الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

قد يقال: لما كان هدف الحسين (عليه السلام) هو اقامة حكومة اسلامية و اسقاط حكومة يزيد، فهذا يعنى‏ انه ثار لأغراض سياسيّة أيضاً، اذ كيف نفسر قبوله لدعوة اهل الكوفة بقلب الحكم؟ و لماذا ارسل ابن عمِّه مسلم بن عقيل اليهم؟
الجواب:
اولًا: إنَّ الثورة لتشكيل حكم قائم على‏ اساس العدالة الاسلامية و ضمان حسن تنفيذ احكام الدين و القوانين الاجتماعية و الاقتصادية و العمل بكتاب اللَّه المجيد و اصلاح المجتمع و الامة، إذا كان من مثل الحسين (عليه السلام) فانه عين السياسة الرسالية بمفهومها السليم و المعقول و الواقعي، ففرقٌ بين هذا النمط من السياسة و بين سياسة الاحتيال و الفتن و الغدر و المكر و الكذب، تلك السياسة التي يقصد منها الاعداء التفرد بالسلطة و الحكم و استعباد الناس و لا مجال للمقايسة بينهما.
فالسياسة الهادفة الى‏ ارساء قواعد حكومة إيمانية تحفظ حقوق كافة افراد المجتمع و تؤمن لهم الحريات و المساواة، لهي سياسة الهية و الحكومة المنبثقة عنها هي حكومة الهية شانها شأن حكومة النبي (صلى الله عليه و آله).
و أمّا السياسة المعروفة في عصرنا الحاضر و التي تعني السعي للسلطة من اجل التسلط على‏ رقاب الناس و نهب خيراتهم و استغلالهم، فواضح بطلانها و قبحها.
إنَّ السياسة السليمة هي سياسة علي (عليه السلام)، فهل تقارن سياسة على‏ سياسة معاوية؟! فكلاهما كان يحارب، و كان لكليهما جيش، لكن اين الثرى‏ من الثريا؟
لقد كان علي (عليه السلام) يجاهد لكي تكون‏ «كلمة اللَّه هي العليا» و يقاتل لتحكيم أحكام اللَّه على‏ الجميع، و ليقيم العدل و المساواة و الحرية.
و اما معاوية فكان يقاتل- كما كشف هو عن نواياه مراراً من اجل السيطرة و الهيمنة على‏ مقدرات الامة الاسلامية و من اجل السلطان و الجاه و التسلط على‏ الناس و اموالهم و ارواحهم و ناموسهم، و ليدير الامور كما يحلو له لا كما يريد اللَّه و تريده الشريعة.
اذن، إن كان المراد من السياسة، سياسة معاوية و عمرو بن العاص و يزيد، فهي سياسة مذمومة منكرةٌ، و الخوض فيها محرمٌ و ممارستها ممنوعة لسوق العبد الى‏ هاوية جهنم، و إن كان المقصود منها سياسة النبي (صلى الله عليه و آله) و منهجه في تشكيل الحكم، و سياسة علي (عليه السلام)، فأنها من اعلى‏ مراتب صفات الكمال الانساني.
فاشتراك الامّة و نظارتها على‏ ادارة الحكم و تنفيذ المقررات و اجراء العدالة و النظم الصحيحة، و صياغة مجتمع مترقٍ و تشكيل حكومة صالحة تتوزع فيها المسئوليات بعدل و كفاءة، يعدُّ من أولويات المنهج الاسلامي الراقي، و لم تكن مثل هذه السياسة منفصلةً يوماً ما أبداً عن الدين، و ما يشاع على‏ بعض الالسن الجاهلة و المغرضة من «ضرورة فصل الدين عن السياسة» انما هو مبتغى‏ الاستعمار واعداء الإسلام الذين يسعون الى‏ تجزئة الإسلام و اضعافه و حصره في دائرة التعبد و الطقوس الفارغة من المحتوى‏ و المعنى‏، و الذين يحاولون الحدَّ من وحدة المسلمين و اعادة هيبة الدولة الإسلامية و عظمة الإسلام، و تطبيق الاحكام الاسلامية، و ابدالها بقوانين الغرب و الشرق الكافرة و ترويج الاخلاق الفاسدة المنحرفة بين المسلمين.
فلو أنَّ مسلماً ظن أن حدود الإسلام تنتهي بالطقوس و المراسم الروحية و المعنوية، و ينكر اهلية الإسلام لخوض الادارة و الاعمار و القضاء و الحرب و السلم- مطابقا للموازين الشرعية المقررة في الفقه فهو ليس بمسلم بل يُحكم بكفره لانكاره ضرورة من ضروريات الدين.
إنَّ الاعتقاد بان الإسلام شاملٌ لكل مسائل الحياة الاجتماعية و الفردية و انه دينٌ و عقيدة و وطن و حكومة و قانون و روحانية و سياسة و صلحٌ و حربٌ و انه‏ ليس منفصلًا عن اي جانب من جوانب الحياة، هذا الاعتقاد يجب ترسيخه في النفوس و افهامه لكل مسلمي العالم.
فعلى‏ كل مسلم (و خاصة كوادر المجتمع الاسلامي) أن يلتفت الى‏ وجوب رعاية تقدم الإسلام و اجراء الاحكام و عزّة المسلمين، في كل حركاته و سكناته، في سكوته و نطقه و فعله و لفظه.
و بناءً على‏ هذا، فلا شكَّ في أنّ تشكيل حكومة اسلامية في الظرف الذي عاصره الحسين (عليه السلام) و استلام زمام امور الدولة الاسلامية و اجراء احكام الشريعة كان يمكن ان يتحقق من خلال اسقاط حكومة جائرة كحكومة يزيد، و لو ان شخصية كالإمام الحسين (عليه السلام) و هو امام منصوص على‏ امامته و يتمتع بكفاءة في اعلى‏ مراتبها و ذو صلاحية و صلاح متفق عليه من قبل كل المسلمين، قامت بتشكيل حكومة اسلامية، لكانت تلك الحكومة قادرة على‏ القضاء على‏ كل المفاسد الاجتماعية و السياسية الموجودة في ذلك الوقت، و لارجعت الإسلام الى‏ مسيره الاصيل و تقدمت بالمجتمع الإسلام خطوات سريعة و راسخة الى‏ التطور و الرقي.
اذن، في حالة استجابة الناس و تفاعلهم مع دعوة الحسين (عليه السلام) و نصرتهم له، تكون ازاحة يزيد و تشكيل حكومة اسلامية، واجبٌ شرعي مقدسي، و ان هذا الهدف و الغرض لا يُعرَّي الثورة من حقيقتها و خلوصها و نزاهتها و اسلاميتها و كونها ثورة اصلاحية، و لا يتهمها بالأنانية و السلطوية و الفئوية.
