الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

أ ـ في إيران:
أمّا في إيران فمنذُ أن وصَلها نبأ الحادث المحزن باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وآله وصحبه، فقد عمّت الأحزان الأوساط الإيرانيّة من شعبيّة ورسميّة؛ نَظراً لأواصر المصاهرة التي رَبطت الإيرانيين الفرس بأسرة الإمام الحسين (عليه السلام)، بتزوجه الأميرة شهربانو (شاهزنان) بنت الملك يزدجرد، التي ولَدت له الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، مضافاً إلى ولاء كبار رجال إيران للإمام علي بن أبي طالب وآله وبيته: كسلمان الفارسي، وغيره.
ثُمّ تحوّلت هذه الأحزان بصورة تدريجيّة إلى مناحات ومآتم محدودة في داخل الدور وفي المجتمعات الخاصّة، وتطوّرت بعد ذلك، حيث اتّسعت دائرتها وأخذت تقام بصورة عَلنيّة على شكل إنشاد المراثي، وذكر واقعة الاستشهاد، بالاستناد إلى المروّيات على ألسِنة الثقات، ويحدِّثنا التاريخ بأنّ كثيراً من روؤساء قبيلة الأشاعرة وأفخاذها، اضطرّوا إلى الهجرة من الكوفة إلى أصفهان ثُمّ إلى (قم) الحاليّة وضفاف نهرها للانتجاع، بعد أن قَتل الحجّاج بن يوسف الثقفي زعيمهم الأكبر محمد بن سائب الأشعري، وبعد أن أخذت النَكبات تترى عليهم من قِبَل الحجّاج وعمّال الأمويين.
ومنذُ استقرار هؤلاء المهاجرين التابعين للإمام علي (عليه السلام) وآله في هذه الناحية، خلال مدّة عشر سنوات ـ أي من سنة (73 هـ) إلى سنة (83 هـ) ـ شرَعوا بإقامة أُسس بناء مدينة (قم) ونشر العمران فيها، كما بدأوا فور سكناهم هنا بإقامة المآتم والمناحات في مجتمعاتهم الخاصّة ومجالسهم السرّية على شهيد الطف (عليه السلام)، خاصّة أنّهم كانوا قريبي عهدٍ بالفاجعة وتفاصيلها وملابساتها، مردّدين فيها ما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام) وآله في مذبحة عاشوراء.
ولقد استمرّ هؤلاء الأشاعرة الشيعة على إحياء ذكرى الطف الحزينة في يوم عاشوراء، من محرّم كلّ سنة وإقامة العزاء فيه، ثُمّ تناقلَ الخَلف عن السلف هذا التقليد الحزين، إلى أن حلّت الآنسة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ـ وأخت الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) ـ هذه المدينة سنة (201 هـ) آتية من مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقاصدة أخاها الإمام الرضا (عليه السلام) في مرو بخراسان، ولكنّ الأجل لم يُمهلها فكانت مدّة إقامتها في هذه المدينة (17) يوماً مريضة، طريحة الفراش في دار موسى بن الخزرج بن سعد الأشعري، وبعد وفاتها دُفنت في أرض كانت لهذا المُضيّف الجليل، وأصبحَ قبرها روضة فيما بعد وللآن يقصده الجميع للزيارة والتبرّك وإقامة المأتم الحسيني حوله.
وبعد دفن هذه العلويّة العذراء التي اشتهرت بـ(معصومة قم)، تَعاظمت سلطة الشيعة الأشعريين في هذه الناحية، واتّسع نطاق إقامة مآتم ذكرى شهيد الطف الحزينة بين مختلف طبقات سكّان هذه المدينة وما جاورها من القُرى والقصبات.
وهكذا كان الأشاعرة ـ المهاجرون من الكوفة إلى هذه الناحية في إيران ـ من الأوائل الذين بذروا بذور التشيّع لآل علي (عليه السلام) فيها، مستغلّين موضوع استشهاد الإمام (عليه السلام) بكربلاء، ومقيمين مآتمه وعزاءه ومجالس النياحة عليه.
أمّا في مَرو بخراسان فعلى عهد الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) ـ الذي بَدأ منذُ أُخريات القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري ـ فقد تعزّزت نهضة إقامة المآتم والمناحات وإحياء ذكرى استشهاد الحسين (عليه السلام)، بالأخص وإنّ سياسة المأمون العبّاسي كانت تميل إلى مُسايرة العلَويين، وإطلاق الحريّة لهم في إقامة شعائر الحزن والعزاء على الإمام الشهيد، وقد مرّ ذكر تفصيل ذلك في الفصل الخاص بالمناحة على عهد الإمام الرضا وابنه الإمام محمّد التقي (عليهما السلام).
وبعد استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) في طوس، تَبلوَرت حركة إقامة المناحات وحفلات العزاء على الإمام الشهيد في إيران، وتطوّرت بتطوّر سياسة الحكومات التي كانت تتولّى السلطة في أنحاء إيران ومناطقها المختلفة بين القوّة والضعف، فكانت هذه الحركة تسير سيرها المدّي في بعض الأصقاع التي كانت تحكمها السلطة الموالية لآل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كالأمراء البويهيين، وتسير سيرها الجزري في الأقاليم الأخرى التي تتولّى السلطة فيها حكومة تُعادي العلَويين وتناهضهم، وقد استمرّت هذه الحالة إلى أن استولى على الحكم في إيران الملوك الصفويون، الذين استطاعوا أن ينشئوا في إيران حكومة مركزيّة تسيطر على جميع الأقاليم الإيرانيّة، وأن يوجِدوا في هذه البلاد وِحدة متماسكة تحكمها حكومة مركزيّة قويّة واحدة، هي الدولة الصفويّة.
وقد اهتمّ ملوك هذه الدولة الشيعيّة اهتماماً عظيماً بالعزاء الحسيني ومأتمه في داخل البيوت وخارجها، وفي المساجد، والتكايا، والمعابد، والأسواق، والشوارع، والساحات العامّة، وحتى في البلاط ودوائر الدولة، كما تنوّعت وتشعّبت أساليب هذه المناحات وعمّت جميع طبقات الشعب، وأصبحت تقاليد متأصِّلة في النفوس، كما أنّ الحكومات التي خَلَفت الدولة الصفويّة في إيران: كالأفشاريّة، والزنديّة سارت على نفس نهج تلك الدولة، في إحياء هذه الذكرى الحزينة، وإقامة شعائرها ومتابعة تقاليدها، وخاصّة على عهد الملوك القاجاريين وحتى الوقت الحاضر.
وأدرج فيما يلي بعض ما عثرتُ عليه في بطون الكتب والأسفار عمّا تقدّم ذكره في هذا الأمر: 1 ـ جاء في كتاب (الشيعة والتشيّع) للسيّد أحمد الكسروي ما نصّه:
(فمن الواضح أنّ الشيعة قد رجوا من ذكر مصاب الحسين والنوح عليه فوائد لهم، والظاهر من أقوال المؤرِّخين أنّ إقامة شعائر المأتم، وإحياء ذكرى مصائب آل علي (عليهم السلام) وإنشاد المراثي وإقامة العزاء على الحسين، قد راجت في إيران لأوّل مرّة على أيدي البويهيين، وإنّ أحمد مُعز الدولة رحلَ من إيران إلى بغداد سنة 334، وأعلنَ المذهب الشيعي فيها رسميّاً).
