الشعائر الحسينيه
الزيارة و فضلها

فضل كربلاء
لقد أطلت كربلاء على أوسع نافذة من منافذ التاريخ، بعد قيام الحسين (عليه السلام) بمسيرته التاريخية إليها، وهي الثورة على الظلم ودك صروح الطغيان، حتى استشهد مع أهل بيته وأصحابه، ومن ذلك الحين حلت كربلاء محل الإجلال والتقديس لعامة المسلمين الذين اهتزت مشاعرهم لهول الجريمة الشنعاء، التي ارتكبها الطغاة في تنكيل عترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرة، حتى أصبحت كربلاء المسرح الذي تمثلت فيه صورة الرفض والتحدي للواقع الفاسد الذي مثلته بنو أمية خير تمثيل.
ولا ريب فأن كربلاء التي تشرفت من دون بقاع العالم، وضمت بين جنباتها سبط الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما هو إلا تكريم من الله سبحانه وتعالى لهذه البقعة الطاهرة، التي أصبحت محط أنظار المسلمين، ومهوى أفئدتهم، والتواقين منهم للثورة ضد التعسف والظلم.
ومن هنا جاءت روايات أهل البيت (عليهم السلام) في تشريف هذه البقعة المباركة التي أصبحت مثوى للحسين (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وأصحابه، وقد ورد عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله أتخذ بفضل قبره كربلاء حرما آمنا مباركا قبل أن يتخذ مكة حرما ".
ووصفها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في رواية الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هي البقعة التي كانت فيها قبة الإسلام، التي نجا الله عليها المؤمنين الذين آمنوا مع نوح في الطوفان ".
وفي بعض الروايات إن الله سبحانه وتعالى فضلها على بقاع الأرض، حتى تجاوزت بفضلها أرض مكة كما ورد في رواية أبي عبد الله أنه قال: " إن أرض كعبة قالت: من مثلي، وقد بنى الله بيته على ظهري ويأتيني من كل فج عميق، وجعلت حرم الله وأمنه؟ فأوحى الله إليها كفي وقري، فوعزتي وجلالي ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت به أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء لما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقري واستقري وكوني دنيا متواضعا ذليلا مهينا غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم ". وفي رواية صفوان الجمال قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك وتعالى فضل الأرضين والمياه على بعض، فمنها ما تفاخرت، ومنها ما بغت، فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لتركها التواضع لله، حتى سلط الله المشركين على الكعبة فأرسل إلى زمزم ماء مالحا حتى أفسد طعمه، وأن أرض كربلاء وماء الفرات أول أرض وأول ماء قدس الله تبارك وتعالى، فبارك الله عليها فقال لها: تكلمي بما فضلك الله تعالى فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض، قالت: أنا أرض المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر، بل خاضعة ذليلة لمن فعل ذلك، ولا فخر على من دوني، بل شكرا لله، فأكرمها وزاد في تواضعها وشكرها الله بالحسين (عليه السلام) وأصحابه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): " من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله تعالى ".
وفي رواية عن ابن الجارود قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): " اتخذ الله أرض كربلاء حرما آمنا مباركا قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرما بأربعة وعشرين ألف عام، وأنه إذا زلزل الله تبارك وتعالى وسيرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة، لا يسكنها إلا النبيون والمرسلون، أو قال - أولوا العزم من الرسل – وإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدري بين الكواكب لأهل الأرض يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعا، وهي تنادي: أنا أرض الله المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنت سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة ".
ومثله روي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنه قال: " خلق الله تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل أن يخلق الله الخلق مقدسة مباركة، ولا تزال كذلك حتى جعلها الله
أفضل أرض في الجنة، وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أولياءه في الجنة ".
لقد جاءت الروايات متواترة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) بفضل أرض كربلاء التي استحقت هذه القدسية وهي تحث المسلمين على الإكثار من زيارة الحسين (عليه السلام) في كربلاء والتبرك بتربته الطاهرة حتى ذكر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " من بات ليلة عرفة في كربلاء وأقام بها حتى يعيد وينصرف وقاه الله شر سنته ".
نعم هذه كربلاء التي قال عنها أمير المؤمنين (عليه السلام): " طوبى لك من تربة عليك تهرق دماء الأحبة " ، ثم قال (عليه السلام) أيضا: " قبض فيها مائتا نبي ومائتا وصي ومائتا سبط كلهم شهداء بأتباعهم ".