فهذا الاصل، اي أصل تأسيس حكومة اسلامية في حالة اشتراك عامة المسلمين كان يستحق من الحسين (عليه السلام) أن يثور من اجله و لعلَّه كان اقرب الطرق الى‏ تحقيق اهداف الحسين (عليه السلام)، و لكن و لان الحسين (عليه السلام) كان يعلم بعلم الامامة و من خلال الظروف و الاحوال السياسية و الاجتماعية المحيطة به، ان الاستجابة من‏ الناس لدعوته ستكون ضعيفة، لذلك قرر ايصال صوته عن خلال مظلوميته و ردة فعل المصائب التي سيتحملها على‏ المجتمع، فاراد ان يوقظ ضمير الامة السابت من خلال تضحياته و فدائه و مظلوميته و مظلومية اهل بيته و اصحابه.
و ثانياً: إنَّ الاستجابة لدعوة اهل الكوفة و ارسال مسلم بن عقيل اليهم انما كانت بعد موت معاوية و استخلافه ليزيد المعروف بفسقه و انحرافه و فجوره، و كان الاحرار من المسلمين في حيرة و ضياع و لم يتحملوا فضاعة عواقب هذه البيعة القهرية، و كان العالم الاسلامي بنظر الناس (إلّا من شذّ من مرتزقة الحكم الاموي و المنتفعين و الانتهازيين) بلا خليفة و امام، اذ ان وجهة نظر اتباع اهل البيت (عليهم السلام) هو ان الإمام الحسين (عليه السلام) امام قد نُصَّ على‏ امامته من قبل النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله) و من وجهة نظر غيرهم فان حكم يزيد لم يكن مشروعاً، اذ إنَّ استخلافه من قبل معاوية لم يكن مبتنياً على‏ رعاية مصلحة المسلمين، كما ان اهل الحلّ و العقد لم يمضوا هذا الاستخلاف مع إنَّ رأيهم كان ميزاناً و مقياساً يُرجع اليه في مثل هذه الحالات، و اما من بايع يزيد منهم فبين ساكت عن الحق خوفاً من سيوف امثال زياد بن ابيه و مسرف بن عقبة، و بين طامع طمعاً بالجوائز و الهبات و الاموال و المناصب، فقد احسَّ معاوية الامتعاض من بيته قبل ان يحسَّه من الغرباء عنه، و حتى‏ مروان بن الحكم- و هو اقرب الاقرباء الى‏ معاوية- حيث بلغته دعوة العهد ليزيد اشتدت نقمته و خالف تلك البيعة و كتب الى‏ معاوية «أنَّ قومك قد أبوا اجابتك الى‏ بيعتك» فعزله معاوية عن ولاية المدينة و ترضّاه ما استطاع و جعل له الف دينار كل شهر و مائة دينار لمن كان معه من اهل بيته.
و بنحو عام، كان عامة الناس (إلّا من تخوف من حدِّ السيف او الذين استهوتهم اموال معاوية) ناقمين على‏ هذه البيعة، و غير مقتنعين بوجوب الطاعة و حرمة الخروج على‏ يزيد.
و من جهة اخرى‏ فلقد كان الحسين (عليه السلام) ابرز شخصية عرفها المسلمون توفرت فيها كل الكفاءات و المؤهلات للخلافة و قيادة الامّة، فلقد كانت الانظار متجهة اليه و الاعناق ممتدة نحوه لتأسيس حكومة شرعية و لقيادة الامة و هدايتها، فلو امتنع الحسين (عليه السلام) عن أخذ حقه الذي يعترف له به الجميع، و لو انه رضي بذلك الوضع المؤسف و الاضطراب الاجتماعي و السياسي و قبل بذلك الفراغ الاداري، لأعطى‏ الحجّة للجميع في سكوتهم و خنوعهم و لا ضفى‏ مشروعية على‏ حكم يزيد و شهادة منه له أنه نعم الخليفة المأمول.
اذن، ما كان ينبغي على‏ الحسين (عليه السلام) فعله أولًا هو الامتناع عن البيعة و فسح المجال للمسلمين للأقدام على‏ انتخاب الحكومة الاسلامية و اتمام الحجة عليهم، و في المرحلة الثانية أن يدعوهم الى‏ بيعته هو لتشكيل الحكومة الاسلامية.
و لذلك، قبل الحسين (عليه السلام) دعوة اهل الكوفة بعد أن توالت كتبهم و رسلهم اليه تدعوه الى‏ تولي الامور بنفسه و اظهروا الانقياد و الانصياع لاوامره و اعلنوا الطاعة و الاستعداد للفداء و التضحية للخلاص من الضياع الذي تركه فراغ السلطة، و كأنهم بذلك قد القوا الحُجَّة عليه و اتمّوها، مما دعى‏ الحسين (عليه السلام) الى‏ الاستجابة و ارسال ابن عمه مسلم بن عقيل لتقصّي الحقائق و دراسة الامور.
و من الواضح، انَّ كل هذا الاصرار و اعلان الاستعداد من قبل اهل العراق كان فرصة تاريخية لإعادة الامور الى‏ مجاريها و اصلاح ما فسد منها، مما اضطر الحسين (عليه السلام) الى‏ العزم على‏ الخروج الى‏ العراق فلو لم يستجب الحسين (عليه السلام) لتلك‏ الصرخات و الاستغاثات، لترك الناس في حيرة و ضياع، فلم يكن للحسين أن يمتنع عن الاجابة مع كلِّ تلك التأكيدات من قبلهم، و لم يكن له ان يستند الى‏ خذلانهم لابيه و اخيه في مرحلة سابقة اختلفت فيها الظروف و الاوضاع عن مرحلته.
و لم يكن بمقدور الحسين (عليه السلام) أنْ يطلب من أهل الكوفة- كما اقترح البعض أن يطردوا حاكمها و يسيطروا على‏ ادارة البلد، ثم يسير اليهم!! فان الحسين (عليه السلام) كان يعلم بان اهل الكوفة سيوقولون له: إنَّ كل حركة و ثورة و نهضة تحتاج الى‏ قائد ميداني و إلّا فشلت تلك الحركة، مضافاً الى‏ انه لم يكن من شيم الحسين (عليه السلام) أن يطلب منهم الثورة و القتال و التضحية و الفداء، حتى‏ ياتي هو و يحكم على‏ انقاض اجسادهم!! فان كل ذلك كان يُعدُّ عرفاً، تهرباً من الجهاد و الوظيفة الرسالية.
لقد كان لسان حال اهل الكوفة و الذين كتبوا للحسين (عليه السلام): «إننا بلا امام و بلا قائد و إنَّ العالم الاسلامي في حيرة و ضياع، و إنَّ الاخطار تحدق بالامة الاسلامية بعد استخلاف يزيد» و وضعوه امام المسئولية الشرعية.
فكان على‏ الحسين (عليه السلام) أن يستجيب حتى‏ لو كانوا من اهل السوابق في الخِدَع و الخذلان، و كان الإمام الحسين (عليه السلام) يقول كما ورد في بعض كتب المقاتل: «مَن خادَعَنا في اللَّه إنخَدَعْنا لَه» .. .
