انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لقد جرى من الكفـور الملحـد
نغـل زيـاد الظلـوم المعتدي

ما قد جرى من فاحش الخطاب
ومن قبيح ألـرد والجواب

وغير ضائـر عـواء الكلـب
إذا عـوى على النجوم الشهب

وكيف يرجـى من عدو الله في
وليه شـيء من التعسـف

اُدخل ابن عقيل (عليه السلام) على ابن زياد وهو على سرير الطغيان والجور ومسلم أسير مكتوف لا يجد أحدا ينجده ولا من يقف دونه ، فلم يتظاهر بالخضوع لابن مرجانة ولا استلان له ولا استعطفه بالسلام عليه ، ولما اعترضه الشرطي بقوله : ألا تسلم على الأمير؟ قال : « إنه ليس لي بأمير (2) » ويقال : انه قال :
« السلام على من اتبع الهدى ، وخشي عواقب الرّدى ، وأطاع الملك الأعلى (3) ».
أراد بهذه الكلمة تعريف الحضور بأنه مقاوم للسلطة الغاشمة ومناوى لهذا الجائر حتى عند تضائل قواه وانفلات الأمر من يده وعند منصرم العمر ، ولعل بذلك يتجدّد المقت من الأمة على ابن مرجانة ، وتحتدم القلوب عليه ، وعلى من ولاه أمر البلاد ، فيستطيع حينئذ أن يقول القائل : ان داعية الصلاح رافض لحكومة الضلال
حتّى في أحرج المواقف ، ولا يهون عليه شيء من أمرها ، فلا يفوت أهل الكوفة العلم بمشروعية هذه الولاية ، وأن الأخوة التي شرّفه بها سيد الشهداء أخوة شرف وإيمان والثقة التي فاز بها كما في صك الولاية لا يدرك مداها.
ولم يقتنع مسلم (عليه السلام) بكل ذلك حتى أخذ يعرّف الناس في ذلك المجلس نفسية عبيد الله وأبيه ومن أجلسه هذا المجلس لتتمّ الحجة فلا يعتذر أحد بالغفلة والجهل ، وأن لقوة الجور مفعولا آخر.
فإنه لما قال له ابن زياد : إيهاً يا ابن عقيل أتيت الناس ، وأمرهم واحد فشتّت أمرهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض! قال :
« كلا لست أتيت لذلك ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمل كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو الى حكم الكتاب. »
قال ابن زياد : ما أنت وذاك يا فاسق أو لم نكن نعمل فيهم بذلك وأنت بالمدينة تشرب الخمر.
قال مسلم :
« أأنا أشرب الخمر؟ ان الله ليعلم أنك غير صادق ، وأنك تقول بغير علم ، وإني لست كما ذكرت ، وأنت أحق بشرب الخمر منّي ، من ولغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا. »
فقال ابن زياد : إن نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله.
فقال مسلم : فمن أهله؟
فقال ابن زياد : أمير المؤمنين يزيد.
قال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم.
فقال ابن زياد : كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا.
فقال مسلم : والله ما هو الظن ولكنه اليقين.
فقال ابن زياد : قتلني الله ان لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام!
فقال مسلم :

