انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

إنَّ مُسلماً ـ وهو الذي بايعه أكثر مِن ثلاثين ألف مسلم ـ بقي وحيداً فريد ، بعد القبض على الوجوه مِن أوليائه : كالمُختار الثقفي ، وسُليمان الخزاعي ، فلاذَ بصَديقه ( هاني ) أكبر مشايخ الكوفة سِناً ، وشأناً ، وبصيرة ، وعِشرة ؛ إذ كان مُعمِّراً فوق الثمانين ، وشيخ كِندة ، أعظم أرباع الكوفة ، وكان إذا صرخ لبَّاه ثلاثون ألف سيفٍ ، وكان هو وأبوه مِن أحبَّة عليٍّ وأنصاره في حروبه العراقيَّة .
فهنأ هاني مسلماً بالرحب والسعة والحفاظ ، حتَّى يُفرِّج الله عنه ، والتزم هاني بالتمارض مُجاملة مع ابن زياد في عدم إجابته لدعوته ، لكنَّ ابن زياد يَطمع في هاني وسابقته معه ، ويرى في جَذب أمثاله مِن المُتنفِّذين الحقيقيِّين معونة كُبرى لإنفاذ مقاصده .
ويروى أنَّ هاني ، أو شُريك ، أقترح على عميد آل عقيل ، ومندوب الحسين ( مسلم ) الفتك بابن زياد غِيلةً وغَفلةً ، لكنَّ مسلماً لم يجب بسِوى كلمة : (إنِّا أهل بيت نَكْرَه الغَدر ).
هذا كلمة كبيرة المَغزى ، بعيدة المَرمى ؛ فإنَّ آل علي ( عليه السلام ) مِن قوَّة تَمسُّكهم بالحَقِّ والصدق ، نبذوا الغَدر والمَكر ، حتَّى لدى الضرورة ، واختاروا النصر الآجل بقوَّة الحَقِّ على النصر العاجل بالخديعة ، شِنْشِنة فيهم معروفة عن أسلافهم ، ومَوروثة في أخلافهم ، كأنَّّهم مَخلوقون لإقامة حكومة الحَقِّ والفضيلة في قلوب العُرفاء الأصفياء ، وقد حَفِظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب .
وبالجملة : فقد دبَّر ابن مرجانه حيلة الفتك بهاني ، فأحضره لديه بحُجَّة مُداولة الرأي معه في الشؤون الداخليَّة ، غير إنَّ هانياً بعدما حضر لديه ، غَدر به ابن زياد ، وشَتم عرضه ، وهَشم أنفه ، وقطع رأسه .
وكان لهذه الحادثة دويٌّ في الرؤوس وفي النفوس ، واستولت بذلك دهشة على الجمهور ، أدّت إلى تفرُّق الناس مِن حول مسلم ، فأمسى وحيداً ، حائراً بنفسه ومَبيته ، وأشرف في طريقه على امرأة صالحة في كِندة (1) جالسة على باب دارها ، فاستسقاها ماءً ، فجائته به وشرب ، ثمَّ وقف يُطيل النظر الى مَبدء الشارع تارةً ، وإلى مَنفذه أُخرى ، كأنَّه يتوقَّع مَن يتطلَّبه ، فتوسَّمت المرأة فيه غُربته وسألته .
فقال : ( نَعَم ، أنا مسلم بن عقيل ، خذلني هؤلاء ) .
فاستعظمت طوعة ذلك ، ودعته إلى بيتها ؛ لتُخفيه حتَّى الصباح ، وفرشت له في بيتٍ ، وعرضت عليه العِشاء ، فلم يتعشَ ، ولم يَكُن بأسرع مِن أنْ جاء ابنها ، وقد كان مع الغوغاء ، فأوهمه تَردُّد أُمِّه إلى البيت ، وقال لأُمِّه : والله لتُريبني كَثرة دخولك هذا البيت ، ثمَّ ألحّ عليها ، فأخذت عليه العهود ؛ كي لا يُفشي سِرَّها وسِرَّ مَندوب الحسين ( عليه السلام) ، وأخبرته بالأمر بعد الأيمان .
ثمَّ إنَّ الغُلام غَدا عند الصباح إلى ابن الأشعث ، وأفشى له سِرَّ مسلم ومَبيته ، فأبلغ بذلك ابن زياد ، فأرسل الجموع للقبض عليه .