فضل الحائر الحسيني
بعد أن تطرقنا إلى فضل كربلاء بشكل عام، وبينا ما لها من الفضل والتشريف على بقاع الدنيا، فلا بد أن يكون للموضع الذي حوى الجسد الطاهر للحسين السبط (عليه السلام) من حرمة وتشريف على أرض كربلاء بشكل عام.
إذا كانت كربلاء قد كرمت على بقاع العالم، فالحائر الذي ضم جدث الحسين قد فاق بالشرف والقدسية على كربلاء، التي شرفها الله سبحانه وتعالى على بقاع الأرض قاطبة.
لقد جاءت هذه المنزلة التي خصها الله تعالى لموضع قبر الحسين (عليه السلام) (الحائر) على لسان الإمام الصادق (عليه السلام) كما جاء في رواية ابن قولويه، عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " موضع الحسين (عليه السلام) منذ يوم دفن فيه روضة من رياض الجنة، وفي رواية قال: موضع قبر الحسين (عليه السلام) ترعة من ترع الجنة ".
وعنه (عليه السلام) قال: " إن لموضع قبر الحسين (عليه السلام) حرمة معلومة من عرفها واستجار بها أجير، ثم قال وقبره منذ يوم دخل روضة من رياض الجنة، ومنها يعرج فيه بأعمال زواره (عليه السلام) إلى السماء، وليس ملك ولا نبي في السماوات إلا ويسألون الله أن يأذن لهم لزيارة الحسين (عليه السلام) ففوج ينزل وفوج يعرج ".
نستلخص من الروايات المذكورة فضل موضع قبر الحسين (عليه السلام) الذي أطلق على هذا الموضع بالحائر، وقد حدد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) موضع الحائر وحث شيعته على زيارته منذ انقراض دولة بني أمية، وزوال الخوف الذي كان يراود الشيعة في زمن دولتهم، وقبل أن ينحرف بنو العباس عن نهج الثورة التي بواسطتها أسقط النظام الأموي عام ١٣٢ ه‍ وفي أثناء تلك الفترة أزداد التشيع بشكل ملحوظ، وأخذت الشيعة تتطلع إلى زيارة قبر الحسين (عليه السلام) بعدما أدى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) دورا فعالا في توجيههم نحو القيم والمثل العليا التي يتحلون بها، ومنها الادمان على زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، وكان للإمام الصادق (عليه السلام) دور بارز في هذا المجال، وقد قام بتحديد أبعاد الحائر الحسيني كما جاء في رواية ابن قولويه، عنه (عليه السلام) قال: " قبر الحسين (عليه السلام) عشرون ذراعا في عشرين ذراعا مكسرا روضة من رياض الجنة ".
إذن حدد الإمام أبعاد الحائر المقدس في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني من الهجرة، وبناء على ذلك فإن تحديد الحائر يرجع إلى عهد أول بناء وضع حول المشهد المقدس كما جاء في تحديد محمد بن أحمد بن إدريس الحلي للحائر، فقال: " المراد من الحائر ما دار سور المشهد والمسجد عليه، لأن ذلك هو الحائر حقيقة، لأن الحائر في لسان العرب الموضع المطمئن الذي يحار فيه أما الحرم فهو أوسع من الحائر بكثير كما جاء في رواية عن الصادق (عليه السلام) قال: " حريم قبر الحسين (عليه السلام) خمس فراسخ من جانب القبر ".
وفي رواية أخرى قال (عليه السلام): " حرمة قبر الحسين فرسخ في فرسخ في أربعة جوانب القبر ". من هنا جاء التمييز بين الحائر والحرم، وربما جاءت مساحة الحرم التي حددها الإمام الصادق (عليه السلام) بخمس فراسخ من جوانب القبر أو في فرسخ من جهاته الأربعة، ضمن الأراضي التي ابتاعها الحسين (عليه السلام) أثناء نزوله بكربلاء بقيمة ستين ألف درهم من أصحابها سكان الغاضرية ونينوى، وكانت مساحتها أربعة أميال في أربعة أميال وتصدق عليهم، وشرط أن يرشدوا إلى قبره وأن يضيفوا من زواره ثلاثة أيام، وقد أكد الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الرواية حيث قال: " حرم الحسين (عليه السلام) الذي اشترى أربعة أميال في أربعة أميال فهو حلال لولده ومواليه، حرام على غيرهم ممن خالفهم، وفيه البركة ".
