انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار: و قال محمد بن أبي طالب الموسوي لما ورد الكتاب على الوليد بقتل الحسين (عليه‏ السلام) عظم ذلك عليه ثم قال: و اللّه لا يراني اللّه أقتل ابن نبيه و لو جعل يزيد لي الدنيا بما فيها.
قال: و خرج الحسين (عليه‏ السلام) من منزله ذات ليلة و أقبل إلى قبر جده فقال: السلام عليك يا رسول اللّه أنا الحسين ابن فاطمة فرخك و ابن فرختك و سبطك الذي خلفتني في أمتك فاشهد عليهم يا نبي اللّه انهم قد خذلوني و ضيعوني و لم يحفظوني و هذه شكواي إليك حتى ألقاك. قال: ثم قام فصف قدميه فلم يزل راكعا ساجدا.
قال: و أرسل الوليد إلى منزل الحسين (عليه‏ السلام) لينظر أخرج من المدينة أم لا فلم يصبه في منزله. فقال: الحمد للّه الذي خرج و لم يبتلني بدمه. قال: و رجع الحسين (عليه‏ السلام) إلى منزله عند الصبح فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا و صلى ركعات فلما فرغ من صلاته جعل يقول: اللهم هذا قبر نبيك محمد (صلى اللّه عليه و آله) و أنا ابن بنت نبيك و قد حضرني من الأمر ما قد علمت اللهم‏ إني أحب المعروف و أنكر المنكر و أنا أسألك يا ذا الجلال و الإكرام بحق القبر و من فيه إلا اخترت ما هو لك رضى و لرسولك رضى.
قال: ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى فإذا هو رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه و عن شماله و بين يديه حتى ضم الحسين (عليه‏ السلام) إلى صدره و قبل بين عينيه و قال: حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مرملا بدمائك مذبوحا بأرض كرب و بلا من عصابة من أمتي و أنت مع ذلك عطشان لا تسقى و ظمآن لا تروى و هم مع ذلك يرجون شفاعتي لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة حبيبي يا حسين إن أباك و أمك و أخاك قدموا علي و هم مشتاقون إليك و إن لك في الجنان لدرجات لا تنالها إلا بالشهادة.
قال: فجعل الحسين (عليه‏ السلام) في منامه ينظر إلى جده و يقول: يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك و أدخلني معك في قبرك. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لا بد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة و ما قد كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم فإنك و أباك و أخاك و عمك و عم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنة.
قال: فانتبه الحسين (عليه‏ السلام) من نومه فزعا مرعوبا فقص رؤياه على أهل بيته و بني عبد المطلب فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق و لا مغرب قوم أشد غما من أهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و لا أكثر باك و لا باكية منهم.
قال: و تهيأ الحسين (عليه‏ السلام) للخروج من المدينة و مضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودعها ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن (عليه‏ السلام) ففعل ذلك ثم رجع إلى منزله وقت الصبح فأقبل إليه أخوه محمد بن الحنفية و قال: يا أخي أنت أحب الخلق إلي و أعزهم علي و لست و اللّه أدخر النصيحة لأحد من الخلق و ليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي و نفسي و روحي و بصري و كبير أهل بيتي و من وجب طاعته في عنقي لأن اللّه قد شرفك علي و جعلك من سادات أهل الجنة.
و ساق الحديث كما مر إلى أن قال: تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار
ص:69
فذاك و إن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن فإنهم أنصار جدك و أبيك و هم أرأف الناس و أرقهم قلوبا و أوسع الناس بلادا فإن اطمأنت بك الدار و إلا لحقت بالرمال و شعوب الجبال و جزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس و يحكم اللّه بيننا و بين القوم الفاسقين.
قال: فقال الحسين (عليه‏ السلام) : يا أخي و اللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ و لا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية فقطع محمد بن الحنفية الكلام و بكى فبكى الحسين (عليه‏ السلام) معه ساعة ثم قال: يا أخي جزاك اللّه خيرا فقد نصحت و أشرت بالصواب و أنا عازم على الخروج إلى مكة و قد تهيأت لذلك أنا و إخوتي و بنو أخي و شيعتي و أمرهم أمري و رأيهم رأيي و أما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عني شيئا من أمورهم.
ثم دعا الحسين (عليه‏ السلام) بدوات و بياض و كتب هذه الوصية لأخيه محمد:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية ان الحسين يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أن محمدا (صلى اللّه عليه و آله) عبده و رسوله جاء بالحق من عند الحق و أن الجنة و النار حق و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن اللّه يبعث من في القبور و إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى اللّه عليه و آله) أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب (عليه‏ السلام) فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق و من رد علي هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين. و هذه وصيتي يا أخي إليك و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب».
[قال‏] ثم طوى الحسين (عليه‏ السلام) الكتاب و ختمه بخاتمه و دفعه إلى أخيه محمد ثم ودعه و خرج في جوف الليل.
و قال محمد بن أبي طالب: روى محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الرسائل عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن أيوب بن نوح عن صفوان عن مروان بن إسماعيل عن حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّه (عليه‏ السلام) قال:
ص:70
ذكرنا خروج الحسين (عليه‏ السلام) و تخلف ابن الحنفية فقال أبو عبد اللّه (عليه‏ السلام) يا حمزة إني سأخبرك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسك هذا إن الحسين لما فصل متوجها دعا بقرطاس و كتب فيه:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم: أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد و من تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح و السلام» .
قال: و قال شيخنا المفيد (رحمه الله) بإسناده إلى أبي عبد اللّه (عليه‏ السلام) قال: لما سار أبو عبد اللّه (عليه‏ السلام) من المدينة لقيته أفواج من الملائكة المسومة في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنة فسلموا عليه و قالوا: يا حجة اللّه على خلقه بعد جده و أبيه و أخيه إن اللّه سبحانه أمد جدك بنا في مواطن كثيرة و إن اللّه تعالى أمدك بنا. فقال لهم: الموعد حفرتي و بقعتي التي استشهد فيها و هي كربلا فإذا وردتها فأتوني. فقالوا: يا حجة اللّه مرنا نسمع و نطع فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك؟ فقال: لا سبيل لهم علي و لا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.