إنَّ استجابة الحسين (عليه السلام) لدعوة اهل الكوفة و تشكيل الحكم الاسلامي و ارسال مسلم بن عقيل، لم يكن من نوع السياسة المذمومة و بمعنى‏ طلب الزعامة و السلطة، بل هو من نوع الامتثال للتكليف الشرعي و السياسة المحمدية الاصيلة الصحيحية.
و لذا، و مع أنَّ الحسين (عليه السلام)، و بعلمه الخاص كان متيقناً من النتيجة، استجاب‏ لاهل الكوفة لالقاء الحجّة عليهم، فارسل مسلم بن عقيل.
و جاء مسلم الى‏ الكوفة، جاء و لم يحمل معه الهدايا و الجوائز و الرشا الى‏ رؤساء قبائلها و زعمائهم‏ ، و لم يَعد احداً بوزارة أو امارة أو ولاية، و لم يتهدد احداً بقتل أو تشريد أو سجن، بل بدأ نشاطه في جوٍ من الحرية و الاختيارية، و كما نعلم فانه استقبل بحفاوة و تكريم يكشفان عن تلك الاحاسيس و العواطف الجياشة التي عبّروا عنها في كتبهم الى‏ الإمام الحسين (عليه السلام) و عن تفألهم بقدومه، و نفرتهم الشديدة من بني اميّة هذا و قد بايعه اكثر من ثمانية عشر الفاً منهم و في بعض التواريخ إنَّ العدد وصل الى‏ ستين الفاً، باختيار و رغبة و شوق، فصارت قيادة الإمام الحسين (عليه السلام) رسمية شرعية، اذ لم يبايع اهل الحلِّ و العقد إحداً غير الحسين (عليه السلام) ناهيك عن عامة المسلمين، و حتى‏ على‏ مقياس من يرى‏ البيعة بالاجماع، صارت البيعة للحسين (عليه السلام) شرعية و اصبح هو الخليفة الشرعي، فلقد كانت بيعة واقعية اختيارية بكل ما للكلمة من معنى‏.
و لكن و للاسف الشديد، كان حبُّ الدنيا والمال و الذهب من جهة، و الخوف من الفداء و التضحية من جهة اخرى، قد أخذ ماخذهما من نفوس الناس، فعاقهم ذلك عن الصمود ساعة الشدَّة و الامتحان، فابتلوا بخيانة العهد و نكث البيعة و الخذلان مما اورثهم ذُلّا و عاراً يصعب التخلص منه على‏ مدى‏ الاجيال.
و من الطبيعي، ان ما قام به الحسين (عليه السلام) من استجابة لدعوة المستغيثين و الملهوفين كما جاء في كتبهم و على‏ لسان رسلهم اليه، و ارسال مسلم اليهم ثم‏ خروجه بنفسه على‏ العراق، انما كان بحسب الظاهر لتشكيل حكومة اسلامية و اغاثة المستغيثين، و لكن لما كان واقع الامر و باطن الحقيقة معلوماً للحسين (عليه السلام) و لانه كان ينفِّذ ما نفَّذه الانبياء و الاولياء، قَبِل دعوتهم و اتمَّ الحجّة عليهم، عملًا بمفاد الآية الشريفة: «ليَهلَكَ مَن هلك عن بيِّنة و يحيى‏ مَن حيَّ عَن بيِّنَةٍ» بالضبظ كفائدة دعوة الانبياء «لِئلا يكونَ للناسِ على‏ اللَّه حُجَّة بَعدَ الرُسُلِ» كذلك كانت فائدة ثورة الحسين (عليه السلام) و استجابته، لئلا يكون للناس حجة يوم القيامة على‏ اللَّه و على‏ الإمام.
لقد اثبت خذلان اهل الكوفة و أحداثها أنَّ تشكيل حكومة اسلامية غير متيسرٍ في ذلك الظرف، و انّ طريق دفع المخاطر عن الإسلام ينحصر في الامتناع عن البيعة و بالتسليم و الاستقامة و الاعداد لثورة فكرية عقائدية، و بتهييج المشاعر، و التضحيات من اجل افشاء مخططات بني اميّة.
و الحاصل: إنَّ الجواب على‏ ذلك هو أنْ يقال: إنَّ حفظ الإسلام كان منحصراً في أحد طريقين:
الاول: تشكيل حكومة اسلامية عادلة و اسقاط حكومة بني اميّة و يزيد.
الثاني: التضحية في طريق الامتناع عن البيعة و الاستسلام، و خوض طريق الشهادة و المظلومية.
و لمّا لم يمكن سلوك الطريق الاول لعدم وفاء الناس و خذلانهم، اختار الإمام (عليه السلام) و منذ البداية الطريق الثاني، مستفيداً من المشتركات بين الطريقين مادام خذلان الناس له لم يصل الى‏ العلن و التحقق.
اذن، فتشكيل الحكومة الاسلامية، و إن كان هدفاً مقدساً و طلبُه لا يُخلُّ بمقام الحسين (عليه السلام) و قداسته بل كان عين الصواب و الحق، لكن و لان الحسين (عليه السلام) كان يعلم منذ البداية بعدم تحققه، لا يمكننا أن نقول بان تشكيل الحكومة كان من جملة اسباب‏ و دواعي ثورة الحسين (عليه السلام).
إنَّ من يطالع تاريخ الثورة الحسينية ينجذب بشدة الى‏ روح الفداء و طلب الحق الذي جسَّده الإمام الحسين (عليه السلام) و لا يشكُّ احدٌ أبداً في نزاهة الثورة و تجرّدها من المكاسب الدنيوية، بل سيتضح جليّاً له أنَّ الحسين (عليه السلام) الذي ضحّى‏ بنفسه و اولاده و أصحابه، إنما ثار من أجل تصحيح القيم و اصلاح الامّة.
و قد عجز كل من حاول المساس بقدسية هذه النهضة، من أعداء الإسلام و أعداء اهل بيت النبي (صلى الله عليه و آله) و من اولئك المتنكرين للحقّ، و اذناب المستعمرين و بعض المستشرقين و المأجورين مثل «لامنس» الذين دافعوا مستميتين عن بني اميّة و يزيد، سعياً منهم لاضلال و استغفال البسطاء من عامة الناس و السذَّج و الهامشيين، مفترين على‏ قائد هذه النهضة للانتقاص من شخصيته الرسالية الفريدة.
و لا ريب في فشلهم و عجزهم ذاك، اذ انَّ سلاح الافتراء و التهم اذا كان قاطعاً في بعض الموارد، فانه كالُّ في هذا المورد بالذات، بعد وضوح تضحيات الحسين (عليه السلام) الخاصة التي كشفت على‏ الحقائق و دفعت كل إبهام و خلل محتمل.