2 ـ وجاء في الصفحة (87) من الكتاب نفسه ما نصّه:
(ثُمّ لمّا قامَ الصفويون في إيران أشاعوا المناحة بين الإيرانيين؛ فأقبلَ العامّة عليها إقبالاً عامّاً، وكبُرت وظهرت فيها أعمال: ضرب الجسد بالسلاسل، وجرح الرأس، وإقفال البدن، وغير ذلك ممّا لا حاجة إلى عدّها...) الخ.
3 ـ وجاء في الصفحة (88) منه ما عبارته:
ففي أيّام القاجاريين في إيران كانت إقامة المأتم والاحتفال بمصاب الحسين شغلاً شاغلاً للشيعة، يقضون نصفاً من ساعاتهم فيها، وكان الناس يزيدهم إقبالاً عليها ما كانوا يسمعون من الأحاديث في فضل البكاء، فقد روي عن أئمّة الشيعة أنّه: (مَن بكى أو أبكى أو تباكى وَجبت له الجنّة)، فمن المُسلّم عند الشيعة أنّ البكاء على الحسين من أفضل العبادات، وإنّ مَن بكى عليه غفرَ الله ذنوبه ولو كانت عدد الرمال...) الخ.
4 ـ ولقد سمعتُ من بعض المعمّرين ـ الذين أدركوا عهد قيام الملك ناصر الدين شاه، كبير ملوك السلسلة القاجاريّة، في زيارته للعتبات المقدّسة في العراق سنة 1287 هـ ـ أنّه حينما كان يزور مشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وهو عند ضريحه المطهّر، إذ خطبَ أمامه أحد خطباء المنبر الحسيني خطبةً مؤثرة جداً عن الفجيعة الحسينيّة، وتطرّق أثناء كلامه إلى كلمة يقال إنّها بَدرت يوم عاشوراء من الإمام الحسين (عليه السلام) في أحرج ساعاته، وهي: (هل من ناصرٍ ينصرني؟) فقال الخطيب صارخاً: إنّ ناصرك قد أتى، وهو الآن بين يديك لينصرك فضجّ الجميع بالبكاء، وكان نحيب ناصر الدين شاه وبكاؤه أعظم منهم، وإنّه رفعَ تاجه من رأسه وألقاه بحرارة أمامَ الضريح من شدّة التأثير.
5 ـ جاء في الصفحة (220) من كتاب (جولة في ربوع الشرق الأدنى) لمؤلِّفه محمد ثابت المصري، المطبوع في القاهرة سنة (1934 م)، عند زيارته لمدينة مشهد الرضا في إيران وهي حاضرة إقليم خراسان ما نصّه:
(أمّا شهرا محرّم وصفر فأيّام حِداد، لا يُدار فيها لهو ولا موسيقى، ويحيون لياليها بجلسات الحِداد، يستمعون لقصص علي والحسين وهم يبكون، وغالب البيوت تراعي ذلك ليلة الجمعة من كلّ أسبوع حتى في غير هذين الشهرين، وفي يوم عاشوراء ـ العاشر من المحرّم ـ تقام حفلات في البلاد كلّها لمأساة الحسين).
ويستطرد الكاتب فيقول: (خرجتُ من حرم الإمام الرضا إلى الفناء وإذا في كلّ ركن من أركانه عالِم ـ خطيب ـ يرتقي منبراً وحوله خلق كثير جلوس على الأرض في وجوم وشبه ذهول، وهو يقصّ عليهم أنباء علي والحسن والحسين والأسرة الشريفة كلّها، وجميعهم يبكون، وكلّما أشارَ في قوله إلى الفاجعة صاحوا عالياً ولطموا جِباههم وخدودهم في قرقعة مؤلمة، ومنهم: الطفل، والمراهق، والسيّد، والعجوز، والكهل الفاني والمثقف، والأمّي الجاهل، وكنت أعجب لسيل دموعهم وبكائهم المر، وذلك الوعظ وقراءة المقتل يظلّ طوال اليوم في جميع أركان الأفنية...) الخ.
ويواصل الكاتب كلامه فيقول: (وبعد صلاة الغروب أخذ العلماء يقصّون على الناس نبأ فاجعة علي والحسين، والجماهير حولهم).
6 ـ جاء في الصفحة (207) من كتاب (تاريخ خلفاي فاطمى) باللغة الفارسيّة، تأليف المرحوم عبد الرحمان سيف آزاد، ضمن البحث عن أجداد آقا خان الأسماعيلي، وانتقالهم بعد استيلاء هولاكو المغولي على قلعة (الموت) قرب قزوين في إيران، مركزهم الأصلي إلى قرية (انجيدان) من قرى مدينة (آراك) بوسط إيران، ما ترجمته:
(من الآثار القيّمة التي لا زالت قائمة في الحسينيّة العائدة للشاه خليل الأول في انجيدان (انگيدان بالكاف الفارسيّة)، والتي يحافظ عليها سكّان هذه الناحية حتى الآن بكل احترام وتكريم، هو تمثال نخلة كبيرة جدّاً وصلبة، مصنوعة من مادّة رخاميّة، يرفعها سكّان انجيدان في كلّ سنة أيّام عاشوراء وفي مواسم إقامة العزاء الحسيني على أيديهم، وفي مقدّمة الأعلام والجهازات الأخرى العائدة لسائر القرى، والسير بهذه النخلة، يتبعهم الألوف من المشتركين في مراسم العزاء بكلّ إخلاص وحزن في مختلف القرى حتى يصلوا إلى القرب من مدينة (آراك)، وفي ضواحيها يتبرّك الجميع بها بكلّ احترام وتعظيم، وبعد الانتهاء من مراسم العزاء خلال عشرة عاشوراء تُعاد النخلة إلى مكانها في حسينيّة الشاه خليل الأول للحفظ).
7 ـ لقد ذكرت الصُحف الطهرانيّة بمناسبة إقامة العزاء الحسيني في مدينة مشهد في العشرة الأولى من محرّم، سنة 1392 هـ، ما ترجمته:
(إنّه لأوّل مرّة في تاريخ إيران تفد على مدينة مشهد أوّل جماعة منظّمة بمواكبها الحزينة، ومؤلّفة من نُخبة نساء مدينة بروجود، تشكّل السبايا والمواكب الحسينيّة وتسير في شوارع مدينة مشهد وفي أفنية صحن الإمام الرضا (عليه السلام)، على غِرار مواكب الرجال، وتنشد الأهازيج الحزينة وترثي الإمام الشهيد، وتضرب على الصدور، وتنفش الشعور وهي مجلّلة بالسواد).
8 ـ جاء في الصفحة (370) من (موسوعة العتبات المقدّسة)، قِسم كربلاء نقلاً عن كتاب (تاريخ إيران) باللغة الانجليزيّة، لمؤلِّفه السربرسي سايكس، عن مجزرة كربلاء بعد بيان الحادث المفجع مفصّلاً، ما نصّه: (إنّ هذه الفاجعة كانت أساساً لتمثيل المسرحية الأليمة سنويّاً، ليس في إيران التي تَعتبر العقيدة الشيعية مذهباً رسميّاً فيها فقط، بل في كثير من البلاد الآسيويّة التي يتيسّر فيها وجود المسلمين الشيعة أيضاً، وقد شاهدتُ هذه المأساة تمثّل أمامي مرّات عديدة في إيران، ولذلك يمكنني أن أعترف وأقر بأنّ الاستماع إلى وَلولة النساء الصارخة، ومشاهدة الحزن الذي يُغشي الرجال كلّهم، يؤثر تأثيراً عميقاً في المرء بحيث لا يسعه إلاّ أن يصبّ نقمته على الشمر ويزيد بن معاوية، بقدر ما يصبّه سائر الناس الحاضرين.