و أتته أفواج مسلمي الجن فقالوا: يا سيدنا نحن شيعتك و أنصارك فمرنا بأمرك و ما تشاء فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك و أنت بمكانك لكفيناك ذلك. فجزاهم الحسين (عليه‏ السلام) خيرا و قال لهم:: أو ما قرأتم كتاب اللّه المنزل على جدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ و قال سبحانه: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] و إذا أقمت بمكاني فبما ذا يبتلى هذا الخلق المتعوس؟ و بما ذا يختبرون؟ و من ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء و قد اختارها اللّه تعالى يوم دحا الأرض و جعلها معقلا لشيعتنا و يكون لهم أمانا في الدنيا و الآخرة و لكن تحضرون يوم السبت و يوم عاشوراء الذي في آخره أقتل و لا يبقى بعدي مطلوب من أهلي و نسبي و إخوتي و أهل بيتي و يسار برأسي إلى يزيد لعنه اللّه. فقالت الجن: نحن و اللّه يا حبيب اللّه و ابن حبيبه لو لا أن أمرك طاعة و أنه لا يجوز لنا مخالفتك قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك. فقال (عليه‏ السلام) لهم: نحن و اللّه أقدر عليهم منكم و لكن ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيي عن بينة .
انتهى ما نقلناه من كتاب محمد بن أبي طالب.
و وجدت في بعض الكتب أنه لما عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة فقالت: يا بني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق فإني سمعت جدك يقول: يقتل ولدي الحسين (عليه‏ السلام) بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء. فقال لها: يا أماه و أنا و اللّه أعلم ذلك و إني مقتول لا محالة و ليس لي من هذا بد و إني و اللّه لأعرف اليوم الذي أقتل فيه و أعرف من يقتلني و أعرف البقعة التي أدفن فيها و إني أعرف من يقتل من أهل بيتي و قرابتي و شيعتي و إن أردت يا أماه أريك حفرتي و مضجعي.
ثم أشار إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه و مدفنه و موضع عسكره و موقفه و مشهده فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديدا و سلمت أمره إلى اللّه تعالى. فقال لها: يا أماه قد شاء اللّه عز و جل أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما و عدوانا و قد شاء أن يرى حرمي و رهطي و نسائي مشردين و أطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين و هم يستغيثون فلا يجدون ناصرا و لا معينا.
و في رواية أخرى قالت أم سلمة رضي اللّه عنها: و عندي تربة دفعها إلي جدك في قارورة. فقال: و اللّه إني مقتول كذلك و إن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضا. ثم أخذ تربة فجعلها في قارورة و أعطاها إياها و قال: اجعليها مع قارورة جدي فإذا فاضتا دما فاعلمي أني قد قتلت. انتهى ما نقلناه من البحار .
روى السيد البحراني في مدينة المعاجز عن ثاقب المناقب و غيره عن مناقب السعداء عن جابر بن عبد اللّه قال: لما عزم الحسين بن علي (عليه‏ السلام) على الخروج إلى العراق أتيته فقلت له: أنت ولد رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و أحد سبطيه لا أرى إلا أنك تصالح كما صالح أخوك (عليه‏ السلام) فإنه كان موفقا رشيدا.
فقال لي: يا جابر قد فعل أخي ذلك بأمر اللّه تعالى و رسوله «ص» و أنا أيضا أفعل بأمر اللّه تعالى و رسوله أ تريد أن أستشهد رسول اللّه «ص» و عليا و أخي الحسن عليهما السلام بذلك الآن. ثم نظر إلى السماء فإذا السماء قد انفتح بابها و إذا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و علي و الحسن و حمزة و جعفر عليهم السلام و زيد ابن عمنا و هم نازلون منها حتى استقروا على الأرض فوثبت فزعا مرعوبا فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: يا جابر أ لم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين: لا تكون مؤمنا حتى تكون لأئمتك مسلما و لا تكون معترضا أ تريد أن ترى مقعد معاوية و مقعد الحسين ابني و مقعد يزيد قاتله؟ قلت: بلى يا رسول اللّه.
فضرب برجله الأرض فانشقت و ظهر بحر فانفلق ثم ظهرت أرض فانشقت هكذا انشقت سبع أرضين و انفلقت سبعة أبحر و رأيت من تحت ذلك كله النار قد قرنت في سلسلة الوليد بن مغيرة و أبو جهل و معاوية و يزيد و قرن بهم مردة الشياطين فهم أشد أهل النار عذابا. ثم قال صلى اللّه عليه و آله: ارفع رأسك فرفعت فإذا أبواب السماء مفتحة و إذا الجنة أعلاها . ثم صعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و من معه إلى السماء فلما صار في الهواء صاح بالحسين: يا بني الحقني فلحقه الحسين و صعدوا حتى رأيتهم دخلوا الجنة من أعلاها ثم نظر إلي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) من هناك و قبض على يد الحسين (عليه‏ السلام) و قال:
يا جابر هذا ولدي معي ها هو هنا فسلم له أمره و لا تشك فتكون مؤمنا قال جابر: فعميت عيناي ان لم أكن رأيت ما قلت من رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) .
لما خرج الحسين (عليه‏ السلام) من المدينة إلى مكة لقيه عبد اللّه بن مطيع فقال له: جعلت فداك أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة و أما بعد فإني أستخير اللّه.
قال: خار اللّه لك و جعلنا فداءك فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة بها قتل أبوك و خذل أخوك و اغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه الزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا و يتداعى إليك الناس من كل جانب لا تفارق الحرم فداك عمي و خالي فو اللّه لئن هلكت لنسترقن بعدك‏ .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): فسار الحسين (عليه‏ السلام) إلى مكة و هو يقرأ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏ و لزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل‏ ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب. فقال: لا و اللّه لا أفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض.
و لما دخل الحسين (عليه‏ السلام) مكة كان دخوله إياها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها و هو يقرأ {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22].