بَلى ، أنّ أبطالاً صادقين ، كبني هاشم ، لو تأخَّروا في ميدان السياسة والخُداع ، فلهم قصب السَّبق في ميادين العلم ، والدين ، والجود ، والشرف ، ومُقارعة الكتائب .
وكان نَدب بني هاشم ، يتلو القرآن دُبُر صلاته ، إذ سمع وقع حوافر الخيل ، وهَمهمة الفُرسان ، فأوحت إليه نفسه بدنوِّ الأجل ، فبرز ليث بني عقيل مِن عَرينه مُستقبلاً باب الدار والعسكر ، وعليهم محمد بن الأشعث ، وانتهى أمر المُتقابلين إلى النِّزال ، ونزيل الكوفة راجل وهم فُرسان ، لكنَّ فَحل بني عقيل شَدَّ عليهم شَدّ الضُّرغام على الأنعام ، وهم يولّونه الأدبار ، ويستنجدون بالحاميات ، وقذائف النار تُرمى عليه مِن السطوح .
إضطرَّ ابن الأشعث إلى وعده مُسلماً بالأمان ، إذا ألقى سلاحه فقال : ( لا أمان لكم !) .
وبعد ما كرّروا عليه رأي التسليم فريضة مُحافضة للنفس ، وحِقناً للدماء ، فسلَّم إليهم نفسه وسلاحه ، ثمَّ استولوا عليه ، فعَرِف أنَّه مَخدوع ، فنَدِم ولاتَ حينَ مَندم .
ولمَّا أدخلوه على ابن زياد ، لم يُسلِّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : ( ألاْ تُسلِّم على الأمير ؟).
فقال: ( إنْ كان يُريد قتلي ، فما سلامي عليه ؟ ) .
فقال له ابن زياد: ( لَعمري لتُقتلَنَّ ) .
قال: ( فدعني أوصي بعض قومي ) .
قال: ( افعل ) .
فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله ، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقَّاص ، فقال: ( يا عمر ، إنَّ بيني وبينك قَرابة ، ولي إليك حاجة ، وهي سِرٌّ ) .
فامتنع عمر أنْ يَسمع منه ، فقال له عبيد الله: ( لِمَ تمتنع أنْ تَنظر في حاجة ابن عمّك ؟ ) .
فقام معه ، فجلس حيثُ ينظر إليهما ابن زياد ، فقال له مسلم : ( إنّ عليَّ بالكوفة دَيناً ، استدنته مُنذ قَدِمت الكوفة ( سبع مائة دِرهَم ) ، فبع سيفي ودِرعي ، فاقضها عنِّي ، وإذا قُتلت فاستوهب جُثَّتي مِن ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين ( عليه السلام ) مَن يَردُّه ؛ فإنِّي قد كتبت إليه وأعلمته أنَّ الناس معه ، ولا أراه إلاِّ مُقبلاً ، ومعه تسعون إنساناً بين رجُل وامرأة وطفل ) .
فقال عمر لابن زياد : ( أتدري أيُّها الأمير ما قال لي ؟ ) .
فقال له ابن زياد : ( ـ على ما رواه في الفريد ـ اكِتم على ابن عَمّك ) .
قال : ( هو أعظم مِن ذلك ، إنَّه ذكر كذا وكذا ) .
فقال له ابن زياد : ( لا يَخونك الأمين ، ولكنْ قد ائتمن الخائن ، أمّا ماله فهو له ، ولسنا نَمنعك أنْ تَصنع به ما أحببت ، وأمّا جُثَّته ، فإنَّا لا نُبالي إذا قتلناه ما صُنع بها ، وأمّا الحسين ( عليه السلام ) ، فإنْ هو لم يُردِنا لم نُردِه ) .
ثمَّ قال لعمر بن سعد : ( أمْا والله ، إذ دَللت عليه لا يُقاتله أحد غيرك ) .
ثمَّ أقبل ابن زياد على مسلم يَشتمه ، ويَشتم الحسين وعليَّاً وعقيلاً ، ومسلم لا يُكلِّمه ، ثمَّ قال ابن زياد: ( اصعدوا فوق القَصر ، واضربوا عُنقه ، ثمَّ اتّبعوه جسده ) .
فصعدوا به ، وهو يُكبِّر ويَستغفر الله ، ويُصلِّي على رسوله ، ويقول : ( اللَّهمَّ أحكم بيننا وبين قوم غرُّونا ، وكذَّبونا ، وخذلونا ) .