والحقيقة أنّ هذه المسرحيّة الأليمة تدلّ على قوّة عاطفيّة جامحة تمتلئ بالحزن والأسى الذي لا يمكن أن تقدّر بسهولة، وإنّ المَناظر التي شهدتها بأُمّ عيني ستبقى غير منسيّة في مخيّلتي ما دمتُ في قيد الحياة).
9 ـ وجاء في الصفحة (7) من مجلّة (نامه استان قُدس رضوي) العدد المؤرّخ 1391 هـ، وهي المجلّة التي تصدرها باللغة الفارسيّة سدانة مشهد الإمام الرضا في خراسان، ضمن مقالٍ طويل ما ترجمته:
(كان البويهيون من الشيعة المخلصين وقد بذلوا جهدهم من الصميم لنشر المذهب الشيعي وإشاعة أحكامه ومبادئه، وقد نقلَ المؤرّخون أنّ إقامة شعائر المأتم الحسيني ـ وإحياء ذكرى مصائب آل علي (عليهم السلام)، وإنشاد المراثي، وإقامة العزاء على الحسين الشهيد ـ قد راجت رواجاً عامّاً في إيران لأوّل مرّة على عهد البويهيين، كما أنّ أحمد مُعز الدولة رحلَ من إيران إلى بغداد سنة (334 هـ)، وأعلنَ المذهب الشيعي فيها رسميّاً، وأمرَ بلعن معاوية على المنابر في بغداد، كما أمرَ سنة (352 هـ) بإقامة الحِداد على الحسين يوم عاشوراء وغلّق الحوانيت والأسواق فيه، ولبسَ الناس في هذه اليوم السواد، وناحت النسوة فيه على الحسين مشعّثات الشَعر).
ب ـ في تركيا:
وفي الصقع التركي الذي كان يحكمه العثمانيون إلى ختام الحرب العالميّة الأولى، ثُمّ الحكومة الجمهوريّة التركيّة العلمانيّة الحاليّة، فأينما وجِد أفراد من الشيعة وجِدت معهم هذه المآتم والنياحات على الإمام الحسين وآله وصحبه، وإن كانت على صورة مصغّرة وفي البيوت.
وقد نقلَ لي بعض زوّار العتبات المقدّسة في العراق من الأتراك ـ من سكّان القسم الشرقي من الأناضول، عند مرورهم عبر طهران إلى العراق لأداء مراسم زيارة مشاهد الأئمّة (عليهم السلام) في كربلاء، والنجف، والكاظمية، وسامراء، وهم في الغالب من المزارعين في تلك المناطق التركيّة النائية المحاذية لآذربيجان الإيرانيّة ـ بأنّهم يقيمون المآتم والنياحات على الإمام الشهيد في بعض أيّام الأسبوع طيلة السنة، في الدور وفي مجالس خاصّة يشترك فيها مَن يكون حاضراً، ويلقي فيها خطيب المنبر الحسيني ما يناسب المقام والمجلس، من مآثر الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر الأئمّة الاثني عشر، ويختم كلامه ببيان نبذة عن مجزرة كربلاء واستشهاد آل بيت النبي فيها.
أمّا في العشرة الأولى من محرّم، ولا سيّما في يومَي تاسوعاء وعاشوراء، وفي يوم العشرين من شهر صفر (الأربعين) ولياليها، فتقام المناحات بتفصيلٍ في مختلف الأماكن والقرى هناك، ويُتلى المقتل ويشترك الرجال والنساء والشيوخ والشباب وغيرهم بإحياء هذه الذكريات الحزينة، وحتى أنّ كثيراً من أبناء السُنّة يشتركون مع الشيعة في هذه المراسيم والشعارات الحزينة.
وأضافَ ذلك الزائر: بأنّ الشيعة في هذه المناطق التركيّة ـ ولا سيّما الصوفية منهم ـ على الطريقة البكتاشيّة التي تميل إلى الشيعة، ينتظرون سَنَتهم ويعدّون أيامها ولياليها، مُغتنمين فرصة حلول شهرَي محرّم وصفر؛ ليعدّوا العدّة فيهما للسفر إلى العراق عن طريق إيران، لأداء فروض زيارة أضرحة أئمّتهم (عليهم السلام) في العتبات المقدّسة، والاشتراك في مراسيم العزاء التي تقام في هذه العتبات، وخاصّة في كربلاء، وبذلك يكونون قد أدّوا واجباً دينيّاً، ورفعوا حملاً عن كاهِلهم.
وأمّا سبب زيارتهم لهذه العتبات عن طريق إيران، فهو: رغبتهم في انتهاز الفرصة لزيارة ضريح الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، في مشهد (خراسان) وهم في طريقهم إلى العراق.
وختمَ الزائر المذكور كلامه هذا بقوله: إنّ سكّان هذه المناطق الشرقيّة من الأناضول، السائرين على مذهب الشيعة، هم من بقايا الأتراك الآذربيجانيين، ممّن اضطرّتهم ظروف الحروب المتوالية ـ بين الإيرانيين والعثمانيين في القرون الماضية ـ إلى الهجرة من آذربيجان الإيرانيّة إلى الأناضول التركيّة.
وفيما يلي أدرج النبذة التالية عن النياحة في تركيا:
1 ـ جاء في الصفحة (198) من كتاب (المجالس السَنيّة في ذكرى مصائب العترة النبويّة) المارّ ذكره، نقلاً عن رسالة للدكتور (ماربين) الألماني في فلسفة نهضة الحسين وثورته الكبرى ومأتمه، ممّا يدلّ على إقامة النياحات على الإمام الشهيد في تركيا قوله:
(حضرتُ مجالس إقامة العزاء على الحسين (عليه السلام) مراراً في اسطنبول، مع مترجم خاص، فسمعتهم يقولون: الحسين الذي هو إمامنا ومقتدانا، وطاعته وإتّباعه واجبان علينا، لم يتحمّل الضيم، ولم يدخل في طاعة يزيد؛ ولأجل حفظ شرفه وعلوّ حسبه وارتفاع مقامه، بذلَ نفسه، وأولاده، وعياله، واستعاضَ عن ذلك بحسن الذكر في الدنيا والشفاعة في الآخرة والتقرّب من الله، وقد خسرَ أعداؤه الدنيا والآخرة...) الخ.
وكانت مجالس النياحة والعزاء على الحسين الشهيد تُقام أيضاً في اسطنبول، خاصّة في يوم عاشوراء من كلّ سنة من قِبَل الجاليّات الشيعيّة المقيمة في هذه المدينة الكبرى، ويحضرها أحياناً جماعات من السُنّة ولا سيّما الرجال الرسميّون، مواساةً منهم للجاليّات الشيعيّة.
