الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

[قال الشيخ حسن :] فبينا أنا واقف موقف الاندهاش والحيرة ـ أُسوة كثير مِن أهل الدين – لما وقع في الحرمين الشريفين ، وما والاهما مِن المُنكرات بهدم المشاهد والمزارات ، وذلك في أوَّل شهر المُحرَّم مِن هذا العام ، حيث يُقام التذكار الحسيني المُحزِن ، وكفى به جالباً للوجد القلبي ومثيراً للبُكاء المُقرح ، إذ انتهى إليَّ عدد مِن جريدة ( الأوقات العراقيَّة ) التي تصدر في البصرة ، وفي مُفتتحها مقالة ينقل صاحبها عن رجل مِن فضلاء أهل العلم قَطَنَ البصرة مُنذ شهور يُدْعى ( السيِّد مهدي ) أنَّه منع مِن تمثيل تلك الفادحة الكُبرى والمُصيبة العُظمى ، ومِن خروج مواكب الرجال يضربون صدورهم بأيديهم في الأزقَّة والجوادِّ العموميَّة ( 1 ) ، فقلت : هذه المُصيبة الثالثة ! وما هي بأهون مِن الأُوليين ، ثمَّ تواترت الكُتب والرُّسل مِن البصرة إلى مراكز العلم في النجف ، وهي ما بين عاذل وعاذر مُحبِّذٍ لهذا المنع ومُستاءٍ منه ، فشممت مِن ذلك روح الأغراض الشخصيَّة بين فئتين ، فأعرضتُ وقلت : فورة لا مساس لها بالمذهب سوف تسكن ، ثمَّ ما عَتَمتْ إلاَّ وقد أُرسلت بعد أيّام مِن البصرة مقالة مطبوعة مِن مُزخرفات ذلك الرجل الفاضل ، مزج فيها بين الحقِّ والباطل ، ونسب الفرقة الجعفريَّة ـ في إقامة التذكارات الحسينيَّة ببعض مظاهرها ـ إلى الإبداع والقيام بأفعال وحشيَّة همجيَّة .
وفي هذا تضليل للسلف الصالح مِن العلماء الأعلام والقوَّام على الحلال والحرام ، ورفع لأعظم شعار مذهبي ما زالت تجتني الشيعة مِن فوائده ما يحفظ كيانهم ويُثبِّت عقائدهم ، فعلمت مِن أين جاءت هذه البليَّة التي تقضي ـ إنْ تمَّتْ ـ على حياة الشيعة ، وتيقنتُ أنَّ كيد المُموِّهين والمُنافقين ، وخاصَّة أفراد ( الجمعيَّة الأُموية ) ـ ذلك الكيد الذي لا ينطلي إلاَّ على السُّذَّج والبُسطاء ـ قد أوقع هذا الرجل بأشراكه ( 2 ) ، فأفتى ومنع ، وقذف وضَلَّل ، ولفَّق أموراً ليس لها مقيل في ظِلِّ الحقيقة بلْ هي ( ... كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ... ) ( 3 ) .
كنت أجد لي فيما كتبه وأفتى به علماؤنا الأعلام ـ في هذه الأيَّام وطُبِع مُلحقاً برسالة في هذا الشأن لمُعاصرينا الفاضل ( الشيخ محمد جواد الحجامي النجفي ) ( حفظه الله ) المطبوعة في النجف ـ مندوحة عن الخوض في هذه المسألة التي عَزَّ وعظُم على كلِّ عارف مِن الشيعة أنْ تقع موقع سؤال وتشكيك .
ولكنِّي الآن بعد انتشار تلك المقالة ، التي هي قُرَّة عين المُناوئين لا أجد مَساغاً شرعيَّاً للسكوت عمَّا خَفي على ذلك ( السيِّد الصائل ) ومَن يُطرب على تصديته ، عسى أنْ يُنيب إلى الحقِّ ويتنبه إلى ما أغفله به الأغيار المُفكرون ، ومِن الله أرجو أنْ تكون رسالتي هذه التي سمَّيتها : ( نصرة المظلوم ) سبباً لهداية إخواننا المسلمين إلى اتِّباع الحقِّ بيقين ، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه .
