انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
ولد في أوائل خلافة عثمان بن عفان ، وروى الحديث عن جدّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما حقّقه ابن إدريس في السرائر ، ونقله عن علماء التاريخ والنسب. أو بعد جده (عليه السلام) بسنتين كما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد. وأمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وأمّها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أميّة. وأمّها بنت أبي العاص بن أميّة. وكان يشبّه بجدّه رسول الله (صلى الله عليه واله) في المنطق والخلق والخلق.
وروى أبو الفرج أن معاوية قال : من أحقّ الناس بهذا الأمر؟ قالوا : أنت ، قال : لا ، أولى الناس بهذا الأمر علي بن الحسين بن علي (عليه السلام) ، جدّه رسول الله (صلى الله عليه واله) وفيه شجاعة بني هاشم ، وسخاء بني أميّة ، وزهو ثقيف.
وفي علي (عليه السلام) يقول الشاعر :
لم تر عين نظرت مثله من محتف يمشي ومن ناعل
يغلي نهيئ اللحم حتّى إذا أنضج لم يغل على الآكل
كان إذا شبّت له ناره يوقدها بالشرف القائل
كيما يراها بائس مرمل أو فرد حيّ ليس بالآهل
لا يؤثر الدنيا على دينه ولا يبيع الحقّ بالباطل
أعني ابن ليلى ذا السدى والندى أعني ابن بنت الحسب الفاضل ويكنّى أبا الحسن ، ويلقّب بالأكبر لأنّه الأكبر على أصحّ الروايات ، أو لأنّ للحسين (عليه السلام) أولادا ستّة ثلاثة أسماؤهم علي ، وثلاثة أسماؤهم عبد الله وجعفر ومحمّد ، كما ذكره أهل النسب فهو أكبر من علي الثالث على رواية.
وروى أبو مخنف عن عقبة بن سمعان قال : لمّا كان السحر من الليلة التي بات بها الحسين عند قصر بني مقاتل ، أمرنا الحسين بالاستقاء من الماء ، ثمّ أمرنا بالرحيل ففعلنا ، قال : فلمّا ارتحلنا عن قصر بني مقاتل ، خفق برأسه خفقة ، ثمّ انتبه وهو يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين » ، ثمّ كرّرها مرّتين أو ثلاثا ، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) ـ وكان على فرس له ـ فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، يا أبت جعلت فداك ، ممّ استرجعت وحمدت الله »؟ فقال الحسين (عليه السلام) : يا بنيّ إنّي خفقت برأسي خفقة فعنّ لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا ، فقال له : يا أبت لا أراك الله سوءا ، ألسنا على الحق »؟ قال : بلى ، والذي إليه مرجع العباد »
قال : يا أبت ، إذن لا نبالي نموت محقّين » فقال له : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده ».
قال أبو الفرج وغيره : وكان أوّل من قتل بالطف من بني هاشم بعد أنصار الحسين (عليه السلام) علي بن الحسين (عليهما السلام) ، فإنّه لمّا نظر إلى وحدة أبيه تقدّم إليه وهو على فرس له يدعى ذا الجناح ، فاستأذنه للبراز ـ وكان من أصبح الناس وجها ، وأحسنهم خلقا ـ فأرخى عينيه بالدموع وأطرق ثمّ قال : اللهمّ اشهد أنّه قد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه ، ثمّ صاح : يا ابن سعد ، قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظني في رسول الله (صلى الله عليه واله) » ، فلمّا فهم علي الإذن من أبيه شدّ على القوم وهو يقول :
أنا علي بن الحسين بن علي نحن وبيت الله أولى بالنبي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي
فقاتل قتالا شديدا ، ثمّ عاد إلى أبيه وهو يقول : يا أبت ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فبكى الحسين (عليه السلام) وقال : وا غوثاه أنّى لي الماء ، قاتل يا بنيّ قليلا واصبر ، فما أسرع الملتقى بجدّك محمّد (صلى الله عليه واله) فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا ». فكرّ عليهم يفعل فعل أبيه وجدّه. فرماه مرّة بن منقذ العبدي بسهم في حلقه.
وقال أبو الفرج : قال حميد بن مسلم الأزدي : كنت واقفا وبجنبي مرّة بن منقذ ، وعلي بن الحسين يشدّ على القوم يمنة ويسرة فيهزمهم ، فقال مرّة عليّ آثام العرب إن مرّ بي هذا الغلام لأثكلنّ به أباه ، فقلت : لا تقل ، يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه. فقال : لأفعلنّ ، ومرّ بنا عليّ وهو يطرد كتيبة فطعنه برمحه فانقلب على قربوس فرسه فاعتنق فرسه فكرّ به على الأعداء فاحتووه بسيوفهم فقطّعوه. فصاح قبل أن يفارق الدنيا : السلام عليك يا أبتي ، هذا جدّي المصطفى قد سقاني بكأسه الأوفى وهو ينتظرك الليلة ، فشدّ الحسين (عليه السلام) حتّى وقف عليه وهو مقطّع فقال : قتل الله قوما قتلوك يا بنيّ ، فما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول » ، ثمّ استهلت عيناه بالدموع ، وقال : على الدنيا بعدك العفا ».
وروى أبو مخنف ، وأبو الفرج عن حميد بن مسلم الأزدي أنّه قال : وكأنّي أنظر إلى امرأة قد خرجت من الفسطاط وهي تنادي : يا حبيباه يا ابن أخيّاه ، فسألت عنها ، فقالوا : هذه زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فجاءت حتّى انكبّت عليه ، فجاء الحسين (عليه السلام) إليها وأخذ بيدها إلى الفسطاط ، ورجع فقال لفتيانه : احملوا أخاكم » فحملوه من مصرعه ، ثمّ جاءوا به فوضعه بين يدي فسطاطه . وقتل ولا عقب له.
وفيه أقول :
بأبي أشبه الورى برسول الله نطقا وخلقة وخليقه
قطعته أعداؤه بسيوف هي أولى بهم وفيهم خليقه
ليت شعري ما يحمل الرهط منه جسدا أم عظام خير الخليقة
ضبط الغريب
ممّا وقع في هذه الترجمة :
( الخلق ) : بضم الخاء الطبع وبفتحها التصوير. ( يغلي ) : أي يفير.
( النهيء ) : كأمير اللحم النيء. ( يغلي ) : الثاني ضدير خص.
( الشرف ) : الموضع العالي وهو على زنة جبل.
وقال الشاعر :
آتي النديّ فلا يقرّب مجلسي وأقود للشرف الرفيع حماري
( القابل ) : المقبل عليك ومنه عام قابل.
( السدى ) : ندى أول الليل والندى ندى آخر الليل ويكنّى بكلّ منها وبهما عن الكرم.
