الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

عاشوراء .. عيد الشامتين بأهل البيت (عليهم السّلام)
وإذا أردنا أن نسلّم بما يقال من أنّ عمل السلف حجة وإن لم يكن المعصوم داخلاً فيهم .
وإذا فرضنا صحة قولهم : إنّ عصر الصحابة والتابعين هو العصر الذي تنعقد فيه الإجماعات ، وتصير حجة ، وتشريعاً متّبعاً .
وإذا كان الإجماع معصوماً , ونبوّة بعد نبوّة حسبما يدّعون .
وإذا كان يحلّ لمسلم أن يدّعي وجود نبوّة بعد نبوّة خاتم النبيّين ، خلافاً لنص القرآن الكريم : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .
وإذا كان يجوز عند هؤلاء اطّراح القرآن ، وكل ما قاله النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لمجرد أنه انعقد الإجماع بعد عصر النبي (صلّى الله عليه وآله) على خلافهما ، مع التصريح بأن الأمة معصومة .
إذا جاز كل ذلك جاز أن يقال لهؤلاء : لقد سُبَّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) على اُلوف المنابر في جميع أقطار العالم الإسلامي من قبل وعّاظ السلاطين طيلة عشرات السنين , وشارك في ذلك العديد بل العشرات من الصحابة , فهل يجوِّز هؤلاء العودة إلى سبه ، وهل يعتبرون ذلك شريعة مرضية لله ولرسوله ؟!
كما أن بني اُميّة وكلّ أتباعهم ، ومَن كان تحت سيطرتهم ، وكذلك بنو أيّوب ، ولمدة عشرات السنين قد اتخذوا يوم عاشوراء عيداً ، وأوّل من فعل ذلك الحجاج برضا وبمرأى ومسمع من الخليفة عبد الملك بن مروان ، وبمرأى ومسمع من بقايا الصحابة وجميع التابعين , ولم نجد اعتراضاً من أحدٍ منهم ، ولا من أيٍّ من علماء الاُمّة وصلحائها ـ باستثناء أهل البيت (عليهم السّلام) الذين كانوا يعملون بمبدأ التقية آنئذٍ ـ لا في تلك الفترة في عهد الاُمويّين ، ولا في زمان بني أيوب وبعده .
ثمّ إنّهم يؤكّدون لزوم السرور في هذا اليوم بما يروونه من حوادث عظيمة اتّفق وقوعها فيه ، من قبيل : توبة الله فيه على آدم ، واستواء السفينة على الجودي ، وإنجاء النبي إبراهيم (عليه السّلام) من النار , وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك .
ويا ليتهم اكتفوا بذلك ، بل لقد تعدّو ذلك إلى الإفتاء بحرمة لعن يزيد (لعنه الله) ، وعدم جواز تكفيره ، وقالوا : إنّه من جملة المؤمنين .
بل لقد قال ابن الصلاح : «وأمّا سب يزيد ولعنه فليس ذلك من شأن المؤمنين وإن صحّ أنه قتله أو أمر بقتله» , زاعمين أنه يجوز لعن قتلة الأنبياء ومَن عُلم موته على الكفر . وتقدّمت بعض محاولاتهم في الدفاع عنه .
كما أن الجمهور قد خالفوا في جواز لعنه بالتعيين , وقال عبد الغني سرور المقدسي : إنّما يمنع من التعرّض للوقوع فيه خوفاً من التسلق إلى أبيه ، وشكَّاً لباب الفتنة ! بل قال الشبراوي الشافعي ، عن الغزالي وابن العربي : فإنّ كلاهما قد بالغ في تحريم سبّه ولعنه ، لكن كلاهما مردود .
تحريم رواية المقتل
ثمّ زادوا في الطنبور نغمة ، فقالوا : «يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكاياته» . قال ذلك الغزالي وغيره . وليس ذلك ببعيد على من لا يرى بأساً بالسكوت حتّى عن لعن إبليس كما عن ابن أبي شريف ، بل قال الرملي : «ينبغي لنا أن لا نلعنه»!
وقال الغزالي : «بل ولو لم يلعن إبليس طول عمره ، مع جواز اللعن عليه ، لا يُقال له يوم القيامة : لمَ لا تلعن إبليس ؟» !
وقال : «وأما الترحم عليه (أي على يزيد) فجائز ، بل مستحب ، وهو داخل في قولنا : اللهمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات ؛ فإنه كان مؤمناً»!
تحريم التحزّن والتفجّع في عاشوراء
أمّا تحريم التحزّن والتجمع في يوم عاشوراء فلعله أهون تلكم الشرور بعد أن كانوا وما زالوا يهاجمون مجالس عزاء الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ويقتلون مَن يقدرون عليه من المشاركين فيها ، بل ويحرقون المساجد ، ويفعلون الأفاعيل في سبيل ذلك .