ج ـ في أفغانستان:
أمّا في بلاد الأفغان فحيث إنّ الجالية الشيعيّة كثيرة العدد فيها وتُناهز المليوني نسمة تقريباً، وهي من ذريّة أولئك الخراسانيين الموالين لآل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذين هاجروا من طوس وسائر مُدن خراسان إلى أفغانستان واستوطنوا مُدنها، ولا سيّما مُدن: قندهار، وهراة، وبشاور، وكابل، ومزار شريف، وجلال آباد وغيرها، وذلك بعد استشهاد الإمام الرضا (عليه السلام) في مدينة طوس سنة 203 هـ، وضغط الحكومات السُنيّة التي توالت على الحكم في خراسان وما جاورها من البلدان عليهم؛ فإنّ هؤلاء قد بقوا متمسّكين بموالاتهم لآل البيت (عليهم السلام)، واستمرّوا على ما كان قد اعتادَ عليه آباؤهم وأجدادهم من إحياء ذكرى فجيعة كربلاء ومجزرة الطف.
وقد اتّسعَ نطاق هذه الذكرى وإقامة مجالس العزاء ومجتمعات النياحة على الحسين فيها سرّاً وعَلناً بمرور الزمن، حتى أصبحَ من أهم تقاليد الشيعة في أفغانستان خاصّة على عهد إمارة طاهر الشيعيّة في هراة، وبعض وزراء الشيعة من أفغانستان. وكانت ولم تزل هذه المجالس العزائيّة تقام في المُدن الأفغانيّة الرئيسيّة التي تسكنها الأسر الشيعيّة، وبالأخص المُدن والقرى والدساكر التي تقع على الحدود الإيرانيّة وحتى أنّ في بعض البلدان أُنشئت الحسينيّات، وأُقيمت المزارات خصّيصاً لإقامة مجالس العزاء الحسيني ومواكب الحزن فيها.
ومنها: (مزار شريف) المُقام في قرية خيران من قرى مدينة (بلخ)، ذلك المزار الذي يدّعي الأفغانيون أنّه مثوى جسد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث نُقل من النجف بعد مرور ما يقرب من قرن على مدفنه فيها إلى هذه القرية.
وتُقام في ساحة هذا المزار والتكية المجاورة له أيّام العشرة الأولى من المحرّم كلّ سنة النياحات ومجالس العزاء، ومواكب الحزن على الإمام الحسين (عليه السلام) ويشترك فيها أبناء السُنّة أيضاً.
ومن أكبر ملوك الأفغان ـ الذي كان يشجِّع العزاء الحسيني فيها ـ الملك محمود، الذي كان يميل إلى الشيعة، وعاشَ في القرن الثالث عشر الهجري.
وقد وقعَ بيدي قبل أكثر من ربع قرن، الجزء الأول من كتاب باللغة الفارسيّة مطبوع في كابل، باسم: (تاريخ مزار شريف واقع در بلخ) أي (تاريخ مزار شريف الواقع في بلخ) لمؤلِّفه السيّد حافظ نور محمد، وهو من القطع الكبير، ويقع في (105) صفحة، ويتضمّن تفاصيل عن كيفيّة نقل رُفات الإمام علي بن أبي طالب إلى القرية المذكورة ـ كما يُدّعى ـ ومعتقدات الأفغانيين عموماً في ذلك، وتبرّكهم بهذا المزار، وذكرَ الموقوفات الجسيمة التي أُوقِفت من قِبَل السلاطين والعظماء والسراة والأثرياء عليه.
وفي بعض صفحات هذا الكتاب ـ المزوّد بتصاوير كثيرة عن قُباب ومآذن وضريح المزار المذكورة ـ ذكرَ عمّا تقام في أرجائه وأفنائه من مجالس الذكر والدعاء، ومنها مجالس العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام).
وقد صُدِّرت الصفحة الأولى، وكذا غلاف الكتاب بالحديث النبوي الشريف: (أنا مدينةُ العلم وعليٌ بابها).
وتكملة للبحث عن النياحة على الإمام الحسين في البلاد الأفغانيّة، أنقل تالياً ما ذكرهُ السيّد جمال الدين الأسد آبادي المشتهِر بالأفغاني في كتابه (تتمّة البيان في تاريخ الأفغان)، المطبوع سنة 1901 م ـ 1318 هـ في القاهرة عن الشيعة في أفغانستان، وتقاليدهم وشؤونهم وإقامتهم العزاء الحسيني في هذه البلاد:
1 ـ فقد جاء في الصفحة (150) منه ما نصّه:
(وجميع الأفغانيين سنّيون، مُتمذهبون بمذهب أبي حنيفة لا يتساهلون ـ رجالاً ونساءً، وحَضريين وبدويين ـ في الصلاة والصوم، سوى طائفة (نوري)، فإنّهم متوغِلون في التشيّع ولهم محاربات شديدة مع جيرانهم السنّيين، ويهتمّون بأمر مأتم الحسين في العشرة الأولى من محرّم، ويضربون ظهورهم وأكتافهم بالسلاسل مكشوفة).
ويستطرد الكاتب في الصفحة (152) ويقول: (والأفغانيون مع شدّة تعصّبهم للدين والمذهب والجنس لا يعارضون غيرهم في حقوقهم، ولا يتحاشون عن أن يروا شيعيّاً أو غير مسلم يقيم مراسم دينه ومذهبه، ولا يمنعون المستحقّين منها من نيل المراتب العالية في حكومتهم، فإنّك ترى أرباب المناصب في البلاد الأفغانيّة من الشيعيين (القزل باش).
وفي الصفحة (165) منه، عندما يبحث السيّد جمال الدين عن القبائل الأفغانيّة، ويتطرّق إلى قبيلة (هزاره)، يقول:
(وهذه القبيلة على مذهب الشيعة، إلاّ فصيلة شيخ علي والجمشيدي، لكنّها ليست على شيء من هذا المذهب إلاّ بغض الخلفاء، ومحبّة علي، وإقامة مأتم ابنه في عاشوراء، بضرب السلاسل على الصدور والظهور، ولا يتّقي آحاد هذه القبيلة إظهار مذهبهم، مع أنّ التقيّة من واجبات مذهب الشيعة، حتى لو سُئل أحدهم عن مذهبه لقال بغلوّ وبدون مبالاة: إنّي (عبد علي) ولهم زيادة اعتصام بمذهبهم هذا).
وممّا يحسُن سردهُ هنا: أنّ سنيّاً عرضَ التسنن على جارية من الشيعة كانت عنده فأبت، فعزّرها وزَجرها وألحّ عليها، فاستشاطت غيظاً وقالت: (أهونُ عليّ أن أكونَ كلبة ولا أكون سنيّة).
وفي الصفحة (170) من الكتاب يذكر المؤلِّف ما عبارته: (ومن الطوائف الموجودة في البلاد الأفغانيّة طائفة الشرفاء (أولاد علي بن أبي طالب)، ويلقّبون في تلك البلاد بالسيّد، وبعضٌ من هذه الطائفة يسكن في (بشنك) من نواحي قندهار، و بعض منها يسكن ولاية (كنر) الواقعة قرب جلال آباد، ولم يخلُ شرفاء (كنر) من الكبرياء والعظمة من عهد (بابر شاه) إلى يومنا هذا، وللأفغانيين عموماً مزيد اعتقاد بهذه الطائفة.
وأمّا عاداتهم وأخلاقهم وملابسهم فتُماثل عادات الأفغانيين وأخلاقهم وملابسهم).
ويستطرد الكاتب الجليل كلامه في الصفحة (171) من الكتاب بالتطرّق إلى طائفة (قزل باش)، التي جاءت إلى الأفغان مع الملك نادر شاه الإيراني، حين استولى على هذه البلاد، و هي من أصل إيراني، ويسكن أفرادها الآن: كابل، وغزنة، وقندهار، ويقول: (وأفراد هذه الطائفة كلّهم من الشيعة، يقيمون مأتم الحسين بن علي بن أبي طالب، في العشر الأول من محرّم).