أما الحائر فقد وردت فيه روايات مرفوعة إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، بأن له حرمة وفضلا عند الله سبحانه وتعالى، ففي رواية إسماعيل بن جابر، مرفوعة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " تتم الصلاة في أربعة مواضع: في المسجد الحرام، وفي مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي مسجد الكوفة، وفي حائر الحسين (عليه السلام) ".
وروى أبو زياد القندي، قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): " أحب لك ما أحب لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي، تتم الصلاة في الحرمين، وبالكوفة، وعند حرم الحسين ".
وروي أبو حذيفة بن منصور قال: حدثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " تتم الصلاة في المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الكوفة، وحرم الحسين "، وفي خبر آخر وفي حرم الله وحرم رسوله، ومسجد الكوفة، وحرم الحسين.
لقد حاز الحائر الحسيني هذه الفضيلة العظيمة بإتمام الصلاة فيه كما تتم الصلاة في الحرمين، ومسجد الكوفة، لكن الإمام الصادق (عليه السلام) في روايته السالفة تجاوز الحائر حتى شمل الحرم جميعه بإتمام الصلاة فيه، وهذا دليل على أن الحرم الحسيني هو مستقر لعامة المسلمين، كما أصبح الحرمين مستقرا لهم، ومن هذه الحالة تتم الصلاة فيهما.
وكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يعلمون ما للحائر الحسيني من فضل عظيم وهو بقعة مطهرة، فكانوا (عليهم السلام) عند ضنك الحياة يلجأون إلى الحائر الحسيني بالدعاء والتوسل إلى الله تعالى، فلعمري إذا كان موضع قبر الحسين روضة من رياض الجنة، وتتم الصلاة فيه فإنه حري على الله وهو يحب أن يدعى فيه والدعاء فيه مقبول، ويضاعف فيه الأجر والثواب.
ففي رواية ابن قولويه، عن أبي هاشم الجعفري قال: " بعث إلي أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه، وإلى محمد بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة، وأخبرني أنه ما زال يقول: ابعثوا إلى الحائر [ابعثوا إلى الحائر]، فقلت لمحمد: ألا قلت: أنا أذهب إلى الحائر؟! ثم دخلت عليه فقلت: جعلت فداك أنا ذاهب إلى الحائر؟ فقال: انظروا في ذلك، ثم قال: إن محمدا ليس له سر من زيد بن علي، وأنا أكره أن يسمع ذلك قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع بالحائر وهو الحائر!
فقدمت العسكر فدخلت عليه، فقال لي: اجلس (أردت القيام)، فلما رأيته أنس بي وذكرت قول علي بن بلال، فقال لي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر، وحرمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يذكر فيها، فأنا أحب أن يدعى لي حيث يحب الله أن يدعى فيها، والحائر من تلك المواضع ".
وفي رواية أخرى عن أبي هاشم الجعفري قال: " دخلت أنا ومحمد بن حمزة عليه (أي الحسن العسكري) نعوده وهو عليل، فقال: لنا وجهوا قوما إلى الحائر من مالي، فلما خرجنا من عنده، قال لي محمد بن حمزة: أنسير بوجهنا إلى الحائر وهو بمنزلة من في الحائر. قال: فعدت إليه فأخبرته، فقال لي: ليس هو هكذا (إن لله مواضع يحب أن يعبد فيها، وحائر الحسين من تلك المواضع) ".
وعنه أيضا قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) وهو محموم عليل فقال لي: يا أبا هاشم ابعث رجلا من موالينا يدعو الله لي، فخرجت من عنده فاستقبلني علي بن بلال فأعلمته ما قال لي، وسألته أن يكون الرجل الذي يخرج، فقال: السمع والطاعة، ولكني أقول: إنه أفضل من الحائر، إذ كان بمنزلة من في الحائر، ودعاؤه لنفسه أفضل من دعاءنا له بالحائر.. فأعلمته (عليه السلام) بما قال، فقال لي: قل له: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من البيت والحجر، وكان يطوف بالبيت ويستلم الحجر، وإن لله بقاعا يحب أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه والحائر منها.
نستلخص من هذه الرواية وإن تعددت أساليب الرواة، أن الحائر من البقاع المطهرة، وأن الله تعالى يحب أن يذكر فيه، ويقبل الدعاء من هذا الموضع الشريف.