انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لمّا اطّلع أهل الشام على قتل الحسين (عليه السلام) و مظلومية أهل البيت عليهم السّلام و ظلم يزيد لهم و علموا مصائب أهل بيت النبوة عليهم السّلام ظهرت عليهم آثار الحزن و المصاب.
فعلم يزيد ذلك و بدأ بمداراة أهل البيت و تسكين عواطفهم.
فقال لعليّ بن الحسين (عليه السلام) يوما: اكشف حوائجك لديّ فأقضي ثلاثا منها، فقال (عليه السلام): الاولى أن تريني وجه سيدي و مولاي و أبي الحسين (عليه السلام) فأتزود منه، و الثانية أن تردّ علينا ما أخذ منّا، و الثالثة ان كنت عزمت على قتلي أن توجه مع هؤلاء النسوة من يردّهن الى حرم جدّهن.
فقال يزيد لعنه اللّه: أما وجه ابيك فلن تراه أبدا و اما قتلك فقد عفوت عنك، و اما النساء فما يردّهن غيرك الى المدينة و اما ما أخذ منكم فأنا أعوضكم عنه أضعاف قيمته.
فقال (عليه السلام): اما مالك فلا نريده و هو موفّر علينا و انما طلبت ما أخذ منّا لانّ فيه مغزل فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه واله)و مقنعتها و قلادتها و قميصها، فأمر برد ذلك و زاد فيه من عنده مائتي دينار، فأخذها زين العابدين (عليه السلام) و فرقها على الفقراء و المساكين.
روى العلامة المجلسي و غيره انّه: دعا يزيد أهل البيت عليهم السّلام و خيرهم بين البقاء في الشام معزّزين مكرمين و بين الذهاب الى المدينة بصحة و سلامة فقالوا: نريد منك اولا أن تأذن لنا بإقامة العزاء و الماتم لسيد الشهداء (عليه السلام)، فأذن لهم و انزلهم في دار، فلبسوا السواد و حضر مجلسهم، مجلس البكاء و التعزية، كل من كان في الشام من قريش أو من بني هاشم، فبكوا على السبط الشهيد و الامام المظلوم سبعة أيام ففي اليوم الثامن دعاهم يزيد و تلطّف إليهم و اعتذر منهم، ثم أحضر لهم المحامل المزينة و اعطاهم الاموال و قال: هذه عوض عمّا جرى عليكم.
فقالت له أمّ كلثوم عليها السّلام: ما أقلّك حياء يا يزيد! قتلت إخوتي و أهل بيتي الذين لا تقاس بهم الدنيا و ما فيها، ثم تقول هذا عوض ما فعلت بكم؟
فقال للنعمان بن بشير صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: جهّز هؤلاء بما يصلحهم و ابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا و ابعث معهم خيلا و اعوانا.
و على رواية المفيد رحمه اللّه انّه: دعا عليّ بن الحسين (عليه السلام) فاستخلى به ثم قال: لعن اللّه ابن مرجانة أما و اللّه لو انّي صاحب ابيك ما سألني خصلة ابدا الّا أعطيته اياها، و لدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت، و لكن اللّه قضى ما رأيت، كاتبني من المدينة و انه إليّ كل حاجة تكون لك، و تقدم بكسوته و كسوة أهله و انفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولا تقدم إليه أن يسير بهم في الليل و يكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفه.
فاذا نزلوا انتحى عنهم و تفرّق هو و أصحابه حولهم كهيئة الحرس، و ينزل منهم بحيث ان أراد انسان من جماعتهم وضوء و قضاء حاجة لم يحتشم، فسار معهم في جملة النعمان و لم يزل ينازلهم في الطريق و يرفق لهم كما وصاه يزيد و يرعاهم حتى دخلوا المدينة .
و ذكر القرماني في أخبار الدول انّه: وجّه النعمان بن بشير مع ثلاثين رجلا، فكان يسايرهم ليلا فيكونون امامه بحيث لا يفوتون طرفة و اذا نزلوا تنحى عنهم هو و أصحابه فكانوا حولهم كهيئة الحرس، و كان يسألهم عن حاجاتهم و يلطف بهم حتى دخلوا المدينة.