و لقد وصل الحسين (عليه السلام) الى‏ درجة من الكمال عَجز معها حتى‏ بنو اميّة من التجاسر قط على‏ المساس بورعه و تقواه و رعايته لاحكام الدين في اصغر صغيرة يباشرها المرء سرّاً و علانية و حاولوا أن يعيبوه بشئ غير خروجه على‏ دولتهم فقصرت السنتهم و السنة الصنائع و الاجراء دون ذلك، فاضطر كلٌ منهم الى‏ التبري من عار و شنار قتله الفجيع و انكار مشاركته في ذلك، و كان كلٌ منهم يُلقي باللائمة على‏ غيره، و لكنهم لم يفلحوا في اقناع الامة الإسلامية ببراءتهم.
و حاول بعض المؤرخين و ضعاف الفهم و لاغراضٍ خبيثة ان يقلل من أهمية هذه النهضة و قداستها، و من جملة هؤلاء و لعله الوحيد من القدماء في إنحرافه الفكري و الضلال هو ابوبكر بن العربي الذي ينسب اليه قول: «إنَّ حُسيناً قُتلَ بسيفِ جدِّه»
و هذا القول، و إن كان ظاهراً في الدفاع عن قتلة الحسين (عليه السلام) الذين ارتكبوا- باجماع الامة أفضع الجرائم و الجنايات و اشتروا غضب اللَّه و الرسول و الشقاء في الدنيا و الآخرة و خسرانهما، و لكن ما هو وراء هذا الدفاع أعظم ألا و هو اساءة الأدب و التجاسر على‏ مقام النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله) الشامخ.
لقد ظن ابن العربي ان سيف الرسالة و النبوة، هو سيفٌ الضُحاك و جنكيز خان، و قد قُتل الحسين (عليه السلام) به!!
إنَّ ابن العربي يريد أن يقول: إنَّ سيف الظلم و الجور الذي كان بيد بني اميّة، هو سيف النبي (صلى الله عليه و آله)!!
انه يقول: إنَّ السيف الذي شهره معاوية و اراق به دماء الابرياء و اجلَّة الصحابة و التابعين هو سيف النبي (صلى الله عليه و آله)!!
انه يقول: إنَّ السيف الذي قُتل به عمّار بن ياسر و أويس القرني و خزيمة و ابن التيهان و حجر بن عدي و سائر شهداء مرج راهط، و رشيد الهجري و ميثم التمار، هو سيف رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله)!!
إنَّ ابن العربي يقول: إنَّ السيف الذي قام بمذبحة المدينة في الحرّة و اراق دماء الصحابة في حرم النبي (صلى الله عليه و آله) و هتك المقدسات الإسلامية و تعرض لنواميس المسلمين‏ و أعراضهم العفيفة، هو سيف النبي!!
فهو يقول: إنَّ السيف الذي كان بيد يزيد و ابن زياد و مسلم بن عقبة و بسر ابن ارطاة و الحصين بن النمير و الحجاج بن يوسف و الوليد و امثالهم من الجلّادين و القتلة، هو سيف محمد بن عبد اللَّه (صلى الله عليه و آله)!!
«لا حولَ و لا قوَّة إلّا باللَّه و إنّا للَّه‏و إنا اليه راجعون»
و يحق لنا ان نبكي بدل الدموع دما على‏ مثل هذه البليَّة حين يكون في المسلمين مثل ابن العربي الذي يصل به العداء للنبي و اهل بيته الى‏ هذا الحدِّ.
فهل هناك تجاسر و اهانة و شتيمة للنبي و الإسلام أكبر من جسارة ابن العربي؟! لا، يا ابن العربي! إنَّ الحسين (عليه السلام) و اصحابه و اهل بيته و كل من هبَّ لنصرة الحق و الدين، لم يقتل بسيف رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله).
إنَّ الحسين (عليه السلام) قُتلَ بسيف عتبة و شيبة و الوليد و المشركين الذين حاربوا الإسلام.
لقد قُتل الحسين (عليه السلام) بسيف الكفر و الجاهلية، بسيف ابي سفيان و ابنائه، ذلك السيف الذي شهر في بدر و احدٍ و الاحزاب ضد المسلمين، إن السيف الذي قتل الحسين (عليه السلام) هو نفس السيف الذي قتل حمزة عمِّ النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله)، انه سيف معاوية و عمرو بن العاص و مروان الطريد، إنَّ السيف الذي قتل الحسين (عليه السلام) هو سيفكم أيّها الكتاب المتملقون المتلونون.
و أحدُ هذه الاقلام الخبيثة المغرضة هو محمد خضري بيك صاحب كتاب «محاضرات تاريخ الامم الاسلامية» الذي خان الإسلام في كتابه المشئوم هذا.
هذا الرجل الناصبي المستميت في الدفاع عن بني اميّة عامة و معاوية و يزيد خاصة، يعتبر ثورة الحسين (عليه السلام) تطرفاً و إنتحاراً سياسياً، و بعيدة عن الحزم و بُعد النظر، و انخداعاً بالعراقيين!!
و يستمر هذا الكاتب بتسطير جملات الاعتراض و الانتفاد لثورة الحسين (عليه السلام) بدلًا من توبيخ و محاسبة بني اميّة و خاصة معاوية الذي تسبب في فرقة المسلمين و اختلافهم، و الذي خرج على‏ خليفة زمانه الحق، و استخلف ولده يزيد الفسق و المجون، متبعاً طريقةً كسروية قيصرية في ولاية العهد!!
و ليت خضرى‏ بيك سكت و لم يوبخ، و انما نراه يحمل بشدة على‏ النهضة الحسينية ضد يزيد.
و في خاتمة مقاله يتخبط و يقول: لقد ثار الحسين على‏ يزيد قبل أن يصدر عنه أيّ ظلم و جور!!
و نقول لهذا المتملق: إنّ مثل الحسين (عليه السلام) الذي عرف المسلمون و العالم الاسلامي كلِّه، فضائله و مناقبه من خلال ما وصلهم من اخبار و احاديث متواترة عن النبي (صلى الله عليه و آله)، يكون احتمالُ خطأة معدوماً تماماً، كما انَّ صوابه و سلامة موقفه، هو المرتكز الراسخ في الفكر العام عند المسلمين، و في زمننا المعاصر، أطبق العقلاء و روّاد المجتمع العالمي على‏ ضرورة مقارعة الظلم و الجور و الاستغلال و الاستعباد، و إنَّ حياة و بقاء الامم مرتهن بمقاومتها للظالمين، و انَّ طريق الحسين (عليه السلام) و نهجه هو الطريق الأصح فهم يعتبرونه (عليه السلام) امام الاحرار و سيد المضحِّين في سبيل خلاص و انقاذ البشرية و الداعين الى‏ الاستقلال و الحرية و الاصلاح، و لا يعتني احدٌ بسفسطائية الخضري الناصبي، بل يلعنون امثاله من الكتّاب الذين يروّجون الهَراء.