ثم نزلها و أقبل أهلها يختلفون إليه و من كان بها من المعتمرين و أهل الآفاق و ابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها و يطوف و يأتي الحسين (عليه‏ السلام) فيمن يأتيه فيأتيه اليومين المتواليين و يأتيه بين كل يومين مرة و هو أثقل خلق اللّه على ابن الزبير قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين (عليه‏ السلام) بالبلد و ان الحسين أطوع في الناس منه و أجل.
و بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد و عرفوا خبر الحسين (عليه‏ السلام) و امتناعه من بيعته و ما كان من ابن الزبير في ذلك و خروجهما إلى مكة فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا هلاك معاوية فحمدوا اللّه و أثنوا عليه و قال سليمان: ان معاوية قد هلك و ان حسينا قد تقبض على القوم ببيعته و قد خرج إلى مكة و أنتم شيعته و شيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه و مجاهدو عدوه فاكتبوا إليه و أعلموه و إن خفتم الوهن و الفشل فلا تغروا الرجل من نفسه. فقالوا بأجمعهم: نحن ناصروه و نجاهد دونه و نقتل أنفسنا دونه.
قال: فاكتبوا إليه فكتبوا: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. للحسين بن علي عليهما السلام من سليمان بن صرد و المسيب بن نجبة و رفاعة بن شداد و حبيب بن مظاهر و شيعته من المؤمنين و المسلمين من أهل كوفة: سلام عليك فإنا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد فالحمد للّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها و غصبها فيئها و تأمر عليها بغير رضى منها ثم قتل خيارها و استبقى شرارها و جعل مال اللّه دولة بين جبابرتها و أغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود إنه ليس علينا امام فاقبل لعل اللّه يجمعنا بك على الحق و النعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجمع معه في جمعة و لا نخرج معه إلى عيد و لو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إنشاء اللّه. و السلام و رحمة اللّه عليك».
ثم سرحوا بالكتاب مع عبد اللّه بن مسمع الهمداني و عبد اللّه بن وال التيمي و أمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين (عليه‏ السلام) بمكة لعشر مضين من شهر رمضان.
ص:75
ثم لبث أهل الكوفة بعد تسريحهم بالكتاب يومين و أنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي‏ و عبد الرحمن بن عبد اللّه بن شداد الأرحبي‏ و عمارة بن عبد اللّه السلولي إلى الحسين (عليه‏ السلام) و معهم نحو من مائة و خمسين صحيفة من رجل و الاثنين و الثلاثة و الأربعة.
ثم لبثوا يومين آخرين و سرحوا إليه هاني بن هاني السبيعي و سعيد بن عبد اللّه الحنفي و كتبوا إليه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. للحسين بن علي عليهما السلام من شيعته من المؤمنين و المسلمين أما بعد فحي هلا فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم في غيرك فالعجل ثم العجل العجل. و السلام عليك».
و كتب شبث بن ربعي‏ و حجار بن أبجر العجلي و يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني و عروة بن قيس الأحمسي و عمرو بن الحجاج الزبيدي و محمد بن عمرو التيمي:
«أما بعد فقد اخضر الجناب و أينعت الثمار فإذا شئت فاقدم علينا فإنما تقدم على جند لك مجندة. و السلام».
و تلاقت الرسل كلها عنده فقرأ الكتب و سأل الرسل عن أمر الناس‏ .
قال السيد: فعندها قام الحسين (عليه‏ السلام) فصلى ركعتين بين الركن و المقام و سأل اللّه الخيرة في ذلك ثم طلب مسلم بن عقيل قدس اللّه روحه و أطلعه على الحال و كتب معه جواب كتبهم‏ .
و قال الشيخ المفيد: ثم كتب مع هاني بن هاني و سعيد بن عبد اللّه و كانا آخر الرسل:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى الملأ من المسلمين و المؤمنين أما بعد فإن هانيا و سعيدا قدما علي بكتبكم و كانا آخر من قدم علي من رسلكم و قد فهمت كل الذي اقتصصتم و ذكرتم و مقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام فأقبل لعل اللّه يجمعنا بك على الهدى و الحق و إني باعث إليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل و أمرته أن يكتب إلي بحالكم و رأيكم فإن كتب إلي انه قد اجتمع رأي ملأكم و ذوي الحجى و الفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم و قرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكا إنشاء اللّه فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذات اللّه. و السلام».
و دعا الحسين (عليه‏ السلام) مسلم بن عقيل بن أبي طالب رحمة اللّه و رضوانه عليه فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي و عمارة بن عبد اللّه السلولي و عبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي و أمره بتقوى اللّه و كتمان أمره و اللطف فإن رأى الناس مجتمعين مستوثقين عجل إليه بذلك‏ .
كما قال المسعودي‏ فأقبل رحمه اللّه حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و ودع من أحب من أهله ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق فضلّا و أصابهما عطش شديد فعجزا عن المسير و أومئا له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهم ذلك فسلك مسلم ذلك السنن و مات الدليلان‏ عطشا فكتب مسلم بن عقيل قدس اللّه روحه من الموضع المعروف بالمضيق مع قيس بن مسهر:
«أما بعد فإني أقبلت من المدينة مع دليلين لي فحارا عن الطريق و ضلّا و اشتد علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا و أقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا و ذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبت‏ و قد تطيرت من وجهي هذا فإن رأيت أعفيتني منه و بعثت غيري. و السلام».
فكتب إليه الحسين بن علي عليهما السلام: «أما بعد فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب الي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن فامض لوجهك الذي وجهتك له. و السلام».
فلما قرأ مسلم الكتاب قال: أما هذا فلست أتخوفه على نفسي فأقبل حتى مر بماء لطي فنزل عليه ثم ارتحل عنه فإذا رجل يرمي الصيد فنظر إليه قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه. فقال مسلم: نقتل عدونا إنشاء اللّه تعالى. ثم أقبل حتى دخل الكوفة .
و ذلك لخمس خلون من شوال كما في مروج الذهب‏ فنزل في دار المختار ابن أبي عبيد و أقبلت الشيعة تختلف إليه فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه‏ السلام) فأخذوا يبكون.
فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري (رحمه الله) فحمد اللّه و أثنى عليه فقال: أما بعد فإني لا أخبرك عن الناس و لا أعلم ما في أنفسهم و ما أغرك منهم و اللّه أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه و اللّه لأجيبنكم إذا دعوتم و لأقاتلن معكم عدوكم و لأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى اللّه تعالى لا أريد بذلك إلا ما عند اللّه.
فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال: رحمك اللّه قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك. ثم قال: و انا و اللّه الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه.
ثم قال الحنفي مثل ذلك.
فقال الحجاج بن علي: فقلت لمحمد بن بشر: فهل كان منك أنت قول.
فقال: إن كنت لأحب أن يعز اللّه أصحابي بالظفر و ما كنت لأحب أن أقتل و كرهت أن أكذب‏ فبايعه منهم ثمانية عشر ألفا فكتب مسلم إلى الحسين (عليه‏ السلام) يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا و يأمره بالقدوم‏ و ذلك قبل أن يقتل مسلم بسبعة و عشرين يوما.
و جعلت الشيعة تختلف إلى مسلم حتى علم بمكانه فبلغ النعمان بن بشير ذلك- و كان واليا على الكوفة من قبل معاوية فأقره يزيد عليها- فصعد المنبر فحمد اللّه سبحانه و أثنى عليه ثم قال: أما بعد فاتقوا اللّه عباد اللّه و لا تسارعوا إلى الفتنة و الفرقة فإن فيها يهلك الرجال و يسفك الدماء و تغتصب الأموال إني لا أقاتل من لا يقاتلني و لا آتي على من لم يأت علي و لا أنبه نائمكم و لا أتحرش بكم و لا آخذ بالقرف و لا الظنة و لا التهمة و لكنكم إن أبديتم صفحتكم لي و نكثتم بيعتكم و خالفتم إمامكم فو اللّه الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي و لو لم يكن لي منكم ناصر أما أني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.
فقام إليه عبد اللّه بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنه‏ لا يصلح ما ترى إلا الغشم ان هذا الذي أنت عليه فيما بينك و بين عدوك رأي المستضعفين. فقال له النعمان: أكون من المستضعفين في طاعة اللّه أحب إلي أن أكون من الأعزين في معصية اللّه. ثم نزل.
و خرج عبد اللّه بن مسلم فكتب إلى يزيد بن معاوية: «أما بعد فإن مسلم بن عقيل قد قدم إلى الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي عليهما السلام فإن تكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك و يعمل مثل عملك فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف».
ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه.
ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك.
فلما وصلت الكتب إلى يزيد دعا سرجون مولى معاوية فقال: ما رأيك أن حسينا قد وجه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع و قد بلغني عن النعمان ضعف و قول سيئ فمن ترى أن استعمل على الكوفة. و قد كان يزيد عاتبا على عبيد اللّه بن زياد فقال له سرجون: أ رأيت معاوية لو أنشر لك‏ ما كنت‏ آخذا برأيه. قال:
نعم. قال: فأخرج سرجون عهد عبيد اللّه بن زياد على الكوفة و قال: هذا رأي معاوية مات و قد أمر بهذا الكتاب فضم المصرين إلى عبيد اللّه بن زياد. فقال له يزيد: أفعل ابعث بعهد ابن زياد إليه.
ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي- والد قتيبة- و كتب إلى عبيد اللّه بن زياد معه:
«أما بعد فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبروني أن ابن عقيل بها يجمع الجموع لشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه .. و السلام».
و سلم إليه عهده على الكوفة فسار مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد اللّه‏ بالبصرة فأوصل إليه العهد و الكتاب فأمر عبيد اللّه بالجهاز من وقته و المسير و التهيؤ إلى الكوفة من الغد .
أقول: و مما يناسب في هذا المقام الاشارة إلى حال النعمان بن بشير.
النعمان بضم النون ابن بشير بن سعد بن نصر بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أمه عمرة بنت رواحة أخت عبد اللّه بن رواحة الأنصاري الذي قتل في غزوة مؤتة مع جعفر بن أبي طالب (عليه‏ السلام) .
قيل: إن النعمان بن بشير أول مولود ولد من الأنصار بعد قدوم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) المدينة نظير عبد اللّه بن الزبير من المهاجرين. و أبوه بشير بن سعد أول من قام يوم السقيفة من الأنصار إلى أبي بكر فبايعه ثم توالت الأنصار فبايعته. و قتل بشير يوم عين التمر مع خالد بن الوليد.
و كان النعمان من المعروفين في الشعر سلفا و خلفا و كان عثمانيا و يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي (عليه‏ السلام) و شهد مع معاوية بصفين و لم يكن من الأنصار غيره و كان كريما على معاوية رفيقا عنده و عند يزيد ابنه بعده. و عمر إلى خلافة مروان بن الحكم و كان يتولى حمص فلما بويع لمروان دعا إلى ابن الزبير و خالف على مروان و ذلك بعد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط فلم يجبه أهل حمص إلى ذلك فهرب منهم و تبعوه فأدركوه فقتلوه و ذلك في سنة خمس و ستين.
و أما قول يزيد: و قد بلغني عن النعمان ضعف و قول سيئ فلعله إشارة إلى ما رواه ابن قتيبة الدينوري في كتاب الامامة و السياسة: أنه قال النعمان بن بشير:
لابن بنت رسول اللّه أحب إلينا من ابن بنت بحدل‏ .
قلت: و ابن بنت بحدل هو يزيد بن معاوية فإن أمه ميسون بنت بحدل الكلبية- بالحاء و الدال المهملتين-.
و ابن قتيبة هو أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة بن مسلم بن عمرو الباهلي وجده مسلم بن عمرو هو الذي تقدم ذكره و سار بكتاب العهد إلى ابن زياد.
