انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لما رجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة و دخل قصر الإمارة «2» و وضع أمامه الرأس المقدّس سالت الحيطان دما «3» و خرجت نار من بعض نواحي القصر و قصدت سرير ابن زياد «4» فولى هاربا منها و دخل بعض بيوت القصر فتكلم الرأس الأزهر بصوت جهوري سمعه ابن زياد و بعض من حضر:
«إلى أين تهرب فإن لم تنلك في الدنيا فهي في الآخرة مثواك» و لم يسكت حتى ذهبت النار! و أدهش من في القصر لهذا الحادث الذي لم يشاهد مثله‏ «5» و لم يرتدع ابن زياد لهذا الحادث بل أذن للناس إذنا عاما و أمر بإدخال السبايا مجلسه فأدخلت عليه حرم رسول اللّه بحالة تقشعر لها الجلود «6».
أبرزت حاسرة لكن على‏ حالة لم تبق للجلد اصطبارا
لا خمار يستر الوجه و هل‏ لكريمات الهدى أبقوا خمارا
لا و من ألبسها من نوره‏ أزرا مذ سلبوا عنها الإزارا
لم تدع «يا شلت الأيدي» لها من حجاب فيه عنهم تتوارى‏ «7»

و وضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يديه و جعل ينكت بالقضيب ثناياه ساعة فقال له زيد بن أرقم: إرفع القضيب عن هاتين الشفتين فو اللّه الذي لا إله إلّا هو لقد رأيت شفتي رسول اللّه على هاتين الشفتين يقبلهما ثم بكى فقال له ابن زياد:
أبكى اللّه عينيك فو اللّه لو لا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك لضربت عنقك! فخرج زيد من المجلس و هو يقول: ملك عبد عبدا فاتخذهم تلدا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة و أمرتم ابن مرجانة يقتل خياركم و يستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي بالذل‏ «8».
و انحازت زينب ابنة أمير المؤمنين عليه السّلام عن النساء و هي متنكرة لكن جلال النبوّة و بهاء الإمامة المنسدل عليها استلفت نظر ابن زياد فقال: من هذه المتنكرة؟
قيل له : ابنة أمير المؤمنين «زينب العقيلة».
فأراد أن يحرق قلبها بأكثر مما جاء إليهم فقال متشمتا: الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم.
فقالت عليها السّلام: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيه محمد و طهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق. و يكذب الفاجر. و هو غيرنا.
قال ابن زياد: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟
قالت عليها السّلام: ما رأيت إلّا جميلا. هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاج و تخاصم‏ «9» فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة «10».
فغضب ابن زياد و استشاط من كلامها معه في ذلك المحتشد و همّ بها.
فقال له عمرو بن حريث: إنّها امرأة و هل تؤاخذ المرأة بشي‏ء من منطقها.
إنها لا تؤاخذ بقول و لا تلام على خطل!
فالتفت إليها ابن زياد و قال: لقد شفى اللّه قلبي من طاغيتك و العصاة المردة من أهل بيتك.!
فرقت «العقيلة» و قالت: لعمري لقد قتلت كهلي و أبرزت أهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت‏ «11».
و التفت إلى عليّ بن الحسين و قال له: ما اسمك. قال: أنا علي بن الحسين فقال له: أو لم يقتل اللّه عليّا؟
فقال السجاد عليه السّلام: كان لي أخ أكبر مني‏ «12» يسمى عليا قتله الناس فرد عليه ابن زياد بأن اللّه قتله.
قال السجّاد عليه السّلام: اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه.
فكبر على ابن زياد أن يرد عليه فأمر أن تضرب عنقه.
لكنّ عمته العقيلة اعتنقته و قالت: حسبك يا ابن زياد من دمائنا ما سفكت و هل أبقيت أحدا «13» غير هذا فإن أردت قتله فاقتلني معه.
فقال السجّاد عليه السّلام: أما علمت أن القتل لنا عادة و كرامتنا من اللّه الشهادة «14» فنظر ابن زياد إليهما و قال: دعوه لها عجبا للرحم ودت أنها تقتل معه‏ «15».
و أخذت الرباب زوجة الحسين الرأس و وضعته في حجرها و قبلته و قالت:
وا حسينا فلا نسيت حسينا أقصدته أسنة الأعداء
غادروه بكربلاء صريعا لا سقى اللّه جانبي كربلاء «16»

