دراسات حول المنبر
بحوث و مناظرات

الثورة التي فجّرها سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن علي (عليه السّلام) في عام ستين للهجرة بوجه الخنوع والذلّ الذي أُصيبت به الأمّة ، والذي تمثّل في أشنع صورة وذلك بوجه بتسلط يزيد بن معاوية على رقاب الأمّة .
وقد وظّف أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) هذه النهضة المباركة لبثّ الوعي والعزّة في الأمّة ؛ منعاً من انحدارها وتهاويها في مراتب الذلّ ، فكانت الخطابة الحسينيّة الأداة الفاعلة ، واللسان الناطق لهذه الحركة والتوعية .
وقد كتب للنهضة الحسينيّة النجاح في إفراز مفاهيم فكرية وثقافية في المجتمع الإسلامي ، استهدفت إفاقة الأمّة الإسلامية وتحصينها بصحوة يتعذّر بها على المتربصين والكائدين بالشريعة المقدّسة من تمرير مخطّطاتهم .
وقد تكفّل المنبر الحسيني ـ هذا المنهج الخطابي المتميّز والفريد الذي وضع أساسه أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) ـ على مدى التاريخ المحافظة على جذوة النهضة الحسينيّة حيّةً متّقدة .
والخطابة الحسينيّة التي نحظى ببركاتها اليوم هي وليدة جهد حثيث ، وتطوير دائم على مدى القرون الماضية ، ولعلي لا أبالغ أن أقول إنّ المنبر الحسيني في منهجه الخطابي المثالي الذي يتبنّاه مشاهير خطباء هذا العصر ، مثل سماحة الدكتور أحمد الوائلي ، وسماحة الشيخ فاضل المالكي ، هو أفضل وأرقى ما وصل إليه المنبر من تطوّر ومنزلة ، ولكن هذا لا يعني أن تجمد القرائح عن المزيد من التطوير والإفاضة على المنبر ؛ كي يكون هذا الرافد الحسيني الدافق ملائماً لكلّ عصر وزمان .
وأمّا توجّهات المنبر الحسيني في العالم الإسلامي وحاله ووضعه ، وسبل تطويره وتحسينه فقد أُفرد له الفصل الثاني ، والحديث عن المنبر الحسيني وما طرأ عليه من تطوّر أمر يضيق عنه هذا الفصل .
وأهم الجوانب التي نريد معالجتها هنا هو تحديد الهيئة العامّة ، والنمط التقليدي الذي أعطى الخطابة الحسينيّة التفرّد والتمييز ، ومن ثمّ الحديث عن الجوانب الفنيّة الخطابية التي جعلت الخطابة الحسينيّة منهجاً متفرّداً عن سائر النماذج الخطابية الاُخرى .
أوّلاً : النمط العام للخطابة الحسينيّة
تتفرّد الخطابة الحسينيّة بمنهج متميّز عمّا هو متعارف ودارج من الخطابة ، حيث تتكوّن من ثلاثة أجزاء متميّزة تختصّ بالخطابة الحسينيّة ، ويتميّز أداء الجزء الأول والأخير من الخطابة الحسينيّة باتّباع اُسلوب فنّي يؤدّي فيها الخطيب الجزء المطلوب بصوت موسيقي يغلب عليه الجانب الرثائي ؛ لاستثارة وإعداد روح الحزن والأسى في المستمع .
ويتطلّب أداء هذين الجزأين امتلاك الخطيب صوتاً رقيقاً موسيقياً ، يتميّز بقدرته على تطويع الكلمات الرثائية للحن الرثائي ، الذي يمثّل العمود الأساسي للجزء الأول والأخير من الخطابة الحسينيّة .
أمّا أهم صفات أجزاء الخطابة الحسينيّة فهي :
1) المقدّمة
المقدمة للخطابة الحسينيّة تتكوّن من جزأين رئيسيين متباينين ، ويتطلَّب أداء المقدّمة بجزأيها تمكّن الخطيب من صوت رقيق وموسيقي يستند إلى أطوار متعارفة في الوسط الشيعي .
والجزء الأول من المقدّمة يركز على اُمور ثلاثة مهمّة هي :
أ) الصلاة على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السّلام) .
ب) الصلاة على الإمام الحسين ، وبيان أهم جوانب ظلامته ؛ كنعته بالمظلوم أو العطشان .