أما أنك أحق من أن تحدث في الإسلام ما لم يكن ، وأنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحق بها منك.
فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليا وعقيلا!
لقد نضحت آنية ابن مرجانة بما فيها من فحش وخنا ، وأسمع مسلما ما لا تحمله الجبال الرواسي ، فما إستهان ، ولا استلان ولا تكعكع عن ابداء الحقيقة للناس ، وايقافهم على مخازيه ، ومخاريق أبيه ، وبوائق من استعملهما حتى أحرج الموقف وسدّ المذاهب عليه فلم ير الدعي وسيلة لمقابلة ابن عقيل إلا بسب أمير المؤمنين ذلك الذي يقول فيه رسول الله :
« يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت وما عرفني إلا الله وأنت وما عرفك إلا الله وأنا (4). يا علي من سبّك فقد سبّني ومن سبني فقد سب الله (5) ».
ههنا لم يطلق مسلم صبرا وان صبر قبل ذلك على مثل حز المدى فقال لابن مرجانة : « فاقض ما أنت قاض يا عدو الله. »
كتم السّرّ :
كم السر من لوازم المروءة ، فإن في إفشائه اما فضيحة على من أذيع عنه ان كان ذلك المذاع من الرذائل غير متجاهر بها ، والله سبحانه يحب الستر على المؤمنين ابقاء لحيثيّاتهم في الجامعة ، وكلاءة لعضويّتهم فيها ، فإن الحط من الكرامة يوجب سقوط محله بين الناس ، ويعود منبوذا بينهم فلا يصغى لقوله ، ولا يحترم مقامه فيختل التكاتف ، والتعاون على حفظ النظام ، ويكون ذلك مبدأت لتجري الغير كما هو مقتضى الجبلة البشرية ، ومثالا لنفرة أناس ممن يترفّعون عن أمثالها ، فتسود المنابذة ، وتحتدم البغضاء ، واذا كان المولى سبحانه وهو القابض على ازمّة الخلق القادر على كشف ما انطوت عليه ضمائرهم يستر عليهم ويفيض ألطافه مع التناهي ، وينادي كنابه العزيز : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور : 19].
ولمّا سأل رسول الله (صلى الله عليه واله) ربه جل شأنه أن لا يحاسب أمته بحضرة الملائكة والأنبياء فيطلعوا على عيوبهم قال تعالى :
« يا حبيبي أنا ارأف بعبادي منك وإذا كرهت كشف عيوبهم عند غيرك ، فأنا أكره أن أكشفها عند فأحاسبهم وحدي بحيث لا يطلع على عثراتهم غيري (6) ».

