انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

قال العلامة المجلسي رحمه اللّه في جلاء العيون: لما سمع مسلم وقع حوافر الخيل علم انّهم جاءوا لطلبه فقال: انا للّه و انا إليه راجعون، فأخذ سيفه و خرج من البيت فلما رأهم قاتلهم قتالا شديدا حتى قتل جمعا منهم فجعلوا يفرّون منه أينما يتوجه.
فقتل منهم خمسة و اربعين رجلا، و قد بلغ من الشجاعة و القوّة مبلغا عظيما حتى انّه كان يرفع الرجل منهم بيده و يقذفه على السطح، و جاء بكر بن حمران و ضربه على فمه فقطع شفته العليا و أسرع السيف الى السفلى و فصلت له ثنيتاه، فلم يقطع القتال بل هجم عليهم.
فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة و يلهبون النار في اطنان القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيت، فلما رأى ذلك و أيس من الحياة هجم عليهم كرة اخرى و قتل جمعا آخر منهم.
فلما رأى ابن الاشعث ذلك و علم انّه لا يمكّن من نفسه قال له: لك الامان لا تقتل نفسك و انّ ابن زياد لا يريد قتلك فقال مسلم: لا أمان لكم يا أهل الكوفة فان الوفاء بعيد من المنافقين، و كان قد اثخن بالجراح و عجز عن القتال فأسند ظهره الى الجدار.
فعرض ابن الاشعث عليه الامان مرة أخرى، فقبل منه مع علمه بعدم وفائهم بالأمان و انّهم يكذبون، فقال لابن الاشعث: أ آمن؟ قال: نعم، فقال للقوم الذين معه: الى الامان؟
قال القوم له: نعم، فترك القتال و وطن نفسه على القتل.
و على رواية السيد بن طاوس انّه: نادى إليه محمد بن الاشعث و قال: يا مسلم لك الامان، فقال مسلم: و أيّ أمان للغدرة الفجرة ثم أقبل يقاتلهم و يرتجز، فتكاثروا عليه بعد ان أثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ الى الارض فأخذ أسيرا .
فأتي ببغلة فحمل عليها فاجتمعوا حوله و انتزعوا سيفه فكانه عند ذلك أيس من نفسه و دمعت عيناه ثم قال: هذا اول الغدر قال له محمد بن الاشعث: أرجوا ان لا يكون عليك بأس فقال: و ما هو الّا الرجاء أين أمانكم؟ فتأوّه و قال: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] و بكى‏ .
فقال له عبيد اللّه بن العباس السلمي: انّ من يطلب مثل الذي تطلب اذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك، قال: و اللّه ما لنفسي بكيت و لا لها من القتل أرثي و لكن ابكي لأهلي المقبلين إليّ‏
أبكي للحسين (عليه السلام).
ثم أقبل على محمد بن الاشعث فقال: يا عبد اللّه انّي أراك و اللّه ستعجز عن أماني فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني أن يبلغ حسينا، فانّي لا أراه الّا قد خرج إليكم مقبلا أو هو خارج غدا و أهل بيته، و يقول انّ ابن عقيل بعثني إليك و هو أسير في أيدي القوم لا يرى انّه يمسي حتى يقتل و هو يقول: ارجع فداك أبي و أمي بأهل بيتك و لا يغرّك أهل الكوفة، فانّهم اصحاب ابيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، انّ أهل الكوفة قد كذبوك و ليس لكذوب رأي.
فتعهد ابن الاشعث له بذلك و أقبل بابن عقيل الى باب القصر فدخل على ابن زياد الدعي بن الدعي، فأخبره خبر ابن عقيل و ما كان من أمانه، فقال له عبيد اللّه، و ما أنت و الامان كأنّا أرسلناك لتؤمنه، فسكت ابن الاشعث.
و لمّا جي‏ء بذلك الغريق في بحر المحن و البلاء على باب القصر، كان قد اشتد عليه العطش و على باب القصر ناس جلوس ينتظرون الاذن، و اذا قلة باردة موضوعة على الباب، فقال مسلم لهؤلاء الغدرة الفجرة: اسقوني من هذا الماء.
فقال مسلم بن عمرو: أ تراها ما أبردها و اللّه لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنّم، فقال له ابن عقيل: ويلك من أنت؟ قال: أنا من عرف الحق اذ انكرته و نصح لامامه اذ غششته و اطاعه اذ خالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي (لعنه اللّه).
فقال له ابن عقيل: لامّك الثكل ما أجفاك و أفظّك و أقسى قلبك، أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم و الخلود في نار جهنّم منّي، ثم جلس فتساند الى حائط فرقّ له عمرو بن حريث فبعث إليه غلاما له فجاءه بقلة عليها منديل و قدح فصب فيه ماء و قال له: اشرب، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دما من فيه فلا يقدر ان يشرب ففعل ذلك مرّة أو مرّتين، فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح فقال: «الحمد للّه لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته».
و خرج رسول ابن زياد فأمر بادخاله إليه فلما دخل لم يسلم عليه فقال له الحرسي:
- الا تسلم على الأمير؟ فقال مسلم: أما و اللّه انّه ليس أميري، و في رواية اخرى: ان كان يريد قتلي فما سلامي عليه و ان كان لا يريد قتلي ليكثرن سلامي عليه، فقال له ابن زياد:
- لعمري لأقتلنّك سواء سلّمت أم لم تسلم.
فقال مسلم: دعني أوصي الى بعض قومي، قال: افعل، فنظر مسلم الى جلساء عبيد اللّه و فيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر انّ بيني و بينك قرابة و لي إليك حاجة و قد يجب لي عليك نجح حجتي و هي سرّ، فامتنع عمر بن سعد تظاهرا لعبيد اللّه بالإخلاص و المودّة، فقال له عبيد اللّه: ويلك لم تمتنع ان تنظر في حاجة ابن عمّك؟
فلما سمع ذلك من ابن زياد قام و أخذ مسلم الى ناحية من القصر فقال له مسلم: انّ عليّ بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فبع سيفي و درعي فاقضها عنّي، فاذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها و ابعث الى الحسين (عليه السلام) من يردّه فانّي قد كتبت إليه اعلمه انّ الناس معه و لا أراه الّا مقبلا.
فجاء عمر الى ابن زياد و ذكر له قول مسلم بتمامه، فقال له ابن زياد: انّه لا يخونك الامين و لكن قد يؤتمن الخائن، اما مالك فهو لك و لسنا نمنعك ان تصنع به ما أحببت و اما جثته فانّا لا نبالي اذا قتلناه ما صنع بها و أما الحسين فان هو لم يردنا لم نرده.
و على رواية أبي الفرج انّه: قال ابن زياد: و امّا جثته فانّا لا نشفعك فيها فانّه ليس لذلك منّا بأهل و قد خالفنا و حرص على هلاكنا .
ثم انتبه الى ابن عقيل و تجاسر عليه فأجابه مسلم بأجوبة فصيحة بكلّ جرأة و قوّة قلب، و تكاثر الكلام بينهما حتى سبّ ابن زياد اللعين الدعي بن الدعي امير المؤمنين و الحسين عليهما السّلام و عقيلا، ثم دعا بكر بن حمران- و قد ضربه مسلم بن عقيل على رأسه ضربة منكرة- فأمره أن‏
يصعد به الى سطح القصر و يضرب عنقه.
فقال مسلم لابن زياد: و اللّه لو كان بيني و بينك قرابة ما قتلتني، و كان مراده رحمه اللّه من هذا الكلام الاعلام بان عبيد للّه و أباه أولاد زنا و لا ينتسبون الى قريش قط .