ويصف الكاتب أفراد هذه الطائفة بقوله: (ولهم حذقٌ في الآداب والصنائع والأعمال الديوانيّة، ومن أجل ذلك ترى أنّ المتوظِّفين في الإدارة المَلكيّة الأفغانيّة منهم، وغالب الأُمراء يختارونهم لتربية أولادهم ولتعليمهم الأدب والشعر، ويمتازون بالذكاء والفطنة والنظافة عن بقيّة سكّان البلاد الأفغانيّة، ويتّصفون بالشجاعة والإقدام...) الخ.
هذا، والأفغانيون الشيعة يقومون بالسفر إلى إيران، والعراق، والحجاز طول السنة؛ لأداء مراسم زيارة أضرحة الأئمّة الاثني عشر في هذه البلدان الثلاثة، ويزداد عددهم لزيارة العراق عن طريق خراسان بإيران في العشرة الأولى من محرّم كلّ سنة؛ لغرض الاشتراك في شعارات النياحة بكربلاء أيّام عاشوراء.
وقد تناقلت الأخبار بأنّه لأوّل مرّة في العصر الحديث قامَ ولي عهد أفغانستان، ورئيس وزرائها، وسائر كبار رجال الأفغان الرسميين، فاشتركوا في حفلات مراسم العزاء التي أُقيمت في محرّم سنة (1393 هـ) في كابل، من قِبَل الجالية الشيعيّة.
د ـ في تركستان، والقفقاز، والتبت، والصين:
وفي كلّ من القفقاز، وتركستان، والصين، والتبت وغيرها من البلدان الآسيويّة التي يستوطنها المسلمون، حيث إنّ الجالية الشيعيّة فيها قلّة ضئيلة، فإنّ شعائر الحزن ومراسم العزاء ومواكبها على الإمام الحسين (عليه السلام) كانت وما زالت تقام فيها في حدود ضيّقة جدّاً، ولا تتجاوز إقامتها الدور وبعض الحسينيّات والمزارات والمساجد.
ففي القفقاز التي كانت حتى قبل (100) سنة تحت الحكم الإيراني، ولا سيّما في مُدنها المعروفة بأكثريّة المسلمين فيها: كنخجوان، وإيروان، وباكو، وتفليس وغيرها، كانت المناحات ومجالس العزاء ومواكبها تقام فيها بكثرة، أيّام محرّم وصفر من كلّ سنة، ولا سيّما العشرة الأولى من محرّم، وبالأخص يومَي تاسوعاء وعاشوراء على غِرار ما كان متّبعاً في جارة القفقاز الجنوبيّة، أي منطقة آذربيجان الإيرانيّة، ولكن على نطاق أضيق، وقد انتشر أمر تقليد إقامة هذه المراسم العزائيّة في القفقاز منذ القرون الوسطى، أي بعد استيلاء إيران عليها.
واستمرّت الشيعة في القفقاز على عهد الحكم القيصري بإقامة هذه المناحات حتى انقلاب اكتوبر (1917 م)، والقادمون من القفقاز الآن يقولون: إنّ مجالس العزاء والنوح على الإمام الحسين (عليه السلام) ما زالت تقام في بعض البيوتات الشيعيّة في نخجوان وباكو، ولكن تحت الستار وبخفاء تام وفي نطاق ضيّق جدّاً.
وفي تركستان وخاصّة في مُدنها الهامّة، مثل: خيوه، ومرو، وعشق آباد، وسمرقند، وطشقند، وبخارى التي لا زالت بعض الجاليّات من بقايا الشيعة مستوطِنة فيها، فإنّ وضع إقامة شعارات العزاء على الحسين (عليه السلام) لا تختلف كثيراً عن القفقاز، وإنّ العائلات الشيعيّة ـ التي قد لا يتجاوز عددها المئة عائلة في جميع تلك الأصقاع في الوقت الحاضر ـ تقيم مجالس العزاء هذه في دورها بخفاءٍ وخوفٍ ووجل.
وقد انتقلت تقاليد إقامة هذه المراسم العزائيّة إلى تركستان من إقليم خراسان الواقع بجنوبها منذ أوائل القرن الثالث الهجري، عندما اضطرّ بعض أهالي طوس من موالي آل البيت النبوي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الهجرة إلى بخارى وخيوة، والنواحي المتاخِمة لها والاستيطان فيها.
ولا زالت آثار بعض الحسينيّات ـ التي كانت تقام فيها مجالس العزاء ـ ظاهرة للعيان في مُدن تركستان والقفقاز، ممّا يدل على أنّ شعارات إقامة النياحات ومواكب العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، كانت متداولة في تلك الأصقاع حتى انقراض العهد القيصري في روسيا.
أمّا في إقليم التبت في جنوب الصين، فإنّ ظروف بعض الأُسر الشيعيّة في بلاد الأفغان قد اضطرّتها في أواخر القرون الوسطى إلى الهجرة إليها والاستيطان فيها، وإنّ هذه الأُسر بحكم عقيدتها في موالاة آل البيت النبوي (عليهم السلام) أخذَت تقيم مجالس العزاء هذه على الإمام الحسين (عليه السلام) في دورها، وتعطِّل أعمالها يومَي تاسوعاء وعاشوراء من شهر محرّم في كلّ سنة.
وقد نقلَ لي بعض طلبة الدين في كربلاء والنجف الذين كانوا يتلقّون العلوم الدينيّة فيهما، والمنتقِلين إليهما من بلادهم (التبت): بأنّ أُسرَهم لا زالت تقيم النياحات ومجالس العزاء على الإمام الحسين تحت الخفاء التام، حيث يجتمع أفراد هذه الأسر الشيعيّة في دار أحدهم، ويلقي عليهم خطيب المنبر الحسيني أو أحدهم تفاصيل مجزرة كربلاء حسب ما هو متداول في العتبات المقدّسة، ويجري في هذه المجالس ما يجري في سائر الأقطار الإسلاميّة، من: البذل والإنفاق، وسكب الدموع، والنياح، والبكاء، والعويل، والضرب على الصدور، واللطم على الرؤوس، والجيوب، إلى غير ذلك من مراسيم العزاء.
أمّا في بلاد الصين الشاسعة الأرجاء فتقيم الجاليّات الشيعيّة فيها في العشرة الأولى من محرّم، وبالأخص يوم عاشوراء العزاء الحسيني ومأتمه في دورها تحت الستار، على غِرار ما يفعله الشيعة في صقع التبت، إذ المعروف أنّ أكثر شيعة الصين قد انتقلوا إليها في الثلاثة أعصر الأخيرة من تركستان وبلاد الأفغان، عَبر صقع التبت.
وقد رأيتُ ضمن بعض الإحصائيات عن عدد المسلمين في الصين بعد الحرب العالميّة الأولى: أنّ عدد الشيعة الذين يستوطنون البلاد الصينيّة لا يتجاوز العشرة آلاف نسمة، وهؤلاء رُغم قلّتهم الضئيلة متمسّكون بتقاليد مذهبهم وطقوسه، ومنها إحياء ذكرى مجزرة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين وآله وصحبه فيها، وإقامة المأتم الحسيني وعزائه أيّام عاشوراء، في دورهم، وفي مجالسهم ومجتمعاتهم الخاصّة، والإنفاق فيها.