وها أنا ـ بعون الله وتوفيقه ـ ذاكر في مُقدِّمة هذه العُجالة بحثاً فلسفيَّاً تاريخيَّاً ، ينتهي بالمُتأمِّل فيه إلى العلم بأنَّ التذكُّارات الحسينيَّة بجميع أنواعها حافظة للمذهب الجعفري عن الاندراس والدثور ، وبهذا الاعتبار لا يحتاج في شرعيَّة بعضها إلى ورود دليل خاصٍّ به ، وإنَّه لا يُعتنى بسخريَّة الساخر ... فإنَّه في الحقيقة ماكر لا ساخر ، يُريد إطفاء أنوار الأئمَّة الأطهار بكيده ومكره ، ولا يَحيق المكر السيئ إلاَّ بأهله.
فأقول : يتردَّد على ألسنة عموم الشيعة نحو قول : ( قُتِل الحسين ( عليه السلام ) لإحياء دين جَدِّه ) ، ومُرادهم بدين جَدِّه ( الطريقة التي هُمْ عليها ) مِن الاعتقاد ـ مع الشهادتين والمَعاد ـ بإمامة علي ووِلْده إلى المهدي ( عليهم السلام ) وأنَّهم معصومون مبرَّؤون عن كلِّ ذنب وعيب ، جامعون لكلِّ فضيلة في البشر ، وتفصيل إحيائه لهذه الطريقة بتسليم نفسه للقتل عالماً عامداً تعرفه مِمَّا نذكره ثَمَّة .
لا شكَّ أنَّه ما كان المسلمون في شطر مِن الصدر الأوَّل يُنزِّلون أهل البيت الطاهر ، بالمنزلة التي تُنزِّلهم بها الجعفريَّة اليوم ، مِن كونهم أئمَّة حقٍّ ومعصومين ، فضلاً عن اعتقاد كون الإمامة والعصمة في عَقِبِ الحسين ( عليه السلام ) إلى عِدَّة خاصَّة مِن أبنائه ، فإنَّه مِمَّا لم يُذعن به إلاَّ مُمتحن القلب ، اللَّهمَّ إلاَّ في أعوام نزرة مشوبة بفتن وحروب ، كثُر في خلالها عدد الشيعة وثبتت عقائدهم ، لكنْ لم تكن مُقتضيات الأحوال يومئذ بالغة إلى حَدٍّ يوجب سيادة هذا الاعتقاد في العالم الإسلامي ، ثمَّ ما برح ذلك العدد الجَمُّ أنْ عراه النقص ، ولبس ثوب الإذلال ، وكان ضئيلاً مِن قبل ذلك ؛ وذلك لأجل الجَنَف ( 4 ) الذي أظهره آل أبي سفيان في المِصرَين وما يتبعهما وغيرهما مِن مراكز الشيعة ، فقد غرسوا بُغْضَ عليٍّ ( عليه السلام ) وولِْده وسبَّهم والبراءة منهم ، في أعماق قلوب العامَّة بأساليب مُختلفة ، وتتبَّعوا شيعتهم على الظنَّة والتُّهْمَة ، حتَّى كادوا أنْ يستأصلوا شأفتهم ، وبعثوا إلى المُشرَّدين منهم والمسجونين ضروب الأذى والتنكيل ، ووضعوا الأحاديث النبويَّة في فضل بَنْي أُميَّة ، وأعلنت الخُطباء في كلِّ صقع بأسمائهم مقرونة بالتبجيل والتكريم ، وكونهم خُلفاء النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) وذوي رَحمه وورَّاث حُكمه وحِكمته ، وأنَّ مُخالفتهم ضلال ، والخروج عليهم خروج عن رِبقة الإسلام ، حتَّى أتى على ذلك نيِّف وثلاثون سنة ، وبعض هذا في أقلُّ مِن تلك المُدَّة كافٍ في اندراس ذكر عليٍّ ووِلْده ( عليهم السلام ) واندراس طريقتهم وأحكامهم ، حتَّى إذا وليَ الأمر يزيد بن معاوية بعد أبيه ، وقد توطَّدت له الأسباب تسنَّى له أنْ يُبيد كلَّ هاشميٍّ مِن على جديد الأرض ؛ لتهوُّره وشِدَّة إقدامه ، وتجاهُره بهتك الحُرمات ، كما يُنبئ عن ذلك ـ بعد يوم الطف ـ ( وقعة الحَرَّة ) و ( رَمْيُ الكعبة ) .
