انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

انّ الامام الحسين (عليه السلام) كتب كتابا الى أهل الكوفة جوابا لهم و أرسله بيد مسلم بن عقيل و أمره بالذهاب الى الكوفة.
فتهيّأ مسلم للشخوص الى الكوفة، فودع الحسين (عليه السلام) و خرج من مكّة (و في بعض الروايات انّه خرج من مكة ليلة النصف من شهر رمضان و قدم الى الكوفة في الخامس من شوال) فذهب الى المدينة فصلى في المسجد و زار النبي (صلى الله عليه واله)ثم ذهب الى أهله فودّعهم، ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق فضلا و أصابهما عطش شديد فعجزا عن المسير فأومأ له الى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك، فسلك مسلم ذلك السنن و مات الدليلين عطشا، فوصل مسلم بن عقيل الى قرية تسمى بمضيق، بعسر و مشقة فكتب من هناك كتابا الى الحسين (عليه السلام) يريد منه أن يعفيه من مهمّته و يستبدل غيره فأرسل كتابه بيد قيس بن مسهر، و لم يعفه الامام و أمره بالذهاب الى الكوفة .
فلما وصل الكتاب الى مسلم عجّل بالذهاب الى الكوفة فلما قدمها ذهب الى دار المختار بن ابي عبيدة الثقفي، المعروف بدار سالم بن المسيب، و على رواية الطبري نزل عند مسلم بن عوسجة، ففرح أهل الكوفة و جاءوا إليه أفواجا، فكان يقرأ على كل جماعة منهم كتاب الامام (عليه السلام) فيستمعون و يبكون ثم يبايعون.
و في تاريخ الطبري انّه: قام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: امّا بعد فانّي لا أخبرك عن الناس و لا أعلم ما في أنفسهم و ما أغرّك منهم و اللّه أحدثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، و اللّه لأجيبنّكم اذا دعوتم و لأقاتلنّ معكم عدوّكم و لأضربنّ بسيفي دونكم حتى ألقى اللّه، لا أريد بذلك الّا ما عند اللّه.
فقام حبيب بن مظاهر فقال: رحمك اللّه قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك، ثم قال:
و انا و اللّه الذي لا إله الّا هو على مثل ما هذا عليه.
ثم قال الحنفي مثل ذلك (يمكن أن يكون المراد منه سعيد بن عبد اللّه الحنفي) .
و قال شيخ المفيد رحمه اللّه و غيره: و بايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر الفا فكتب مسلم الى الحسين (عليه السلام) يخبره ببيعة ثمانية عشر الفا و يأمره بالقدوم و جعلت الشيعة تختلف الى مسلم بن عقيل رحمه اللّه حتى علم بمكانه فبلغ النعمان بن بشير ذلك و كان واليا على الكوفة من قبل معاوية فأقرّه يزيد عليها .
فصعد المنبر و هدّد الناس و خوّفهم و أمرهم بترك الاختلاف و الذهاب الى مسلم، فلم يستمع الناس كلامه و ظلّوا يختلفون الى مسلم، فلما رأى عبد اللّه بن مسلم بن ربيعة- من شيعة بني أميّة- ضعف النعمان و عدم سيطرته على الاوضاع كتب الى يزيد كتابا و أخبره عن قدوم مسلم الى الكوفة و بيعة أهلها له و سعى في عزل النعمان و ارسال غيره.
و كتب ابن سعد أيضا كتبا الى يزيد فأخبره بوقائع الكوفة و ما يجري فيها، فلما بلغ ذلك‏ يزيد اللعين، شاور سرجون- و هو مولى ابيه معاوية و من خواصّه و مستشاره فصار بعده في خدمة يزيد- فاستقر رأيهما على جعل عبيد اللّه بن زياد واليا عليها مضافا الى البصرة فكتب يزيد الى عبيد اللّه الذي كان واليا على البصرة آنذاك: «اما بعد فانّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني انّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، و السلام».
فأمر عبيد اللّه بالجهاز من وقته و المسير و التهيؤ الى الكوفة من الغد، ثم خرج من البصرة فاستخلف أخاه عثمان و أقبل الى الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي و شريك بن الاعور الحارثي و حشمه و أهل بيته حتى دخل الكوفة و عليه عمامة سوداء و هو متلثم و الناس قد بلغهم اقبال الحسين (عليه السلام) إليهم فهم ينتظرون قدومه فظنوا حين رأوا عبيد اللّه انّه الحسين (عليه السلام).
فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس الّا سلّموا عليه و قالوا مرحبا بك يا ابن رسول اللّه قدمت خير مقدم، فرأى من تباشرهم بالحسين (عليه السلام) ما ساءه فقال مسلم بن عمرو لما اكثروا:
تأخروا هذا الامير عبيد اللّه بن زياد، و سار حتى وافى القصر بالليل و معه جماعة قد التفوا به (فبات تلك الليلة هناك) فلما أصبح نادى في الناس الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخرج إليهم فصعد المنبر و هدّدهم و خوّفهم من معصية الخليفة و واعدهم الاحسان و الجوائز بطاعة يزيد.
