انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لقد شرَّع الإسلام بعض القوانين التي تجعل من الحياة الانسانية مليئة بالمعاني والقيم والمُثُل العليا التي ترتفع وتسمو فوق كل الاعتبارات الضيّقة الأفق والمحدودة الإطار التي جعلها الناس انطلاقاً من الواقع الاجتماعي الذي يسود المجتمعات البشرية عادة، حيث الغني والفقير، والقوي والضعيف، والمتعلم والأمي وما إلى هنالك من شرائح اجتماعية أخرى.
من هنا، كان الإسلام دعوة مستمرة للانفتاح على الحياة، فلا كبت ولا تحجير ولا تضييق على الانسان في أي مجال من المجالات في العمل والحركة ، بل الأبواب مشرعة للجميع طالما أنهم يريدون الانطلاق في خط الحياة من هذا الفهم الشامل والواسع.
فالموانع الدنيوية في الاسلام مرفوعة، والحوافز الأخروية متوفرة ، كلا هذين الأمرين يشكّلان المنطلق بغضّ النظر عن اللغة واللون والأرض وكل الخصوصيات الأخرى ، ولهذا نجد أن القران الكريم يبيّن ذلك في الاية التي تقول : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات : 13]
وهكذا يعطي الاسلام الفرصة لكل إنسان لكي يثبت جدارة الإنتماء إلى هذا النوع فيتحول البعض من نكرة في المجتمع ليرتقي إلى مستوى المثال والقدوة والنموذج بالعطاء والبذل ، والتضحية وينال بذلك المنزلة الرفيعة عند الله عزَّ وجلّ‏َ.
وفي كربلاء الحسين (عليه السلام) صار كل شهيد من شهدائها معلماً كبيراً ورمزاً من الرموز، لأن كل واحد منهم كان جزءاً لا يتجزأ من تلك الثورة الرسالية التي صارت رمزاً أكبر لكل الثورات والمجاهدين إلى اليوم وحتى قيام الساعة.
ومن أولئك الشهداء الذين ارتفعوا بالإسلام إلى المقامات العالية واستحقوا درجة الشهادة عن أهلية وجدارة، لأنهم انتصروا على كل عوامل النقص وارتبطوا بالله العظيم، فعرفوا من خلال ذلك أنفسهم ولو كان الاخرون لم يستطيعوا أن يفهموا منطقهم الذي هو منطق الإسلام الإلهي، من أولئك الشهداء " العبد جون " الذي كان في خدمة الإمام الحسين (عليه السلام) يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، ذلك الانسان الذي رافق الحسين (عليه السلام) فاكتسب منه، وعاش من خلال ذلك في حالة من المحبة والوفاء مع أهل البيت عليهم السلام والصدق مما لم يتحقق في الكثيرين ممن كانوا يزعمون الانتماء إلى ذلك الخط والنهج.
إنه نموذج للإنسان الذي قابل المعاملة الحسنة من الإمام (عليه السلام) بالإحسان، فعبّر بذلك عن نفس كبيرة لا تعرف اللؤم أو الجحود، فلم يتمرّد ولم يتردّد في نصرة الحسين (عليه السلام) عندما رأى أن الظرف هو أنسب ما يمكن أن يتحقق لكي يعبّر عما كان يجيش في صدره من عوامل الحب والمودة، بعكس الكثير من الساقطين الذين استسلموا للخوف الذي سيطر على نفوسهم قبل أن تصل الأمور إلى مستوى سفك الدماء وسقوط الشهداء، فعبَّروا بذلك عن شخصياتهم المهزوزة والضعيفة، بينما ذلك الإنسان الذي لم يكن أحد يحسب له حساباً لكونه عبداً مملوكاً بنظرهم يكشف بوقفته المميزة في كربلاء عن نفس قوية واثقة تعيش الطمأنينة والثبات وما ذلك إلاَّ بفضل الإسلام وبركات الحسين (عليه السلام) التي كان يعاينها ذلك الخادم المخلص والأمين.