وتلك هي تطبيقات ذلك في باكستان , وفي غيرها من البلاد ماثلة للعيان ، يراها ويسمع الناس بها في كل عام .
المزيد من الشواهد
ومن أجل التأكيد على حقيقة اعتبارهم عاشوراء عيداً ، التي ألمحنا إليها فيما سبق ، نزيد في توضيح ذلك من خلال إيراد النصوص التالية :
قال زكريا القزويني : زعم بنو اُميّة أنهم اتخذوه عيداً ؛ فتزيّنوا فيه ، وأقاموا الضيافات . والشيعة اتخذوه يوم عزاء ؛ ينوحون فيه ويجتنبون الزينة .
وأهل السنّة يزعمون أنّ الاكتحال في هذا اليوم مانع من الرمد في تلك السنة , ومَن اغتسل فيه لم يمرض ذلك العام ، ومَن وسّع على عياله وسّع الله عليه سائر سنته .
وقال عن شهر صفر : اليوم الأول منه عيد بني اُميّة ، أدخلت فيه رأس الحسين (رضي الله عنه) بدمشق.
وقال البيروني بعد ذكر ما جرى على الإمام الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء : فأمّا بنو اُميّة فقد لبسوا فيه ما تجدّد ، وتزيّنوا , واكتحلوا ، وعيّدوا ، وأقاموا الولائم والضيافات ، وأطعموا الحلاوات والطيّبات ، وجرى الرسم في العامّة على ذلك أيّام ملكهم ، وبقي فيهم بعد زواله عنهم .
وأمّا الشيعة فإنّهم ينوحون ويبكون ؛ أسفا لقتل سيد الشهداء فيه .
ويقول المقريزي : ... فلمّا زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيّوب يوم عاشوراء يوم سرور ؛ يوسّعون فيه على عيالهم ، وينبسطون في المطاعم ، ويتّخذون الأواني الجديدة ، ويكتحلون ، ويدخلون الحمام ؛ جرياً على عادة أهل الشام التي سنّها الحجّاج في أيّام عبد الملك بن مروان ؛ ليرغموا به آناف شيعة علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي ؛ لأنه قُتل فيه .
وقال : وقد أدركنا بقايا ممّا عمله بنو أيّوب من اتخاذ عاشوراء يوم سرور وتبسّط .
أمّا ابن حجر الهيثمي والزرندي فقد أشارا إلى هذا الأمر في معرض نهيهما عن الندب والنياحة ، والحزن يوم عاشوراء الذي هو من بدع الرافضة بزعمهما ، ثم أشار إلى ما يقابل ذلك ؛ فنهيا عن العمل ببدع الناصبة «المتعصبين على أهل البيت» ، أو الجهّال المقابلين الفاسد بالفاسد ، والبدعة بالبدعة ، والشر بالشر ، من إظهار غاية الفرح ، واتخاذه عيداً ، وإظهار الزينة فيه ؛ كالخضاب والاكتحال ، ولبس جديد الثياب ، وتوسيع النفقات ، وطبخ الأطعمة والحبوب الخارجة عن العادات ، واعتقادهم أنّ ذلك من السنة والمعتاد .
هذا وقد ورد في زيارة عاشوراء المروية عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قوله : (( اللهمَّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو اُميّة ، وابنُ آكلة الأكباد ... )) .
وحتّى ابن تيمية ، وهو المتعصب المتحامل على أهل البيت (عليهم السّلام) وشيعتهم ، لم يستطع أن يظهر الرضا بهذا الأمر ، فهو يقول : ... وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء ، وتوسيع النفقات فيه هو من البدع المحدثة ، المقابلة للرافضة .
التزلّف الوقح
وأضاف ابن تيمية إلى عبارته الآنفة الذكر قوله : ... وقد وُضعت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه ؛ من الاغتسال والاكتحال ... إلخ .
وقال : ... وأحدث فيه بعض الناس أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها ، مثل فضل الاغتسال فيه ، أو التكحّل ، أو المصافحة , وهذه الأشياء ونحوها من الاُمور المبتدعة ، كلها مكروهة ، وإنما المستحب صومه .
وقد روي في التوسع على العيال آثار معروفة ، أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمّد بن المنتشر ، عن أبيه قال : بلغنا أنه مَن وسّع على أهله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر سنته . رواه ابن عيينة . وهذا بلاغ منقطع لا يُعرف قائله .
والأشبه أنّ هذا وُضع لمّا ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة ؛ فإنّ هؤلاء عدّوا يوم عاشوراء مأتماً ، فوضع اُولئك فيه آثاراً تقتضي التوسّع فيه , واتخاذه عيداً .