فلذلك قام الحسين ( عليه السلام ) ضِدَّ بني أُميَّة ، قيام مُستاءٍ جِدَّاً مِن جرَّاء قسوتهم المُخالفة لدين الإسلام ، ولا هَمَّ له إلاَّ إحياء ما أماتوه مِن الآثار والمآثر الإسلاميَّة .
وبقتلهم إيَّاه تلك القتلة الشنيعة بأيدي تلك الألوف المُتجمهرة عليه ، وقتل سبعة عشر رجلاً مِن بنيه وبني أخيه وعمِّه ، حتَّى الشباب والأطفال الرُّضَّع منهم ، وقتل أنصاره وسبي ذراريه وعياله إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام حيث مركز الخلافة الأُمويَّة ، وإشهار رأسه ورؤوس آله في البُلدان .. سقطت منزلة بني أُميَّة مِن القلوب ، وعلم الناس نواياهم السيِّئة ، أيقنوا أنَّهم ليسوا بأئمَّة حقٍّ ؛ لأنَّ أفعالهم تلك لا تتَّفق مع أيِّ دين ، ولا يرافقها مِن العدل شبح ، بلْ هي خارجة عن حدود الإنسانيَّة .
وكان في نفوس العامَّة في العراق نفورٍ مَّا منهم ؛ مِن جرَّاء القتل الذريع بكبرائهم لتُهْمَة التشيُّع ، وجَنَف العمَّال بهم ، وكذلك في الحِجاز أيَّام استخلاف يزيد ( عليه اللعنة ) ؛ لمعلوميَّة فسقه وجوره ، وظهر يومئذ للعالم الإسلامي كلِّه أنَّ بَني أُميَّة لم تسعَ في هدم دين الإسلام فقط ، بلْ تسعى عن طريق التعصُّب الجاهلي في أنْ لا تُبقي لهاشميٍّ أثراً ، وعلى الأخصِّ بقايا آل محمد ( صلَّى الله عليه وآله ) ومِن هذا الوجه ظهر للعالم أجمع مظلوميَّة الحسين ( عليه السلام ) وصار ذلك سبباً للالتفات إلى مظلوميَّة أبيه يوم ( صِفِّين ) وأخيه ( عام الصلح ) .
لمَّا قُتِل الحسين ( عليه السلام ) طال لسان اللوم والإنكار على يزيد ( عليه اللعنة ) حتَّى مِن بَنْي أُميَّة أنفسهم ، ومِن بقايا الصحابة في الشام وفي المدينة المنوَّرة ، على حين أنَّه لم يكن بالإمكان ذكر علي ( عليه السلام ) والحسين ( عليه السلام ) بخير في البُلدان القاصية عن مركز خلافة بَني أُميَّة ، فضلاً عن إطرائهم بين يدي يزيد ولدى حاشيته وفي داره ، حتَّى روى في ( العِقد الفريد ) عن المدائني : أنَّه لم توجد في دار يزيد سفيانيَّة إلاَّ وهي مُتلدِّمة تبكي على الحسين ( عليه السلام ) ، وما كان ينفع يزيد عند الناس إسناد قتله إلى ابن مرجانه بغير علم منه ، وهم يرون فرحه وسروره ـ بإشهار رأسه ورؤوس آله وسَوْق ذراريهم وعيالهم له كالسبي المَجلوب ، وتزيينه الشام أيَّاماً ـ استبشاراً بذلك .
لَعمري ، إنَّ هذا الإطراء والذكر الجميل ، واعتقاد مظلوميَّة الحسين ( عليه السلام ) وآله عند العامَّة في الشام أوَّل مراتب التشيُّع ومعرفة آل محمد ( صلَّى الله عليه وآله ) ، والإذعان بفضلهم الذي لا سبب له إلاَّ قتل الحسين ( عليه السلام ) .
في عام قتل الحسين هاج كثير مِن أهل الكوفة للأخذ بثأره ، وما زالوا يستعدُّون للثورة ، عِدَّتها مِن جمع سلاح وتوفير عدد نحواً مِن ثلاث سنين ، وأهل المدينة في خلال تلك المُدَّة ثائرون عليه مع عبد الله بن حنظلة ( غسيل الملائكة ) ، وابنُ الزبير ناصب بمَكَّة يدعو إلى نفسه ، ويُعلِن الطلب بثار الحسين بدء أمره حتَّى هلك يزيد ( عليه اللعنة ) ، وحينئذ تجمهرت الألوف بالكوفة لا حافز لها إلاَّ الطلب بثار الحسين ( عليه السلام ) ، وهي تذكر أباه وأخاه وسائر آله بكلِّ جميل ، وتُعلِن استحقاق عليٍّ ( عليه السلام ) ووِلْده الإمامة والخلافة عن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) ، يومئذ ظهر التشيُّع الصلب ، وامتازت شيعة عليٍّ ( عليه السلام ) مِن شيعة بَني أُميَّة ونتج مِن ذلك التجمهُر والامتياز وقعة ( عين الوردة ) ، التي قُتِل بها أكثر التوَّابين ، و(وقعة نهر الخازر ) التي هلك فيها مِن جُند بَني أُميَّة سبعون ألفاً فيهم ابن مرجانة .