و رغم ذلك، و مع أنّ الاستاذ محمد رضا رشيد قد ردَّ في كتاب «الحسن و الحسين سبطا رسول اللَّه» على‏ «خضري بيك»، لكننا سنجيب على‏ تخرصاته ببعض‏ الاجوبة:
1- انه خضري بيك، ظنَّ أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) خرج من اجل السلطان و اعتبر إنَّ عدم تحقق هذا الهدف المزعوم، دليلٌ على‏ قلة الحزم و التخطيط، و عدم اعداد العدَّة و العدد، و لذا اعتبر حركة الإمام الحسين (عليه السلام) حركة افراطية متسرعة غير مدروسة.
و لكن و كما اشرنا مراراً؛ إنَّ ثورة الحسين (عليه السلام) بشهادة أرباب القلم الحرِّ و مفكري العالم الاسلامي، لم تكن حركة سياسية محضة من اجل السلطان و الزعامة، و قد كان الحسين (عليه السلام) مطلعا على‏ عواقب حركته و خواتمها، و كان قد أطلع الاخرين على‏ تلك الخاتمة، فالحسين (عليه السلام) كان يرى‏ أن واجبه الشرعي يدعوه للخروج و الثورة و إن البيعة ليزيد محرَّمة و إن التخلف عنها واجبٌ مقدمي و إن كلفه حياته.
فالامام الحسين (عليه السلام) هو الشخصية الاولى‏ في الامة الاسلاميّة، و كان يتمتع بكل مؤهلات زعامة و امامة الأمة، فهو من بيت النبيوة و الرسالة، و هو العارف بصلاح الامة و الحريص على‏ مستقبلها، فكيف يرضى باستخلاف شاب فاسق و جاهلٍ متجاهر بالاثم و المعاصي؟
و اذا وجب الامرُ بالمعروف و النهي عن المنكر، كان الحسين‏أولى‏ من غيره بالقيام بهما، و أوّل من يجب عليه العمل على‏ محو الفساد و الظلم من المجتمع الاسلامي حتى‏ لو كلفه ذلك غاليا.
فمن اولى‏ من الحسين (عليه السلام) بالجهاد و الفداء في سبيل الحفاظ على‏ الدين و الدفاع عن الشرع؟
و الحسين (عليه السلام) كان يرى‏ التضحية و الشهادة واجبةً في طريق اقامة الحق و احيائه و اماتة الباطل و ازهاقه، و لذلك قال: «لا ارى‏ الموتَ إلّا سعادةً و لا الحياة معَ الظالمينَ إلّا بَرَما»
و قال (عليه السلام): «لا أُجيبُ إبن زيادٍ فَهَل هُو إلّا الموتُ فَمَرحباً بِهِ»
لقد أُخِذَ الخضري بيك من جهة مقايسته ما بين ثورة الحسين (عليه السلام) و بين حركات السياسيين الطامعين بالزعامة و الملك، فاعتبرها انتحاراً سياسياً، و حركةً عشوائية متسرعة، مع إننا أوضحنا في الفصل الاول لهذا القسم من الكتاب، ان ثورة الحسين (عليه السلام) كانت امرا إلهياً، و اداءً للتكليف الشرعي، و مأمورية سماوية، لا تُقاس الّا بحركات و نهضات الانبياء و الاولياء، التي لا تستند الى‏ القوة المادية و الظاهرية.
لقد قام نبي اللَّه ابراهيم (عليه السلام) الأعزل من السلاح و الجيش و الناصر و المعين، ضد أعتى‏ جبار في زمانه و هو النمرود، فاستخفَّ بالهتهم و كسَّر اصنامهم و جعلها جُذاذاً.
و هذا موسى‏ كليم اللَّه (عليه السلام)، الراعي الفقير، يقف أمام جبروت فرعون مصر و دعواه الربوبية، و يأمره بان يتخلى‏ عن هذا الادعاء، و ان يترك استعباد الناس، و أن يخلّي بينه و بين بني إسرائيل، و اعتبره ضالًا، و لم يكن مع موسى‏ جيش و لا عدّة، إلّا هرون اخوه.
و هذا رسول اللَّه محمد (صلى الله عليه و آله) و لوحده قد حمل راية الدعوة الى‏ التوحيد الى‏ جبابرة و مستكبري العرب و العجم، و القبائل المشركة المتوحشة التي كانت تسجد لثلاثمائة و ستين صنماً! و أرسل الرسل الى‏ ملوك فارس و قياصرة الروم يدعوهم الى‏ دين اللَّه.
و هذا يحيى‏ بن زكريا النبي (عليه السلام) دعا الناس الى‏ اللَّه، فقِتل و أُهدي رأسه الى‏ بغيِّ من بغايا بني اسرائيل.
و الحسين (عليه السلام) دعى‏ الناس الى‏ الحق و العدل و الى‏ دين جدِّه فقُتل و أهدي رأسُه الى‏ يزيد الطاغية.
و هكذا زكريا و سائر الانبياء الذين قُتلوا أو كُذِّبوا، لم يعتمدوا الاسباب الظاهرية المادية في دعوتهم.
فهولاء جميعاً ما قاموا إلّا امتثالًا لامر اللَّه و التكليف الشرعي، و لم يدفعهم حبَّ الغلبة و السلطان، فسواء عليهم النصر أو الهزيمة الظاهريَّين، ماداموا يؤدون تكليفهم.
و لقد كان في أزمانهم مَنْ يتهمُهم و يفتري عليهم بالافراط و العجلة و عدم الحزم و التخطيط، و الاقدام على‏ التهلكة و القتل، بل ان الناس استهزؤا بهم و آذوهم و اتهموهم بالجنون و التخبط!!
ذلك لان الجهّال لا يميزون بين طالب حق و طالب سلطان، و يظنّون ان الحركات التمردية الاصلاحية المستندة الى‏ وجوب الامتثال لله و اوامره، و الداعية الى‏ الفضيلة و العدالة و الحق و اتمام الحجّة، هي مماثلة للحركات الدنيوية السياسية القائمة على‏ اساس حبِّ الدنيا و السلطان و الزعامة و النفع الشخصي.
2- ما قاله الخضري بيك من انَّ الحسين (عليه السلام) لم يعط يزيداً الفرصة الكافية لاثبات جدارته، و إنه (عليه السلام) خرج عليه قبل ان يصدر ايُّ ظلمٍ و جور من يزيد، و كان الافضل أن يسكت الحسين و يصبر و يُمضي حكومة يزيد، ليعتلي يزيد دفة حكمٍ جائرٍ ليعمَّ العالم جورُه و ظلمه و جرائمه و فساده، ثم ينهض ضدَّه؟!
هذا الذي تشدَّق به الخضري ناجم عن ظنه الخاطي بجهل الإمام الحسين (عليه السلام) لشخصية يزيد و صفاته، و ان المسلمين لم يكونوا يعرفون من هو يزيد بن ميسون.