هـ ـ في شِبه القارّة الهنديّة:
أمّا في شبه القارّة الهنديّة ـ أعني الهند والباكستان ـ فقد اعتادَ سكّانها ـ على اختلاف مِللَهم ونِحَلهم وخاصّة المسلمين منهم ـ على إقامة المأتم على الإمام الحسين (عليه السلام)، وبذل النفس والنفيس في هذا السبيل منذ أن تسرّبت أخبار هذه الفاجعة في أواخر القرن الأول الهجري إلى تلك الأصقاع، وأنباء إقامة هذه المهرجانات الحزينة في الهند والباكستان متوفّرة منذ أكثر من اثني عشر قرناً، وقد طفَحت الكتب والصُحف بذلك، مِمّا يدلّ على اهتمام المسلمين ـ وخاصّة الشيعة منهم في أنحاء شبه القارّة الهنديّة ـ بهذه المناحات، وبإقامة المآتم والتعازي، وتسيير السبايا والهوادج، وتشكيل مجالس العزاء واجتماعات الحزن في شهري محرَم وصفر من كلّ عام، ولا سيّما في العشرة الأولى من محرّم على الإمام الحسين وآله وصحبه (رضوان الله عليهم).
هذا، وقد تأثّر الهندوس والأقوام الهنديّة الأخرى غير المسلمة بمَشاهد هذه المآتم والنياحات وحفلات الحزن، فسايروا المسلمين فيها، وأصبحت لديهم من العادات والتقاليد المتمسّكين بها في هذين الشهرين، وحتى أنّ في بعض المُدن والمناطق الهنديّة أنشأ الهندوس المباني والعمارات وأوقفوها على الإمام الحسين (عليه السلام) ومناحاته، وأطلقوا عليها اسم (الحسينيّة) تأسيّاً بالمسلمين، ويقيمون فيها شعائر الحزن والأسى والمأتم، وأصبح اسم الحسين (عليه السلام) لديهم من الأسماء التي يتبرّكون بها ويقدِّسونها، ولا يذكرون هذا الاسم إلاّ بكلّ احترامٍ وتعظيمٍ وتجليل.
وأدرجُ فيما يلي ما توصّلتُ إلى العثور عليه من وصفٍ لهذه المناحات في شبه القارّة الهنديّة:
1 ـ وصفَ العلاّمة السيّد عبد اللطيف الموسوي الشوشتري ـ في الصفحات المختلفة من مؤلّفه القيّم (تحفة العالَم) باللغة الفارسيّة، عند شرح تجوالة في مختلف أنحاء الهند ـ هذه المناحات وإقامة المآتم على الإمام الحسين (عليه السلام) وصفاً دقيقاً، أقتبسُ منه نُبذاً تلائم بحثي في هذه الرسالة، مترجِماً إيّاها منه:
(نياح الهنود في دكن ـ حيدر آباد ـ: والغريب في هذه المدينة أنّه على الرغم من عدم الشعور بالإسلاميّة فيها؛ فإنّ العظماء والأثرياء والهنود فيها يقيمون المآتم العظيمة على الإمام الحسين (عليه السلام) في أماكنها الخاصّة، فإنّهم فورَ رؤيتهم هلال شهر الأحزان يلبس الجميع لباس الحِداد والحزن، ويُلقون جانباً الملذّات ولذائذ الحياة، ومعظمهم يتركون نهائياً تناول المأكولات والمشروبات اللذيذة، وحتى أنّ بعضهم لا يدعون الطعام يمرّ في حلقومهم خلال مدّة الأيّام العشرة الأولى من المحرّم، ويقضون ليلهم ونهارهم في هذه الأيّام بترديد النياحات وقراءة المراثي، باللغات الهندوسيّة، أو الفارسيّة، كما أنّ كلّ إنسانٍ منهم يقوم بإطعام الفقراء والبذل على المساكين، كلٌ حسب طاقته، ثُمّ يوزِّعون ماء الورد بالمجان، ويُسبِّلونه على المارّة في كل زاوية من زوايا الأسواق والشوارع والأزقّة، ويصنعون التماثيل من الخشب أو الورق على شكل الأضرحة المقدّسة، ويمرّون أمامَها.
وبعد انقضاء العشرة الأولى من المحرّم يُلقون بهذه التماثيل إمّا في الأنهر أو يدفنونها في أماكن معيّنة من الأرض، ويطلقون عليها اسم (كربلاء).
أمّا في لكنهو، وبنغاله، وبنارس ـ التي هي من بلاد الكفر أيضاً ـ فقد شاهدتُ المشاهد والمناظر المذكورة بأُمّ عيني. والغريب أنّ المسلمين في بنغاله وبقيّة المناطق الآهلة بهم يُقلِّدون الهنادكة في تلك الحركات والشعائر، فهم لا يتناولون الطعام، ولا يشربون الماء، أو يقتصرون منهما على أقل ما يمكن، وفي مجالس المآتم ومجتمعات النياحات يبقون واجمين، والفريقان يتسابقان في تعذيب الجسد في هذه العشرة الحزينة، ويخدشون الوجوه، ويجرحون الصدور، ويكدمون الرؤوس، ويعذِّبون البدن بالضرب واللطم تعذيباً يفقدون معه وعيهم.
أمّا في حيدر آباد دكن؛ فإنّ المسلمين والهندوس يقومون بحركات ما أنزلَ الله بها من سلطان، ممّا لا يستطيع العقل أن يتصوّرها، فإنّ كثيراً من أعزّة القوم هناك يقيّدون أيديهم وأرجلهم بالسلاسل الحديديّة، ويُلقون على عواتقهم مثل هذه السلاسل، ويقوم رجال من خَدَمهم بالقبض على رؤوس هذه السلاسل ويسحبون أصحابها، كالأسرى والعبيد في مجالس العزاء ومجتمعات النياحة، وهؤلاء يتمرغَلون على الأرض كالبؤساء، متملِّقين ومستعطِفين...) الخ.
2 ـ وجاء في الكتاب نفسه وصفٌ للمأتم الذي يقيمه أحد راجات الهند المعروفين (آصف الدولة)، في إحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) ما ترجمته:
(لقد أنشأ آصف الدولة ـ ولاءً منه للأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ـ مقرّاً عظيماً لإقامة العزاء الحسيني ومسجداً فخماً، بالقرب من داره وقد أنفقَ على بنائهما وتزيينهما مبالغ طائلة جدّاً، كلّ ذلك في سبيل إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وإقامة النياحة عليه، وقد قيل: إنّه لم يكن في الهند كلّها بناء أعظم وأوسع وأشرح للصدر من هذا المكان.
أجل، إنّ لشاه جهان مقبرة شامخة في مدينة (أكبر آباد) تسمّى (تاج گنج)، ويتحدّث عنها الناس أحاديث كثيرة تشير إلى إعجابهم بها...).