( قطع الله رحمك ) : يعني قطع نسلك من ولدك كما قطعت نسلي من ولدي فإنّه لا عقب له.
( الأوفى ) : وصف الكأس وهي مؤنثة بالأوفى ، وهو مذكر غير صحيح على القواعد العربيّة ، فإن صحّت روايته فمحمول على أنّ المراد بالكأس الإناء والظرف وأمثالهما.
( احتووه ) : أي حازوه إليهم واشتملوا عليه ، يقال : احتويت على الصيد إذا حزته إليك واشتملت عليه.
( قربوس ) : السرج بفتح القاف والراء ولا تسكن الراء إلاّ في الضرورة بمعنى حنوه.
( الخليقة ) : الأولى بمعنى الطبيعة ، والثانية بمعنى الجديرة ، والثالثة بمعنى المخلوقات.
عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب ((عليهم السلام))
ولد في المدينة ، وقيل في الطف ، ولم يصح. وأمّه الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن جناب بن كلب. وأمّها هند الهنود بنت الربيع بن مسعود بن مصاد بن حصن بن كعب المذكور ، وأمّها ميسون بنت عمرو بن ثعلبة بن حصين بن ضمضم. وأمّها الرباب بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي ، وهي التي يقول فيها أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) :
لعمرك إنني لأحب دارا تحل بها سكينة والرباب

أحبّهما وأبذل جلّ مالي وليس لعاتب عندي عتاب
وكان امرؤ القيس زوّج ثلاث بناته في المدينة من أمير المؤمنين والحسن والحسين : ، وقصّته مشهورة ، فكانت الرباب عند الحسين (عليه السلام) وولدت له سكينة وعبد الله هذا.
قال المسعودي والأصبهاني والطبري وغيرهم : إنّ الحسين لمّا آيس من نفسه ذهب إلى فسطاطه فطلب طفلا له ليودّعه ، فجاءته به أخته زينب ، فتناوله من يدها ووضعه في حجره ، فبينا هو ينظر إليه إذ أتاه سهم فوقع في نحره فذبحه.
قالوا : فأخذ دمه الحسين (عليه السلام) بكفّه ورمى به إلى السماء وقال : اللهمّ لا يكن أهون عليك من دم فصيل ، اللهمّ إن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير لنا ؛ وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين ، فلقد هوّن ما بي أنّه بعينك يا أرحم الراحمين ».
قالوا : فروي عن الباقر (عليه السلام) أنّه لم تقع من ذلك الدم قطرة إلى الأرض ». ثمّ إنّ الحسين (عليه السلام) حفر له عند الفسطاط حفيرة في جفن سيفه فدفنه فيها بدمائه ورجع إلى موقفه.
وروى السيّد الطاوسي أنّه أخذ الطفل من يدي أخته زينب فأومى إليه ليقبله ، فأتته نشابة فذبحته فأعطاه إلى أخته وقال : خذيه إليك ، ثمّ فعل ما فعل بدمائه ، وقال ما قال بدعائه.
وروى أبو مخنف أنّ الذي رماه بالسهم حرملة بن الكاهن الأسدي. وروى غيره إنّ الذي رماه عقبة بن بشر الغنوي. والأول هو المروي عن أبي جعفر محمّد الباقر 8.
يا لرضيع أتاه سهم ردى حيث أبوه كالقوس من شفقه
قد خضبت جسمه الدماء فقل بدر سماء قد اكتسى شفقه
ضبط الغريب
ممّا وقع في هذه الترجمة :
( الحجر ) : هو بتثليث الحاء المهملة وبعدها الجيم الساكنة حضن الإنسان.
( الكاهن ) : بالنون ، ويجري على بعض الألسن ويمضى في بعض الكتب باللام ، والمضبوط خلافه.
( الشفقة ) : الأولى الحذر من جهة المحبّة ، والثانية هي شفق مضاف إلى ضمير البدر ، والشفق هو : الحمرة الشديدة عند أوّل الليل بين المغرب والعشاء.
العباس بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ولد سنة ست وعشرين من الهجرة. وأمّه أمّ البنين ، فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر المعروف بالوحيد بن كلاب بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأمّها ثمامة بنت سهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب. وأمّها عمرة بنت الطفيل فارس قرزل ، ابن مالك الأخزم رئيس هوازن ، بن جعفر بن كلاب. وأمّها كبشة بنت عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب. وأمّها أم الخشف بنت أبي معاوية فارس هوازن ، ابن عبادة بن عقيل بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأمّها فاطمة بنت جعفر بن كلاب. وأمّها عاتكة بنت عبد شمس بن عبد مناف. وأمّها آمنة بنت وهب بن عمير بن نصر بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن ذودان بن أسد بن خزيمة. وأمّها بنت حجدر بن ضبيعة الأغرّ بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نزار. وأمّها بنت مالك بن قيس بن ثعلبة. وأمّها بنت ذي الرأسين خشين ابن أبي عاصم بن سمح بن فزارة. وأمّها بنت عمرو بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان.
قال السيد الداودي في العمدة : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل ـ وكان نسّابة عالما بأخبار العرب وأنسابهم ـ : ابغني امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها فتلد لي غلاما فارسا ، فقال له : أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّة ، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس.
وفي آبائها يقول لبيد للنعمان بن المنذر ملك الحيرة :
نحن بنو أم البنين الأربعه ونحن خير عامر بن صعصعة
الضاربون الهام وسط المجمعة
فلا ينكر عليه أحد من العرب ، ومن قومها ملاعب الأسنّة أبو براء الذي لم يعرف في العرب مثله في الشجاعة ، والطفيل فارس قرزل ، وابنه عامر فارس المزنوق ، فتزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) فولدت له وأنجبت. وأوّل ما ولدت له العبّاس (عليه السلام) يلقّب في زمنه قمر بني هاشم ، ويكنّى أبا الفضل. وبعده عبد الله ، وبعده جعفرا ، وبعده عثمان. وعاش العبّاس مع أبيه أربع عشرة سنة ، حضر بعض الحروب فلم يأذن له أبوه بالنزال ، ومع أخيه الحسن أربعا وعشرين سنة ، ومع أخيه الحسين (عليه السلام) أربعا وثلاثين سنة ، وذلك مدّة عمره ، وكان (عليه السلام) أيدا شجاعا فارسا وسيما جسيما يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض.
وروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال : كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، جاهد مع أبي عبد الله (عليه السلام) ، وأبلى بلاء حسنا ، ومضى شهيدا (1).