إنَّ يزيد بن معاوية كان مشهوراً بفساد اخلاقه و قبائح فعاله، و معاقرته الخمرة و لعبه بالقردة و الكلاب و تجاهره بالفجور و المعاصي، مستحلًا لحرم اللَّه، و لم يمتنع من امتنع عن بيعته زمن أبيه- على‏ رغم مخاطر التمرد- إلّا بعد ان عرفوا من هو يزيد بن معاوية، و انه لا يصلح لادارة قرية من قرى‏ بلاد المسلمين لفساده، فضلًا عن خلافة الامة الاسلامية.
إنَّ يزيد بن معاوية، لم يتورع عن شرب الخمر و السكر حتى‏ في المدينة المنورة عندما سافر اليها زمن أبيه، مع علمه بانه سيكون بمرأى‏ و مسمع صحابة رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) و رجالات الإسلام‏ .
إنَّ الحسين (عليه السلام) قد عرف يزيداً منذ اللحظة الاولى‏ لاستخلافه من قبل معاوية فقال لمعاوية: و اعلم ان اللَّه ليس بناس لك قتلك بالظنة و اخذك بالتهمة و إمارتك صبياً يشرب الشراب و يلعب بالكلاب و ما اراك الا و قد أوبقت نفسك و اهلكت دينك و أضعت الرعية.
3- لو كان يزيد قد أحسن التصرف بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) و عمل بكتاب اللَّه و سنة نبيه، و تخلّى‏ عن شرارته و فساده و مجونه، لاحتُمل- ظاهراً- ان الحسين (عليه السلام) قد لا يكون واقفاً على‏ مساوي يزيد و انه تسرَّع في نهضته، و لكنَّ افعاله الشنيعة يوم عاشوراء و أسرِ بنات رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) و تسييرهنَّ في البلدان و بعد واقعة الحرَّة و هدم الكعبة و حرقها، و الاستمرار في التجاهر بالفسق و المعاصي‏ الكبيرة، كشفت ما بقي خافياً على‏ الناس من قبائح افعاله، لا يَبقى‏ لظنِّ خضري بيك ايّ مصداقية إلّا عداوته و نصبه لاهل البيت (عليهم السلام) .
4- إنَّ كلام الخضري بيك ناشي إمّا عن التعصّب الاعمى، و امّا عن جهله باهداف الإسلام، فظنَّ ان كل من قام ضد حكومةٍ ما و في أيِّ ظرف كان، فهو شاقٌ لعصا المسلمين و مفرق لجمعهم و باعث على‏ اختلافهم و فرقتهم و انه ينبغي علينا تمكين الظلمة و الحكومات و اعانتهم و طاعتهم و مهادنتهم و التملق لهم، كي لا يتفرق المسلمون!! و أنَّ الوحدة و الاتحاد ممدوحٌ حتى‏ في ظلّ الظالمين و اعانتهم على‏ ظلمهم، و أنه كان على‏ الجميع مدَّ يد العون ليزيد و الحجّاج و الوليد و معاوية و جبابرة التاريخ و مهادنتهم و شرعنة انظمتهم و امضاء سلوكهم، حفظاً للامّة من الفُرقة!!
كلا يا خضري بيك، لقد ضَلَلت و تُهت و ذهبتْ بك المذاهب فان الاختلاف بين أهل الحق و اباطل لا زال قائماً منذ قابيل و هابيل، و لا نعهد شريعة من الشرائع السماوية و لا الارضية السليمة، تبيح لأهل الحق السكوت و الاستسلام لأهل الباطل بحُجَّة الحفاظ على‏ وحدة المجتمع، فعلى‏ مقياس الخضري يكون ابراهيم خليل اللَّه (عليه السلام) الذي وقف مقابل جبروت نمرود، و يكون محمد بن عبد اللّهّ (عليه السلام) الداعي الى‏ نبذ عبادة الاوثان، و سائر الانبياء، ادعياء تفرقة و اختلاف نعوذ باللَّه من هذه المقالة.
كلا يا خضري بيك! إنَّ جذور اختلاف المسلمين و تفرقهم تعود الى‏ امثال حكومة معاوية مفرِّق الجماعات و يزيد و من لفَّ لفَّهم الذين حاربوا التعاليم الاسلامية و قوانين الدين سعياً وراء السلطة و الملك.
5- يا خضري بيك، إنَّ الحسين (عليه السلام) كان عارفاً بكل خطوة خطاها، عارفاً بعللها و أهدافها و نتائجها، و كان يخطو الخطوات بكل حزم و دراسة و حكمة نحو هدف واضح مدروس و مخطط له، و كان مطَّلعاً على‏ ماوراء الزمن، متنبئاً بعواقب الامور، متيقناً من يقظة الامّة و انتباهها من غفلتها، متوقعاً ثورتها و انتفاضتها ضد يزيد و بني اميّة، موعوداً بزوال هذه الحكومة الجائرة و محوها من سجلِّ الحكومات الاسلامية، مستَتْبعةً بلعنة أبديةٍ.
إنَّ الحسين (عليه السلام) كان يسير نحو زعزعة بني اميّة عامة و معاوية و يزيد خاصة، و نحو كشف بواطن هذا الحكم العَفنِ، و أن يضمَّ اصوات عامة المسلمين الى‏ صوته في إدانة هذا الحكم و إسقاطه و تخليص المجتمع من شرِّه، و لذا عبأ الإمام الحسين (عليه السلام) كلَّ القِوى‏ و درس كلّ المحتملات و لم يتجرَّد عن الحزم و الدقة لحظةً واحدة طوال مسيره و حركته و نهضته، فكان قد حسب لكل شي حسابه و اعدَّ عدَّتَه و أوجد المقدمات توخياً لتحقق النتائج كاملة و ليملأ صوتُ مظلوميته أسماع العالم كلّه، و يعلو صوت الاعتراض العام و الملامة و النفرة و الكراهية ضد عدوه، فيُخذل العدو و تفشل مخططاته المشئومة لمحو الإسلام، و هذا ما حصل بالفعل و هو خير دليل على‏ بطلان مزاعم خضري بيك، اذ ما مرَّت إلّا ايام قلائل حتى‏ ارتقى‏ معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) المنبر في دمشق فاضحاً جرائم أبيه و جدِّه و بني اميّة عامة، معلناً أحقيَّة علي (عليه السلام) و آله بالخلافة و الامامة.
