دراسات حول المنبر
بحوث و مناظرات

دلّت الأبحاث النفسيّة الحديثة أنّه لا يرجى كثير نفع من وراء تعلّم القواعد ، أو تعلّم الإرشاد والوعظ من دون ذكر الأمثال ، ولاشك أنَّ ذلك له أثر ، لكنه ضئيل وضعيف في تكوين شخصيّة الإنسان ؛ فالقاعدة الأولى في خصوص ما نحن فيه من الخطباء يجب على الخطيب أن يتعرّف على الشخصيّات المتميّزة في الخطابة ، فيبذل الجهد على التخلّق بطريقتهم ، ويخلق بينه وبين منهجهم صلّة وثيقة .
فالجواب هنا : التعرّف على كيفية بلوغ الخطباء المتميّزين إلى مرحلة النضج الخطابي والانتفاع بتجاربهم ؛ فإنّ معرفة ذلك من التوفيق ، كما ورد في الحديث : (( مِنَ التوفيق حفظ التجربة )) . التجربة التي تكون عند الشخص نفسه ، والتجارب التي تكون عند الآخرين .
والآن نستعرض مجموعة من تجارب الخطباء ؛ لغرض الانتفاع بها .
سماحة الخطيب الشيخ محمد سعيد المنصوري
س : كيف وفقتم لاختيار نهج الخطابة الحسينيّة ؟
ذلك ما يرجع به الفضل للوالد (رحمه الله تعالى) ، حيث هو الذي اختار لي هذا السبيل ، كما اختار لي اُستاذاً كبيراً في علمه وفنّه ، وهو المرحوم الخطيب السيّد محمد سعيد الغريفي العرفاني ، وقام (رحمه الله) بتوفير جميع ما أحتاجه من مستلزمات الحياة والخطابة ، وأنا كنت في سنٍّ لا اُميّز فيه بين هذا العمل الشريف وغيره من المهن المتعدّدة ، وكان أيضاً يمتحنني بين فترة وأخرى بالشعر والنثر ، وكيفية الأداء ؛ إذ كان من ذوي الثقافات العالية ، فأصبحتُ من هذا وذلك ممّن لا بأس بهم .
أمّا نِعْمَ الخطيب أو جيد لا عيب فيه , فتلك درجة لم ينلها غيري حتّى أدّعي بها ، ومَنْ ادّعى ذلك كذّبته شواهد الامتحان ، والقاعدة الكلّية ؛ لما ذكرنا في الحكمة المشهورة : ( جلَّ مَنْ لا عيب فيه ) ، والكمال المطلق لله سبحانه .
س : ما هي الصعوبات التي واجهتكم في التجارب الأولى ، وكيف تغلبتم عليها ؟
الصعوبات في التجارب الأولية كثيرة ، وأهمّها الحفظ حسب الصورة الصحيحة ، والإحكام والإتقان لجميع النواحي المطلوبة ، فمثلاً التأكّد من صحة وزن الشعر ، وانسجام المعنى خصوصاً عند الاصطفاء والانتخاب من القصيدة ما يتلائم والوقت ، ثمّ حسن الأداء كلّ حسب ما يقتضيه معنى الشعر ، ثمّ التمكّن تماماً من السيطرة على المجلس ، فإذا فقد كلّ ذلك سيطر على الخطيب الخجل ، وكان نصيبه الفشل .
فعليه ، التغلّب على ما ذكرتم لا يمكن إلاّ بضبط ما بينّاه ، وكثرة الممارسة هي التي تجعل الصعب سهلاً ، والشديد من الاُمور هيّناً ، ومَنْ تردّد في شيء أعطي حكمته.
س : ما هي المعاناة النفسيّة عند مواجهة الجمهور في التجربة الأولى ؟ وكيف يمكن التغلب عليها ؟
المعاناة النفسيّة دائماً يكون سببها إصابة المرء بالخجل ، الذي من بعضه ما يسببه عدم الثقة بالنفس ، ومتى فقد الإنسان الثقة بنفسه فقد ركناً مهمّاً من أركان النجاح في الخطابة ، وغيرها ممّا يزاوله من الأعمال .
وعلاج ذلك : أن يحاول إرجاع خجله إلى الحياء ؛ لأنّ الفرق بين الحياء والخجل كالفرق بين الغبطة والحسد . الخجل يذهب بكلّ القدرات بعد علمنا بأنّه وليد عدم الثقة بالنفس ، أمّا الحياء فهو صفة عالية ، وحالة محبوبة سامية .