فصل‏ مولى له اسمه سليمان و يكنى أبا رزين يدعوهم فيه إلى نصرته و لزوم طاعته منهم يزيد بن مسعود النهشلي و المنذر بن الجارود العبدي فجمع يزيد بن مسعود بني تميم و بني حنظلة و بني سعد فلما حضروا قال: يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم و حسبي منكم؟ فقالوا: بخ بخ أنت و اللّه نقرة الظهر و رأس الفخر حللت في الشرف وسطا و تقدمت فيه فرطا. قال: فإني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه و أستعين بكم عليه. فقالوا: إنّا و اللّه نمنحك النصيحة و نجتهد لك الرأي فقل حتى نسمع. فقال: إن معاوية مات فأهون به و اللّه هالكا و مفقودا ألا و انه قد انكسر باب الجور و الاثم و تضعضعت أركان الظلم و قد كان أحدث بيعة عقد بها أمرا ظن أنه قد أحكمه و هيهات و الذي أراد اجتهد و اللّه ففشل و شاور فخذل و قد قام ابنه يزيد شارب الخمور و رأس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين و يتأمر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم و قلة علم لا يعرف من الحق موطئ قدميه فأقسم باللّه قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين و هذا الحسين بن علي ابن بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ذو الشرف الأصيل و الرأي الأثيل و علم لا ينزف و هو أولى بهذا الأمر لسابقته و سنه و قدمه و قرابته يعطف على الصغير و يحنو على الكبير فأكرم به راعي رعية و إمام قوم وجبت للّه به الجنة و بلغت به الموعظة فلا تعشوا عن نور الحق و لا تسكوا في وهدة الباطل فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل‏ فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و نصرته و اللّه لا يقصر أحد عن نصرته إلا أورثه اللّه الذل في ولده و القلة في عشيرته و ها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها و ادرعت لها بدرعها من لم يقتل يمت و من يهرب لم يفت فأحسنوا رحمكم اللّه رد الجواب.
فتكلمت بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد نحن نبل كنانتك و فرسان عشيرتك إن رميت بنا أصبت و إن غزوت بنا فتحت لا تخوض و اللّه غمرة إلا خضناها و لا تلقى و اللّه شدة إلا لقيناها ننصرك و اللّه بأسيافنا و نقيك بأبداننا إذا شئت فافعل.
و تكلمت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد إن أبغض الأشياء إلينا خلافك و الخروج من رأيك و قد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا و بقي عزنا فينا فأمهلنا نراجع المشورة و نأتيك برأينا.
و تكلمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد نحن بنو أبيك و حلفاؤك لا نرضى إن غضبت و لا نقطن إن ظعنت و الأمر إليك فادعنا نجبك و مرنا نطعك و الأمر لك إذا شئت.
فقال: و اللّه يا بني سعد لئن فعلتموها لا رفع اللّه السيف عنكم أبدا و لا زال سيفكم فيكم.
ثم كتب إلى الحسين (عليه‏ السلام) :
«بسم اللّه الرحمن الرحيم. أما بعد فقد وصل إلي كتابك و فهمت ما ندبتني إليه و دعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك و الفوز بنصيبي من نصرتك و إن اللّه لا يخل الأرض قط من عامل عليها بخير و دليل على سبيل نجاة و أنتم حجة اللّه على خلقه و وديعته في أرضه تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها و أنتم فرعها فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لك أعناق بني تميم تركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها و كظها و قد ذللت لك بني سعد و غسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهل برقها [فلمع‏]».
فلما قرأ الحسين (عليه‏ السلام) الكتاب قال: ما لك آمنك اللّه يوم الخوف و أعزك و أرواك يوم العطش الأكبر. فلما تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسين (عليه‏ السلام) بلغه قتله قبل أن يسير فجزع من انقطاعه عنه (عليه‏ السلام) .
و أما المنذر بن الجارود فإنه جاء بالكتاب و الرسول إلى عبيد اللّه بن زياد لأن المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيسا من عبيد اللّه بن زياد و كانت بحرية بنت المنذر زوجة لعبيد اللّه بن زياد فأخذ عبيد اللّه بن زياد الرسول فصلبه ثم صعد المنبر فخطب و توعد أهل البصرة على الخلاف و إثارة الارجاف ثم بات تلك الليلة فلما أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد و أسرع هو إلى الكوفة .
قال الطبري: قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير عن ابي عثمان النهدي قال: كتب الحسين (عليه‏ السلام) مع مولى لهم‏ يقال له سليمان و كتب بنسخة إلى رءوس الأخماس بالبصرة و إلى الأشراف فكتب إلى مالك بن مسمع البكري و إلى الأحنف بن قيس و إلى المنذر بن الجارود و إلى مسعود بن عمرو و إلى قيس بن الهيثم‏ و إلى عمر بن عبيد اللّه بن معمر فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها:
«أما بعد فإن اللّه اصطفى محمدا صلى اللّه (صلى اللّه عليه و آله) على خلقه و أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته ثم قبضه اللّه إليه و قد نصح لعباده و بلغ ما أرسل به (صلى اللّه عليه و آله) و كنا أهله و أولياؤه و أوصياؤه و ورثته و أحق الناس بمقامه في الناس فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا و كرهنا الفرقة و أحببنا العافية و نحن نعلم أنا أحق بذلك [الحق ن‏] المستحق علينا ممن تولاه و قد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب و أنا أدعوكم إلى كتاب اللّه و سنة نبيه (صلى اللّه عليه و آله) فإن السنة قد أميتت و إن‏ البدعة قد أحييت و أن تسمعوا قولي و تطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد. و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته».
فكل من قرأ ذلك الكتاب من أشراف الناس كتمه غير المنذر بن الجارود فإنه خشي بزعمه أن يكون دسيسا من قبل عبيد اللّه فجاءه بالرسول من العشية التي يريد صبيحتها أن يسبق‏ إلى الكوفة و أقرأه كتابه فقدم الرسول فضرب عنقه.
و صعد عبيد اللّه منبر البصرة فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أما بعد فو اللّه ما تقرن بي الصعبة و لا يقعقع لي‏ بالشنان و أني لنكل لمن عاداني و سم لمن حاربني قد أنصف القارة من رماها يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين ولّاني الكوفة و أنا غاد إليها الغداة و قد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان و إياكم و الخلاف و الارجاف فو اللّه الذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه و عريفه و وليه و لآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستقيموا (تسمعوا خ ل) لي و لا يكون فيكم لي مخالف و لا مشاق أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطى‏ء الحصا و لم ينتزعني شبه خال و لا ابن عم.
ثم خرج من البصرة و استخلف أخاه عثمان بن زياد و أقبل إلى الكوفة .
