فشقّه نصفين ، ورجع أمير المؤمنين (عليه السّلام) وقال لولده محمّد بن الحنفيّة : (( قفْ عندَ مصرعِ كُريب ؛ فإنّ طالبَ وترِهِ يأتيك )) . فامتثل محمّدٌ أمر أبيه (عليه السّلام) ، فأتاه أحد بني عمّه وسأله عن قاتل كُريب ، قال محمّد : أنا مكانه . فتجاولا ثُمّ قتله محمّدٌ ، وخرج إليه آخر فقتله محمّد حتّى أتى على سبعة منهم(1) .
وفي ص105 من المناقب ذكر حديث العبّاس بن الحارث بن عبد المُطّلب : وقد برز إليه عثمان بن وائل الحميري فقتله العبّاس ، فبرز إليه أخوه حمزة ـ وكان شجاعاً قوياً ـ فنهاه أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن مبارزته ، وقال له : (( انزعْ ثيابَكَ وناولنِي سلاحَكَ وقفْ مكانَكَ ، وأنا أخرجُ إليهِ )) . فتنكّر أمير المؤمنين (عليه السّلام) وبرز إليه وضربه على رأسه ، فقطع نصف رأسه ووجهه وإبطه وكتفه ، فتعجّب اليمانيُّون من هذه الضربة وهابوا العبّاس بن الحارث (2).
هذا ما حدّث به في المناقب ، ومنه نعرف أنّ هناك واقعتين جرتا لأمير المؤمنين (عليه السّلام) مع ولده العبّاس ومع العبّاس بن الحارث ؛ فإنكار شيخنا الجليل المُحدّث النّوري في حضور العبّاس في صفّين ، مُدّعياً اشتباه الأمر على بعض الرواة بالعبّاس بن الحارث ، في غير محلّه ؛ فإنّ الحجّة على تفنيد الخبر غير تامّة ; لأنّ آحاد هذا البيت ورجالاتهم قد فاقوا الكُلَّ في الفضائل جميعها ، وجاؤوا بالخوارق في جميع المراتب ، فليس من البِدع إذا صدر من أحدهم ما يمتنع مثله عن الشجعان وإنْ لم يبلغوا مبالغ الرجال .
فهذا القاسم بن الحسن السّبط (عليه السّلام) لم يبلغ الحلم يوم الطَّفِّ ، وقد ملأ ذلك المشهد الرهيب هيبةً ، وأهدى إلى قلوب المقارعين فَرَقاً ، وإلى الفرائص ارتعاداً ، وإلى النّفوس خَوراً ، غير مبالٍ بالجحفل الجرّار ، ولا بمكترثٍ بمزدحم الرجال حتّى قتل خمسة وثلاثين فارساً (3)، وبطبع الحال فيهم مَن هو أقوى منه ، لكنّ البسالةَ وراثةٌ بين أشبال ( علي (عليه السّلام) ) على حدٍّ سواء ، فهم فيها كأسنان المشط ، صغيرهم وكبيرهم ، كما أنّهم في الأنفة عن الدنية سيان ، فلم يغتالوا الشبل الباسل حتّى وقف يشدُّ شسع نعله ، وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله ، وقد أنف ( شبل الوصيِّ ) أنْ يحتفي في الميدان .
أهـوى يـشـدُّ حذاءَهُ والحربُ مُشرعةٌ لأجْلِهْ
لـيَسُومَها iiما إنْ غلتْ هَـيْجاؤهَا بِشراكِ نَعْلِهْ
مُـتـقـلِّداً صمْصامَهii مُـتفيِّئاً iiبظلالِ نصْلِهْ
لا تَـعْـجَـبـنَّ لفعِلهِii فـالفرعُ مُرتَهنٌ بأصلِهْ
الـسّحُب iiيَخلفُها الحَيا iiوالـليّثُ مَنظورٌ بشبلِهْ
يُـردِي الـطَّليعةَ مِنهُمُ ويُريهُمُ iiآياتَ فِعْلِهْ(4)
وهذا عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، بارز يوم الطَّفِّ الاُلوف مع صغر سنِّه حتّى قتل منهم ـ على رواية محمّد بن أبي طالب ـ ثلاثةً وتسعين رجلاً ، بثلاث حملات .
وهذا محمّد بن الحنفيّة ، فإنّ له مواقفاً محمودة في الجمل وصفِّين والنّهروان ، وكانت الراية معه ، فأبلى بلاءً حسناً سجَّله له التاريخ وشكره الإسلام ، وكان صغير السّنِّ على ما يظهر من السّبط في تذكرة الخواصّ ، وابن كثير في البداية ج9 ص38 (5) ، فإنّهما نصّا على وفاته سنة 81 عن خمسٍ وستّين ، فتكون ولادته سنة 16 للهجرة ، وله يوم البصرة الواقع سنة 36 هـ عشرون سنة .
وحينئذ فلا غرابة في التحدّث عن موقف أبي الفضل (عليه السّلام) وما أبداه من كرٍّ وإقدام ؛ خصوصاً بعد ما أوقَفَنا النّص النّبوي الآتي على ما حواه وُلدُ أبي طالب من بسالة وبطولة .
وأمّا يوم شهادة أخيه الإمام المجتبى (عليه السّلام) فله أربع وعشرون سنة ، وقد ذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص84 : أنّه لمّا رأى جنازة سيّد شباب أهل الجنّة (عليه السّلام) تُرمى بالسّهام ، عظمَ عليه الأمر ، ولم يطقْ صبراً دون أنْ جرَّد سيفه وأراد البطش بأصحاب ( البغلة ) لولا كراهيةُ السّبط الشهيد (عليه السّلام) الحرب ؛ عملاً بوصية أخيه (عليه السّلام) : (( لا تُهرقْ في أمرِي مَحْجَمةً مِنْ دمٍ .( (6)
فصبر أبو الفضل (عليه السّلام) على أحرِّ من جمر الغضا ، ينتظرُ الفرصة ويترقَّبُ الوعدَ الإلهي ، فأجهد النّفس ، وبذل النّفس في مشهد ( النّواويس ) ، وحاز كلتا الحُسنيين .
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب للخوارزمي / 228 ، والنّقل بالمعنى .
(2) المناقب للخوارزمي / 231 ، والنّقل بالمعنى .
(3) لواعج الأشجان للأمين / 174 ، بحار الأنوار 45 / 34 ، وفيه : فقَتلَ على صغر سنّه خمسة وثلاثين رجلاً . بدلَ فارسٍ .
(4) للعلاّمة السيّد مير علي أبو طبيخ (رحمه الله) .
(5) البداية والنّهاية لابن كثير 9 / 32 ، تذكرة الخواصّ 2 / 298 .
(6) دلائل الإمامة / 162 ، الإرشاد للشيخ المفيد / 17 ، عمدة الطالب لابن عنبة / 67 باختلاف الألفاظ .