إنّ الله يحبّ من عباده المؤمن الحيي ، لماذا ؟ لأنّه كلّما بالغ في الشكر في العبادة ؛ في الحمد ، في الذكر ، يرى نفسه مقصّراً ، يحاول أن يقوم بعبادة أشدّ ، ويشكر أكثر ، ويحمد أوفر .
فإذاً الحياء يأخذ بيد الإنسان في الأكمل من الأعمال والأجمل ، والخجل يخرس لسان الإنسان حتّى فيما هو أعلم وأدرى به من غيره .
فإن استطاع الخطيب الخلاص من هذه الحالة واستبدالها بما ذكرنا ، فليس هناك أيّ شك لدينا من أنّه بعد برهة قليلة سيصبح من الخطباء اللامعين والناجحين ، وإلاّ فالترك خير له من المحاولة ؛ لأنّ المحاولات مع الخجل لا تجدي نفعاً .
س : هل استفدتم من مناهج الخطباء في بدء الممارسة العلميّة ؟
نعم ، كلّ ما عندنا منهم (رحمهم الله) ، إلاّ ما خرج بالدليل ؛ استفدنا منهم ومن حكاياتهم وأساليبهم وطرقهم ، هذا وإن كانت الدروس منتشرة ومبعثرة لكن بإمكان الطالب الذكي أن يأخذها من الأشجار والبراري ، والبحار والقفار ، والطيور والوحوش ، والجامدات والناطقات .
فذا الكون جامعة الجامعات ، وذا الدهر أستاذها الأكبر ، وأمّا البليد فلو واكب الدروس ليلاً ونهاراً ، واختلف على تعلميه الأساتذة الماهرون لما نال من ذلك إلاّ السقوط ، ولما زاده إلاّ الهبوط والعياذ بالله .
س : ما هو النهج الذي تميزتم به في الخطابة المنبريّة ؟
هو أولاً : الالتزام بعدم الإسهاب في كلّ حاجة من حوائج المنبر ، لا سيّما الشعر والنثر مطبقاً بذلك قولهم (عليهم السّلام) : خير الاُمور الوسط حيث التناهي غلط .
ثانياً : هو نفس نهج الخطباء مع شيء من التغيير ، عندما أذكر قصّة ، أو حكاية ، أو أيّ موضوع ، عدا ما لأهل البيت (عليهم السّلام) من أقوال وروايات ، أأتي بمضمونه لا بنصه .
ثالثاً : أمتلك في هذا الجانب شيئاً من القدرة في إنشاء الشعر والحمد لله ، فأستطيع أن أطيل في الخبر القصير ، وأختصر في الخبر الطويل مع حسن البيان ، وطلاقة اللسان ، مع الاحتفاظ بأصل المعنى .
س : بعد هذا العمر المبارك في الخطابة هل يمكن أن تذكروا لنا المراحل التي مررتم بها حتّى بلغتم النضج في المنهج الخطابي لكم ؟
المراحل التي مررنا بها من أشدّها دراسة اللغة ، وحفظ قواعدها ، وما نمتحن به منها ، وحفظ الأشعار والأخبار ، والتطبيق والأداء .
وإنّي اعتبر المرحلة الأولى في الخطابة من أشدّ المراحل التي مرّت بي ومررت بها ، ولكن كلّما انتقلت من مرحلة إلى المراحل التالية تخفّ الوطأة ، ويهون الأمر حتّى أصبحت خطيباً قدر الإمكان .
س : ما هي نصيحتكم للخطيب المبتدئ ؟
النصيحة للخطيب المبتدئ أن يكتب خير ما يسمع ، ويحفظ خير ما يكتب ، ويتكلّم بخير ما يحفظه ، وأن لا يعجب بنفسه ولا بزيّه ، ولا بصوته ؛ فإنّ العجب آفة التوفيق ، وأن لا يترك المزاولة والممارسة لعلمه ؛ فإنّ الترك آلة النسيان ، وأن يتأثّر بالشيء الذي يذكره حتّى يؤثر في غيره ؛ فإنّ ما يخرج من القلب يقع في القلب .
فضيلة الخطيب السيّد جاسم الطويرجاوي
طلبت الملائكة بما فيهم جبرائيل (عليه السّلام) الخدمة للإمام الحسين (عليه السّلام) ، وقد أدرك هذا المعنى الشاعر أبو نؤاس لمّا سُئل عن سبب تركه مدح الإمام الرضا (عليه السّلام) ...