وروي عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنّه نظر يوما إلى عبيد الله بن العبّاس بن علي (عليه السلام) فاستعبر ثمّ قال : ما من يوم أشدّ على رسول الله (صلى الله عليه واله) من يوم أحد ، قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمّه جعفر ابن أبي طالب ، ولا يوم كيوم الحسين ، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل ، يزعمون أنّهم من هذه الأمّة ، كلّ يتقرّب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ، وهو يذكّرهم بالله فلا يتّعظون ، حتّى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا ، ثمّ قال : رحم الله العبّاس فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه ، فأبدله الله عزّ وجلّ منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب.
وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة ».
وروى أبو مخنف أنّه لما منع الحسين (عليه السلام) وأصحابه من الماء وذلك قبل أن يجمع على الحرب اشتدّ بالحسين وأصحابه العطش ، فدعا أخاه العبّاس فبعثه في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا ليلا ، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ، واستقدم أمامهم باللواء نافع فمنعهم عمرو بن الحجاج الزبيدي ، فامتنعوا منه بالسيوف وملأوا قربهم وأتوا بها والعباس بن علي ونافع يذبان عنهم ويحملان على القوم حتّى خلصوا بالقرب إلى الحسين. فسمّي السقّاء وأبا قربة.
وروى أبو مخنف أنّه لما كاتب عمر بن سعد عبيد الله بن زياد في أمر الحسين (عليه السلام) وكتب إليه على يدي شمر بن ذي الجوشن بمنازلة الحسين ونزوله ، أو بعزله وتولية شمر العمل ، قام عبد الله بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر الوحيد ـ وكانت عمّته أمّ البنين ـ فطلب من عبيد الله كتابا بأمان العبّاس وإخوته ، وقام معه شمر في ذلك ، فكتب أمانا وأعطاه لعبد الله ، فبعثه إلى العبّاس وإخوته مع مولى له يقال له : كزمان ، فأتى به إليهم فلمّا قرءوه قالوا له : أبلغ خالنا السلام وقل له أن لا حاجة لنا في الأمان ، أمان الله خير من أمان ابن سميّة. فرجع ، قال : ووقف شمر في اليوم العاشر ناحية فنادى : أين بنو أختنا ، أين العبّاس وإخوته ، فلم يجبه أحد ، فقال لهم الحسين (عليه السلام) : أجيبوه ولو كان فاسقا ، فقام إليه العبّاس فقال له : ما تريد؟ قال : أنتم آمنون يا بني أختنا. فقال له العبّاس : لعنك الله ولعن أمانك ، لئن كنت خالنا أتؤمنّا وابن رسول الله لا أمان له؟ وتكلّم إخوته بنحو كلامه ثمّ رجعوا.
وروى أبو مخنف أيضا وغيره أنّ عمر بن سعد نادى في اليوم التاسع : يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنّة. فركب الناس وزحفوا ، وذلك بعد صلاة العصر ، والحسين (عليه السلام) جالس أمام بيته محتبيا بسيفه وقد خفق على ركبتيه ، فسمعت زينب الصيحة فدنت منه وقالت : أما تسمع الأصوات يا أخي قد اقتربت! فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه وأخبرها برؤية رسول الله (صلى الله عليه واله) وأنّه يدعوه ، فلطمت زينب وجهها وقالت : يا ويلتاه ، فقال لها : ليس الويل لك يا أخيّة ، اسكتي رحمك الرحمن. ثمّ قال العبّاس له : يا أخي قد أتاك القوم فنهض ، ثمّ قال : يا عبّاس ، اركب بنفسي أنت حتّى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم » ، فأتاهم العبّاس في نحو عشرين فارسا فيهم زهير وحبيب فقال لهم : ما لكم وما بدا لكم وما تريدون؟ فقالوا : جاء أمر عبيد الله أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم. قال : فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم ، فوقفوا ثمّ قالوا : القه فأعلمه ذلك ، ثمّ أعلمنا بما يقول. فانصرف العبّاس يركض فرسه إلى الحسين (عليه السلام) يخبره ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم حتّى أقبل العبّاس يركض فرسه فانتهى إليهم ، فقال : يا هؤلاء : إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإنّ هذا أمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق ، فإذا أصبحنا التقينا فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه أو كرهنا فرددناه. قال : وإنّما أراد بذلك أن يردّهم عن الحسين تلك العشيّة حتى يأمر بأمره ويوصي أهله ، وقد كان الحسين (عليه السلام) قال له : يا أخي ان استطعت أن تؤخّرهم هذه العشيّة إلى غدوة ، وتدفعهم عنّا لعلّنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار » ، فقال لهم العبّاس ما قال ، فقال عمر بن سعد : ما ترى يا شمر؟ فقال : ما ترى أنت ، أنت الأمير والرأي رأيك ، فقال : قد أردت أن لا أكون ذا رأي. ثمّ أقبل على الناس فقال : ما ذا ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج : سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها. وقال قيس بن الأشعث : لا تجبهم إلى ما سألوك فلعمري ليصبحنّك بالقتال غدوة. فقال : والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشيّة ، ثمّ أمر رجلا أن يدنو من الحسين (عليه السلام) بحيث يسمع الصوت فينادي : إنّا قد أجّلناكم إلى غد ، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلى الأمير ، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم.
وروى أهل السير عن الضحّاك بن قيس المشرقي ، قال : إنّ الحسين (عليه السلام) جمع تلك الليلة أهل بيته وأصحابه فخطبهم بخطبته التي قال فيها : أمّا بعد : فإنّي لا أعلم أهل بيت إلخ ». فقام العبّاس فقال : لم نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبدا. ثمّ تكلّم أهل بيته وأصحابه بما يشبه هذا الكلام ، وسيذكر بعد.
قالوا : ولمّا أصبح ابن سعد جعل على ربع المدينة عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس ، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي ، وجعل الميمنة لعمرو بن الحجاج الزبيدي ، والميسرة لشمر بن ذي الجوشن الضبابي ، والخيل لعزرة بن قيس الأحمسي ، والرجال لشبث بن ربعي ، وأعطى الراية لدريد مولاه.
ولمّا أصبح الحسين (عليه السلام) جعل الميمنة لزهير ، والميسرة لحبيب ، وأعطى الراية أخاه العبّاس .
وروى أبو مخنف عن الضحّاك بن قيس أنّ الحسين (عليه السلام) لمّا خطب خطبته على راحلته ونادى في أولها بأعلى صوته : أيّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوني ». سمع النساء كلامه هذا فصحن وبكين وارتفعت أصواتهن ، فأرسل إليهنّ أخاه العبّاس وولده عليّا وقال لهما : أسكتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ ، فمضيا يسكتاهنّ حتّى إذا سكتن عاد إلى خطبته. فحمد الله وأثنى عليه وصلّى عليه نبيّه. قال : فو الله ما سمعت متكلما قط لا قبله ولا بعده أبلغ منه منطقا .