فقالت فاطمة بنت عليّ لأختها زينب (عليها السلام)لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشي‏ء؟ فقالت: و اللّه ما معنا ما نصله به الّا حلينا، فأخرجتا سوارين و دملجين لهما فبعثتا به‏
إليه و اعتذرتا، فردّ الجميع و قال: لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني و لكن و اللّه ما فعلته الّا للّه و لقرابتكم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ .
و قال السيد ابن طاوس: قال الراوي: و لما رجع نساء الحسين (عليه السلام) و عياله من الشام و بلغوا العراق قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا الى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد اللّه الانصاري رحمه اللّه و جماعة من بني هاشم و رجالا من آل رسول اللّه (صلى الله عليه واله)قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فوافوا في وقت واحد و تلاقوا بالبكاء و الحزن و اللطم، و أقاموا المآتم المقرحة للأكباد، و اجتمع إليهم نساء ذلك السواد، فأقاموا على ذلك أيّاما .
يقول المؤلف: لا يخفى اتفاق الثقات من المؤرخين و المحدثين بل رواية السيد الجليل عليّ بن طاوس نفسه على انّ عمر بن سعد بعد ما قتل الحسين (عليه السلام)، أول أمر فعله هو ارسال الرءوس الى ابن زياد لعنه اللّه ثم تسريح أهل بيته إليه في اليوم الثاني، فأمر ابن زياد لعنه اللّه بحبسهم بعد شماتته بهم، ثم كتب الى يزيد يسأله عمّا يفعل بأهل البيت و الرءوس، فكتب إليه يزيد بإرسالهم الى الشام.
فأرسلهم الى الشام، و الذي يظهر من القضايا العديدة و الحكايات المتفرقة انّ سير أهل البيت عليهم السّلام كان من طريق القرى و البلدان المعمورة التي تبلغ أربعين منزلا، و لو قطعنا النظر عن المنازل و قلنا انّهم ساروا من البر و من جهة غرب الفرات، يبلغ سيرهم عشرين يوما لانّ المسافة بين الكوفة و الشام بالخط المستقيم حسب ما قيل (175) فرسخا، و مكثوا في الشام حوالي شهرا كما قال السيد في الاقبال: انّ أهل البيت أقاموا بالشام شهرا في موضع لا يقيهم من الحر و القر.
و مع ملاحظة هذه القضايا فمن البعيد جدا تواجد أهل البيت في كربلاء في اليوم العشرين‏ من شهر صفر، أي يوم الاربعين، و قد استبعد السيد هذا الامر أيضا في الاقبال مضافا الى عدم التلويح و الاشارة الى هذا الامر من العلماء و أهل السير و التاريخ و المقاتل، بل يظهر من سياق كلامهم انكار هذا الامر، كما علمت من كلام الشيخ المفيد في باب سير أهل البيت عليهم السّلام الى المدينة و ذكر نحوها ابن اثير و الطبري و القرماني و غيرهم و لم يذكر أحدهم السير نحو العراق بل قال الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي و الكفعمي: انّ أهل البيت عليهم السّلام ساروا نحو المدينة في العشرين من شهر صفر، في اليوم الذي جاء جابر بن عبد اللّه الى كربلاء لزيارة الحسين (عليه السلام) و هو اوّل من زار الحسين (عليه السلام).
و لقد أسهب الكلام شيخنا العلامة النوري طاب ثراه في ردّ هذا الموضوع في كتابه (اللؤلؤ و المرجان)، و ذكر عذرا للسيد ابن طاوس لنقله الحكاية في كتابه، و لا يسع المقام للبسط و التطويل.
و احتمل البعض انّ أهل البيت جاءوا الى كربلاء حين سيرهم من الكوفة الى الشام، و هذا الاحتمال بعيد لوجوه، و احتمل البعض الآخر انهم جاءوا الى كربلاء بعد انصرافهم من الشام لكن قدموها في غير يوم الاربعين، لانّ السيد و الشيخ ابن نما اللذين ذكرا هذه الحكاية لم يقيدا قدومهم الى كربلاء في اليوم الاربعين.
و هذا الاحتمال ضعيف أيضا لانّ الذين ذكروا هذه الحكاية كصاحب روضة الشهداء و حبيب السير، قيدوا قدومهم في يوم الاربعين، و يظهر من عبارة السيد انّهم وردوا كربلاء مع جابر في يوم واحد كما قال: (فنزلوا في وقت واحد) و من المتيقّن انّ جابرا جاء الى كربلاء في يوم الاربعين، مضافا الى ذكر مجيئه بنحو التفصيل في كتاب مصباح الزائر للسيد ابن طاوس و بشارة المصطفى و هما من الكتب المعتبرة و لم يذكر فيهما أبدا قدوم أهل البيت إليها، مع انّه لا بأس بذكر قدومهم لو كان.