وبانَ ثَمَّة التشيُّع بأجلى مظاهره ، وانقادت الناس مِن يومئذ إلى أهل البيت ( عليهم السلام ) باقتفاء آثارهم والاقتباس مِن علومهم ، وأخذ مراسم الدين منهم ، وما برح الثوُّار يَتتابعون ، كزيد بن علي وولده يحيى بن زيد وغيرهما ، ويقوى أمر الشيعة ويشتدُّ أزرهم ، وتظهر كلمتهم وتثبت عقائدهم ببركة تلك الثورات الناجمة مِن قتل الحسين ( عليه السلام ) ، ولم يمضِ قرن واحد مِن لدُن قتله حتَّى باد بنو أُميَّة ، وأصبحت السلطة الإسلاميَّة لفريق مِن بني هاشم وهم ( بنو العباس ) الذين ـ باسم ثارات الحسين ( عليه السلام ) وولده وبني عمومته ـ لم يُبقوا مِن الأُمويين في الأرض نافخ ضرمة إلاَّ مَن لا يُعرف .
مِن هذه الرموز كلِّها تعرف معنى كون الحسين ( عليه السلام ) قتل لإحياء دين جدِّه ، وتُذعن أنَّه لم يطلب حقَّاً هو لغيره ، ولم يرد أنْ يكون جبَّاراً في الأرض ، وإلاّ فلا موقع لإطرائه والطلب بثأره .
ولمَّا رسخت أقدام العباسيِّين في الإمرة الإسلاميَّة ، ورأوا أنَّ المغروس في أعماق قلوب أكثر المسلمين هو أنَّ الرياسة الروحانيَّة المُقدسة لعَقب الحسين ( عليه السلام ) مِن العلويِّين خافوا على مُلكهم بادرة الثوار منهم .
وأدرك أولئك أنَّ لا قدرة لهم على الطلب بحقِّهم وقد باد بنو أُميَّة ، وتشتَّت أفكار العامَّة ، أعرست الدنيا بمُلك بني العباس ، وكان الرئيس الروحاني مِن أولاد الحسين ( عليه السلام ) يومئذ ـ والمُشار إليه مِن بينهم والمُطاع في الناس ـ هو أبو عبد الله ( جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام) ) فآثر العُزلة ، وكذلك أبناؤه إماماً بعد إمام ، وهم في خلال ذلك يُلاقون ضروب الأذى والقتل والتنكيل ، ولكنَّهم حفظوا ما قُتِل عليه جدُّهم بأمرهم شيعتهم ـ بدل الثورة ـ ( بالتذكُّرات الحسينيَّة ) بذكر مصائبه فُرادى وجماعات ، في جميع الأحوال ونقل ما جرى عليه وعليهم مِن الفجايع مِن لدُن قتله إلى أيَّامهم ، والبُكاء والإبكاء والتباكي لما أصابهم ، وبالغوا في الإطناب بذكر ثواب ذلك إلى حدٍّ هو فوق التصوُّر ؛ لأنَّهم رأوا أنَّ ذلك هو اليد القويَّة في إحكام الرابطة بين أفراد الشيعة وتميُّزهم عمَّن سواهم مِن الشيَع ، كما أنَّ الثورات الدمويَّة أوجبت تميزهم عن شيعة بني أُميَّة ، وحفظت عقائدهم لذلك الوقت . وعلى ذلك مِن الشواهد التاريخيَّة ما تضيق عنه الرسالة . ثمَّ إنَّهم ( عليهم السلام ) ـ بمزيد لُطفهم وواسع علمهم ـ حفظوا تلك المُجتمعات ، وحافظوا على الأفراد والجماعات مِن الشيعة بتشديد الأمر عليهم بالاتِّقاء والتستُّر ، حتى نفوا اسم الدين عن غير المُتَّقي ... وهذه المُجتمعات ـ المأمور بها منهم ببيانات مُختلفة والمُنعقدة عندهم في منازلهم ـ هي ما نسميها اليوم : ( المآتم ) و ( مجالس العزاء ) .
