انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لما علم يزيد لعنه اللّه بوصول أهل بيت الحسين (عليه السلام) الى الشام زيّن القصر و جلس على كرسيه و أحضر أصحابه، ثم جاء ركب الاسارى مع الرءوس حتى وقف امام باب دار الامارة منتظرين الاذن، فأوّل من أذن له زحر بن قيس- حامل رأس الحسين (عليه السلام)- فدخل على يزيد، فسأله: ما وراؤك و ما عندك؟
فقال: أبشر بفتح اللّه و نصره، ورد علينا الحسين بن عليّ في ثمانية عشر من أهل بيته و ستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا و ينزلوا على حكم الامير عبيد اللّه بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كلّ ناحية حتى اذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، جعلوا يهربون الى غير وزر و يلوذون منّا بالاكام‏ و الحفر لواذا كما لاذ الحمائم من صقر.
فو اللّه يا امير المؤمنين ما كان الا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة و ثيابهم مرملة و خدودهم معفرة تصهرهم الشموس و تسفي عليهم الرياح، زوارهم العقبان و الرخم.
فأطرق يزيد هنيئة ثم رفع رأسه و قال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، اما لو أنّي كنت صاحبه لعفوت عنه (فرحم اللّه الحسين) .
و قيل انّه: لما قص زحر القصة على يزيد قال يزيد: قد زرع ابن زياد بذر عداوتي في قلوب الناس، فلم يصل زحرا بشي‏ء و اخرجه من عنده، و هذه معجزة من سيد الشهداء (عليه السلام) حيث قال لزهير بن القين في طريقه الى كربلاء: و يحمل هذا من جسدي- يعني رأسه- زحر بن قيس فيدخل على يزيد و يرجو نائله فلا يعطيه شيئا، كما ذكرها محمد بن جرير الطبري.
ثم دخل مخفر بن ثعلبة و رفع صوته: هذا مخفر بن ثعلبة أتى امير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه عليّ بن الحسين (عليه السلام): ما ولدت أم مخفر أشر و الأم‏ .
و في رواية ابن نما انّ يزيد هو الذي أجابه بذلك، و لعلّ هذا أولى لانّ عليّ بن الحسين (عليه السلام) قلّ ما تكلم مع هؤلاء الكفرة الفجرة.
و قد قال الشيخ المفيد انّه: و لم يكن عليّ بن الحسين يكلم أحدا من القوم الذين معهم الرأس في الطريق كلمة .
و قول يزيد ذلك اعلاما للناس بأنه لم يرتض قتل الحسين و لم يأمر بقتله و قد قال جمع من أهل التاريخ انّه: كان يزيد حينما قدم ركب الاسارى الشام، في منظر قصر جيرون، فلما رأى الرءوس من بعيد أنشد البيتين طربا و نشاطا:
لما بدت تلك الحمول و اشرقت‏ تلك الشموس على ربى جيرون‏
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح‏ فلقد قضيت من الغريم ديوني‏
و كان غرضه لعنه اللّه أخذ الثار من رسول اللّه (صلى الله عليه واله)حيث قتل أجداده في معركة بدر كما صرح بهذا المطلب في تمثله بشعر ابن الزبعري لما دخلت عليه الرءوس:

قد قتلنا القوم من ساداتهم‏ و عدلنا قتل بدر فاعتدل‏


ثم وضعوا رأس الحسين (عليه السلام) في طشت من ذهب و جاءوا به الى يزيد لعنه اللّه و هو في سكره كعادته فلما رأى الرأس الشريف فرح و قال:
يا حسنه يلمع باليدين‏ يلمع في طست من اللجين‏
كأنما حف بوردتين‏ كيف رأيت الضرب يا حسين‏
شفيت غلي من دم الحسين‏ يا ليت من شاهد في الحنين‏
يرون فعلي اليوم بالحسين‏