لقد رأى " جون " الدماء وهي تسيل حمراء قانية من أجساد أصحاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيته عليهم السلام فكان كلّ‏ُ شهيد يسقط يزيده إصراراً كما يتضح من كلماته التي قالها للإمام عليه السلام، فلقد شكَّلت تلك الدماء دافعاً وحافزاً قوياً للبذل والعطاء، فالإسلام ليس حكراً على الأغنياء دون الفقراء، ولا لذوي الحسب الرفيع دون غيرهم من سائر الناس، وليس للأقوياء دون الضعفاء، بل هو لجميع هؤلاء ولغيرهم، فليس الأبيض بمقدم على الأسود، بل لكل موقعه ومنزلته طالما أن الإسلام هو الذي يشمل كل تلك العناوين ليذيبها في وحدة تنصهر فيها ليكون الإسلام هو العنوان الأوحد الذي يتقدَّم عندهم على كل العناوين الأخرى التي قد تنطبق عليهم حسب التقويم الاجتماعي للأفراد.
وهكذا وقف " جون " ذلك الموقف المشرّف في كربلاء ليصبح في مصاف الشهداء العظام مع الحسين الشهيد (عليه السلام) وليكون رفيقه في عالم الاخرة في جنان الخلد، وقيمة موقفه وعظمته نابعة من أنه كان بمقدوره أن ينقذ نفسه من القتل وحجّته ودليله معه، فهو عبد لمولاه، وما للعبيد وللقتال فهم مخلوقون للخدمة والقيام بالأعمال التي لا يقوم بها السادة والأحرار، وبالتالي لن يقيم له الجيش الأموي وزناً، إلاَّ أنه مع كل تلك المبررات أقدم طائعاً مختاراً وهو يرى أشراف القوم من الحسين (عليه السلام) وأهل بيته يسقطون شهداء على أرض الصحراء اللاهبة، فلماذا يفوت على نفسه الفرصة النادرة التي لن تتكرر بنفس الظروف ومع نفس الأشخاص من ذلك الوزن النادر ليكون رفيق دربهم في الاخرة.
وبتلك الروحية تقدم من الإمام الحسين (عليه السلام) يستأذنه النزول إلى الميدان لقتال ذلك الجيش، إلاَّ أن الإمام (عليه السلام) يردّه ردّاً لطيفاً مليئاً بالحب والحنان والتقدير قائلاً له: " يا جون إنما تبعتنا للعافية، فأنت في إذن مني " فوقع جون على قدميه يقبّلهما ويقول :
" أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم، إن ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني لأسود، فتنفّس عليّ‏ بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم "، عند ذلك سمح له الإمام (عليه السلام) بالقتال، فما هي إلاَّ برهة وسقط شهيداً مضرجاً بدمه فداءً لدين الله وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضرب بذلك مثلاً للوفاء والصدق وتفوَّق على كل أولئك الذين تخلَّفوا عن نصرة الحسين (عليه السلام) وهم يزعمون أنهم من أشراف المسلمين وعلية القوم، بل ويزايدون على الاخرين بسبب بعض الاعتبارات الواهية التي أسقطتها دماء " جون " في كربلاء.
ولهذا نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) وبعد استشهاد ذلك العبد الوفي الصادق يقف عند جسده الشريف ويقول " اللهم بيّض وجهه وطيّب ريحه واحشره مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعرّف بينه وبين ال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)" . فأي امتياز كبير حصل عليه " جون " الذي لا شك أن الكثير انذاك ، بل في عصرنا أيضاً يتمنُّون لو أن الحسين (عليه السلام) يدعو لهم بمثل ذلك الدعاء الرائع ليكون تاج النور الذي يعبرون به أمام الخلائق أجمعين يوم القيامة، وهكذا ارتفعت روح ذلك العبد الأمين إلى الله من ذلك الموقع العابق بعطر الشهادة، وفاز بنعيم الاخرة الذي لا نعيم بعده إلى جوار العظماء من عباد الله الذين بنوا صرح المجد الإلهي في أرضه عبر العصور.
من كل ذلك علينا أن نعلم أن الكبير عند الله هو من كان يسير في الدنيا بهدي الله ونور الإيمان ولو كان صغيراً بمنظار الدنيا الفانية ، وأن الصغير عند الله هو من كان يخبط في الدنيا خبط عشواء على غير هدى وبصيرة ولو كان كبيراً بنظر أهل الدنيا، بل لو كان يملك الدنيا بأسرها لأن كل ذلك لن ينقذه من قبضة الجبار وغضبه الذي أعدّه للعاصين الظالمين المنحرفين.