لا شكَّ أنَّه لا غرض للأئمَّة ( عليهم السلام ) ـ وهم حُكماء الأُمَّة ـ مِن الأمر بذلك الاجتماع المُحزن وتذكُّر تلك المُصيبة المُقرحة في أحوال مخصوصة كثيرة ، وزيارته التي لم يَكفهم الترغيب إليها والمُبالغة في ثوابها ، حتَّى حذَّروا مِن تركها ، وبعبارة جامعة : ليس أمرهم بتلك الروابط الحسينيَّة إلاَّ حفظ المذهب عن الاندراس ، وهو الغاية التي قُتِل لها الحسين ( عليه السلام ) ، وهذه الحِكم مع أنَّها وجدانيَّة قد ألمعوا إليها بعبارات مُختلفة وضوحاً وخَفاءً ، وأمروا بها صريحاً فيما تضمَّن الحثُّ على إحياء أمرهم .
نحو قول الصادق ( عليه السلام ) للفضيل بن يسار : ( تجلسون وتتحدَّثون ؟ ) . قال : نعم ، جعلت فداك! قال : ( إنَّ تلك المجالس أُحبُّها ، فأحيوا أمرنا . يا فضيل ، فرحم الله مَن أحيى أمرنا ) ( 6 ) .
وقوله ( عليه السلام ) : ( مَن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ) ( 7 ) .
وقوله ( عليه السلام ) : ( رحم الله عبداً اجتمع مع آخر ، فتذاكر أمرنا ، فان ثالثهما مَلَك يستغفر لهما ، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلاَّ باهى الله بهما الملائكة ، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذِّكر ، فإنَّ في اجتماعكم ومُذاكرتكم إحياءنا ، وخير الناس بعدنا مَن ذاكر بأمرنا ، ودعا إلى ذكرنا ) ( 8 ) .
وغير ذلك ، فكأنَّهم ( عليهم السلام ) رأوا أنَّ تلك ( التذكارات الحسينيَّة ) هي التي توجِب بقاء الناس على مرور الأزمان على الاعتقاد بإمامتهم ، ووافر فضلهم وعصمتهم ، ومظلوميَّتهم مِن الخُلفاء في كلِّ عصر مِن أعصارهم وذلك روح التشيُّع .
أنا لا أشكُّ أنَّ تلك المجالس والمُجتمعات ألبستها الأئمَّة الأطهار ( عليهم السلام ) ـ بواسع علمهم وبُعْد نظرهم للمُستقبل ـ لباساً مذهبيَّاً ؛ لأنَّها السبب الوحيد لاجتماع كلمة الشيعة ، ورسوخ عقائدهم ، وبقاء ذكر الجميل بكلِّ معانيه للأئمَّة فيما بينهم ، وتلك نُكتة مستورة عن جميع المسلمين ، حتَّى عن الشيعة أنفسهم ، فإنَّهم لا يتصوَّرون هذه الفائدة مِن عملهم ، بلْ قصدهم الثواب الأُخروي فقط ، لكنْ بما أنَّ كلَّ عمل لابدَّ أنْ يظهر له بطبيعته أثر ، فهذه المجالس بما يَحدث فيها مِن إظهار مظلوميَّة آل محمّد ( صلَّى الله عليه وآله ) تؤثِّر تلك الثمرات للشيعة مِن حيث لا يشعرون .
إليك فانظر ماذا يضرُّ ( المُتوكِّل العباسي ) في كونه مَلِكاً وخليفة مِن وِلْد العباس عمِّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) ، مِن أنَّ طائفة مِن المسلمين تزور قبر الحسين ( عليه السلام ) ، وهو ابن عمِّه حتَّى يمنع عن زيارته ويوجِّه إليه الفعلة بأمرهم بحرثه وإجراء الماء عليه ، وما دخل ذلك في المُلك والسلطان لولا أنَّه قد أدرك أنَّ ( الرابطة الحسينيَّة ) ـ المُسبِّبة عن اندفاع تلك الجماهير إلى زيارة قبره ، مُجتمعين عنده ذاكرين فضله وفضل آبائه وأبنائه ومظلوميَّتهم ، مُجاهرين بالبكاء عليه وعليهم ـ هي التي توجب ثبوت الاعتقاد بإمامتهم ، وذلك هو روح التشيُّع ؟
انظُر لم يُنكر الإمام ( عليه السلام ) ـ وقد ارتفع البكاء في داره على الحسين ( عليه السلام ) واجتمع الناس على الباب ـ لم يُنكر أنْ يكون ذلك على جدِّه المظلوم ، ويقول : ( مات طفل لنا فبكت عليه النساء ) . وقد صدق فقد ماتت لهم أطفال في كربلاء ) !