وقال أبو جعفر وابن الأثير : لما نشبت الحرب بين الفريقين تقدم عمر بن خالد ومولاه سعد ، ومجمّع بن عبد الله ، وجنادة بن الحرث فشدوا مقدمين بأسيافهم على الناس ، فلمّا وغلوا فيهم عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم ، وقطعوهم من أصحابهم ، فندب الحسين (عليه السلام) لهم أخاه العبّاس فحمل على القوم وحده ، فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه وخلص إليهم فسلّموا عليه فأتى بهم ، ولكنّهم كانوا جرحى فأبوا عليه أن يستنقذهم سالمين ، فعاودوا القتال وهو يدفع عنهم حتّى قتلوا في مكان واحد فعاد العبّاس إلى أخيه وأخبره بخبرهم.
قال أهل السير : وكان العبّاس ربما ركز لواءه أمام الحسين وحامى عن أصحابه أو استقى ماء فكان يلقّب بالسقّاء. ويكنّى أبا قربة بعد قتله.
قالوا : ولمّا رأى وحدة الحسين (عليه السلام) بعد قتل أصحابه وجملة من أهل بيته ، قال لاخوته من أمّه : تقدّموا لأحتسبكم عند الله تعالى ، فإنّه لا ولد لكم. فتقدّموا حتّى قتلوا ، فجاء إلى الحسين (عليه السلام) واستأذنه في المصال ، فقال له : أنت حامل لوائي » ، فقال : لقد ضاق صدري وسئمت الحياة. فقال له الحسين : إن عزمت فاستسق لنا ماء » ، فأخذ قربته وحمل على القوم حتّى ملأ القربة. قالوا : واغترف من الماء غرفة ثمّ ذكر عطش الحسين (عليه السلام) فرمى بها وقال :
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون وتشربين بارد المعين
ثمّ عاد فأخذ عليه الطريق ، فجعل يضربهم بسيفه وهو يقول :
لا أرهب الموت إذا الموت زقا حتى أوارى في المصاليت لقى
إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا ولا أهاب الموت يوم الملتقى
فضربه حكيم بن طفيل الطائي السنبسي على يمينه فبرأها ، فأخذ اللواء بشماله وهو يقول :
والله إن قطعتم يميني إنّي أحامي أبدا عن ديني
فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبرأها ، فضمّ اللواء إلى صدره كما فعل عمّه جعفر إذ قطعوا يمينه ويساره في مؤتة ، فضمّ اللواء إلى صدره وهو يقول :
ألا ترون معشر الفجّار قد قطعوا ببغيهم يساري
فحمل عليه رجل تميمي من أبناء أبان بن دارم فضربه بعمود على رأسه فخرّ صريعا إلى الأرض ، ونادى بأعلى صوته : أدركني يا أخي. فانقض عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم مرتثا بالجراحة ، فوقف عليه منحنيا ، وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه ، ثمّ حمل على القوم فجعل يضرب فيهم يمينا وشمالا فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، وهو يقول : أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟! أين تفرّون وقد فتتم عضدي؟! ثمّ عاد إلى موقفه منفردا. وكان العبّاس آخر من قتل من المحاربين لأعداء الحسين (عليه السلام) ، ولم يقتل بعده إلاّ الغلمان الصغار من آل أبي طالب الذين لم يحملوا السلاح.
وفيه يقول الكميت بن زيد الأسدي :
وأبو الفضل إنّ ذكرهم الحلو شفاء النفوس في الأسقام
قتل الأدعياء إذ قتلوه أكرم الشاربين صوب الغمام
ويقول حفيده الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس :
إنّي لأذكر للعباس موقفه بكربلاء وهام القوم تختطف
يحمي الحسين ويحميه على ظمأ ولا يولّي ولا يثني فيختلف
ولا أرى مشهدا يوما كمشهده مع الحسين عليه الفضل والشرف
أكرم به مشهدا بانت فضيلته وما أضاع له أفعاله خلف

وأقول :
أمسند ذاك اللوا صدره وقد قطعت منه يمنى ويسرى
لثنّيت جعفر في فعله غداة استضمّ اللوا منه صدرا
وأبقيت ذكرك في العالمين يتلونه في المحاريب ذكرا
وأوقفت فوقك شمس الهدى يدير بعينيه يمنى ويسرى
لئن ظل منحنيا فالعدى بقتلك قد كسروا منه ظهرا
وألقوا لواه فلفّ اللواء ومن ذا ترى بعد يسطيع نشرا
نأى الشخص منك وأبقى ثناك إلى الحشر يدلج فيه ويسرى
وأنا أسترق جدّا من رثاء أمّه فاطمة أمّ البنين الذي أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل : وقد كانت تخرج إلى البقيع في كلّ يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة وفيهم مروان بن الحكم فيبكون لشجيّ الندبة ، قولها رضي الله عنها :
يا من رأى العبّاس كرّ على جماهير النقد
ووراه من أبناء حيدر كل ليث ذي لبد
أنبئت أنّ ابني أصيب برأسه مقطوع يد
ويلي على شبلي أما ل برأسه ضرب العمد
لو كان سيفك في يد يك لما دنا منه أحد
وقولها :
لا تدعونّي ويك أمّ البنين تذكّريني بليوث العرين
كانت بنون لي أدعى بهم واليوم أصبحت ولا من بنين
أربعة مثل نسور الربى قد واصلوا الموت بقطع الوتين
تنازع الخرصان أشلائهم فكلهم أمسى صريعا طعين
يا ليت شعري أكما أخبروا بأنّ عبّاسا قطيع اليمين

وروى جماعة عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال : رأيت رجلا من بني أبان بن دارم أسود الوجه وقد كنت أعرفه شديد البياض جميلا ، فسألته عن سبب تغيّره وقلت له : ما كدت أعرفك. فقال : إنّي قتلت رجلا بكربلاء وسيما جسيما ، بين عينيه أثر السجود ، فما بتّ ليلة منذ قتلته إلى الآن إلاّ وقد جاءني في النوم ، وأخذ بتلابيبي وقادني إلى جهنّم فيدفعني فيها فأظل أصيح ، فلا يبقى أحد في الحيّ إلاّ ويسمع صياحي ، قال : فانتشر الخبر ، فقالت جارة له : إنّه ما زلنا نسمع صياحه حتّى ما يدعنا ننام شيئا من الليل ، فقمت في شباب الحي إلى زوجته فسألناها ، فقالت : أما إذا أخبر هو عن نفسه فلا أبعد الله غيره ، قد صدقكم. قال : والمقتول هو العبّاس بن علي (عليهما السلام) .