ثُمّ يستطرد الكاتب كلامه فيقول: (إنّ هذا المقرّ المخصّص لإقامة العزاء الحسيني والمسجد الملاصق له، من عجائب الأبنية والعمارات في العالَم كلّه، ففي كل ساحة من ساحاته (14) قبّة شامخة، وتحت كلّ قبّة ضريح يمثّل قبور الأربعة عشر قبراً للمعصومين، وقد صُنعت كلّ الأضرِحة من الفضّة الخالصة، وتُضاء هذه الأضرحة أيّام العاشوراء ولياليها بأربعمائة أو خمسامائة من الثريا البلوريّة، وبألفَي ثريا عاديّة، وفوانيس بلوريّة، وكلّها تُضاء بالشموع الكافوريّة، وقد نُصِبت عند هذه الأضرحة الساعات الذهبيّة والفضيّة بأنواعها المختلفة، بالإضافة إلى سائر الزينات الذهبيّة المرصّعة بالأحجار الكريمة...).
ويستطرد الكتاب فيقول: (أمّا نفقات هذه الأيّام العشرة من شهر محرّم لإقامة تلك المآتم فتبلغ ثلاثة (ألكاك) من الروبيات، ولو زادَ من هذا المبلغ شيء يوزّع على الزوّار والفقراء والمستحقّين...).
3 ـ نَقلت (موسوعة العتبات المقدّسة) في صفحتها (373) ـ من المجلّد الأول، قسم كربلاء، عن كتاب (تاريخ الشيعة في الهند) للدكتور (هوليستر) ـ عن أهميّة شهر محرّم وإقامة مراسيم العزاء فيه، ما نصّه تالياً: (إنّ إحياء مراسيم محرّم وطقوسه في الهند قد انتشرت بانتشار الشيعة في البلاد، ويمكن أن تلاحظ في الهند ـ وعلى الأخص في (لكنهو) حيث لا يزال شيء من البهاء والرونق الذين كانت تُعرف بهما أيّام ملوك (أوده) الأوّلين، محتفظاً به حتى اليوم ـ من أنّ البذخ الذي كان يبدو من النوّابين الذين صرفَ أحدهم في سنة من السنين ـ على مراسيم محرّم وحفلاته الدينيّة ـ ثلاثمائة ألف باون قد انتهى أمره، ومع ذلك فإنّ الهبات والأوقاف التي أوقَفها محمّد علي شاه هناك، تَجعل المراسيم المقامة في محرّم اليوم مُفعمة بالحيويّة والنشاط، منذُ أول ابتدائها من مساء اليوم الذي يتقدّم أوّل يوم منه، كما أنّ عساف الدولة مَلك (أوده) المتوفّى سنة (1775 م)، قد صرفَ على مراسيم العزاء خلال شهر محرّم في إحدى السنين ستة ألكاك روبية).
ثُمّ يصف الدكتور (هوليستر) كيفيّة احتفال المسلمين في الهند خلال أيّام الحِداد العشرة من محرّم، ويعدِّد أنواع هذه الاحتفالات وأشكالها، فيبدأ بوصف مجالس التعزية التي تُقرأ فيها قصّة مقتل الحسين بصورة متسلسلة موزّعة على عشرة أيّام، مبتدئة بدعوة أهل الكوفة للإمام (عليه السلام)، ومنتهية باستشهاده المُفجع، يقول:
(إنّ اليومين الأوّلين يُروى فيهما للمحتفلين المحتشدين تهيّؤ الحسين للسفر، وزيارة المقرّبين له، ومذاكراته معهم، والمشورات التي قُدّمت له، ثُمّ سفره ووصوله إلى كربلاء.
وتُروى في اليوم الثالث أخبار المخيّم الذي خيّم فيه الحسين وآله وأصحابه، وتردّده ما بينه وبين النهر، ومذاكرة بني أسد حول دَفن القتلى الذين يمكن أن يخرّوا صرعى في ساحة القتال.
أمّا في اليومين الخامس والسادس فتُقص على المحتفلين فيها مصائب الإمام وصحبه، والبطولة التي أبداها علي الأكبر قبل استشهاده.
وفي اليوم السابع تُروى قصّة القاسم بن الحسن وبطولته في القتال، علاوة على قصّة زواجه بابنة عمّه الحسين.
ويُخصّص اليومان الثامن والتاسع لأخبار العبّاس وأصحاب الحسين الاثنين والسبعين.
بينما تُروى في اليوم العاشر الظروف الأليمة والشكل الفظيع الذي قُتل فيه الإمام الشهيد، وهو بيت القصيد من مجالس التعزية كلّها).
ويستطرد (هوليستر) فيقول:
(إنّ هذه المجالس ـ كما يسمّيها الهنود المسلمون ـ لا تُقام في المساجد والجوامع التي تُخصّص للصلاة فقط، وإنّما تُقام عادةً في أماكن خاصّة أو (الحسينيّات) يُطلق على الواحدة منها في الهند: (إمام باره)، وهذه تُخصّص لمجالس التعزية وحدها في الغالب أيضاً.
ويُذكر بالمناسبة: أنّ إحدى (الإمام بارات) هذه قد بُنيت في (جلال بور) بمبالغ جُمعت من حاكة البلد ونسّاجيه، بعد أن فرضوا على كلّ قطعة من منتوجاتهم مبلغ (بيزه) واحدة ويقال: إنّ (الإمام باره) الكبرى التي شُيّدت في (هوكلي) بالبنغال، كانت قد كلّفَت لكّين من الروبيات.
وهناك في (الكنهو) ثلاث (إمام بارات) كانت ملوك أوده: محمد علي شاه، وعساف الدولة، وغازي الدين حيدر قد شيّدوها بصورة تدعو للإعجاب، ويُطلق على التي شيّدها غازي الدين اسم (شاه نجف)؛ لأنّها تضم بين جدرانها ضريحاً يُعتبر تقليداً لضريح الإمام علي في النجف، وعلى الشاكلة نفسها توجد في (شاء جهانبور) أيضاً (إمام باره) فيها ضريح يُعتبر تقليداً لضريح الحسين كذلك).
ويصف (هوليستر) ما يسمّى في الهند بالتعزية، ويعتبرها من أبرز ما يُلفت النظر في احتفالات الحِداد في الهند أثناء محرّم. والظاهر أنّ كلمة (تعزية) تُطلق في شمال الهند على الهيكل المصغّر لقبر الحسين، الذي يُحمل مع مواكب العزاء الحسيني في يوم عاشوراء، وتُطلق على هذا في جنوب الهند كلمة (تابوت).
وقد نَشأت عادة حَمل هذه الهياكل المصغّرة في مواكب العزاء ـ على ما يقال ـ منذُ أيّام تيمور لنك الذي جاء بمثل هذا الهيكل إلى الهند من كربلاء نفسها.
وتوضَع هذه التعازي على اختلاف حجومها ومظاهر الزينة فيها فوق هيكل من الخيزران، فتُحمل على أكتاف الرجال الذين يكونون عادةً من الهندوس المستأجَرين، وتُزّين بأنواع الزينة والزخارف من الخارج، وقد يعمد الأثرياء والموسِرون إلى إنشائها من الخشب المغلّف بالعاج، أو الأبنوس، أو الفضّة.
ومِمّا يُذكر في هذا الشأن: أنّ أحد ملوك (أوده) كان قد أوصى في انجلترا بصنع (تعزية) مثل هذه، من النحاس الأصفر والزجاج الأخضر.
وقد شاهدَ هوليستر نفسه (تعزية كبيرة) من هذا النوع يبلغ ارتفاعها عشرين قَدماً، وذات أربعة طوابق، ولا تُحمل مثل هذه التعزية الكبيرة عادة، وإنّما توضَع وتُزّين في أماكن خاصّة للتبرّك بها.