ج) التمنّي لنيل المقام الرفيع بالتأسي بنهضة الحسين (عليه السّلام) .
أمّا الصيّغ التي عادةً ما يفتتح بها الخطباء الحسينيون مقدّمة خطابتهم ، والتي تمثّل الجزء الأوّل من المقدّمة هي :
الصيغة الأولى :
صلّى الله عليك يا مولاي يا أبا عبد الله ، صلّى الله عليك يابن رسول الله ، ما خاب مَنْ تمسك بكم ، وأمن مَنْ لجأ إليكم ، يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً .
الصيغة الثانية :
صلّى الله عليك يا مولاي يابن رسول الله ، صلّى الله عليك يا مولاي يا أبا عبد الله ، ما خاب مَنْ تمسك بحبلكم ، وأمن مَنْ لجأ إلى حصنكم ، يا ليتنا نهتدي بهداكم ، فنفوز فوزاً عظيماً .
الصيغة الثالثة :
صلّى الله عليك يا مولاي يا أبا عبد الله ، صلّى الله عليك يابن رسول الله ، لعن الله الظالمين لكم إلى يوم القيامة ، يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً.
وعند فراغ الخطيب من الجزء الأول من المقدّمة يشرع بالجزء الآخر ، حيث يقرأ الخطيب قصيدة رثائية باللغة الفصحى تلائم المناسبة بصوت شجي .
وقد نظم عدد كبير من الشعراء المعاصرين قصائد ساهمت في رسم المعاني التي سطرتها واقعة كربلاء ويغلب عليها الطابع الوصفي الرثائي .
وقد جمعت هذه القصائد في كتب كثيرة منها : المجالس السنية للعلامة السيّد محسن الأمين ، وكتاب رياض المدح والرثاء للطريحي ، ونفائس مختارة من منظوم ومنثور من إصدارات مؤسسة أهل البيت (عليهم السّلام) .
وتمثّل قصائد الشعراء : الكعبي , والكوّاز ، والقزويني , والحلّيَّين (السيّد حيدر والسيّد جعفر) ، والشريف الرضي الأساس الذي لا تكتمل مؤهلات الخطيب دونها .
في هذه القصائد التي يغلب عليها الطابع الوصفي ، يعكس الشاعر الوقائع الميدانية بشكل رثائي تصويري ؛ قاصداً من وراء ذلك حشد ما يستطيع من مشاعر الأسى والحزن عند المتلقّي .
ونظراً لغلبة طابع الحزن والرثاء في المنبر الحسيني ، أصبحت قراءة هذه القصائد في مقدّمة الخطابة الحسينيّة العرف السائد عند الخطباء .
وكما أسلفت ، فإنّ القراءة تتم بأداء رثائي يُنشد بصوت موسيقي ، وسوف نذكر الأصوات المتعارفة في وسط الخطابة الحسينيّة في نهاية هذا الفصل .
2) الخطبة أو الموضوع
موضوع الخطابة الحسينيّة يعتمد بالدرجة الأولى على نظرة الخطيب لدور هذا المنهج الخطابي . فالنظرة التقليدية للخطابة الحسينيّة تحصر الموضوع في جوانب ضيّقة من المواعظ التقليدية ، وجملة من الحكايات والفضائل غير الموثقة .
وسوف يكون الفصل الثاني مكاناً لمعالجة اهتمامات المنبر الحاضر ، والأولويات في المواضيع التي يجب أن ينظر إليها في حركته التصحيحية .
أمّا الجوانب الفنية ، وأساليب المعالجة في موضوع الخطابة الحسينيّة سوف نوضّحه في النقطة (ثالثاً) .
3) الخاتمة أو المصيبة
هذا الجزء من الخطبة الحسينيّة يشتمل على جوانب وصفية نثرية وشعرية لواقعة عاشوراء ، وذلك ببيان تفاصيل بعض الحوادث التي شاء الخطيب انتقاءها لإنهاء خطبته .
وتتميّز الخاتمة للخطبة الحسينيّة بقابلية الخطيب على نقل المستمع والمتلقّي من حالة التلقّي الفكري إلى حالة التلقّي القلبي العاطفي ، حيث يبدأ الخطيب عند شروعه بالخاتمة باُسلوب نثري تشوبه كثير من حالة الوصف الرثائي ؛ لإعداد المستمع لحالة التعاطف والتفاعل مع الحادثة المنقولة من واقع النهضة الحسينيّة .