ضبط الغريب
ممّا وقع في هذه الترجمة :
( الأيّد ) : كسيّد : القوي. ( الوسيم ) : من الوسامة وهي الجمال.
( المطهّم ) : كمحمد : السمين الفاحش السمن العالي ، وهذه كناية عن طوله وجسامته (عليه السلام) .
( ازدلف ) : أي سار إليه وقرب منه. ( يغبطه ) : أي يتمنّى أن يكون مثله بلا نقصان من حظّه. ( خلصوا ) : وصلوا.
( بنفسي أنت ) : أي فديتك بنفسي. ويمضى في بعض الكتب بنفسك وليس به.
( ركض ) : أي ضرب الفرس برجله ، قال الله تعالى {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] ، فأمّا بمعنى عدا فليس صحيحا.
( الضحّاك بن قيس ) : المشرقي من همدان ، هذا جاء إلى الحسين (عليه السلام) هو ومالك ابن النضر الأرحبي أيّام الموادعة يسلّمان عليه ، فدعاهما لنصرته فاعتذر مالك بدينه وعياله وأجاب الضحّاك على شريطة أنّه إن رأى نصرته لا تفيد الحسين (عليه السلام) فهو في حلّ ، فرضي الحسين (عليه السلام) منه حتّى إذا لم يبق من أصحابه إلاّ نفران جاء إلى الحسين (عليه السلام) وقال له : شريطتي ، قال : نعم ، ولكن أنّى لك النجاء؟! إن قدرت على ذلك فأنت في حلّ. فأقبل على فرسه ، وقد كان خبّأها بين البيوت حين رأى الخيل تعقر ، وقاتل راجلا ، فاستخرجها ثمّ استوى على متنها حتّى إذا قامت على السنابك رمى بها عرض القوم فأفرجوا له ، وتبعه خمسة عشر فارسا حتّى انتهى إلى شفية فلحقوه ، وعطف عليهم فعرفه كثير بن عبد الله الشعبي وأيّوب بن مشرح الخيواني ، وقيس بن عبد الله الصائدي ، فناشدوا الله أصحابهم الكفّ عنه ، فنجا ، فهو يخبر عن جملة ممّا وقع للحسين (عليه السلام) وأصحابه في المقاتلة.
( عبد الله بن زهير ) : بن سليم الأزدي كان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وله ذكر في الحروب والمغازي وولي الأعمال لآل أميّة.
( عبد الرحمن بن أبي سبرة ) : يزيد بن مالك بن عبد الله بن ذويب بن سلمة بن عمرو بن ذهل بن مران بن جعفى ، وفد هو وأخوه سبرة مع أبيه على رسول الله (صلى الله عليه واله) وكان اسمه عزيزا فسمّاه رسول الله (صلى الله عليه واله) عبد الرحمن ، وله مع صحبته أفعال ذميمة .
( فإنّه لا ولد لكم ) : يعني بذلك إنّكم إن تقدمتموني وقتلوكم لم تبق لكم ذرية فينقطع نسب أمير المؤمنين (عليه السلام) منكم فيشتدّ حزني ويعظم بذلك أجري.
وزعم بعض الناس أنّه يعني لأحوز ميراثكم فإذا قتلت خلص لولدي. وهذا طريف ، فإنّ العبّاس أجلّ قدرا من ذلك ، ولما ذكرته في مراده نظير ، وهو قول عابس لشوذب الذي يأتي ذكره ، وسأنبّه عليه هناك إن شاء الله.
( زقا ) : صاح ، تزعم العرب أنّ للموت طائرا يصيح ويسمّونه الهامة ، ويقولون إذا قتل الإنسان ولم يؤخذ بثأره زقت هامته حتّى يثأر.
قال الشاعر :
فإن تك هامة بهراة تزقو فقد أزقيت بالمروين هاما
( المصاليت ) : جمع مصلات وهو : الرجل السريع المتشمر.
قال عامر بن الطفيل :
وإنّا المصاليت يوم الوغا إذا ما المغاوير لم تقدم
( السنبسي ) : بالسين المهملة وبعدها النون ثمّ الباء المفردة والسين والياء المثنّاة تحت منسوب إلى سنبس بطن من طي.
( ورقاء ) : بالواو والراء المهملة والقاف والمد ، ويمضى في بعض الكتب ( رقاد ) وهو تصحيف.
( النقد ) : جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه فمعنى البيت ( يا من رأى العبّاس ) وهو اسم للأسد. كرّ على جماعات الغنم المعروفة بالنقد وهو بديع.
( تلابيبي ) : جمع تلبيب وهو : موضع اللبب من الثياب. واللبب موضع القلادة من الصدر.
عبد الله بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ( عليهم الصلاة والسلام )
ولد بعد أخيه بنحو ثمان سنين ، وأمّه فاطمة أمّ البنين وبقي مع أبيه ست سنين ، ومع أخيه الحسن ست عشرة سنة ، ومع أخيه الحسين خمسا وعشرين سنة ، وذلك مدّة عمره.
قال أهل السير : إنّه لمّا قتل أصحاب الحسين (عليه السلام) وجملة من أهل بيته دعا العبّاس إخوته الأكبر فالأكبر ، وقال لهم : تقدّموا ، فأوّل من دعاه عبد الله أخوه لأبيه وأمّه فقال : تقدّم يا أخي حتّى أراك قتيلا وأحتسبك فإنّه لا ولد لك ، فتقدم بين يديه وجعل يضرب بسيفه قدما ويجول فيهم وهو يقول :
أنا ابن ذي النجدة والأفضال ذاك عليّ الخير في الأفعال
سيف رسول الله ذو النكال في كلّ يوم ظاهر الأهوال
فشدّ عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فضربه على رأسه فقتله .
عثمان بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب (عليهم السلام) ولد بعد أخيه عبد الله بنحو سنتين ، وأمّه فاطمة أمّ البنين ، وبقي مع أبيه نحو أربع سنين ، ومع أخيه الحسن نحو أربع عشرة سنة ، ومع أخيه الحسين (عليه السلام) ثلاث وعشرين سنة وذلك مدّة عمره.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : إنّما سمّيته عثمان بعثمان بن مظعون أخي .
قال أهل السير : لمّا قتل عبد الله بن علي دعا العبّاس عثمان وقال له : تقدّم يا أخي ، كما قال لعبد الله ، فتقدّم إلى الحرب يضرب بسيفه ويقول :
إنّي أنا عثمان ذو المفاخر شيخي عليّ ذو الفعال الطاهر
فرماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم فأوهطه حتّى سقط لجنبه ، فجاءه رجل من بني أبان بن دارم فقتله واحتزّ رأسه .