ويتوسّع (هولسيتر) في وصف هذه التعزيات وزينتها وكيفيّة التبرّك بها، وحَملها في المواكب، وما أشبه ذلك، ثُمّ يأتي كذلك على ذكر الأعلام التي تُرفع بالتفصيل من حيث الشكل، واللون، والرأس ويقول:
(إنّ شيعة (لكنهو) محظوظون؛ لأنّ عندهم وبين ظهرانيهم نفس (البنجة) أوالكف المعدنيّة التي كانت تعلو عَلَم الحسين بكربلاء، وهي محفوظة في (درگاه) شُيّد خصيصاً لها.
أمّا كيفيّة أخذها إلى الهند فيذكر قصّة تُروى عنها، وهي: إنّ أحد الحجّاج الهنود في مكّة رأى في المنام ذات ليلة (عبّاس بن علي) حامل لواء الحسين، فدلّه على المكان الذي توجد مدفونة فيه في كربلاء نفسها، وحينما ذهبَ الحاج الهندي إلى ذلك المكان وجدَ (البنجة) عينها، فجاء بها إلى النوّاب عساف الدولة ـ عامل لكنهو ـ فعمدَ هذا إلى تشييد مزارٍ خاص لها، وعهدَ بسدّانته إلى الحاج المحظوظ الذي جاء بها من كربلاء بلد الحسين.
وبعد مدّة تمرّض سعادت علي خان وشُفي، فشيّدَ على أثر ذلك (درگاهاً) أجمل للبنجة المقدّسة، ويأتي الناس في اليوم الخامس من محرّم إلى هذا المركز كلّ سنة ليلمسوا البنجة بأعلامهم، ويقدّر أنّ الأعلام التي يؤتى بها لهذا الغرض كانت تبلغ في الأيّام السالِفة حوالي 40 أو 50 ألف عَلَم).
ويقول (هوليستر) عن المراثي التي تُلقى في مواكب العزاء: (إنّها عبارة عن قِطع أدبيّة رائعة في بعض الأحيان).
ويشير من بينها إلى مرثيّة (المير أنيس) على الأخص التي يقول: (إنّها ـ مع ما فيها من طول إغراق في الغلو والمبالغة ـ قطعة أدبيّة بليغة تُثير أعمق العواطف وأقوى الأحاسيس، حينما تُقرأ خلال الأيّام العشرة كلّها، وتنطوي بين تضاعيفها على قوّة بالغة في الوصف لابدّ لأقوى الرجال من أن تَدمع عيناه عند سماعها.
أمّا في يوم عاشوراء فتستعد مواكب العزاء للخروج منذُ الصباح الباكر في الهند، وبعد مراسيم مختصرة تُرفع (التعزية) العائدة لكلّ موكب من مكانها في (الإمام باره) مع الأعلام، وتؤخذ مشياً على الأقدام إلى حيث تُدفن في أماكن، يُطلق على كلّ منها اسم (كربلاء)، أمّا في بومبي فتؤخَذ إلى البحر وتُرمى فيه، لكنّ (التعزيات) الثمينة والكبيرة تعود بها المواكب إلى مكانها الأول، حيث تُحفظ للسنين المقبلة، ويسير الموكب بطيئاً في العادة وعلى خطٍ معيّن، لكنّه يتوقّف عن السير بين حينٍ وآخر لإلقاء المراثي وقراءتها، ويقوم عدد كبير من الناس خلال السير باللطم على الصدور، وهي تنادي بجملة (يا حسين، يا حسين) بين حينٍ وآخر، بينما يقوم آخرون بضرب ظهورهم يمنة ويسيرة، بسلاسل الحديد أو الخشب ذي المسامير الحادّة، فيُخرجون الدم منها).
ثُمّ يقول (هوليستر):
(إنّ نظام (حيدر آباد) كان قد أصدرَ سنة 1927 م، فرماناً يَمنع فيه الضرب على الصدور أو الظهور بالسلاسل والمسامير، خلال شهر محرّم في ممتلكاته، وقد تُمسح الدموع التي تُذرف خلال محرّم بالقطن أحياناً، ويُجمع هذا القطن بالذات من قِبَل الشخص الحزين نفسه أو شخص آخر، والمعروف عن هذا القطن أنّه مفيد لشفاء بعض الأمراض والأوجاع).
ثُمّ يستطرد (هوليستر) كلامه عن وصف هذه المآتم والاحتفالات العزائيّة في الهند ويقول:
(إنّ عدداً غير يسير من أهل السُنّة والهندوس يشاركون فيها، ويعتقدون بها كثيراً، والمقول هناك: إنّ الطبقات الدانية من الهندوس في مقاطعة (بيهار) يعبدون الحسن والحسين بالفعل، ويعتبرونهما في صف الآلهة، وإنّ النساء والرجال من بين الطبقات العليا كذلك مثل: (الكياشئا) و (الأنمار والأوالراجيوت) ينذرون من أجل الحصول على النسل والأولاد أن يقوموا ببعض الأدوار في مواكب محرّم، لعدّة سنين، وخلال مدّة حياتهم كلّها في بعض الأحيان، وهؤلاء يمتنعون خلال محرّم عن تناول الملح والطعام الحيواني، ويهجرون جميع وسائل الترف.
ويَعتبر مختلف طبقات الهندوس في (بارودا) التعزيات التي تُحمل مواكب العزاء أشياء مقدّسة، وهم يمارسون بعض الحركات للتبرّك بها، مثل: المرور من تحتها، أو رمي أنفسهم على الأرض في طريقها).
وتستطرد موسوعة (العتبات المقدّسة) كلامها بعد انتهائها من نقل وصف الدكتور (هوليستر) فتقول ما لفظه:
(ولقد روى أحد الصحفيين: أنّ الهندوس في جنوب الهند من جميع الطبقات ـ عدا البراهمة ـ يُطلقون على كلّ عَلم من أعلام محرّم كلمة (بير)، ولهذا صار يُدعى عَلَم الإمام علي (لال صاحب)، كما يُعرف عن النساء العقيمات هناك أنّهن يرمينَ بأنفسهنّ أمام أعلام محرّم وينذرون النذور لها للحصول على الأولاد، وحينما يرزقنَ بهم يُطلقون عليهم أسماء مثل: (هوسانا) أي الحسين، أو فاطمة، أو فقيراً، أو ما أشبه.
وقد كان من المعروف في بارودا: أنّ الرئيس أو (الفيكوار) الهندوسي يرعى مراسيم العزاء في محرّم بنفسه، وإنّ المهراجا الهندوسي في (غواليور) يقود المواكب كلّ سنة في عاصمته ويقال: إنّ منشأ هذا هو أنّ المهراجا كان قد مرضَ قبل خمسين أو ستين سنة، فرأى ذات ليلة من ليالي مرضه الإمام الحسين في المنام فقيل له: إنّه سوف يُشفى ويبل من مرضه في الحال، إذا ما أقامَ مجلساً من مجالس التعزية في محرّم باسم الحسين (عليه السلام) ووزّعَ الصدقات فيه، وقد فعلَ ذلك، فشُفيَ بإذن الله، فبقيت العادة حتى يومنا هذا، لكنّ المهراجا ـ الحالي من نسله ـ صارَ يكتفي اليوم بركوب حصان فاره يتقدّم به موكب العزاء في يوم عاشوراء، وتقوم خزينة الدولة هناك بتسديد مصاريف الموكب).
4 ـ جاء في الصفحة (131) من كتاب (سفر نامه حاج بير زا