فضُرِبت عُنقه ، وأُتبع جسدُه ، وكان هذا مَقتل مسلم يوم الأربعاء ، لستعٍ مَضين مِن ذي الحِجَّة ( يوم عرفة ) سنة ستِّين مِن الهِجرة ، وقد كان خروجه في الكوفة ، يوم الثلاثاء ثامن ذي الحِجَّة ( يوم التروية ) ، وهو اليوم الذي قُتل فيه هاني ، ويوم خرج فيه الحسين ( عليه السلام ) مِن مَكَّة يَقصد الكوفة مُلبِّياً دعوتها .
أجلْ ، قُتِل مسلم ، وقُتل به أمل كلِّ مُسلمٍ ، وأسقطوا بجسمه مِن أعلام القصر ( وسقوط الجسم ليس بسقوط الاسم ) .
هذا وعيون الناس ترى هانئاً في السوق ، وابن عقيل ، وما جُثَّة الرجليَن بذلك المَنظر الفظيع ، إلاّ آية انحراف الحِزب السُّفياني ، عن سُنَن الدين ومَوعظة مُوقِظة للغافلين ، وفي ذلك عِبرةٌ لمَن يَعتبر ، وفي كوفة الخُذلان ، ما أكثر العِبر ، وأقل المُعتبِر ؟
روى عبد الله بن سليمان ، والمُنذر بن المشمعل الأسديَّان ، قالا : لمَّا قضينا حَجَّنا ، لم تَكُن لنا هِمَّة إلاَّ اللحاق بالحسين ( عليه السلام ) في الطريق ؛ لننظُر ما يكون مِن أمره ، فأقبلنا تَرقل بنا ناقتانا مُسرعَين ، حتَّى لحقناه بزرود ، فلمَّا دَنونا منه ، إذا نحن برجُلٍ مِن أهل الكوفة ، قد عدل عن الطريق ، حتَّى رأى الحسين ، فوقف الحسين ( عليه السلام ) كأنَّه يُريده ، ثمَّ تركه ومضى.
فقال أحدنا لصاحبه : ( اذهب بنا إلى هذا لنسأله ، فإنَّ عنده خبر الكوفة ) ، فمضينا حتَّى انتهينا إليه .
فقلنا : ( السلام عليك ) .
فقال : ( وعليكم السلام ) .
قلنا : ( مَن الرجُل ؟ ) .
قال : ( أسديٌّ ) .
قلنا له : ( ونحن أسديَّان ، فمَن أنت ؟ ) .
قال : ( أنا بكر بن فلان ) .
وانتسب وانتسبنا ، ثمَّ قلنا له : ( أخبرنا عن الناس ورائك ) .
قال : ( نَعمْ ، لم أخرج مِن الكوفة حتَّى قُتِل مسلم بن عقيل وهاني بن عُروة ، ورأيتهما يُجرَّان بأرجلهما في السوق ) .
فأقبلنا حتَّى لحقِنا بالحسين ( عليه السلام ) ، فسايرناه ، حتَّى نزل الثعلبيَّة مُمسياً ، فجئناه حين نزل ، فسلَّمنا عليه ، فرَدَّ علينا السلام ، فقلنا له : ( رحمك الله ، إنَّ عندنا خبر ، إنْ شِئت حدّثناك عَلانية ، وإنْ شِئت سِرَّاً ) . فنظر إلينا ، وإلى أصحابه ، ثمَّ قال : ( ما دون هؤلاء سِرٌّ).
فقلنا له : ( أرأيت الراكب الذي استقبلته عشيَّة أمس ؟ ) .
قال : ( نَعمْ ، وقد أردت مسألته ) .
فقلنا: ( والله قد استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو أمرؤ مِنَّا ، ذو رأي ، وصِدق ، وعَقل ، وإنَّه حدَّثنا إنَّه لم يخرج مِن الكوفة ، حتَّى قُتِل مسلمٌ وهاني ، ورآهما يُجرَّان في السوق بأرجُلهما ) .
فقال : ( إنَّا لله ، وإنَّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما ) ، يُردِّد ذلك مِراراً .
فقلنا له : ( نَنشدك الله في نفسك ، وأهل بيتك ، إلاَّ انصرفت مِن مَكانك هذا ؛ فإنَّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ، ولا شيعة ، بلْ نتخوَّف أنْ يكونوا عليك ) .