بالله عليك ، لِمَ يدمج راوي انعقاد المأتم على الحسين ( عليه السلام ) يومئذ للبكاء عليه فيقول : ( جاء قاصٌّ يقصُّ فبكينا ) ولا يقول : نذكر مصرع الحسين ( عليه السلام ) ؟ وهل همْ يبكون على مصيبة يقصُّها القاصُّ إلاَّ مُصيبة الحسين ( عليه السلام ) التي يجتمعون لأجلها ؟ ولم يُتخَفَّ بها لولا أنَّها مظهر روح التشيُّع .
وأنت إذا تيقَّنت قيام تلك الفائدة الجليَّة بالمآتم الحسينيَّة قياماً طبيعيَّاً ، أرشدت إليه الأئمَّة الأطهار ( عليهم السلام ) بهاتيك الأخبار ، لزمك الالتزام بوجوبها كفاية ، ووجوب كلَّما يُفيد مفادها كذلك مِن تمثيل الفاجعة لحاسَّة البصر ، أو سير مواكب الرجال في الأزقَّة والشوارع مُذكِّرةً بها ، ولم تحتج بعد تلك الفائدة الملموسة باليد إلى نضد الأدلَّة على مشروعيَّتها ؛ إذ إنَّها بهذا البيان الذي يشهد به الوجدان أجلُّ مِن أنْ يرتاب مُريب في رجحانها بلْ وجوبها كفاية . وإنَّ أقربها علاقة وشبهاً بالمآتم ( التمثيل ) ، فإنَّ مَن سبر غوره وتعمَّق بالغوص على سرِّه يعلم أنَّ فيه مِن النُّكت ما ليس في إقامة المآتم المُجردة عنه .. إذا كان السرُّ في إقامة المآتم والغرض منها ظاهراً إظهار مظلوميَّة سيِّد الشهداء لدى العموم ، وباطناً اتِّفاق كلمة الشيعة وحفظ عقائدهم عن الاندراس على مرور الأزمان .
فلا ريب أنَّ تمثيل الواقعة لحاسَّة البصر ، بما يصدر فيها مِن حركة وسكون ، قول وفعل ، أبلغ في إظهار مظلوميَّة ذلك الشهيد الأعظم مِن الأقوال المُجرَّدة على المنابر وفي المجامع ، وأدخل في تثبيت العقائد وإحكام الروابط بين أفراد الجعفريَّة .
إذا كانت الفرقة الجعفريَّة تذكر في المآتم ـ وعلى المنابر ـ المصائب التي وردت على الحسين ( عليه السلام ) ونُصْب أعيُنها الأحاديث المُرغِّبة على البكاء عليه والحُزن لأجله ، فتمثيل تلك المصائب للأنظار ، له تأثير عظيم في القلوب ؛ لأنَّه يجعل العامَّ والخاصَّ مِن الجعفريَّة راسخ العقيدة ثابت اليقين .
لاشكَّ أنَّ الجعفريَّة في تمثيلها للفادحة الحسينيَّة تُصيب مِن جهة إحياء أمر الأئمَّة ( عليهم السلام ) ، وهذا هو السبب الوحيد لتسليم الحسين ( عليه السلام ) نفسه للقتل ، ومِن جهة أُخرى يحصل لهم ولغيرهم تحزين الطبايع وإبكاء النواظر ، وإثارة العواطف الرقيقة نحو المصاب بتلك الفادحة الكبرى ، ورفع الستار عن فضايح الظالمين وأتباعهم .
التمثيل وإنْ لم يكن قديماً عند الشيعة بلْ هو حادث مُنذ عِدَّة قرون ، ولكنْ ليس كلُّ حادث في المذهب لا يكون معمولاً به .