ضبط الغريب
ممّا وقع في هذه الترجمة :
( عثمان بن مظعون ) : بن حبيب بن وهيب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي ، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا ، وهاجر الهجرتين وشهد بدرا ، وكان أوّل رجل مات بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة ، وكان ممّن حرّم على نفسه الخمر في الجاهليّة ، وممّن أراد الاختصاء في الإسلام فنهاه رسول الله (صلى الله عليه واله) وقال : عليك بالصيام فإنّه مجفرة ». أي قاطع للجماع.
ولمّا مات جاء رسول الله (صلى الله عليه واله) إلى بيته وقال : رحمك الله أبا السائب » ، ثمّ انحنى عليه فقبّله.
ورؤي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) لمّا رفع رأسه أثر البكاء ، ثمّ صلّى عليه ودفنه في بقيع الغرقد ، ووضع حجرا على قبره ، وجعل يزوره ، ثمّ لمّا مات إبراهيم ولده بعده قال :
الحق يا بني بفرطنا عثمان بن مظعون » ولمّا ماتت زينب ابنته قال : الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون .
( أوهطه ) : أضعفه وأثخنه بالجراح وصرعه صرعة لا يقوم منها.
جعفر بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب (عليهم السلام)
ولد بعد أخيه عثمان بنحو سنتين ، وأمّه فاطمة أمّ البنين ، وبقي مع أبيه نحو سنتين ، ومع أخيه الحسن (عليه السلام) نحو اثنتي عشرة سنة ، ومع أخيه الحسين (عليه السلام) نحو إحدى وعشرين سنة ، وذلك مدّة عمره .
وروي : أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سمّاه باسم أخيه جعفر لحبّه إيّاه .
قال أهل السير : لمّا قتل أخوا العبّاس لأبيه وأمّه عبد الله وعثمان دعا جعفرا فقال له : تقدّم إلى الحرب حتّى أراك قتيلا كأخويك فأحتسبك كما احتسبتهما ، فإنّه لا ولد لكم ». فتقدّم وشدّ على الأعداء يضرب فيهم بسيفه وهو يقول :
إنّي أنا جعفر ذو المعالي ابن عليّ الخير ذي الأفضال
قال أبو الفرج : فشدّ عليه خولي بن يزيد الأصبحي فقتله .
وقال أبو مخنف : بل شدّ عليه هاني بن ثبيت الذي قتل أخاه فقتله .
أبو بكر بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب (عليهم السلام)
اسمه محمّد الأصغر أو عبد الله ، وأمّه ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم ، وأمّها عميرة بنت قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر سيّد أهل الوبر ابن عبيد بن الحارث وهو مقاعس ، وأمّها عناق بنت عصام بن سنان بن خالد بن منقر ، وامّها بنت أعبد بن أسعد بن منقر ، وأمّها بنت سفيان بن خالد بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
وفي سلمى جدّه قال الشاعر :
يسوّد أقوام وليسوا بسادة بل السيّد الميمون سلمى بن جندل
قيل : قتله زجر بن بدر النخعي ، وقيل : بل عقبة الغنوي ، وقيل : بل رجل من همدان ، وقيل : وجد في ساقية مقتولا لا يدرى من قتله .
وذكر بعض الرواة أنّه تقدّم إلى الحرب وقاتل وهو يقول :
شيخي عليّ ذو الفخار الأطول من هاشم وهاشم لم تعدل ولم يزل يقاتل حتّى اشترك في قتله جماعة منهم عقبة الغنوي.
فهؤلاء الستة مع الحسين (عليه السلام) لصلب علي (عليه السلام) واختلف في غيرهم. ويصحح هذا قول سليمان بن قتة يرثيهم :
ستة كلّهم لصلب علي قد أصيبوا وسبعة لعقيل
أبو بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
أمّه أم ولد. روى أبو الفرج : أنّ عبد الله بن عقبة الغنوي قتله. وروي أنّ عقبة الغنوي هو الذي قتله ، وإيّاه عنى سليمان بن قتّة بقوله :
وعند غنيّ قطرة من دمائنا سنجزيهم يوما بها حيث حلّت

إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها وتقتلنا قيس إذا النعل زلّت القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
أمّه أمّ أبي بكر ، يقال : إنّ اسمها رملة. روى أبو الفرج عن حميد بن مسلم قال : خرج إلينا غلام كأنّ وجهه شقّة قمر ، وفي يده السيف وعليه قميص وإزار ، وفي رجليه نعلان فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع إحدى نعليه ولا أنسى أنّها كانت اليسرى ، فوقف ليشدّها ، فقال عمر بن سعد بن نفيل الأزدي : والله لأشدّنّ عليه. فقلت له : سبحان الله وما تريد بذلك؟! يكفيك قتله هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه من كلّ جانب ، فقال : والله لأشدنّ عليه ، فما ولّى وجهه حتّى ضرب رأس الغلام بالسيف ، فوقع الغلام لوجهه وصاح : يا عمّاه.
قال : فو الله لجلّى الحسين عليه كما يجلى الصقر ، ثمّ شدّ شدّة الليث إذا أغضب فضرب عمرا بالسيف فاتقاه بساعده فأطنّها من لدن المرفق ، ثمّ تنحّى عنه ، فحملت خيل عمر بن سعد ليستنقذوه من الحسين ، فاستقبلته بصدورها وجالت فتوطّأته ، فلم يرم حتّى مات ، فلمّا تجلّت الغبرة إذا بالحسين على رأس الغلام وهو يفحص برجليه ، والحسين يقول : بعدا لقوم قتلوك ، وخصمهم فيك يوم القيامة رسول الله. ثمّ قال : عزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا تنفعك إجابته ، يوم كثر واتره وقلّ ناصره ». ثمّ احتمله على صدره ، وكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان في الأرض ، حتّى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين ، فسألت عن الغلام ، فقالوا : هذا القاسم ابن الحسن بن علي بن أبي طالب .
وقال غيره : إنّه لما رأى وحدة عمّه استأذنه في القتال فلم يأذن له لصغره ، فما زال به حتّى أذن له ، فبرز كأنّ وجهه شقّة قمر ، وساق الحديث إلى آخره كما تقدّم .
أتراه حين أقام يصلح نعله بين العدى كيلا يروه بمحتفي
غلبت عليه شآمة حسنية أم كان بالأعداء ليس بمحتفى
( ضبط الغريب )
ممّا وقع في هذه الترجمة :
( أطنّها ) : أي قطعها حتّى سمع لها طنين وهو الصوت.
( لم يرم ) : أي : لم يبرح ، من رام يريم.