و لنذكر رواية مجي‏ء جابر الى كربلاء التي تشتمل على فوائد كثيرة.
فقد روى الشيخ الجليل عماد الدين أبو القاسم الطبري الآملي (من أجلّاء فن الحديث‏ و تلميذ أبي عليّ ابن الشيخ الطوسي) في كتابه بشارة المصطفى (من الكتب المعتبرة النفيسة) مسندا عن عطيّة بن سعد بن جنادة العوني (من رواة الامامية، و قد صرح ابناء العامة في رجالهم بصدق حديثه) انّه قال: خرجت مع جابر بن عبد اللّه الانصاري رحمه اللّه زائرين قبر الحسين (عليه السلام) فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثم ائتزر بازار و ارتدى بآخر، ثم فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة الّا ذكر اللّه حتى اذا دنا من القبر قال: المسنية، فألمسته فخر على القبر مغشيا عليه، فرششت عليه شيئا من الماء فأفاق و قال: يا حسين ثلاثا، ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه.
ثم قال: و انّى لك بالجواب و قد شحطت‏ أوداجك على أثباجك‏ و فرّق بين بدنك و رأسك، فأشهد انّك ابن النبيين، و ابن سيد المؤمنين، و ابن حليف التقوى، و سليل الهدى، و خامس أصحاب الكساء، و ابن سيد النقباء، و ابن فاطمة سيدة النساء، و ما لك لا تكون هكذا و قد غذتك كفّ سيد المرسلين، و ربيت في حجر المتقين، و رضعت من ثدي الايمان، و فطمت بالاسلام، فطبت حيا و طبت ميتا غير انّ قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك و لا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام اللّه و رضوانه و اشهد انّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
ثم جال ببصره حول القبر و قال: السلام عليكم ايتها الارواح التي حلّت بفناء الحسين (عليه السلام) و أناخت برحله، أشهد انّكم أقمتم الصلاة، و آتيتم الزكاة، و أمرتم بالمعروف، و نهيتم عن المنكر، و جاهدتم الملحدين، و عبدتم اللّه حتى اتاكم اليقين، و الذي بعث محمدا (صلى الله عليه واله)بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
قال عطيّة: فقلت لجابر: و كيف و لم نهبط واديا و لم نعل جبلا و لم نضرب بسيف و القوم قد فرّق بين رءوسهم و أبدانهم و أوتمت أولادهم و أرملت الأزواج؟ فقال لي: يا عطيّة سمعت حبيبي رسول اللّه (صلى الله عليه واله)يقول: من أحبّ قوما حشر معهم و من أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم، و الذي بعث محمدا بالحق نبيا انّ نيّتي و نيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين و أصحابه، خذوا بي نحو أبيات كوفان.
فلما صرنا في بعض الطريق فقال لي: يا عطيّة هل أوصيك؟ و ما أظنّ انّني بعد هذه السفرة ملاقيك، أحبّ محبّ آل محمد ما أحبّهم، و أبغض مبغض آل محمد ما أبغضهم، و ان كان صوّاما قوّاما، و ارفق بمحبّ آل محمد فانّه إن تزل لهم قدم بكثرة ذنوبهم ثبتت لهم أخرى بمحبّتهم فانّ محبهم يعود الى الجنة و مبغضهم يعود الى النار .
تذييل:
يعلم من توصيف جابر الحسين بخامس اصحاب الكساء انّ هذا اللقب من القابه الشائعة المعروفة، و حديث اجتماع الخمسة الطيبة من الاحاديث المعروفة المتواترة الذي رواه الخاصة و العامة، و قد نزلت آية التطهير فيهم بعد اجتماعهم، و كذلك ورد ذكر اجتماعهم في احاديث المباهلة بكثرة.