وقد يحاول الخطيب أن يخلط في الخاتمة بين النثر والشعر ، وينتقي من الشعر المنظوم باللهجة العامية أو الفصيح . ويكمن الجانب الفنّي للخطابة الحسينيّة في قدرة الخطيب على تطويع الموضوع بشكل حتّى تكون عملية الانتقال من الموضوع إلى الخاتمة التي يطلق عليها (المصيبة) سلسة وطبيعية ، لا تُشعر المستمع بحالة القفز والتخلّي الفجائي عن الموضوع والدخول بالمصيبة .
إنّ مسألة الانتقال من الموضوع إلى المصيبة أو الخاتمة تتطلّب الكثير من التجربة ، والفطنة والذكاء من الخطيب في انتقاء ما يناسب من أحداث النهضة الحسينيّة للخاتمة .
ثانياً : الشعر في الخطابة الحسينيّة
ويتميّز المنبر الحسيني بميزة فنّية يتفرّد بها ، وهي انتشار الأشعار المنظومة باللهجة العامية في الخاتمة باُسلوب يعتمد على طور موسيقي خاص .
أمّا الأطوار التي يحرص الخطيب على إنشادها ، فتعتمد على عدّة اُمور تخصّ الشعر والشاعر :
أ) بحر الشعر .
ب) المنطقة التي ينتمي إليها الشاعر .
ج) المنطقة التي يُنشد بها الشعر .
يتميّز شعراء البحرين ؛ كشعر ملا عطية الجمري ، وشعر الفايز , باحتوائه على البحر القصير والطويل ؛ ممّا يتيح الفرصة للخطباء لإنشاده بطورين مختلفين ، حيث يعتمد كلا الطورين على الانتهاء بمد في نهاية الصدر والعجز في كلّ بيت ، بشكل يثير بها الخطيب المستمعين لمتابعة المد بصوت مرتفع ؛ ليشبه بذلك نوعاً من الأنين .
وأمّا الشعر المنظوم في العراق ؛ كشعر ابن نصّار ، وعبد الأمير الفتلاوي ، وعلى غراره شعر شعراء أهل البيت (عليهم السّلام) في خوزستان (جنوب إيران) يعتمد على البحر القصير .
والشعر العراقي وشبيهه بشكل عام يُنشد باُسلوب يعتمد على الصوت العذب الخالص ، الذي يُنشد بصوت رثائي حزين تتخلّله وقفات ؛ لكسب نغمة موسيقية ، ولا يتطلّب في أغلب الأحيان مجاراة المستمع له كما في الطور البحريني .
ويشترك الشعر العراقي والبحريني باُسلوب الأبوذية في النظم ، والذي يتطلّب من المستمع الردّ بأنين خافت عندما يمد الخطيب الكلمة الأخيرة من عجز البيت الأخير .
وختام الخاتمة في بعض الأحيان يكون بقراءة بيت أو بيتين من قصيدة فصحى ، ومن ثمّ الدعاء والدعوة لقراءة سورة الفاتحة لأرواح المؤمنين والمؤمنات .
وقد جُمعت هذه الأشعار التي تمثّل تراثاً مهمّاً وثميناً في الخطابة الحسينيّة في عدّة مؤلّفات ، مثل كتاب الجمرات الودّية للشاعر البحريني الخطيب ملاّ عطية الجمري ، وكتاب الفائزيات للشاعر البحريني ابن فايز ، وكتاب الفتلاوي الذي جمع الكثير من شعر الشاعر العراقي ابن نصار .
ويتميّز هذا التراث الشعري الحسيني بغلبة طابع الوصف الرثائي ، حيث يركز الشاعر على نظم الشعر بصياغة الحادثة من الزوايا العاطفية المختلفة ؛ لغرض استثارة الحزن والأسى عند المستمع ، كصياغة حادثة خروج علي الأكبر على سبيل المثال من زاوية الابن لأبيه ، أو زاوية فراق الولد لأمّه ، أو زاوية دفاعه المستميت في سبيل عقيدته ودينه .
