انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

أقام بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس ثم نادى في الناس بالرحيل وتوجه إلى الكوفة، ومعه بنات الحسين (عليه السلام) واخواته ومن كان معهن من النساء والصبيان، وعلى بن الحسين (عليهما السلام) فيهم وهو مريض بالذرب وقد اشفى، ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بنى اسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين (عليه السلام) وأصحابه فصلوا عليهم ودفنوا ابنه على بن الحسين الاصغر عند رجله، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلى رجلي الحسين (عليه السلام) وجمعوهم فدفنوهم جميعا معا، ودفنوا العباس بن على (عليهما السلام) في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن.
ولما وصل رأس الحسين (عليه السلام) ووصل ابن سعد لعنة الله عليه من غد يوم وصوله ومعه بنات الحسين (عليه السلام) وأهله جلس ابن زياد للناس في قصر الامارة واذن للناس اذنا عاما وأمر بإحضار الرأس، فوضع بين يديه وجعل ينظر اليه ويتبسم وفي يده قضيب يضرب به ثناياه، وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله (صلى الله عليه واله) وهو شيخ كبير، فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له: ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين فوالله الذى لا أله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله (صلى الله عليه واله) عليهما مالا أحصيه، ثم انتحب باكيا فقال له ابن زياد: ابكى الله عينيك أتبكى لفتح الله ولولا انك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار الى منزله.
وأدخل عيال الحسين (عليه السلام) على ابن زياد، فدخلت زينب اخت الحسين (عليه السلام) في جملتهم منكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى جلست ناحية من القصر وحفت بها اماؤها، فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نسائها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية يسئل عنها؟ فقال له بعض امائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله)، فأقبل عليها ابن زياد فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم واكذب احدوثتكم ...!
فقالت زينب (عليها السلام): الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد (صلى الله عليه واله) وطهرنا من الرجس تطهيرا، انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله، فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون اليه وتختصمون عنده، فغضب ابن زياد واستشاط فقال عمرو بن حريث: ايها الامير انها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ولاتذم على خطائها، فقال لها ابن زياد: قد شفى الله نفسى من طاغيتك، والعصاة من أهل بيتك، فرقت زينب (عليها السلام) وبكت وقالت له: لعمرى لقد قتلت كهلي وأبرت أهلى، وقطعت فرعى واجتثثت اصلى، فان يشفك هذا فقد شفيت فقال لها ابن زياد: هذه سجاعة ولعمرى لقد كان أبوها سجاعا شاعرا.
فقالت: ما للمرأة والسجاعة ان لى عن السجاعة لشغلا ولكن صدري نفث لما قلت.
وعرض عليه على بن الحسين (عليهما السلام) فقال له: من أنت؟ فقال: أنا على بن الحسين فقال: أليس قد قتل الله على بن الحسين؟ فقال له على (عليه السلام): قد كان لى أخ يسمى عليا قتله الناس؟ فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال على بن الحسين (عليهما السلام): { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [الزمر: 42] فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد على؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه، فتعلقت به زينب عمته وقالت: يا بن زياد حسبك من دمائنا واعتنقته، والله لا أفارقه فان قتلته فاقتلنى معه، فنظر ابن زياد اليها واليه ثم قال: عجبا للرحم ! والله انى لأظنها ودت انى قتلتها معه، دعوه فاني أراه لما به.
ثم قام من مجلسه حتى خرج من القصر ودخل المسجد، فصعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب وشيعته.
فقال اليه عبدالله بن عفيف الازدى وكان من شيعة امير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا عدو الله ان الكذاب أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه، يا بن مرجانة تقتل أولاد النبيين وتقوم على المنبر مقام الصديقين؟
فقال ابن زياد: عليَ به، فأخذته الجلاوزة فنادى شعار الأزد فاجتمع منهم سبعمائة فانتزعوه من الجلاوزة فلما كان الليل أرسل اليه ابن زياد من أخرجه من بيته، فضرب عنقه وصلبه في السبخة رحمة الله عليه.
ولما اصبح عبيدالله بن زياد بعث برأس الحسين (عليه السلام) فدير به في سكك الكوفة كلها وقبائلها.
فروى عن زيد بن أرقم انه قال: مربه على وهو على رمح وانا في غرفة لى، فلما حاذاني سمعته يقرأ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } [الكهف: 9] فقف والله شعرى وناديت: رأسك والله يا بن رسول الله أعجب وأعجب !