ثم نزل من المنبر و دعا رؤساء القبائل و المحلات و أمرهم أن يكتبوا إليه اسم من يظنّون انّه في مقام الخلاف و النفاق مع يزيد، و لو توانو في هذا الامر و لم يفعلوه، فدمهم و مالهم مباح‏ .
و لما سمع مسلم خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هاني بن عروة فدخلها و اختفى‏ هناك، و على رواية الطبري أبي الفرج انه لما دخل مسلم دار هاني بن عروة المرادي: فدخل بابه و أرسل إليه أن أخرج، فخرج إليه هاني فكره هاني مكانه حين رآه، فقال له مسلم:
أتيتك لتجيرني و تضيّفني فقال: رحمك اللّه لقد كلفتني شططا و لو لا دخولك داري و ثقتك، لأحببت و لسألتك أن تخرج عنّي غير انّه يأخذني من ذلك ذمام و ليس مردود على مثلك عن جهل أدخل، فآواه‏ .
و نرجع الى الرواية السابقة، لما دخل مسلم دار هاني أخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على تستّر و استخفاء من عبيد اللّه و تواصوا بالكتمان فكان الامر هكذا حتى بايعه خمسة و عشرون الف رجل- على رواية ابن شهرآشوب‏ - و كان ابن زياد لا يعلم بمكان مسلم و موضعه و قد جعل العيون كي يطّلع عليه، فعلم بعد اعمال الحيل انّه في دار هاني، و كان معقل- مولى ابن زياد- يختلف على مسلم كل يوم و يطلع على خفايا و أسرار الشيعة ثم يبلغها الى ابن زياد.
و خاف هاني بن عروة من عبيد اللّه على نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه و تمارض، فقال ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أرى هانيا؟ فقالوا: هو شاك، فقال: لو علمت بمرضه لعدته، و دعا محمد بن الأشعث و أسماء بن خارجة و عمرو بن الحجاج الزبيدي و كانت رويحة بنت عمرو تحت هاني بن عروة.
فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من اتياننا؟ فقالوا: ما ندري و قد قيل انّه يشتكي، قال:
قد بلغني انّه قد برى‏ء و هو يجلس على باب داره، فالقوه و مروه الّا يدع ما عليه من حقّنا فانّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.
فأتوه و أرضوه بالذهاب الى ابن زياد، فخرجوا معه إليه، فقال في الطريق لحسان بن اسماء بن خارجة: يا ابن الأخ انّي و اللّه لهذا الرجل لخائف فما ترى، فقال: يا عم و اللّه ما أتخوّف‏ عليك شيئا و لم تجعل على نفسك سبيلا.
فكان يسلّيه حتى قدموا على ابن زياد اللعين فلما رأى عبيد اللّه هاني قال: اتتك بحائن‏ رجلاه، فبدأ بتوبيخه و عتابه و قال له: إيه يا هاني ما هذه الامور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين و عامة المسلمين جئت بمسلم بن عقيل فادخلته دارك و جمعت له السلاح و الرجال في الدور حولك و ظننت انّ ذلك يخفى عليّ.
فانكر هاني ذلك فدعا عبيد اللّه معقلا ذلك العين فجاء حتى وقف بين يديه فلمّا رآه هاني علم انّه كان عينا عليهم و انّه قد أتاه باخباره فلم يقدر على الانكار فقال:
و اللّه ما دعوته الى منزلي و لا علمت بشي‏ء من أمره حتى جاءني يسألني النزول فاستحييت من ردّه و دخلني من ذلك ذمام فضيّفته و آويته، و إن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك و انطلق إليه فأمره أن يخرج من داري الى حيث شاء من الارض فأخرج من ذمامه و جواره.
فقال له ابن زياد اللعين: و اللّه لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به، قال هاني: لا و اللّه لا أجيبك به أبدا أجيئك بضيفي تقتله، فكثر الكلام بينهما و بالغ ابن زياد في ما يريده و تضايق هاني عن اجابته.
فقام مسلم بن عمرو الباهلي فقال: أصلح اللّه الامير خلّني و ايّاه حتى أكلّمه، فقام فخلا به ناحية من ابن زياد و هما منه بحيث يراهما فاذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، فقال له مسلم: يا هاني أنشدك اللّه أن تقتل نفسك و أن تدخل البلاء في عشيرتك فو اللّه انّي لأنفس بك عن القتل، انّ هذا الرجل ابن عم القوم و ليسوا قاتليه و لا ضارّيه فادفعه إليهم.
فقال هانيّ: و اللّه انّ عليّ في ذلك الخزي و العار أن أدفع جاري و ضيفي و أنا حيّ صحيح أسمع و أرى، شديد الساعد، كثير الأعوان، و اللّه لو لم اكن الّا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.