إذا قال قائل: إنَّ الانسان اذا كان يهدف من ثورته مقتلهُ و مقتل اولاده و انصاره و أسرَ اهل بيته و عيالاته، فان ذلك بمثابة القاء النفس الى‏ التهلكة و هو غير جائز عقلًا و شرعاً بنص الآية الكريمة: «لا تُلقوا بأيديكُم الى‏ التَّهلكَة» ، فكيف يصح من الحسين (عليه السلام) أن يَخرج للشهادة و القتل السبْي، و أن يَعدَّ و يستعدَّ لذلك؟
فان قتل الحسين (عليه السلام) و أسر بنات النبوة، من أعظم الجنايات و هو مبغوض عند اللَّه تعالى‏، و لا يجرُّ على‏ صاحبه غير الضرر؟
أجبناه قائلين:
1- إنَّ قتل النفس موضوع تشكيكي يختلف باختلاف الاحوال و العناوين، فتارة يكون موضوعاً لحكم تحريمي و اخرى‏ يصير موضوعاً لحكم وجوبي الزامي، و ليس محرماً على‏ الاطلاق كما توهم المستشكل، و حتى‏ لو كان هناك اطلاق، فانه مخصَّصٌ بالادلة الاخرى‏. فلو فرضنا ان الإسلام يواجه تهلكةً و خطراً قاتلًا، و يقال إنقاذ الإسلام و خلاصه من الخطر يتوقف على‏ القاء النفس في التهلكة، فهل يُال أيضاً بعدم جواز التضحية و القاء النفس الى‏ التهلكة حفاظاً على‏ الإسلام؟
ألا يُلام و يُوبِّخ من يمتنع عن التضحية بنفسه في سبيل الحفاظ على‏ بيضة الإسلام و شرف المسلمين؟ أليس الدفاع عن الدين، و الجهاد في سبيل الحق، أولى‏ بوجوب التضحية و الفداء؟
إنَّ فلسفة الجهاد و الدفاع هي الدعوة الى‏ التوحيد و تحرير البشرية من العبودية لغير اللَّه و حفظ الإسلام و تخليص الدين من المحو و التهلكة، أو حفظ الدولة الاسلامية من استيلاء الاجانب و الكفّار و الاشرار، و هو واجب على‏ كل المسلمين طبقاً لاحكام الجهاد و الدفاع- مع تيقن القتل و إلقاء النفوس في التهلكة.
فالدفاع عن خنادق و ثغور الإسلام، اذا توقف على‏ استشهاد عدد من جنود المسلمين، و وُجدت ضرورة لحفظ الدولة الاسلامية من المخاطر، وَجَب تحمل التلفات و التضحيات الكبيرة، و مثل هذه التضحيات و الفداء جائزة بل واجبة.
2- انَّ هذا الحكم (حرمة القاء النفس الى‏ التهلكة) حكم ارشادي، و مؤيد لحكم العقل بقبح «القاء النفس الى‏ التهلكة»، و من الواضح ان انكار العقل لذلك انما هو في حالة عدم وجود مصلحة أهم من الحفاظ على‏ النفس، فان توقفت مصلحة أهم من ذلك عليه، حَكَم العقل بالجواز بل بالوجوب و الإلزام احياناً.
3- إنَّ الهلاك متصورٌ بعدة انحاء من جملتها، الفناء و المحو و الانعدام، و قد يكون هذا النحو هو المقصود في الآية الشريفة، و هذا المعنى‏ انما يتحقق فيما لو لم يكن هناك غرض شرعي صحيح أو عقلي سليم، فان وجد مثل هذا الهدف و الغرض و كان ذلك امتثالًا للتكليف الشرعي و للأمر الالهي و للدفاع عن احكام الدين و عزَّة المسلمين، لم يكن الفداء و التضحية القاءً للنفس في التهلكة و لا فناءاً و إنعداماً.
فمن ضحى‏ من اجل الدين و في سبيل اللَّه لم يكن مُعدِماً لنفسه، و لا فانياً، بل هو حيٌ بصريح القرآن، قد باع نفسه باغلى‏ الأثمان.
اذن، ففي حالة تحقق مصلحةٍ أهم من الحفاظ على‏ النفس، أو دفع مفسدةٍ أهم من ذلك، لم يكن بذلُ الانفس و السباقُ الى‏ الموت و الشهادة، القاءاً للنفس في التهلكة، نظير بذل المال، فتارة يبذل المال بلا عوض، فهو الاسراف و التبذير، و اخرى‏ يبذل المال للحفاظ على‏ الشرف و الكرامة و الربح الأوفر، فلا يكون اسرافاً بل هو ممدوحٌ و مستحبٌ و قد يجب في بعض الاحيان.
4- انَّ الصبر و الثبات حتى‏ الشهادة، في ميادين الجهاد و الدفاع عن الدين، و خاصة فيما لو تسبب الادبار عن القتال، في هزيمة جيش الإسلام و غلبة الكفّار، و كان الفداء و التضحية محمساً و محفزاً جند الإسلام على‏ الصمود، أمرٌ ممدوح، بل هو واجب مقدس، و لا نظن وجود احدٍ يدّعي ان مثل هذه التضحية القاءٌ بالنفس الى‏ التهلكة و انَّه محرَّم، بل كان في صدر الإسلام و لازال يعدُّ من افتخارات و عزَّة و بطولة جند الإسلام و بالاخص قادتهم و امرائهم، كاستقامة و ثبات و فداء و تضحية جعفر الطيار (عليه السلام) التاريخية في حرب مؤتة، فان مثل هذا الجهاد و الايثار و التضحية و استقبال الشهادة هو دركٌ للسعادة العظمى‏ و تقرب الى‏ اللَّه عزوجل، لا أنه القاء النفس في التهلكة و الانتحار.
5- إنّ الآية الكريمة و إن دلَّت على‏ حرمة الالقاء بالنفس الى‏ التهلكة، لكن لمّا كان متعلق النهي هو عنوان الالقاء في التهلكة و ليس مثل تعلق النهي بالموضوعات الخارجية كشرب الخمر أو القمار، فان تحقق مصداقه و فرده يدور مدار تحقق العنوان المذكور، فقد يكون الفعل في ظرفٍ معين و لشخص معين، القاءٌ في التهلكة، و لا يكون كذلك بالنسبة لشخص آخر و في حالٍ آخر، و كما يقول احد علماء التفسير بان هذا العنوان له مصاديق متعددة، فتارة يكون الالقاء في التهلكة متحققاً في ترك الانفاق، و تارة يتحقق في نفس الانفاق، و تارة يتحقق في ترك الجهاد، و تارة يتحقق في الدفاع، كما إنَّ الالقاء في التهلكة تارة يكون فردياً و اخرى جماعياً و عاماً، فلابد من ملاحظة المفاسد و المصالح و المناسبات و الموارد، فقد يصدق الالقاء في بعض الموارد و لا يصدق في بعضها الآخر.
و في بعض الموارد، و حتى‏ لو صدق العنوان، يكون تركه سبباً للابتلاء في التهلكة الدنيوية و الاخروية الاعظم و التي لا يمكن جبرانها.
و بعد بيان هذه الإجابات، ينبغي اضافة هذا التوضيح:
اولًا: إنَّ الحسين (عليه السلام) و هو صاحب مقام الامامة و العصمة، هو أعلم افراد الامّة بالاحكام الشرعية، و هو معصوم عن الخطأ و الاشتباه، و ما يصدر منه انما يصدر موافقاً للأمر الالهي و امتثالًا للتكليف الشرعي.