فعلامَ تركت مدح ابن موسى والـخصال التي تجمعنَ iiفيهِ
قـلت لا أستطيع مدح iiإمامٍ كـان جـبريلُ خادماً iiلأبيه
فالخطيب خادم الحسين (عليه السّلام) ، فالإنسان الذي يتصدّى لهذه الخدمة يجب أن يتحلّى باُمور :
1 ـ الصبر على المكاره
2 ـ يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه
3 ـ صادق اللهجة
4 ـ أن يعبّر عن أهل البيت (عليهم السّلام) بأفعاله وأقواله
5 ـ حاول أيّها الخطيب أن تستقطب المجتمع وتجعله مرتبطاً بك ، مشدوداً إليك ، ولا يكون العكس ، بمعنى لا تركض وراء عطاء الآخرين ، لا تعمل لإرضاء الآخرين ؛ اجعل الناس تتشرّف بقراءتك ، تتشرّف بصوتك ، وأن تكون لك الهيمنة ، ولا تترك للآخرين أن يفرضوا عليك شيئاً ؛ اقرأ هكذا ولا تقرأ هكذا .
أقول : أن تكون لك الهيمنة ، ولكن من غير غطرسة وتكبر ورياء ، وإنّما هيمنة مع التواضع ، والحبّ للناس من الأعماق .
وممّا يوصى به : أن تقرأ عند الغني والفقير ، لا تفرّق بين هذا وذاك ، اقرأ في كلّ مكان تُدعى له ، اقرأ في الشاعر ، في السوق ، على ظهر البعير ، لكن بحسب المناسب ما لم يكن فيه سخرية واستهزاء .
6 ـ وممّا أذكره إنّي تشرّفت في زيارة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) , وكانت أوّل زيارة لي ، واقترنت هذه الزيارة مع شهادة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ، وهناك جمع غفير من الزائرين مستعد لسماع مجلس عزاء الشيخ ( كاظم نوح ) .
دخلت وطلبت منه الرخصة لأرتقي المنبر بدلاً عنه . التفتْ إلى أخلاق الشيخ , لم يمانع ولم يبادرني بأيّ سؤال ، وإنّما شجّعني على ذلك . هكذا يجب أن تكون أخلاق الخطيب الحسيني .
7 ـ وممّا أذكره إنّ أحد الخطباء قرأ في مجلس وأبكى القلوب والعيون بمصاب أبي عبد الله (عليه السّلام) ، ولمّا انتهى المجلس بادره شخص من الحاضرين ينتقده على ما قرأ ، ووصف المجلس بعديم الفائدة ، وقدحه بكلمة عاميّة نابية . استقبل الخطيب هذا الكلام بقلب رحب ، وتغافل عنه ، وأوعده أن يوفّق في المرّة القادمة .
التفتْ إنَّ الخطيب خادم الحسين (عليه السّلام) لا يغيظه أمر شخص .
8 ـ اخلص لمَنْ تخدمه ، فالمخدوم أخلص لك بدمه .
9 ـ أن لا تتعامل مع قضية الحسين (عليه السّلام) بالمال ؛ ليكن شعارك الحسين .
10 ـ نافس الخطباء الآخرين ، واجتهد أن تكون بمنزلتهم ومقامهم العالي ، ولكن لا تنافسهم حسداً(1) .
تجارب الدكتور الشيخ أحمد الوائلي
كتاب الشيخ ( تجاربي مع المنبر ) غني بالتجارب والنصائح والتوجيهات ، وينبغي لكلّ خطيب الاستفادة منها ، ونذكر هنا ما نراه مناسباً لهذا المقام ممّا ندم على عدم فعله .
1ـ هو إنّي لم أكمل الدورات الدراسيّة المتعلّقة بالعلوم الإسلاميّة : الفقه واُصول الفقه والفلسفة ، وكلّ مشتقّات العربية إلخ ؛ فقد كان ينبغي عدم الاكتفاء بدورات عاديّة غير مكثّفة ، بل لا بدّ من إحاطة تامّة بتلك العلوم التي تعتبر أساساً ضروريّاً للمنبر ، خصوصاً وأنا في يومها في دور الصبا ، ومعه تسهل الصعاب ، ويستوعب الذهن ، وترتفع الهمّة ، وليس هناك شواغل ممّا جدّ بعد ذلك .
لقد برهنت لي تجاربي أنّ الخطيب ينبغي أن يكون على دراية تامّة بالعقائد والأحكام ، وما هو لصق بأفق المعرفة الإسلاميّة ؛ وبدون ذلك سيبقى الشعور بالنقص ، بل سيكون عرضة لتبكيت بعض مَنْ يُحسبون على أهل العلم لسبب وآخر .