فسمع ابن زياد ذلك فقال: أدنوه منّي، فأدنوه منه، فقال: و اللّه لتأتيني به أو لأضربنّ عنقك، فقال هاني: اذا و اللّه لتكثر البارقة حول دارك، و لتكثر السيوف عليك من بني مذحج.
فقال ابن زياد: وا لهفاه عليك أبا بارقة تخوفني؟ و هو يظنّ انّ عشيرته سيمنعونه، ثم قال:
أدنوه منّي، فأدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب به أنفه و جبينه و خدّه حتى كسر انفه و سال الدم على وجهه و لحيته و نثر لحم جبينه و خدّه على لحيته حتى كسر القضيب و ضرب هاني يده الى قائم سيف شرطي و جاذبه الرجل و منعه.
فقال عبيد اللّه: ... قد حلّ لنا دمك جرّوه، فجرّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار و اغلقوا عليه بابه، فقام إليه اسماء بن خارجة- و على رواية المفيد حسان بن اسماء- فقال: أرسل غدر ساير اليوم، أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى اذا جئناك به هشمت أنفه و وجهه و سيّلت دماءه على لحيته و زعمت انّك تقتله.
فلما سمع ابن زياد ذلك غضب، فأمر به، فلهز و تعتع‏ و اجلس ناحية، فقال محمد بن الاشعث: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا إنمّا الامير مؤدب، و بلغ عمرو بن الحجاج انّ هانيا قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر و معه جمع عظيم ثم نادى:
انا عمرو بن الحجاج و هذه فرسان مذحج و وجوهها لم نخلع طاعة و لم نفارق جماعة.
فخاف ابن زياد و أمر شريح القاضي ان يدخل على هاني و ينظر إليه ثم يخبر القوم بانّه حي لم يقتل، فدخل شريح فنظر إليه و الدماء تسيل عليه و هو يقول: يا للّه يا للمسلمين، أهلكت عشيرتي؟ اين أهل الدين اين أهل المصر؟ انّه ان دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني‏ .
فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم و أخبرهم بانّ هاني حيّ و انّ الذي بلغهم من قتله باطل، فحمدوا اللّه و أثنوا عليه ثم تفرقوا و انصرفوا.
و لمّا بلغ مسلم ذلك أمر ان ينادى في اصحابه بالخروج للقتال، فاجتمع هؤلاء الغدرة على باب هاني، فخرج إليهم مسلم و عقد لكل قبيلة راية، و ما لبث قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس و السوق، فضاق بعبيد اللّه امره و ليس معه في القصر الّا خمسون نفرا و باقي اصحابه خارج القصر ليس لهم إليه سبيل.
فاجتمع اصحاب مسلم حول القصر و أخذوا يرمون من في القصر بالحجارة و يشتمون و يفترون على عبيد اللّه و على ابيه، فدعا ابن زياد كثير بن شهاب و أمره ان يخرج فيمن اطاعه من مذحج فيسير في الكوفة و يخذل الناس عن ابن عقيل و يخوفهم الحرب و يحذرهم عقوبة السلطان.
و أمر محمد بن الاشعث أن يخرج فيمن اطاعه من كندة و حضر موت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس و ينادي انّه من دخل تحت هذه الراية فعرضه و ماله و دمه في امان، و قال مثل ذلك للقعقاع الذهلي و شبث بن ربعي و حجّار بن ابجر و شمر بن ذي الجوشن، فأرسلهم للغدر بالناس و اغوائهم.
فأقام محمد بن الاشعث علما فاجتمع حوله جمع من الناس مع انصراف جمع آخر بسبب الوساوس الشيطانية التي بثّها أعوان عبيد اللّه حتى اجتمع عندهم خلق كثير فذهبوا الى القصر و دخلوه من الخلف، فلمّا أحسّ ابن زياد بكثرة اعوانه عقد راية لشبث بن ربعي و أرسله مع جمع من المنافقين الى خارج القصر و أمر رؤساء القبائل أن يصعدوا على السطوح و يخذّلوا الناس عن مسلم و يقولوا: أيّها الناس الحقوا بأهاليكم و لا تعجلوا الشرّ و لا تعرضوا انفسكم للقتل فانّ هذه جنود الشام قد أقبلت، و قد أعطى الامير عهدا أن يزيد في عطائكم و أقسم باللّه لان لم تنصرفوا من عشيتكم ليحرمنّ ذريتكم العطاء و يفرق مقاتليكم في مغازي الشام و أن يأخذ البري‏ء منكم بالسقيم و الشاهد بالغائب حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية الّا أذاقها وبال ما جنت أيديها.
و تكلم كثير بن شهاب و الاشراف بنحو من ذلك فلمّا سمع الناس ذلك أخذوا يتفرقون قبل‏ أن تغرب الشمس‏ .