و سرّ ذلك هو ارادة رسول اللّه (صلى الله عليه واله)ازالة الشبهة بجمع تلك الانوار الطيبة من أهل بيته، كي لا يدعي مدع دخوله فيهم، و انّ الآية تشمله و انّ عمّم جمع من المعاندين مفاد الآية و ادخل غيرهم فيهم لكن بدت نياتهم الفاسدة من بياناتهم الواهية.
اما حديث الكساء المعروف عندنا الآن فانه لم يورد في الكتب المعروفة المعتبرة و في أصول الحديث و المجامع المتقنة للمحدثين، بهذه الكيفية و يمكن القول بانّ هذا من خصائص كتاب المنتخب.
و اما ما قاله جابر مخاطبا الحسين (عليه السلام) بقوله: اشهد انّك مضيت على ما مضى اخوك يحيى بن زكريا، فانّه يشير بكلامه هذا الى المشابهة التي كانت بين سيد الشهداء و بين يحيى بن زكريا عليهما السّلام كما صرح به الامام الصادق (عليه السلام) حيث قال لسائل سأله عن زيارة الحسين (عليه السلام): زره و لا تجفه فانّه سيد الشهداء و سيد شباب أهل الجنة و شبيه يحيى بن زكريا .
و روى جمع من أهل الحديث عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) انّه قال: خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلا و لا ارتحل منه الّا ذكر يحيى بن زكريا و قتله، و قال يوما: و من هوان الدنيا على اللّه انّ رأس يحيى بن زكريا اهدى الى بغي من بغايا بني اسرائيل‏ .
و لا يبعد انّ في تكرار الامام (عليه السلام) ذكر يحيى، اشارة لهذا المطلب المذكور.
اما وجوه الشبه بين هذين المظلومين كثيرة و نكتفي بذكر وجوه ثمانية:
الاول: لم يكن لهما سميّ كما في الروايات المتعددة انّه لم يسمّ أحد بيحيى و الحسين قبلهما.
الثاني: انّ مدّة حملهما ستة أشهر كما ورد ذلك في روايات متعددة.
الثالث: جاءت الاخبار و نزل الوحي قبل ولادتهما مخبرا عمّا يجري عليهما كما فصلناه في باب ولادة الحسين (عليه السلام) و كما جاء في تفسير قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } [الأحقاف: 15] الرابع: بكاء السماء عليهما كما ذكر ذلك في روايات الفريقين في تفسير قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ } [الدخان: 29] و روى القطب الراوندي انّه: بكت السماء عليهما أربعين صباحا ... الخ.
الخامس: انّ قاتلهما ابن زنا و قد وردت في هذا الباب أخبار كثيرة، بل عن الباقر (عليه السلام) انّه: لا يقتل الأنبياء الّا الأدعياء.
السادس: انّه وضع رأس كلّ منهما في طست من ذهب و اهدوه الى الادعياء و ابناء الادعياء كما في الروايات لكن هناك فرق بينهما فيحيى ذبحوه في الطست كي لا تسقط قطرة من دمه على الارض فيكون سببا لغضب اللّه لكن كفّار الكوفة و اتباع بني أمية لعنهم اللّه، ما راعوا هذا الامر.
السابع: تكلم رأس يحيى كما في تفسير القمي و تكلّم رأس سيد الشهداء (عليه السلام) كما مرّ.
الثامن: الانتقام الالهي لهما و أخذ ثارهما بقتل سبعين الف شخص كما جاء في المناقب، فمع هذا التطبيق أي تطبيق احوال الحسين بأحوال يحيى عليهما السّلام يظهر سرّ الاحاديث الواردة في انّ ما وقع في الامم السابقة سيقع في هذه الامة حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة و اللّه العالم.
و اما وصية جابر لعطية في محبة محبي آل محمد، تشابه ما كتبه الرضا (عليه السلام) للجمّال: ... كن محبا لآل محمد عليهم السّلام و ان كنت فاسقا، و محبا لمحبّيهم و ان كانوا فاسقين.
قال القطب الراوندي في الدعوات: و من شجون الحديث انّ هذا المكنون هو الآن عند بعض اهل كرمند قرية من نواحينا الى اصفهان ما هي و رفعته انّ رجلا من أهلها كان جمّالا لمولانا أبي الحسن عند توجّهه الى خراسان فلمّا أراد الانصراف قال له: يا ابن رسول اللّه شرّفني بشي‏ء من خطّك أتبرّك به، و كان الرجل من العامة، فأعطاه ذلك المكتوب‏ .