و لما وضح لابن زياد ولولة الناس و لغط أهل المجلس خصوصا لما تكلمت معه زينب العقيلة خاف هياج الناس فأمر الشرطة بحبس الأسارى في دار إلى جنب المسجد الأعظم‏ «17» قال حاجب ابن زياد: كنت معهم حين أمر بهم إلى السجن فرأيت الرجال و النساء مجتمعين يبكون و يلطمون وجوههم‏ «18».
فصاحت (زينب) بالناس لا تدخل علينا إلا مملوكة أو أم ولد فإنهن سبين كما سبينا «19» تشير الحوراء العقيلة إلى أن المسبية تعرف مضض عناء الذل فلا يصدر منها غير المحمود من شماتة و غيرها و هذا شي‏ء معروف لا ينكر فقد ورد أن جساس بن مرة لما قتل كليب بن ربيعة و كانت أخت جساس زوجة كليب و اجتمع‏ نساء الحي للمأتم على كليب قلن لأخت كليب رحّلي جليلة عن مأتمك فإن قيامها فيه شماتة و عار علينا عند العرب فإنها أخت واترنا و قاتلنا فخرجت و هي تجر أذيالها و لما رحلت قالت أخت كليب: رحلة المعتدي و فراق الشامت‏ «20».
و دعا بهم ابن زياد مرة أخرى فلما أدخلوا عليه رأين النسوة رأس الحسين بين يديه و الأنوار الإلهية تتصاعد من أساريره إلى عنان السماء فلم تتمالك «الرباب» زوجة الحسين دون أن وقعت عليه تقبله و قالت:
إن الذي كان نورا يستضاء به‏ بكربلاء قتيل غير مدفون‏
سبط النبي جزاك اللّه صالحة عنا و جنبت خسران الموازين‏
قد كنت لي جبلا صعبا ألوذ به‏ و كنت تصحبنا بالرحم و الدين‏
من لليتامى و من للسائلين و من‏ يعنى و يأوي إليه كل مسكين‏
و اللّه لا أبتغي صهرا بصهركم‏ حتى أغيّب بين الماء و الطين‏ «21»

__________________
(1) في كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 8 طبع مصر لما دخل علي عليه السّلام الكوفة قيل أي القصرين ننزلك؟ قال : قصر الخبال لا تنزلونيه! فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي.
و الخبال كما في الفائق للزمخشري و النهاية لابن الأثير و مقاييس اللغة لابن فارس مادة (خبل) الخبل الفساد و حراقة صديد أهل النار، و المراد هنا منزل أهل الجور و الفساد.
(2) في لطائف المعارف للثعالبي ص 142 الباب التاسع روى عبد الملك بن عمير اللخمي قال: رأيت في قصر الإمارة رأس الحسين بن علي بن أبي طالب عند عبيد اللّه بن زياد على ترس و رأيت رأس عبيد اللّه بن زياد عند المختار على ترس و رأيت رأس المختار عند مصعب بن الزبير على ترس و رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان على ترس و لما حدثت بذلك عبد الملك تطير منه و فارق مكانه و رواه السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 139 و سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص 148 إيران.
(3) تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 339 و الصواعق المحرقة ص 116 و ذخائر العقبى ص 145 و ابن طاووس في الملاحم ص 128 طبع أول.
(4) كامل ابن الأثير ج 4 ص 103 و مجمع الزوائد لابن حجر ج 9 ص 196 و المقتل للخوارزمي ج 2 ص 87 و المنتخب للطريحي ص 339 المطبعة الحيدرية، و البداية لابن كثير ج 8 ص 286.
(5) شرح قصيدة أبي فراس ص 149.
(6) أخبار الدول ص 8 ج 1 لأبي العباس أحمد بن يوسف بن أحمد القرماني.
(7) من قصيدة للسيد عبد المطلب الحلي ذكرت في شعراء الحلة ج 2 ص 218.
(8) الصواعق المحرقة ص 118 و في تاريخ الطبري ج 6 ص 262 و البداية و النهاية لابن كثير ج 8 ص 190 و مجمع الزوائد ج 9 ص 195 و تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 340 ذكروا إنكاره عليه و لا ينافي كونه أعمى على تقدير صحته لجواز أنه سمع بذلك فأنكر عليه. و عبارة ابن عساكر كان زيد حاضرا تؤيده.
(9) الطبري ج 6 ص 262.
(10) اللهوف ص 90.
(11) كامل ابن الأثير ج 4 ص 33 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 42 و تاريخ الطبري ج 6 ص 263 و إرشاد المفيد و أعلام الورى للطبرسي ص 141 و في كامل المبرد ج 3 ص 145 طبع سنة 1347 لقد أفصحت زينب بنت علي و هي أسن من حمل إلى ابن زياد و أبلغت و أخذت من الحجة حاجتها فقال ابن زياد لها إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيبا شاعرا فقالت ما للنساء و الشعر و كان ابن زياد ألكنا يرتضخ الفارسية ا ه.
(12) نص عليه ابن جرير الطبري في المنتخب من الذيل ص 89 ملحق بالتاريخ ج 12 و أبو الفرج في المقاتل ص 49 ط إيران و الدميري في حياة الحيوان بمادة بغل و المنتخب للطريحي ص 238 المطبعة الحيدرية و نسب قريش لمصعب الزبيري ص 58 و ذكرنا في رسالة «علي الأكبر» ص 17 نصوص المؤرخين على أن المقتول هو الأكبر.
(13) طبري ج 6 ص 263.
(14) اللهوف ص 91 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 13.
(15) ابن الأثير ج 4 ص 34.
(16) تذكرة الخواص ص 148 و من الاشتباه و عدم التدبر ما جاء في الحماسة البصرية ج 1 ص 214 رقم 18 باب المراثي نسبة هذين البيتين إلى عاتكة بنت نفيل زوجة الحسين! فإنه لم يذكر الثقات من المؤرخين تزويج الحسين منها.
(17) اللهوف ص 91 و المقتل للخوارزمي ج 2 ص 43.
(18) روضة الواعظين ص 163.
(19) اللهوف ص 92 و مقتل العوالم ص 130.
(20) الأغاني ج 4 ص 150.
(21) الأغاني ج 14 ص 158 طبعة ساسي.