وما يجدر ذكره هنا هو استمرار اعتماد المنبر الحسيني على هذا الشعر بالرغم من اعتماده على لهجة عامية فقدت كثيراً من مفرداتها في الوقت الحاضر ؛ ممّا خفّف من تفاعل الجيل الحاضر مع هذا اللون من الشعر ، والدعوة قائمة بكلّ إلحاح إلى تبنّي شعراؤنا المشهود لهم بنظم هذا اللون من الشعر إلى المشاركة في تحديث المنبر الحسيني ، وذلك بنظم الشعر الجامع للمواصفات الفنّية للمنبر الحسيني ، ومعبّراً للقضايا الملحّة التي أغفلها الشعر المنبري التقليدي .
ثالثاً : المزايا الفنّية للخطابة الحسينيّة
تستهدف الخطابة الحسينيّة التأكيد على العلاقة المتينة للنهضة الحسينيّة بالمنهج التصحيحي للمفاهيم الفكرية في الإسلام ، خصوصاً تلك المتعلّقة بدور الإسلام في صناعة الحياة ، وإقامتها على أسس التوحيد والإخلاص لله .
والعلاقة التي يؤكّد عليها المنبر تنبع من الأساليب والمناهج التي اختطَّتها النهضة ، كالإثارة والتنبيه والتضحية والفداء .
أمّا المنهج الخطابي للمنبر الحسيني تتّضح معالمه من خلال الألوان الخطابية السائدة ، والتي يمكن حصرها في ثلاثة مناهج يسود فيها الأول والثاني على المنبر الحسيني ، ويُعدّ المنهج الثالث من المناهج الحديثة العهد بالمنبر الحسيني :
1) المنهج الخطابي التراثي
2) المنهج الخطابي الحداثي
3) المنهج الخطابي العام
1) المنهج الخطابي التراثي
يعتمد المنهج الخطابي التراثي على اُسلوب الوعظ والإرشاد ، ونقل الأحاديث والأقوال المشهورة ، والقصص والأساطير التي يُقصد بها محاولة إثارة المجتمع للتمسّك بمكارم الأخلاق والاقتداء بأهل البيت (عليهم السّلام) . كما يشغل الرثاء حيّزاً كبيراً من هذا المنبر يبلغ في كثير من الأحيان ثلثي الزمن المخصص للخطبة.
2) المنهج الخطابي الحداثي
يمثل هذا المنهج امتداداً للمنبر التراثي بعد إدخال كثير من التحسينات على محتويات الخطبة مع البقاء على الاُسلوب التراثي في الرثاء ، وقد شمل التحديث :
أ) الاُسلوب في المعالجة والطرح : اعتماد الاُسلوب المتكامل في معالجة موضوع محدّد من خلال دراسة الجوانب المختلفة للموضوع المطروح ، والاعتماد على الكثير من الحقول العلمية في شرحه وتوضيحه .
ب) المواضيع المعالَجة : المواضيع التي تُعالَج لها ضرورة قصوى في بناء المجتمع المسلم ، كالمواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
ج) اعتماد المناهج العلمية في المعالجة : تحرّي الحرص الشديد للأمانة العلمية في نقل النصوص والتحقق من سلامتها وصحتها ، مع بذل الجهد في نقل المفاهيم الدقيقة والصحيحة السليمة للنصوص المراد الاستشهاد بها ، من خلال الاعتماد على المراجع العلمية الموثقة والمشهورة .
3) المنهج الخطابي العام
يعتمد هذا المنهج على الاُسلوب الخطابي العام الذي لا يشمل جانب الرثاء المتّبع في المنهجين السابقين . وعلاقة المنهج الخطابي هذا بالخطابة الحسينيّة يرجع إلى استغلاله مناسبة عاشوراء ورمضان التي يشهد فيها الإقبال الجماهيري الشديد على المنبر الحسيني . فهو منهج يستغلّ المناسبة فقط ؛ لتبليغ المفاهيم الإسلامية ، ومعالجة القضايا العقدية والفكرية .
والمنهج المذكور رائج في البلدان الإسلامية غير الناطقة باللغة العربية ، حيث يتبنّى جملة من ذوي الأصوات العذبة الجانب الرثائي ، ويقوم العلماء والخطباء بدور الخطابة .
فالراثي يكمل دور الخطيب من خلال توزيع الأدوار بينهما ، ويعتمد هذا الاُسلوب تراثاً ضارباً في القِدم في تاريخ إحياء النهضة الحسينيّة في هذه البلدان ؛ وذلك للتطوّر التاريخي المختلف الذي شاهده المنبر الحسيني في هذه البلدان عن البلدان الناطقة باللغة العربية ، بالإضافة إلى القدرة التطويعيّة للشعر المنظوم بالعربية

الفصحى والعامية للأطوار الرثائية التي تُستخدم في المنبر الحسيني ، وصعوبة تطويع ذلك على اللغات الاُخرى ؛ لطبيعتها المختلفة ومفرداتها التي لا تستجيب للطور الرثائي الخاص .