فنظر إلى بَني عقيل ، فقال : ( ما تَرون ، فقد قُتِل مسلم ؟ ) .
فقالوا: ( والله ، لا نَرجع حتَّى نُصيب ثأرنا ، أو نَذوق ما ذاق ) .
فأقبل علينا الحسين ( عليه السلام ) ، وقال : ( لا خيرَ في العَيش بعد هؤلاء ) .
فعلِمنا أنَّه قد عَزم رأيه على المسير .
سَمع الحسين ( عليه السلام ) حوالي ( زرود ) نَعي عَميد بيته ، ولكنَّه لم يتحوَّل عن نيَّته ، ولا غيَّر وضيَّعته مع صحبه وأهله ، ولا أبدى مِن مَظاهر الحُزن ، سِوى الاسترجاع ، وأخفى كلَّ حُزنه في أعماق قلبه ؛ لأنَّ العيون لدى الشدائد شاخصة إلى الزعيم ، فإنْ بدا عليه لائحة حُزن ، عمّ الغَمُّ أحبّائه ، وتوهّم كلٌّ منهم ما شاء الله أنْ يتوهَّم ، وارتبك على الزعيم أمر نَظمه وحُكمه.
غير أنَّ حسيناً دخل خِبآءً ، وطلب طفلة مسلم ، وأجلسها في حِجرة يَمسح على رأسها بيده ، يُسلِّي بها نفسه ، ويُسلِّيها بذلك .
نعمْ ، حسّ الجميع ـ وفي مُقدِّمتهم الحسين ( عليه السلام ) ـ بالانكسار النهائي ، بعدما جرى على مسلم ، وتبدُّل حالة الكوفة ، وكانت هي المَطمع الوحيد لصَحب الحسين (عليه السلام) ، والمَلجأ الحصين لرحله وأهله ، فإذا كانت آمال الحسين ( عليه السلام ) معقودة على الكوفة ، وقد انقلبت هي عليه ، وقتلت مُعتمده ، فما معنى التوجُّه إليها ؟ ، وأيُّ اعتمادٍ بقي عليها ؟
لكنَّ ثَبات الحسين ( عليه السلام ) على سيرته ومَسراه ، ضرب على هذه الأوهام ، وصانها مِن التفرُّق ، وشِبل عليٍّ ( عليه السلام ) يرى في توجُّهه إلى الكوفة بعد كلِّ ذلك ، إبلاغ الحُجَّة ، والإعلام بأنَّه أجاب دعوتهم ، ولبَّى صرختهم ، وأنَّه لم ينحرف عن نُصرتهم ، حتَّى بعد انحرافهم عن نُصرته ، وقتلهم مبعوثه مع شيعته ؛ فإنَّ الإمام يُعامل المِلَّة دون الأشخاص والشخصيَّات ، وهو يأمل مع ذلك في مَسلكه التحاق الأنصار ، وتلبية الأمصار ، وانقلاب حالة الكوفة كَرَّة أُخرى .
ولمَّا شاع نَعي مسلم في رَكب الحسين ( عليه السلام ) ، وانقلاب الكوفة ضِدَّه ، بعد أنْ كانت المَطمع الوحيد لتحقيق آمال أهله وصَحبه ، صار كثير مِن ذوي الطمع ، وذباب المُجتمع يتفرَّقون عنه سِرّاً وجِهاراً ، ليلاً ونهاراً ، وسلَّموا وليَّ نِعمتهم حين الوثبة ، وخذلوه عند النَّكبة ، بعدما كانوا يُضيِّقون فسيح خوانه ، حتَّى على إخوانه .
لا ضَيَرَ ، فإنْ خَفَّ رحل الحسين ( عليه السلام ) مِن القَشِّ وذوي الغِشّ ، فقد ملأ فراغهم أبطال صِدق مِمَّن عَشِقوا الحسين ( عليه السلام ) ، لا خَوفاً مِن رجاله ، ولا طَمعاً في ماله ، بلْ وجدوا مَن اختار نفسه ونفيسه فداءً للإسلام ، ففدَّوه بكلِّ ما أعزَّ وهان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تُسمَّى طوعة ، وهي أُمّ ولد ، حازت شرف التاريخ ؛ إذ عرفت قيمة الفضيلة ، بينما قومها ضيَّعوا هذا الشرف الخالد وغرَّتهم المطامع .