قال الشاعر :
أيا أبتا لا تزل عندنا فإنّا بخير إذا لم ترم
( محتفى ) : الأوّل من الاحتفاء وهو المشي بلا نعال. والثاني من الاحتفاء وهو الاعتناء ، يقال : احتفى به ولم يحتف.
عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
امّه بنت الشليل بن عبد الله البجلي ، والشليل أخو جرير بن عبد الله ، كانت لهما صحبة.
قال الشيخ المفيد : لمّا ضرب مالك بن النسر الكندي بسيفه الحسين على رأسه بعد أن شتمه ألقى الحسين (عليه السلام) قلنسوته ودعا بخرقة وقلنسوة ، فشدّ رأسه بالخرقة ولبس القلنسوة واعتمّ عليها ، رجع عنه شمر ومن معه إلى مواضعهم ، فمكث هنيئة ، ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به ، فخرج عبد الله بن الحسن من عند النساء وهو غلام لم يراهق ، فشدّ حتّى وقف إلى جنب عمّه الحسين (عليه السلام) ، فلحقته زينب لتحبسه فأبى ، فقال لها الحسين : احبسيه يا أخيّة » ، فامتنع امتناعا شديدا ، وقال : والله لا أفارق عمّي. وأهوى بحر بن كعب إلى الحسين بالسيف ، فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمّي؟ فضربه بحر بالسيف ، فاتّقاه الغلام بيده ، فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام : يا أمّاه ، فأخذه الحسين (عليه السلام) وضمّه إليه ، وقال : يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين » ثمّ رفع الحسين (عليه السلام) يديه إلى السماء وقال : اللهمّ أمسك عليهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض ، اللهمّ فإن متّعتهم إلى حين ففرّقهم بددا ، واجعلهم طرائق قددا ، ولا ترضي الولاة عنهم أبدا ، فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثمّ عدوا علينا فقتلونا » .
وروى أبو الفرج : إنّ الذي قتله حرملة بن الكاهن الأسدي .
( ضبط الغريب )
ممّا وقع في هذه الترجمة :
( القلنسوة ) : بفتح القاف وفتح اللام وتسكين النون وضم السين قبل الواو لباس في الرأس معروف.
( يراهق ) : أي لم يقارب. ( بددا ) : أي تفريقا ، وفي بعض النسخ فرقا. ( قددا ) : أي طرائق متفرقة.
( بحر ) : بالباء المفردة والحاء المهملة والراء مثلها. ( بن كعب بن عبيد الله من بني تيم بن ثعلبة بن عكابة ).
وروى أبو مخنف وغيره أنّ يدي بحر هذا كانتا تنضحان في الصيف الماء وتيبسان في الشتاء كأنّهما العود (3). ويمضى في بعض الكتب ويجري على بعض الألسن أبحر بن كعب ، وهو غلط وتصحيف.
عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليهم السلام)
أمّه زينب العقيلة الكبرى بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأمّها فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) .
قال أهل السير : إنّه لمّا خرج الحسين (عليه السلام) من مكّة كتب إليه عبد الله بن جعفر كتابا يسأله فيه الرجوع عن عزمه ، وأرسل إليه ابنيه عونا ومحمّدا فأتياه بوادي العقيق قبل أن يصل إلى مسامنة المدينة ، ثمّ ذهب عبد الله إلى عمرو بن سعيد بن العاص عامل المدينة فسأله أمانا للحسين ، فكتب وأرسله إليه مع أخيه يحيى ، وخرج معه عبد الله فلقيا الحسين (عليه السلام) بذات عرق (2) ، فأقرأه الكتاب فأبى عليهما وقال : إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه واله) في منامي فأمرني بالمسير وإنّي منته إلى ما أمرني به » ، وكتب جواب الكتاب إلى عمرو بن سعيد ففارقاه ورجعا ، وقد أوصى عبد الله ولديه بالحسين واعتذر منه .
قالوا : ولمّا ورد نعي الحسين ونعيهما إلى المدينة كان عبد الله جالسا في بيته فدخل الناس يعزّونه ، فقال غلامه أبو اللسلاس : هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين. فحذفه عبد الله بنعله وقال : يا ابن اللخناء ، أللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته لما فارقته حتى أقتل معه ، والله إنّهما لممّا يسخّي بالنفس عنهما ويهوّن عليّ المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسين له صابرين معه ، ثمّ أقبل على الجلساء فقال : الحمد لله أعزز عليّ بمصرع الحسين أن لا أكن آسيت حسينا بيدي ، فقد آسيته بولدي .
قال السروي : برز عون بن عبد الله بن جعفر إلى القوم وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن جعفر شهيد صدق في الجنان أزهر
يطير فيها بجناح أخضر كفى بهذا شرفا في المحشر
فضرب فيهم بسيفه حتّى قتل منهم ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلا ، ثمّ ضربه عبد الله بن قطنة الطائي النبهاني بسيفه فقتله .
وفيه يقول سليمان بن قتّة التيمي من قصيدته التي يرثي بها الحسين (عليه السلام) :
عيني جودي بعبرة وعويل وأندبي إن بكيت آل الرسول
ستة كلّهم لصلب علي قد أصيبوا وسبعة لعقيل
واندبي إن ندبت عونا أخاهم ليس فيما ينوبهم بخذول
فلعمري لقد أصيب ذوو القر بى فبكّي على المصاب الطويل
( ضبط الغريب )
ممّا وقع في هذه الترجمة :
( أبو اللسلاس ) : باللام المفتوحة والسين المهملة ثمّ لام وسين بينهما ألف ، ويمضى في بعض الكتب أبو السلاسل وهو تصحيف .
( قطنة ) : بالقاف المضمومة والنون بينهما طاء.
( النبهاني ) : بالنون والباء المفردة منسوب إلى نبهان بطن من بطون طيء.
محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليهم السلام)
أمّه الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف بن ربيعة بن عائذ بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . وأمّها هند بنت سالم بن عبد العزيز بن مخزوم ابن سنان بن مولة بن عامر بن مالك بن تيم اللات بن ثعلبة ، وأمّها ميمونة بنت بشر ابن عمرو بن الحرث بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن الحصين بن عكابة بن صعب بن علي .
قال السروي : تقدّم محمّد قبل عون إلى الحرب ، فبرز إليهم وهو يقول :
أشكو إلى الله من العدوان فعال قوم في الردى عميان
قد بدّلوا معالم القرآن ومحكم التنزيل والتبيان فقتل عشرة أنفس ، ثمّ تعاطفوا عليه ، فقتله عامر بن نهشل التميمي.