وفي الوقت نفسه لا بدّ من الأخذ بنصيب وافر من العلوم الحديثة ، والإلمام بلغتين رئيسيتين على الأقل ؛ لشدّة الحاجة لذلك في
ميادين مختلفة(2) .
2 ـ ومن الاُمور التي ندمت عليها ، وأعتقد أنّها جنت على منهج كان ينبغي أن يكون سائداً ، تلك قضية تعدد المجالس باليوم الواحد ، ممّا يكون على حساب الأصالة ومكانة الخطيب ، وتحويل المأتم إلى ممّارسة خالية من الفائدة ؛ ذلك إنّ اقتصار الخطيب على مجلس يعطيه الفرصة للإجادة ، والاستيعاب للموضوع ، ويصعد به إلى مستوى المحاضر المحترم الذي يقصد ويستفاد منه ، وفي الوقت نفسه يجعل المجلس مدرسة تربّي وتبني .
وسيقول البعض ـ وهو على حقّ ـ إنّ المجلس الواحد ليس له ذلك المردود المادي الذي يسدّ حاجة الخطيب ويكفل معاشه ، والمفروض أنّه حبس نفسه على هذه المهنة ، ولا طريق له للتعيّش بسواها ، وهذا هو سرّ المشكلة ؛ فإنّه يعدّد ليحصل على أكبر قدر من المال يسدّ حاجته .
ومع إيماني بصحة ذلك ، فإنّي أقول : إنَّ هذا منهج لو دأب الخطباء على تبنّيه لربّما أصبح سائداً ، وارتفع معه أجر الخطيب ، وترتّبت عليه باقي الإيجابيّات ، ولا بدّ من تضحية بادئ الأمر(3) .
تجربة اُخرى للشيخ
3 ـ كانت في مدرسة المحروم آية الله الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ، وكان عنده مجلس يعقد في كل يوم جمعة ، ويسميه النجفيّون ( عادة ) ، وكنت يومئذ صبيّاً أرتدي الكوفيّة ، ولم ألبس العِمة بعد ، فحضرت في يوم الجمعة , فجلس الشيخ , واتّفق أن تأخّر الخطيب ذلك اليوم ، وهو المرحوم الشيخ حسن ابن الشيخ كاظم السبق ، فأشار بعض الحضور إليّ ، ونبّه الشيخ بأنّي ممّنْ يقرؤون التعزية ، فقال لي الشيخ : تفضّل واقرأ لنا . ففرحت بهذا الطلب ، وشعرت باعتزاز بأنّي اقرأ في مجلس كاشف الغطاء ، فشرعت بالقراءة .
وأذكر أنّي صدّرت مجلسي بالحديث القدسي : (( لولا شيوخ ركّع ، وأطفال رضّع ، وبهائهم رتع ، لصببت عليكم البلاء صبّاً )) . وشرحت الفقرات الثلاث ، وجعلت فقرة الأطفال آخر فقرة ؛ لأتخلَّص منها للرضيع ، ثمّ ذكرت أنّ الحسين (عليه السّلام) في آخر رجعة طلب رضيعه فناولته إيّاه زينب ، وهي في حالة حزن شديد ، فسلاّها الحسين (عليه السّلام) بقوله : (( تعزّي بعزاء الله ، ولا يذهبنَّ بحلمك الشيطان ، واعلمي أنّ أهل السماء يموتون ، وأهل الأرض لا يبقون ...)) إلخ .
هكذا قرأت الرواية ، وكان الشيخ (رحمه الله) بكّاءً وجهوري الصوت ، فلّما فرغت مسح دموعه ، وقال : ادنُ يا بُني ، إنّي أرجو لك أن تكون شيئاً ، وبارك الله فيك ، ولكن يا بُني إنّ الأثر الذي ذكرته ليس كما ذكرت ، بل اعكس تُصب ؛ إنّ الحسين (عليه السّلام) لا يقول : اعلمي أنّ أهل السماء يموتون ؛ لأنّ أهل السماء ليسوا من جنس مَنْ يموت ، إنّهم من المجرّدات ، وأخذ الشيخ (تغمّده الله برحمته) يشرح وينصب كالسيل ، وكان درساً من أروع الدروس نبّهني أن أضبط النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)(4) .
________________
(1) في حديث له في معهد الحسنين للخطابة بتاريخ 17 / جمادى الثاني / 1419ﻫ.
(2) تجاربي مع المنبر ـ الشيخ الوائلي / 115 .
(3)المصدر نفسه / 116 .
(4) تجاربي مع المنبر ـ الشيخ أحمد الوائلي / 107 .