و روي عن الأزدي أنه ذكر ابو المخارق الراسبي قال: اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد أو منقذ أياما و كانت تتشيع و كان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه و قد بلغ ابن زياد إقبال الحسين (عليه‏ السلام) فكتب إلى عامله بالبصرة أن يصنع المناظر و يأخذ بالطريق.
قال: فأجمع‏ يزيد بن نبيط الخروج و هو من عبد القيس إلى الحسين (عليه‏ السلام) و كان له بنون عشرة فقال: أيكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له عبد اللّه و عبيد اللّه فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إني قد أزمعت على الخروج و أنا خارج. فقالوا له: إنا نخاف عليك أصحاب ابن زياد. فقال: إني و اللّه لو قد استوت أخفافهما بالجدد لهان علي طلب من طلبني. قال: ثم خرج فقوي في الطريق حتى انتهى إلى الحسين (عليه‏ السلام) فدخله في رحله بالأبطح و بلغ الحسين (عليه‏ السلام) مجيئه فجعل يطلبه و جاء الرجل إلى رحل الحسين (عليه‏ السلام) فقيل له قد خرج إلى منزلك فأقبل في أثره و لما لم يجده الحسين (عليه‏ السلام) جلس في رحله ينتظره و جاء البصري فوجده في رحله جالسا فقال:
بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا . قال: فسلم عليه و جلس إليه فخبره بالذي جاء له فدعا له بخير ثم أقبل معه حتى أتى كربلا فقاتل معه فقتل معه و ابناه‏ .
فصل‏
لما جاء كتاب يزيد إلى عبيد اللّه بن زياد انتخب من أهل البصرة خمسمائة فيهم عبد اللّه بن الحارث بن نوفل و شريك بن الأعور و كان شيعيا لعلي (عليه‏ السلام) فأقبل إلى الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي و حشمه و أهل بيته حتى دخل الكوفة و عليه عمامة سوداء و هو متلثم و الناس قد بلغهم إقبال الحسين (عليه‏ السلام) إليهم فهم ينتظرون قدومه فظنوا حين رأوا عبيد اللّه أنه الحسين فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه و قالوا: مرحبا بك يا بن رسول اللّه قدمت خير مقدم فرأى من تباشرهم بالحسين (عليه‏ السلام) ما ساءه فقال مسلم ابن عمرو لما أكثروا: تأخروا هذا الأمير عبيد اللّه بن زياد.
و سار حتى وافى القصر في الليل و معه جماعة قد التفوا به لا يشكون أنه الحسين (عليه‏ السلام) فأغلق النعمان بن بشير عليه و على حامته‏ فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب فاطلع عليه النعمان و هو يظنه الحسين (عليه‏ السلام) فقال: أنشدك اللّه ألا تنحيت فو اللّه ما أنا بمسلم إليك أمانتي و مالي في قتالك من أرب. فجعل لا يكلمه ثم إنه دنا و تدلى النعمان من شرف‏ فجعل يكلمه فقال:
افتح لا فتحت فقد طال ليلك. و سمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين (عليه‏ السلام) فقال: أي قوم ابن مرجانة و الذي لا إله غيره‏ .
قال المسعودي: و حصبوه بالحصباء ففاتهم‏ .
ففتح له النعمان فدخل و ضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا و أصبح فنادى في الناس: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاني مصركم و ثغركم و فيئكم و أمرني بإنصاف مظلومكم و إعطاء محرومكم و الاحسان إلى سامعكم و مطيعكم و بالشدة على مريبكم و عاصيكم و أنا متبع فيكم أمره و منفذ فيكم عهده و أنا لمحسنكم و مطيعكم كالوالد البر و سوطي و سيفي على من ترك أمري و خالف عهدي فليتق‏ امرؤ على نفسه «الصدق ينبى‏ء عنك لا الوعيد» .
و في رواية قال: فأبلغوا هذا الرجل الهاشمي مقالتي ليتق غضبي يعني بالهاشمي مسلم بن عقيل رضي اللّه عنه.
ثم نزل فأخذ العرفاء بالناس أخذا شديدا فقال: اكتبوا لي العرفاء و من فيكم من طلبة أمير المؤمنين و من فيكم من الحرورية و أهل الريب الذين رأيهم الخلاف و الشقاق ثم يجاء بهم لنرى رأينا فيهم و من لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف و لا يبغي علينا منهم باغ فمن لم يفعل برئت منه الذمة و حلال لنا دمه و ماله و أيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره و ألغيت تلك العرافة من العطاء . و سير إلى موضع بعمان الزارة .
و في الفصول المهمة: و أمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في تلك الساعة. انتهى‏ .
و سمع مسلم (عليه‏ السلام) بمجي‏ء عبيد اللّه و مقالته فخرج من دار المختار و أتى دار هانئ بن عروة المرادي فدخل بابه فاستدعى هانئا أن يخرج إليه فخرج إليه فلما رآه كره مكانه فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني و تضيفني. فقال له هاني: رحمك اللّه لقد كلفتني شططا و لو لا دخولك داري وثقتك بي لأحببت أن تنصرف عني غير أنه يأخذني من ذلك ذمام أدخل. فآواه فاختلف الشيعة إليه في دار هاني‏ على تستر و استخفاء من عبيد اللّه و تواصوا بالكتمان‏ .
و كان يبايعه الناس حتى بايعه خمسة و عشرون ألف رجل فعزم على الخروج فقال هانئ لا تعجل ثم إن ابن زياد دعا مولى له يقال له معقل‏ فقال:
خذ هذا المال- و أعطاه ثلاثة آلاف درهم‏ - و قال: اطلب مسلم بن عقيل و أصحابه و القهم و أعطهم هذا المال و أعلمهم أنك منهم و اعلم أخبارهم.