ولما فرغ القوم من الطواف به في الكوفة ردوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس ودفع اليه رؤوس اصحابه و سرحه إلى يزيد بن معاوية، وانفذ معه أبا بردة بن عوف الازدى وطارق بن ابى ظبيان في جماعة من أهل الكوفة حتى وردوا بها على يزيد بن معاوية بدمشق.
فروى عبدالله بن ربيعة الحميري قال: انى لعند يزيد بن معاوية بدمشق اذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل عليه فقال له يزيد: ويلك ما ورائك وما عندك؟ فقال: ابشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن على في ثمانية عشر رجلا من اهل بيته وستين من شيعته، فسرنا اليهم فسئلناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم الامير عبيدالله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى اذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، وجعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون منا بالآكام والحضر لوذا كما لاذ الحمام من صقر، فوالله يا أمير المؤمنين ما كانوا الا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فها تيك أجساد هم مجردة وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشموس وتسفى عليهم الرياح، زوارهم العقبان والرخم، فاطرق يزيد هنيئة ثم رفع رأسه فقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين (عليه السلام)، أما لواني صاحبه لعفوت عنه.
ثم ان عبيدالله بن زياد بعد انفاذه برأس الحسين (عليه السلام) أمر بنسائه وصبيانه فجهزوا، وأمر بعلى بن الحسين (عليهما السلام) فغل بغل إلى عنقه، ثم سرح بهم في اثر الرؤوس، مع محفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس، ولم يكن على بن الحسين يكلم أحدا من القوم الذين معهم الرأس في الطريق كلمة حتى بلغوا، فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع محفر بن ثعلبة صوته فقال: هذا محفر بن ثعلبة أتى امير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه على بن الحسين (عليهما السلام): ما ولدت ام مجفر أشرو ألام.
قال: ولما وضعت الرؤوس بين يدى يزيد وفيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد:
نفلق هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال يحيى بن الحكم اخو مروان بن الحكم وكان جالسا مع يزيد:
لهام بأدنى الطف أدنى قرابة * من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
امية امسى نسلها عدد الحصى * وبنت رسول الله ليس لها نسل
فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم يده وقال: اسكت، ثم قال لعلى بن الحسين (عليهما السلام):
يا ابن حسين أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال على بن الحسين (عليهما السلام): { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه فلم يدر خالد ما يرد عليه.
فقال له يزيد قل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
ثم دعى بالنساء والصبيان، فاجلسوا بين يديه فرأى هيئة قبيحة، فقال: قبح الله ابن مرجانة لو كانت بينه وبينكم قرابة ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم على هذه الحالة.
فقالت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام): فلما جلسنا بين يدى يزيد رق لنا، فقام اليه رجل من أهل الشام أحمر فقال: يا امير المؤمنين هب لى هذه الجارية يعنينى، وكنت جارية وضيئة فارعدت وظننت ان ذلك جايز لهم، فأخذت بثياب عمتي زينب وكانت تعلم ان ذلك لا يكون، فقالت عمتي للشامي: كذبت والله ولؤمت، والله ما ذاك لك ولاله.
فغضب يزيد وقال: كذبت ان ذلك لى ولو شئت ان أفعل لفعلت؟ قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك الا أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها؟ فاستطار يزيد غضبا وقال: إياي تستقبلين بهذا انما خرج من الدين أبوك وأخوك.
قالت: بدين الله ودين أخى اهتديت أنت وجدك وأبوك ان كنت مسلما.
قال: كذبت ياعدوة الله.
قالت له: انت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك !

فكانه استحيى وسكت.
فعاد الشامي فقال: هب لى هذه الجارية.
فقال له يزيد: اعزب وهب الله لك حتفا فاضيا.
ثم امر بالنسوة ان ينزلن في دار على حدة معهن أخوهن على بن الحسين (عليهما السلام)، فأفرد لهم دار تتصل بدار يزيد، فأقاموا اياما ثم ندب النعمان بن بشير وقال له: تجهز لتخرج بهؤلاء النسوة إلى المدينة، ولما أراد أن يجهزهم دعى على بن الحسين (عليهما السلام) فستخلى به,
ثم قال: لعن الله ابن مرجانة أم والله لو أنى صاحب أبيك ما سئلنى خصلة أبدا الا أعطيته اياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني من المدينة وإنه إلى كل حاجة تكون لك وتقدم بكسوته وكسوة أهله وانفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولا تقدم اليه أن يسير بهم في الليل، ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفه، فاذا نزلوا انتحى عنهم وتفرق هوو أصحابه حولهم كهيئة الحراس لهم، وينزل منهم بحيث ان أراد انسان من جماعتهم وضوء وقضاء حاجة لم يحتشم فسار معهم في جملة النعمان ولم يزل ينازلهم في الطريق ويرفق بهم كما وصآه يزيد ويرعاهم حتى دخلوا المدينة.