الحادث إذا كان مُفيداً فائدة القديم المشروع بوجه أتمّ وأبلغ كان مشروعاً ، لا سِيَّما إذا احتُمل كون تركه في الزمن الأقدم لعدم إمكان إقامته اتِّقاءً .
لا شكَّ أنّ إظهار الحزن ومظلوميَّة سيِّد الشهداء ( عليه السلام ) والإبكاء عليه وإحياء أمره بسنخه عبادة في المذهب ، لا بشخص خاصٍّ منه ؛ ضرورة أنَّه لم ترد في الشريعة كيفيَّة خاصَّة للحزن والإبكاء وإحياء الذكر المأمور بها ، ليقتصر عليها الحزين في حزنه ، والمُحيى لأمرهم في إحيائه والمُبكي في إبكائه . وإذا كان سنخ الشيء عبادة ومندوباً إليه سرت مشروعيَّته إلى جميع أفراده مِن جهة الفرديَّة ؛ ولذلك لم نرَ أحداً مِن صلحاء الشيعة وعلمائهم ، ولم يؤثَر ولم ينقَل عن أحد منهم في الأجيال السالفة مِن لا يعدُّ التمثيل مثل قراءة ( كتاب المقتل ) في عباديَّته وفي كونه مُبكياً ومُحزناً ، فضلاً عن إنكار مشروعيَّته.
إنَّ الذين أدخلوا التمثيل في التذكارات الحسينيَّة ، لا شكَّ أنَّهم مِن كبراء رجال أهل الدين المُفكِّرين ، وأرباب السلطة المتَّبعة مِن الشيعة ؛ ولذلك يظنُّ البعض أنَّه انتشر في بلدان الشيعة مِن قِبَل سياسة السلاطين الصفويَّة ، الذين هم أوَّل سلسلة استولت على السلطنة بقوَّة المذهب ، ثمَّ أيّده رؤساء الشيعة الروحانيُّون شيئاً فشيئاً وأجازوه … وبما أنَّ حُكماء الهند أقدم مِن الصفويَّة في استعماله ، استنبط منه أنَّ هؤلاء أخذوه مِن أولئك وألبسوه لباس المذهب لمَّا رأوا مِن فوائده المذهبيَّة .
وحيث أنهيت المقصود مِن المُقدِّمة ، التي هي في الحقيقة نتيجة المقصد ، فأنِّي شارع بعون الله تعالى في ذكر جميع ( التذكارات الحسينيَّة ) على التفصيل ، وباحث في كلِّ منها عن مشروعيَّته وعدمها ، وعن حسنه وقُبحه ، وهناك يكون التعرُّض لردِّ ( الصولة ) بكمال الأدب والاحترام .
( فمِن التذكارات الحسينيَّة ) :
المآتم
وهي النوادي الخاصَّة المُنعقدة للبكاء على ذلك القتيل ، الذي بكته السموات والأرضون ومَن فيهنَّ ( 10 ) ، وعُدَّ في الأخبار البكاء عليه فيها وفي غيرها صلةً لرسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وأداءً لحقِّه ولحقوق الأئمَّة ، وإسعاداً للزهراء ( عليها السلام ) ( 9 ) .
وليس التكلُّم فيها موضع عنايتي ، ولا بيان العناوين التي تنطبق على الباكي والمبكي والمُتباكي مِن مقاصدي ، ولا موارد ومحالُّ البكاء وذكر الثواب عليه ممَّا تُحيط به ذاكرتي ، وإنَّما أذكر هذا التذكار استقصاء للتذكارات التي هذا أهمُّها أعمُّها ، وقد عرفت فيما تقدَّم أنَّه لم يُشرَّع لنيل الثواب الأُخروي فقط ، بلْ لنُكات أُخَر غير عباديَّة يجمعها ( إحياء أمر الأئمَّة ) ، فلولاها ما امتازت هذه الفرقة عن غيرها ، ولا عرفت أئمّتها ولا أذعنت بالأحكام المأثورة عنهم ، ولا صدَّقت بفضلهم وتفوُّقهم على البشر في كلِّ مزيَّة فاضلة ، ولا ، ولا ، ولا .