ونقول : قد عرفت أنّ صومه مكذوب أيضاً .
بل لقد بلغ بهم الأمر أن رووا عن ابن عباس في تفسير آية : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59] , أنه قال : يوم الزينة يوم عاشوراء .
وعن ابن عمر ، عنه (صلّى الله عليه وآله) : مَن صام يوم الزينة أدرك ما فاته من صيام تلك السنة ، ومَن تصدّق يومئذ بصدقة أدرك ما فاته من صدقة تلك السنة . يعني يوم عاشوراء .
بل تقدّم أنّ أهل السنّة يزعمون أنّ الاكتحال في هذا اليوم مانع من الرمد في تلك السنة .
أمّا ابن الحاج فذكر عن يوم عاشوراء أنه يستحب التوسعة فيه على الأهل والأقارب ، واليتامى والمساكين ، وزيادة النفقة والصدقة مندوب إليها ، بحيث لا يجهل ذلك .
وبعد أن ذكر أشياء تُفعل في هذا اليوم لم تُعرف عن السلف ؛ كذبح الدجاج , وطبخ الحبوب ، وزيارة القبور ، ودخول النساء الجامع العتيق بمصر وهنّ في حال الزينة الحسنة ، والتحلّي ، والتبرّج للرجال ، وكشف بعض أبدانهنّ ، ويقمن فيه من أول النهار إلى الزوال ، بعد أن ذكر ذلك قال : ومن البدع أيضاً محرهن فيه الكتان ، وتسريحه ، وغزله ، وتبييضه في ذلك اليوم بعينه ، ويشلنه ليخطن به الكفن , ويزعمن أنّ منكراً ونكيراً لا يأتيان من كفنها مخيط بذلك الغزل .
إلى أن قال : وممّا أحدثوه فيه من البدع البخورُ ؛ فمن لم يشتره منهم في ذلك اليوم ويتبخّر به فكأنه ارتكب أمراً عظيماً . وكونه سنّة عندهن لا بدّ من فعلها ، وادخارهن له طول السنة يتبركن به ، ويتبخّرن إلى أن يأتي مثله يوم عاشوراء الثاني . ويزعمون أنه إذا بخّر به المسجون خرج من سجنه ، وأنه يبرئ من العين ، والنظرة ، والمصاب , والموعوك ... إلخ.
نعم ، هذه هي أقاويلهم , وتلك هي أفاعيلهم في يوم مصاب الرسول (صلّى الله عليه وآله) بولده الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فاضحك من ذلك , أو فابكِ ؛ فإنك حقيق بهذا أو بذاك ، بل بهما معاً ؛ فإلى الله المشتكى من اُمّة قتلت ابن بنت نبيها .
ثمّ لم يزل يسعى هؤلاء المتحذلقون ، ليس فقط إلى تبرئة قاتله ، بل هم قد لا يرضيهم إلاّ أن يرفعوه إلى درجات القدّيسين ، وإعطائه مقامات الأنبياء والمرسلين لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً , ولكن يأبى الله إلاّ أن يتم نوره ، وينصر دينه ، ويعزّ أولياءه , إنه قوي عزيز .
كلمة أخيرة
وبعد , فإننا نحسب أنّ ما ذكرناه في هذه الإطلالة كافٍ ووافٍ لإعطاء الانطباع الصحيح عن الحقِّ والحقيقة في أمر يعتبر من البديهيات التي لا تحتاج لاكتشافها والتعرف عليها إلى هذا الحشد الكثير ، ولا إلى ذلك جهد كبير .
ولكن التجارب والأيام قد علّمتنا أنّ هؤلاء الناس لا يقتنعون بالمنطق وبالعلم الصحيح ، ولا يريدون أن يقنعوا الناس به . ثمَّ هم يريدون أن يصدّوهم عنه ، ولو بأن يتلاعبوا بعواطفهم ومشاعرهم ، وأن يشحنوهم بالكراهية والضغينة على إخوانهم ، وأن تكون الأحقاد التي يغذيها الكذب والتزوير هي سيدة الموقف ، وهي التي تحكم الحركة والسلوك والعلاقات بين المسلمين .
إنّهم يريدون أن يزيّنوا آراءهم الباطلة وضلالاتهم للناس بترّهات خادعة ، وبشعارات لامعة ، وإثارات بارعة ومائعة ، حتّى إذا فشلت في التضليل وفي التجهيل ، كان البديل عنها لديهم هو أساليب القمع الفظة واللإنسانيّة ، وفرض رأيهم وطاعتهم ، والانقياد الأعمى لهم على الناس لهم ولو بالقوة وبالقهر ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً .
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين , وسلام على المرسلين .