رابعاً : تقييم المناهج الخطابية للمنبر الحسيني
في معرض المقارنة بين هذه المناهج نجد إنّ المنهج الخطابي التراثي يشوبه الاُسلوب اللا علمي في نقل الأحاديث والروايات والقصص ، ولا يعتمد اُسلوب التحقيق والتثبّت في الاعتماد على الكثير من المفاهيم الإسلاميّة المغلوطة في الفهم والنقل .
ويُشجّع هذا النوع من المنهج الخطابي للمنبر الحسيني طبقة المحافظين على التراث ، والمتخوّفين من الانفتاح على الأساليب والمناهج الجديدة ؛ ويعود إصرار المتمسّكين بهذا المنهج بالدرجة الأولى إلى سلاسة طرقه ، وبساطة وسذاجة أفكاره ، ومعالجاته المباشرة للقضايا المحلية .
أمّا المنهج الخطابي الحداثي ، فهو في طور التحديث والتطوير . وقد شهد قفزات واضحة في العقدين الماضيين من خلال ظهور جملة من الرواد لهذه الحركة التحديثية .
والحركة التحديثية للمنهج التراثي هي استجابة لمتطلّبات العصر التي تتميّز بانتشار الحركة التعليمية والتربوية الشاملة بين طبقات المجتمع ، وأهم من ذلك كلّه تلبية لمتطلّبات الصحوة الإسلاميّة التي شهدتها معظم المجتمعات الإسلاميّة في العقود الماضية .
وتتحمّل النظرة المجدّدة للخطابة الحسينيّة أعباء ثقيلة في جعل موضوع الخطابة الحسينيّة مشروعاً يلامس الحياة بكلّ أبعادها ؛ فموضوع الخطابة الحسينيّة عند النظرة المجدّدة هو التركيز على جعل النهضة الحسينيّة مشروعاً تصحيحياً ، ومنبعاً لاشتقاق البرامج والأنظمة التي تساهم في انتشال الإنسان المسلم من عثراته المزمنة.
وأهم العقبات التي تواجه هذا المنهج ، هي عدم وجود المعاهد العلمية المتخصّصة الواسعة الانتشار ، التي تتكفّل بتربية أجيال جديدة يحملون على كاهلهم الاستمرار في هذه النهضة التحديثية للمنبر الحسيني ، وانعدام التنسيق العلمي والمنظّم على شكل مؤتمرات وندوات وورش عمل بين رواد هذا المنبر ؛ لرسم المناهج والأساليب التطويرية لهذا المنهج التحديثي .
وأمّا المنهج الخطابي العام فيواجه صعوبة في نقله إلى الأماكن غير الرائج فيها ؛ لعدم استساغة الجمهور توزيع أداء الرثاء والخطبة على شخصين ، إلاّ إنّ هذا المنهج قد يُكتب له النجاح إذا ما تصدّى له علماء ومثقفون يُشهد لهم بالعلمية ، والقدرة الخطابية الفائقة في طرح المفاهيم والقضايا الحساسة ، وإعادة علاج القضايا العالقة من زوايا جديدة ومبتكرة .
كما للمنهج المذكور فرص نجاح أكبر إذا استطاع أن يعالج كثيراً من مفاهيم النهضة الحسينيّة ، التي طالما أُهملت من قِبَل المنهج التراثي ، خصوصاً المسائل الفلسفية والعرفانيّة في النهضة الحسينيّة .
والمنهج المذكور يمثّل نافذة واسعة لكثير من القدرات العلمية والثقافية التي ينقصها الملكات الفنّية في أداء الرثاء ، إلاّ إنّها تتمتّع بالقدرات العلمية الواسعة ، والإحاطة الثقافية المتنوّعة القادرة على إثراء الخطبة الحسينيّة .
إنّ انفتاح الباب لهذه القدرات على مصراعيه كفيل بتنويع المصادر التي تعالج النهضة الحسينيّة ، وإخراجها من الاحتكار الذي تعاني منه الخطابة الحسينيّة من خلال إقصارها على رواد المنهجين السابقين .