فإفشاء السر وإذا عته ممنوع منه سواء كان فيه العيب والنقص على الشخص بخروجه عن قانون الشريعة أو لم يكن فيه العيب ؛ لأن في غذاعة السر إيذاء له وهتكا لحرمته وخيانة لما استودع له ، فإن الحديث بين الناس أمانة. (7) غذا فهو محرم بجميع أقسامه سواء كان بالغيبة أو النميمة أو بالإفضاء لمن لا يرضى صاحب السر عليه غيره لكونه إيذا له ، فلا يوصف به مؤمن فاضل ، ولا انسان كامل إلا من ضربت الخسة في عنصره ، ومدت الدناءة فيه عروقها.
ومن هذا تعرف كيف بلغ اللؤم ورداءة المنبت بعمر بن سعد حين أفضى بالسر الذي أودعه عنده مسلم بن عقيل ، وذلك أن ابن عقيل طلب من ابن زياد أن يوصي الى بعض قومه ، فأذن له ، فنظر الى الجلساء فرأى فيهم ابن سعد فقال له : « أن بيني وبينك قرابة ، ولي اليك حاجة ، ويجب عليك نجح حاجتي وهي سر » فأبى أن يمكّنه من ذكرها ، فقال ابن زياد : لا تمتنع من النظر في حاجة ابن عمك ، فقام معه بحيث يراهما ابن زياد فأوصاه مسلم (عليه السلام) أن يقضي من ثمن سيفه ودرعه ، دينا استدانه منذ دخل الكوفة يبلغ ستمائة درهم (8) ، وأن يستوهب جثّته من ابن زياد ، ويدفنها ، وأن يكتب الى الحسين بخبره.
فأفشى ابن سعد جميع ذلك الى ابن زياد فقال ابن زياد : لا يخونك الأمي ولكن قد يؤتمن الخائن (9).
لم يفت مسلما ما عليه ابن سعد من لؤم العنصر ، وأنه سيفشي بسره بين الملأ لكنه اراد تعريف الكوفيين بأن هذا الذي يعدون من كبرائهم ويتبجح بأن أباه فاتح البلاد هذا حده من المروءة ، وموقفه من الحفاظ فلا يغتر به أحد إذا تحيّز الى فئة أو جنح الى جانب ، فأنه لا يهوى إلا مثله.
وهناك دقيقة اخرى لاحظها مسلم في هذه الوصية ، وهي الإرشاد الى أنه ومن يعقبه من الرهط الهاشمي لم يقصد هذا المصر لاستنزاف أموالهم ، وإنما جاؤا منقذين وملبّين لدعوتهم ، ونشر الإصلاح فيهم ، وأول شاهد على ذلك أنه أيام إقامته بالكوفة لم يمدّ يده الى بيت المال على أنه جاء واليا يتصرف كيف شاء وتحت يده ما يجمع من المال إلا أنه قضى أيامه البالغة أربع وستين يوما بالإستدانة ، وهكذا ينبغي أن يسير أولياء الأمور فلا يتخذون مال الفقراء مغنما ، وأين من يفقه هذه الأسرار؟
الشهادة :
لمّا أكثر مسلم (عليه السلام) من الطعن على ابن زياد في حسبه ونسبه أمر رجلا شاميا (10) أن يصعده الى أعلا القصر ، ويشرف به على موضع الجزّارين (11) ، ويضرب عنقه ، ويرمي بجسده ورأسه الى الأرض. فأصعده الشامي ، ومسلم يسبّح الله ويكبّره ويستغفره ويقول :
« اللهم أحكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا (12) »
ثم صلى ركعتين (13) وتوجه نحو المدينة وسلم على الحسين (14) فضرب الرجل عنقه ورمى بجسده الى الأرض كما أمره ابن زياد (15) ونزل مذعورا فسأله ابن زياد عما دهاه قال : رأيت ساعة قتله رجلا أسود سيّء الوجه حذائي عاضّا على اصبعه ، فقال له : لعلك دهشت! (16) قصدا لتعمية الأمر على الجالسين حوله لئلا يفشوا الخبر فتزداد عقيدة الناس بداعية الحسين (عليه السلام) ، ولعل الأمر ينتكث عليه لأن النفوس متكهربة بولائهم ولهم العقيدة الراسخة بفضلهم الكثار.
وهنا نقل آخر في قتله أنه دفعه الى الأرض على أمّ رأسه فتكسّر وكانت فيها شهادته ، (17) ولأنفراد ناقله ونص المورخين على الأول مما يبعّده.
ثم أمر ابن زياد بهاني بن عروة فأخرج مكتوفا الى مكان من السوق يباع فيه الغنم فنادى :
« وا مذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، وا مذحجاه ولا مذحج لي اليوم. »
فلما رأى أن أحدا لا ينصره انتزع يده من الكتاف ونادى :
« ألا عصا أو سكّين أو عظم أو حجر يذبّ به رجل عن نفسه. »
فوثبوا عليه وأوثقوه كتافا فقيل له : مدّ عنقك قال :
« ما أنا بسخيّ بها ولا معينكم على نفسي! »
فضربه رشيد مولى لابن زياد تركي فلم تعمل فيه فقال هاني :
« الى الله المعاد ، اللهم الى رحمتك ورضوانك. »
ثم ضربه أخرى فقتله.
وهذا العبد رآه عبد الرحمن بن حصين المرادي مع ابن زياد في وقعة « الخازر » فثأر بهاني وحمل عليه بالرمح فقتله (18).
____________
1) المقبولة الحسينية ص14 لشيخنا الحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء.
2) اللهوف لابن طاووس30.
3) المنتخب للطريحي.
4) دار السلام للنوري ج2 ص338.
5) تقدم في الأبحاث السابقة رد سعد على معاوية لما أراد منه أن يسب عليا.
6) جامع السعادات ص339 طبع إيران.
7) المصدر ص340.
8) في الأخبار الطوال ص241 يبلغ ألف درهم ، وفي تاريخ الطبري ج6 ص212 يبلغ سبعمائة درهم.
9) الإرشاد.
10) مقتل الخوارزمي. ومنه يعرف الإضطراب في نقل ابن جرير فإنه نص على أن بكير الأحمري هو الذي أصعده الى أعلا القصر ، وقبل هذا ذكر أن مسلما ضربه على عاتقه حتى كاذت أن تطلع الى جوفه ، ومثل هذا الجريح هل يستطيع القيام بقتله.
11) في ارشاد الشيخ المفيد موضع الحذائين.
12) الطبري ج6 ص213.
13) رياض المصائب ص68.
14) أسرار الشهادة ص258.
15) ابن الأثير ج4 ص15.
16) اللهوف لابن طاووس ص31.
17) تظلّم الزهراء ص268.
18) الطبري ج6 ص214.