و ثانياً: إنَّ بني اميّة، كانوا سيقتلون الإمام الحسين (عليه السلام) سواء خرج الى‏ العراق أو بقي في مكة. و قد لاحظ الإمام (عليه السلام) كلَّ المصالح الموجودة في القضية، فخرج عن مكة صوناً لحرمة الحرم من الهتك، و كلُّ من تابع خطوات حركة الإمام الحسين (عليه السلام) و نهضته، سيعي تماماً أنَّ الحسين (عليه السلام) اراد أنَّ يوظف استشهادَه و مقتله و مظلوميته باكبر قدرٍ ممكن من اجل بقاء الإسلام و احياء الدين، فكان مراعياً لادقّ الدقائق و النكات لضمان نجاح هذا التوظيف.
و ثالثاً: إنَّ هدف الحسين (عليه السلام) من الثورة و الامتناع عن البيعة و الاستسلام و السكوت، و تحمل المصائب العظيمة، هو نجاة الدين، و لقد كان هذا الهدف مستحقاً لكل تلك التضحيات بوُلده و أصحابه و بنفسه الشريفة، و من ثمَّ اختار الشهادة و استقبل تلك البلايا و المصائب.
إنَّ الداعي الاوّل و الاخير لخروج الحسين (عليه السلام) هو امتثال الأمر الالهي و حفظ الدين و طلب الحق، و ابطال مشروعية حكم بني اميّة و افشال مخططاتهم و تفويت الفرصة عليهم لتحقيق اهدافهم المشئومة، و مقدمة الوصول الى‏ هذه الاهداف هو عدم السكوت و الاستسلام، و الاستقامة و الثبات الى‏ درجة الشهادة و تحمل كل تلك المصائب. و لقد كان هدف الحسين (عليه السلام) محبّباً لله و رسوله (صلى الله عليه و آله) و موافقاً للعقل و وجدان الإنسانيّة.
فمن المغالطة القول: بان قتل الإمام الحسين (عليه السلام) اذا كان مبغوضاً للَّه، فكيف زجَّ الحسين (عليه السلام) نفسه الى‏ القتل؟
إذ أنَّ الإمام (عليه السلام) لم يشأ أن يُقتل على‏ يد الآخرين، و لقد بقي يدافع عن نفسه الى‏ آخر ساعة من حياته، و لكي يُتمَّ الحجَّة على‏ اعدائه، كان يعظهم و ينصحهم و يجادلهم في فداحة قتله و سفك دمه، و لكن كانت الشهادة في سبيل اللَّه، محبوبته التي تمنّاها، و التي اعتبرها من أعظم وسائل كمال القرب و الفلاح، و على‏ كلَّ مؤمن مسلم أن يتمنى‏ الشهادة و يشتاق اليها.
نعم، إنَّ قتل الإمام و أسر أهل بيته، مبغوض عند اللَّه و من اكبر الجنايات و الكبائر، و لقد أوضح الإمام السجاد (عليه السلام) في خطبته في المدينة الطيبة بان قتل الحسين (عليه السلام) «كان ثلمةً عظيمةً» و انَّ نتائجها السلبية و مضارها على‏ العالم الاسلامي تفوق حدَّ التصور، و كان ينبغي على‏ اولئك الاشقياء ان لا يقدموا حتى‏ على‏ التفكير في مثل تلك الجناية حتى‏ لو قطعوهم ارباً ارباً، و لكن لم يكن لينبغي على‏ الحسين (عليه السلام) و لدفع هذه الثلمة العظيمة ان يستسلم لهم و يبايع يزيد، فان الضرر الناشي من هذا الاستسلام و السكوت و البيعة هو اكبر بمراتب، فالحسين (عليه السلام) يرى‏ أنَّ مصلحة حفظ الدين و الامتناع عن البيعة ليزيد، كبيرة عظيمة تستحق منه التضحية بنفسه و ولده و اعزته، و أن يفتدي احياء الإسلام و ابقاء كلمة التوحيد بكل ما يملك.
و بعبارة اخرى‏ كان الناس مكلفين بطاعة الإمام الحسين (عليه السلام) و نصرته و الدفاع عن وجوده المقدس و ترك التعرض لحرمته، و كان الحسين (عليه السلام) مكلفاً بالاستقامة و الثبات في طريق العقيدة و الهدف، و التضحية و تحمل المصائب لحفظ الإسلام. فاذا لم يمتثل الناس تكليفهم فهل على‏ الحسين (عليه السلام) أن لا يمتثل هو الآخر تكليفه و أن يستسلم للذُلِّ و الهوان و أن يتراجع و يترك الدين و القرآن و الشريعة في غربتها؟
اقرأوا قصة اصحاب الاخدود، اولئك الرجال و النساء المؤمنون الذين ذكر الحقُّ عزوجل في قرآنه صبرهم و بصيرتهم و امتدحها، طالعوها بدقة لتجدوا كيف‏ رجّحوا الاحتراق بالنار المؤجَّجة، على‏ الاحتراق بنار الكفر و الردَّة عن الايمان. و بذلك نجحوا في ذلك الامتحان و تخرَّجوا بدرجة المنزَّهين عن الغلِّ و الغش.
و عليه، فالثبات و الصبر في طريق العقيدة و الايمان و الدعوة الى‏ اللَّه و حفظ الدين و حماية الاهداف الإنسانيّة السامية ببصيرة و معرفة و قصد، شي‏ءٌ، و القاء النفس الى‏ التهكلة شي‏ءٌ آخر، و انَّ الفداء و التضحية و نصر اللَّه و الدين من العارف الملتفت العالم باحكامه، لَعزَّةٌ و فخرٌ يتمناها كلُّ مؤمن، و هو امرٌ خارج تخصُّصاً أو تخصيصاً عن الالقاء بالنفس الى‏ التهلكة.
و من البديهي أنَّ دفع هذا الاشتباه في خصوص افعال النبي أو الإمام (عليه السلام)، لا يحتاج الى‏ كل هذا البيان و التوضيح، فاننا قلنا مراراً: أنَّ فعل و قول و تقرير (سنة) الإمام (عليه السلام) يعدُّ من ادلة الاحكام الشرعية كما في سنة النبي (صلى الله عليه و آله) و ليس من شأننا أن نجتهد لتعيين وظيفة الإمام (عليه السلام).
أجل، انَّ تتبّع هذا البحث مفيد من وجهة النظر الفقهية و الاستنباطية لتعيين تكليفنا نحن.
و على‏ اي حال، فانَّ في افعال و سيرة الانبياء و الائمة (عليهم السلام) اسرارٌ و حِكَمٌ لامتحان العباد و اتمام الحجَّة عليهم و تكميل النفوس واصلاح العباد و... الخ.
و التعرف على‏ تلك الحِكَم و المصالح يحتاج الى‏ غور و تدقيق كبيرين في الآيات و الروايات و سيرة هؤلاء العظام، و مع ذلك فكل ما سنحصل عليه و نكتبه هو قليل من كثير و قطرة من بحر غزير.