ففعل ذلك و أتى مسلم بن عوسجة الأسدي بالمسجد فسمع الناس يقولون هذا يبايع للحسين (عليه‏ السلام) و هو يصلي فلما فرغ من صلاته قال: يا عبد اللّه إني امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع أنعم اللّه علي بحب أهل هذا البيت و هذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و قد سمعت نفرا يقولون إنك تعلم أمر هذا البيت و إني أتيتك لتقبض المال و تدخلني على صاحبك أبايعه و إن شئت أخذت ببيعتي له قبل لقائي إياه. فقال: لقد سرني لقاؤك اياي لتنال الذي تحب و ينصر اللّه بك أهل بيت نبيه و قد ساءني معرفة الناس هذا الأمر مني قبل أن يتم مخافة هذا الطاغية و سطوته. فأخذ بيعته و المواثيق المغلظة ليناصحن و ليكتمن. و اختلف إليه أياما ليدخله على مسلم بن عقيل رضوان اللّه عليه‏ .
فصل‏
قد علمت سابقا أن عبيد اللّه بن زياد لما خرج من البصرة إلى الكوفة كان معه شريك بن الأعور فاعلم الآن أن شريك هذا كان شيعيا شديد التشيع و قد شهد صفين مع عمار و كلماته مع معاوية مشهورة.
و لما خرج شريك من البصرة سقط و يقال أنه تساقط و معه ناس رجاء أن يلوي عليهم عبيد اللّه و يسبقه الحسين (عليه‏ السلام) إلى الكوفة و لكن عبيد اللّه لا يلتفت‏ إلى من سقط و يمضي فلما دخل شريك الكوفة نزل على هاني بن عروة و كان يحث هانئا على تقوية أمر مسلم و تمشيته.
فمرض شريك و كان كريما على ابن زياد و على غيره من الأمراء فأرسل إليه عبيد اللّه إني رائح إليك العشية فقال لمسلم: ان هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس أخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك و بينه فإن برأت من وجعي سرت إلى البصرة حتى أكفيك أمرها.
فلما كان من العشي أقبل ابن زياد لعيادة شريك بن الأعور فقال لمسلم: لا يفوتنك الرجل إذا جلس. فقام إليه هانئ فقال: إني لا أحب أن يقتل في داري كأنه استقبح ذلك. فجاءه عبيد اللّه بن زياد فدخل و جلس و سأل شريكا: ما الذي تجد و متى اشتكيت؟ فلما طال سؤاله إياه و رأى أن أحدا لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول:
ما الانتظار بسلمى أن تحيوها حيوا سليمى‏ و حيوا من يحييها
كأس المنية بالتعجيل اسقوها
فقال مرتين أو ثلاثة فقال عبيد اللّه و هو لا يفطن ما شأنه: أ ترونه يهجر.
فقال له هانئ: نعم أصلحك‏ اللّه ما زال هكذا قبل غيابة الشمس إلى ساعتك هذه ثم إنه قام فانصرف‏ .
و قيل: إنه جاء عبيد اللّه مع مولاه مهران‏ و قد قال شريك لمسلم: إذا سمعتني أقول اسقوني ماء فاخرج عليه فاضربه. فجلس عبيد اللّه على فراش شريك و قام على رأسه مهران فقال: اسقوني ماء. فأخرجت جارية بقدح فرأت مسلما فزالت فقال شريك: اسقوني ماء ثم قال الثالثة: ويلكم تحموني الماء اسقونيه و لو كانت فيه نفسي. ففطن مهران فغمز عبيد اللّه فوثب فقال شريك: أيها الأمير إني أريد أن أوصي إليك. قال: أعود إليك. فجعل مهران يطرد به و قال:
أراد و اللّه قتلك. قال: و كيف مع إكرامي شريكا و في بيت هانئ و يد أبي عنده‏ فقال له مهران: هو ما قلت لك.
ثم إنه قام فانصرف فخرج مسلم فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال:
خصلتان أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في بيته و الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) أن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن. فقال له شريك: لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا .
أقول: الفتك بالفاء و الكاف و ما في بعض النسخ الفتل فهو تصحيف و المراد أن المؤمن لا يقتل أحدا غيلة و فتكا.
قال ابن أبي الحديد في بيان عدم احتراس أمير المؤمنين (عليه‏ السلام) مع أنه كان يعلم كثرة أعدائه: لم تكن العرب في ذلك الزمان تحترس و لا تعرف الغيلة و الفتك و كان ذلك عندهم قبيحا يعير به فاعله لأن الشجاعة غير ذلك و الغيلة فعل العجزة من الرجال.
و قال ابن نما: فلما خرج ابن زياد دخل مسلم و السيف في كفه قال له شريك: ما منعك من الأمر؟ قال مسلم: هممت بالخروج فتعلقت بي امرأة و قالت:
نشدتك اللّه ان قتلت ابن زياد في دارنا و بكت في وجهي فرميت السيف و جلست.
قال هانئ: يا ويلها قتلتني و قتلت نفسها و الذي فرت منه وقعت فيه. انتهى‏ .
و لبث شريك بعد ذلك ثلاثا ثم مات فصلى عليه عبيد اللّه فلما علم عبيد اللّه أن شريكا كان حرض مسلما على قتله قال: و اللّه لا أصلي على جنازة عراقي أبدا و لو لا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا.
ثم إن مولى ابن زياد [أي معقلا] الذي دسه بالمال اختلف إلى مسلم بن عوسجة بعد موت شريك فأدخله على مسلم بن عقيل فأخذ مسلم بيعته‏ و أمر أبا ثمامة الصائدي فقبض المال منه و هو الذي كان يقبض أموالهم و ما يعين به بعضهم بعضا و يشتري لهم السلاح و كان بصير فارسا من فرسان العرب و وجوه الشيعة .
فأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم يسمع أخبارهم و يعلم أسرارهم و ينقلها إلى ابن زياد و كان هانئ قد انقطع عن عبيد اللّه بعذر المرض فدعا عبيد اللّه محمد ابن الأشعث و أسماء بن خارجة و قيل: دعا معهما بعمرو بن الحجاج الزبيدي‏ و كانت رويحة بنت عمرو تحت هانئ بن عروة و هي أم يحيى بن هانئ فسألهم عن هانئ و انقطاعه فقال: إنه مريض. فقال: بلغني أنه يجلس على باب داره و قد برى‏ء فألقوه فمروه أن لا يدع ما عليه في ذلك فأتوه فقالوا له: ان الأمير قد سأل عنك و قال لو أعلم أنه شاك لعدته و قد بلغه أنك تجلس على باب دارك و قد استبطأك و الإبطاء و الجفاء لا يحتمله السلطان أقسمنا عليك لو ركبت معنا. فدعا بثيابه فلبسها و ببغلته فركبها فلما دنا من القصر أحست نفسه بالشر فقال لحسان ابن أسماء بن خارجة: يا بن أخي اني لهذا الرجل لخائف فما ترى؟ فقال: ما أتخوف عليك شيئا فلا تجعل على نفسك سبيلا. و لم يعلم أسماء مما كان شيئا و أما محمد بن الأشعث فإنه علم به. قال: فدخل القوم على ابن زياد و هانئ‏ معهم فلما رآه ابن زياد قال: أتتك بحائن رجلاه‏ . فلما دنا من ابن زياد و عنده شريح القاضي التفت نحوه و قال:
أريد حبائه‏ و يريد قتلي‏ عذيرك من خليلك من مراد
و كان ابن زياد مكرما له فقال هانئ: و ما ذاك؟ فقال: إيه يا هانئ ما هذه الفتنة التي تربص في دارك لأمير المؤمنين و المسلمين. جئت بمسلم فأدخلته دارك و جمعت له السلاح و الرجال و ظننت أن ذلك يخفى علي. قال: ما فعلت؟
قال: بلى و طال بينهما النزاع فدعا ابن زياد مولاه ذلك العين فجاء حتى وقف بين يديه فقال: أ تعرف هذا؟ فقال: نعم. و علم هانئ أنه كان عينا عليهم فسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه قال: اسمع مني و صدقني فو اللّه لا أكذبك‏ و اللّه ما دعوته و لا علمت بشي‏ء من أمره حتى رأيته جالسا على بابي يسألني النزول علي فاستحييت من رده و لزمني من ذلك ذمام فأدخلته داري و ضفته و قد كان من الأمر الذي بلغك فإن شئت فأعطيتك الآن موثقا تطمئن به و رهينة تكون في يدك حتى انطلق و أخرجه من داري و أعود إليك. فقال: لا و اللّه لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به. قال: لا آتيك بضيفي تقتله أبدا . قال: و اللّه لتأتيني به. قال: و اللّه لا آتيك به‏ .
و في رواية ابن نما قال: و اللّه لو أنه تحت قدمي ما رفعتهما عنه و لا أجيئك به‏ فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي- و ليس بالكوفة شامي و لا بصري غيره- فقال: خلني و إياه حتى أكلمه لما رأى من لجاجه و أخذ هانئا و خلا به ناحية من ابن زياد بحيث يراهما فقال له: يا هانئ أنشدك اللّه أن تقتل نفسك و تدخل البلاء على قومك إن هذا الرجل [أي مسلم بن عقيل‏] ابن عم القوم و ليسوا بقاتليه و لا ضائريه‏ فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة و لا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان. قال: بلى و اللّه إن علي في ذلك خزيا و عارا لا أدفع ضيفي و أنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان و اللّه لو كنت واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه. فسمع ابن زياد ذلك فقال: أدنوه مني فأدنوه منه فقال:
و اللّه لتأتيني به أو لأضربن عنقك. قال: أذن و اللّه تكثر البارقة حول دارك و هو يرى أن عشيرته ستمنعه. فقال: أ بالبارقة تخوفني؟ ثم قال: أدنوه مني فأدني و اعترض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه و جبينه و خده حتى كسر أنفه و سال الدم على ثيابه و نثر لحم خده و جبينه على لحيته حتى كسر القضيب‏ .
و قال الطبري: أنه لما أرسل عبيد اللّه بن زياد أسماء بن خارجة و محمد بن الأشعث أن يأتياه بهانى‏ء قالا له: إنه لا يأتي إلا بالأمان. قال: و ما له و للأمان و هل أحدث حدثا انطلقا فإن لم يأت إلا بالأمان فأمناه فأتياه. فدعواه فقال: إنه إن أخذني قتلني فلم يزالا به حتى جاءا به و عبيد اللّه يخطب يوم الجمعة فجلس في‏ المسجد و قد ترجل هانئ غديرتيه فلما صلى عبيد اللّه قال: يا هانئ. فتبعه و دخل فسلم فقال عبيد اللّه: يا هانئ أ ما تعلم أن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من هذه الشيعة إلا قتله غير أبيك و غير حجر و كان من حجر ما قد علمت ثم لم يزل يحسن صحبتك ثم كتب إلى أمير الكوفة إن حاجتي قبلك هانئ. قال:
نعم قال: فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلا ليقتلني. قال: ما فعلت فأخرج التميمي الذي كان عينا عليهم فلما رآه هانئ علم أنه قد أخبره الخبر فقال: أيها الأمير قد كان الذي بلغك و لن أضيع يدك عني [علي ظ] فأنت آمن و أهلك فسر حيث شئت‏ .
و قال المسعودي: أنه قال هانئ له: ان لزياد أبيك عندي بلاء حسنا و أنا أحب مكافأته به فهل لك في خير؟ قال: ابن زياد: و ما هو؟ قال: تشخص الى أهل الشام أنت و أهل بيتك سالمين بأموالكم فإنه قد جاء حق من هو أحق من حقك و حق صاحبك‏ .
و قال الطبري و الجزري: فأطرق عبيد اللّه عند ذلك و مهران قائم على رأسه و في يده معكزة فقال: و اذلاه هذا العبد الحائك يؤمنك في سلطانك. فقال: خذه فطرح المعكزة و أخذ بضفيرتي هانئ ثم أقنع بوجهه ثم أخذ عبيد اللّه المعكزة فضرب به وجه هانئ و ندر الزج فارتز في الجدار ثم ضرب وجهه حتى كسر أنفه و جبينه‏ .
و قال الجزري: و ضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطي و جبذه فمنع منه فقال له عبيد اللّه: أ حروري أحللت بنفخك و حل لنا قتلك‏ .
و في الإرشاد قال: جروه فجروه و أدخلوه في بيت من بيوت الدار و أغلقوا عليه بابه. فقال: اجعلوا عليه حرسا ففعل ذلك به‏ .
قال الجزري: فق