وفيه يقول سليمان بن قتّة من القصيدة المتقدّمة على الولاء :
وسميّ النبي غودر فيهم قد علوه بصارم مصقول
فإذا ما بكيت عيني فجودي بدموع تسيل كلّ مسيل
مسلم بن عقيل بن أبي طالب (عليهم السلام)
أمّه أمّ ولد تسمّى عليّة اشتراها عقيل من الشام , روى المدائني قال : قال معاوية بن أبي سفيان لعقيل بن أبي طالب يوما : هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال : نعم ، جارية عرضت عليّ وأبى أصحابها أن يبيعوها إلاّ بأربعين ألفا ، فأحبّ معاوية أن يمازحه فقال : وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى تجتزي بجارية قيمتها أربعون درهما! قال : أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما إذا أغضبته ضرب عنقك بالسيف ، فضحك معاوية وقال : مازحناك يا أبا يزيد! وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلما ، فلمّا أتت على مسلم سنون وقد مات أبوه عقيل ، قال مسلم لمعاوية : إنّ لي أرضا بمكان كذا من المدينة وقد أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إيّاها ، فادفع لي ثمنها ، فأمر معاوية بقبض الأرض ، ودفع الثمن إليه ، فبلغ ذلك الحسين (عليه السلام) فكتب إلى معاوية : أمّا بعد .. فإنّك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها ، فاقبض منه ما دفعته إليه ، وأردد إلينا أرضنا ».
فبعث معاوية إلى مسلم ، فأقرأه كتاب الحسين (عليه السلام) وقال له : اردد علينا مالنا وخذ أرضك ، فإنّك بعت ما لا تملك. فقال مسلم : أمّا دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا. فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه ، ويقول له : يا بنيّ هذا والله قاله لي أبوك حين ابتعت له أمّك.
ثمّ كتب إلى الحسين : إنّي قد رددت أرضكم وسوّغت مسلما ما أخذ .
وروى أبو مخنف وغيره : أنّ أهل الكوفة لمّا كتبوا إلى الحسين دعا مسلما فسرّحه مع قيس بن مسهّر ، وعبد الرحمن بن عبد الله ، وجماعة من الرسل ، فأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين عجّل إليه بذلك ، وكتب إليهم : أمّا بعد : فقد أرسلت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب لي إن رآكم مجتمعين ، فلعمري ما الإمام إلاّ من قام بالحقّ » ، وما يشاكل هذا.
فخرج من مكّة في أواخر شهر رمضان وأتى المدينة ، فصلّى في مسجد رسول الله (صلى الله عليه واله) وودّع أهله وخرج فاستأجر دليلين من قيس فجارا عن الطريق واشتدّ عليهم العطش فلم يلبثا أن ماتا.
وأقبل مسلم ومن معه حتّى انتهوا إلى الماء وقد أشار الدليلان إليهما عليه ، فكتب مسلم مع قيس إلى الحسين (عليه السلام) من المضيق من بطن خبت أمّا بعد : فإنّي خرجت من المدينة ومعي دليلان فجارا عن الطريق وعطشنا ، فلم يلبثا أن مات وانتهينا إلى الماء فلم ننج إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وقد تطيّرت من وجهي هذا ، فكتب إليه الحسين (عليه السلام) ، أمّا بعد : فقد خشيت أن يكون حملك على هذا غير ما تذكر فامض لوجهك الذي وجّهتك له والسلام ». فسار مسلم حتّى مرّ بماء لطيّئ فنزل ، ثمّ ارتحل فإذا رجل قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه فقال مسلم : يقتل عدوّنا إن شاء الله. وأقبل مسلم حتّى دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد فحضرته الشيعة واجتمعت له ، فقرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) الذي أجابهم به ، فأخذوا يبكون وخطبت بمحضره خطباؤهم كعابس الشاكري ، وحبيب الأسدي ، فبلغ ذلك النعمان ابن بشير الأنصاري ـ وكان عامل يزيد على الكوفة ـ فخرج وخطب الناس وتوعّدهم ولان في كلامه ، فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أميّة فأنّبه وخرج ، فكتب هو وعمارة بن عقبة إلى يزيد بأمر النعمان وأنّه ضعيف أو يتضاعف ، وأخذ الناس يبايعون مسلما حتّى انتهى ديوانه إلى ثمانية عشر ألف مبايع أو أكثر ، فكتب إلى الحسين (عليه السلام) بذلك مع عابس بن أبي شبيب الشاكري وسأله الإعجال بالقدوم عليه ، لاشتياق الناس إليه. ولمّا بلغ ذلك يزيد استشار ذويه فيمن يولّيه ، فأشار عليه سرجون مولى أبيه بعبيد الله بن زياد وأخرج إليه عهد أبيه فيه ، فولاّه وكتب إليه بولاية المصرين مع مسلم بن عمرو الباهلي. فسار مسلم حتّى ورد البصرة ، وقد كان الحسين (عليه السلام) كتب إلى أهل البصرة مع مولاه سليمان ، فصلبه عبيد الله وتهدّد الناس ، وخلّف مكانه أخاه عثمان وخرج إلى الكوفة ، وأخرج معه شريك بن الأعور ، ومسلم بن عمرو وجماعة من خاصّته ، فساروا فجعل شريك يتساقط في الطريق ليعرج إليه عبيد الله فيقيم عليه فيبادر الحسين (عليه السلام) الكوفة قبل دخولهم فيتمكن من الناس ، ولكنّ الحسين لم يكن خرج من مكة كما ظنّ شريك ، وعبيد الله لم يعرج على شريك كلّما سقط كما زعم ، فدخل الكوفة قبل أصحابه ، فظنّ الناس أنّه الحسين (عليه السلام) لتشبهه به لباسا وتلثمه ، فدخل القصر والنعمان يظنّه الحسين ، والناس تقول له مرحبا بابن رسول الله (صلى الله عليه واله) وتتبعه ، فسدّ النعمان باب القصر ، فصاح به افتح لا فتحت ، فعرفه وفتح الباب وعرفها الناس كلمة عبيد الله فانكفئوا وانكفّوا ، وبات مسلم والناس حوله. فلمّا أصبح دخل شريك الكوفة فنزل على هاني بن عروة فزاره مسلم وعاده ، فقال لمسلم : أرأيت لو عادني عبيد الله أكنت قاتله؟ قال : نعم ، فبقى عند هاني ، وأصبح عبيد الله فبعث عينا له من مواليه يتوصل إلى مسلم ، وعاد شريك بن الأعور فلم يحب مسلم قتله حتّى ظهر من تلويحات شريك لعبيد الله ، فنهض ومات شريك وأخبره عينه أنّ مسلما عند هاني فبعث على هاني وحبسه ، فجمع مسلم أصحابه وعقد لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال له سر أمامي في الخيل. وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد وقال : انزل في الرجال ، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وعقد للعبّاس بن جعدة الجدلي