قال الشيخ المفيد: و لما وضعت الرءوس بين يدي يزيد و فيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد:
نفلّق هاما من رجال أعزّة علينا و هم كانوا أعقّ و أظلما
فقال يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم و كان جالسا مع يزيد:
لهام بأدنى الطّفّ أدنى قرابة من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل‏
أميّة أمسى نسلها عدد الحصى‏ و بنت رسول اللّه ليس لها نسل‏
فضرب يزيد بيده في صدر يحيى و قال: اسكت‏ .
قال الرضا (عليه السلام): «لما حمل رأس الحسين (عليه السلام) الى الشام امر يزيد لعنه اللّه فوضع و نصب عليه مائدة، فأقبل هو لعنه اللّه و أصحابه يأكلون و يشربون الفقاع‏ ، فلما فرغوا أمر بالرأس فوضع في طست تحت سريره و بسط عليه رقعة الشطرنج و جلس يزيد عليه اللعنة يلعب بالشطرنج و يذكر الحسين و اباه و جدّه صلوات اللّه عليهم و يستهزئ بذكرهم، فمتى قمر صاحبه تناول الفقاع فشربه ثلاث مرات، ثم صب فضلته مما يلي الطست من الارض.
فمن كان من شيعتنا فليتورع عن شرب الفقاع و اللعب بالشطرنج، و من نظر الى الفقاع أو الى الشطرنج فليذكر الحسين (عليه السلام) و ليلعن يزيد و آل زياد، يمحو اللّه بذلك ذنوبه و لو كانت بعدد النجوم» .
و في كامل البهائي عن كتاب الحاوية: انّ يزيد شرب الخمر و صب منها على الرأس الشريف، فأخذته امرأة يزيد و غسلته بالماء و طيبته بماء الورد فرأت تلك الليلة في منامها سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)و هي تعتذر إليها بحسن صنيعها .
على أي حال، ادخلوا الرءوس عليه مع أهل البيت و هم موثقون بالاغلال و في عنق زين العابدين (عليه السلام) الجامعة فلما رأى يزيد تلك الهيئة قال: قبح اللّه ابن مرجانة لو كانت بينكم و بينه قرابة و رحم ما فعل هذا بكم و لا بعث بكم على هذه الحالة.
قال الشيخ ابن نما: قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): أدخلنا على يزيد و نحن اثنا عشر رجلا مغلّلون فلما وقفنا بين يديه قلت: أ تأذن لي في الكلام؟
فقال: قل و لا تقل هجرا، قلت: لقد وقفت موقفا لا ينبغي لمثلي أن يقول الهجر، ما ظنّك برسول اللّه (صلى الله عليه واله)لو رآني في غل فقال لمن حوله: حلّوه‏ .
و قالت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام): كيف يجرأ أحد على أخذ بنات رسول اللّه أسرى؟ فبكى من كان في المجلس عند سماعهم لهذا الكلام و ارتفع صوت البكاء و النحيب من بيت يزيد.
روى الشيخ الجليل على بن ابراهيم القمي عن الصادق (عليه السلام) قال: لما أدخل رأس الحسين بن عليّ عليهما السّلام على يزيد لعنه اللّه و أدخل عليه عليّ بن الحسين (عليه السلام) و بنات امير المؤمنين (عليهن السلام) و كان عليّ بن الحسين مقيدا مغلولا، فقال يزيد لعنه اللّه:
يا عليّ بن الحسين، الحمد للّه الذي قتل أباك، فقال علي بن الحسين (عليه السلام): لعن اللّه من قتل أبي.
قال: فغضب يزيد و أمر بضرب عنقه (عليه السلام) فقال عليّ بن الحسين (عليه السلام): فاذا قتلتني فبنات رسول اللّه من يردهم الى منازلهم و ليس لهم محرم غيري.
فقال: أنت تردهم الى منازلهم، ثم دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة عن عنقه بيده، ثم قال له:
يا عليّ أ تدري ما الذي أريد بذلك؟ قال: بلى تريد أن لا يكون لأحد عليّ منة غيرك، فقال يزيد: هذا و اللّه ما أردت، ثم قال يزيد: يا عليّ بن الحسين: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] فقال عليّ بن الحسين (عليه السلام): كلا ما هذه فينا نزلت، انما نزلت فينا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد: 22] - الى قوله تعالى- { وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] فنحن الذين لا نأسا على ما فاتنا و لا نفرح بما آتانا منها .
ثم وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يديه و أجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه، فرآه عليّ بن الحسين (عليه السلام) فلم يأكل من رأس الغنم بعد ذلك أبدا، و اما زينب فانها لما رأته أهوت الى جيبها فشقته ثم نادت بصوت حزين يقرع القلوب: يا حسيناه يا حبيب رسول اللّه يا ابن مكة و منى يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء يا بن بنت المصطفى، فابكت كل من كان في المجلس و يزيد عليه لعائن اللّه ساكت.
و مما يزيل القلب عن مستقرها و يترك زند الغيظ في الصدر واريا
وقوف بنات الوحي عند طليقها بحال بها يشجين حتى الاعاديا
ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين (عليه السلام) و تنادي:
يا حبيباه يا سيد أهل بيتاه، يا ابن محمداه يا ربيع الارامل و اليتامى يا قتيل أولاد الادعياء.
فابكت كل من سمعها و لكن يزيد اللعين لم يتأثر، بل دعا بقضيب من خيزران، فجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه السلام) و أخذ يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل‏
لا هلوا و استهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل‏
فلما رأى أبو برزة الأسلمي ذلك و قد كان صحابي رسول اللّه (صلى الله عليه واله)قال: ويحك يا يزيد أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة، أشهد لقد رأيت النبي (صلى الله عليه واله)يرشف ثناياه و ثنايا أخيه الحسن و يقول:
«انتما سيدا شباب أهل الجنة فقتل اللّه قاتلكما و لعنه و أعد له جهنم و ساءت مصيرا».