( ومِن التذكارات الحسينيَّة ) :
التمثيل
المُعبَّر عنه بلسان العامَّة ( السبايا والشبيه ) وهو عبارة عن تجسيم الواقعة لحاسَّة البصر ، بما صدر فيها مِن حركة وسكون ، وقول وفعل ، وهذا بما هو حكاية عن شيء غابر بشيء حاضر ، غير محظور ولا محذور فيه ، بلْ ربَّما يُرجَّح على المآتم ؛ لكونه أبلغ في إظهار مظلوميَّة سيِّد الشهداء مِن الأقوال المُجرَّدة على المنابر وفي المجامع ، وأشدَّ منها تأثيراً في القلوب ، وقد أسلفنا ثمَّة نُبذة شافية ممَّا يتعلَّق به إذا تأمَّلها المُنصف يُذعن بأنَّه لا يحتاج في شرعيَّته إلى برهان ؛ لقيام العلَّة التي أوجبت أنْ يُسلِّم الحسين ( عليه السلام ) نفسه للقتل به ، قيام الورد بماء الورد لا تخلص عنه ولا ينفكُّ عنها إلا بقاسر شبه الإماتة للمذهب . هذا غير ما ينطبق عليه مِن العناوين المُرغَّب فيها مِن كونه إبكاءً وتحزيناً وإحياءً لأمر الحسين ( عليه السلام ) ، لكنَّ السيِّد الصائل حرَّم كلَّ تمثيل ومنع منه .
قال في الصفحة (1 و 2) مِن مقالته :
التشبيهات التي يُمثلونها يوم عاشوراء قد صرت مُنوِّهاً برفضها ومُصرِّحاً بما فيها مِن التحريم ، لأنِّي أراها مُجلبة لسخريَّة المِلَل الخارجة وداعياً مِن دواعي الاستهزاء . ( انتهى ) .
أقول : إنَّ لكلِّ أُمَّة مِن الأُمم مراسم دينيَّة وعوائد قوميَّة ، تُنكرها عليهم الأُمم الأُخرى ، حتَّى لو كانت طفيفة نحو الاختلاف بالأزياء ، وذلك للمُنافاة بين العوائد والمراسم والطبايع الناشي بعضها مِن تأثير الإقليم والبيئة التي يعيش بها الإنسان ، وربَّما عدَّ البعض مراسم البعض الآخر ضرباً مِن الجنون والتوحُّش ، وهذا لا يقتضي رفض الرسم الديني أو المذهبي أو غيرهما بين أهله ، لا سِيَّما مثل التمثيل الذي تجتني الشيعة مِن فوائده ما لا تجتنيه في إقامة المآتم المُجرَّدة عن التمثيل والتشبيه . ولعمري ، ما استهزاء الأجانب به إلاَّ كاستهزاء قريش وسائر مُشركي العرب بصلاة رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ، التي لم يعرفوا أسرارها ولم يذوقوا ثمارها ، أفهل كان يلزمه أنْ يتركها وهي مِن شعائر دينه ؟!
إنَّ قريشاً لمَّا سمعوا الإعلان بالأذان يوم فتح مكَّة ، أنكروه وعدُّوه فعلاً همجيَّاً وشبَّهوه بنهيق الحمار لارتفاعه وعلوِّه ، وزعموا أنْ لو كان أخفض مِن ذلك لكان أقرب إلى الوقار .
إنَّ الدين الصحيح يجب أنْ لا يكون خرافيَّاً بأساسه ، أو بأغبِّ أحكامه نحو أنْ يكون شعبذة صرفة ، أو لهواً ولعباً ، أو صرف رقى وتمائم ، أو دقَّ طبول وضرب أوتار وغير ذلك ؛ لأنَّ ما يكون من الأديان كذلك تنفر عنه النفوس ولا تُذعن له العقول .
أمَّا إذا كان الدين ـ حتَّى بنظر الأجنبي عنه ـ قويم المبادئ ، متين الأساس كافلاً لحفظ النظام بقوانينه الوضعيَّة وعباداته الروحيَّة ، غير أنَّ فيه شعيرة مذهبيَّة لا دينيَّة ، يعدّها الأجنبي خرافة ، وفعلاً همجيَّاً وهو لا يعلم أسرارها ، فهل يجب رفضها بمُجرَّد كونه يستهزئ بها ؟! كلاّ وإلاَّ لكان الحجُّ أوَّل مرفوض في الشريعة ، لأنَّ غير العارف بحِكَمه وأسراره يسخر به ، بلْ يعدُّه ضرباً مِن الجنون والتوحُّش ، فهل يصلح للعارف أنْ يمنع عنه ؟! كلاَّ ، إنَّه كان اللازم على صاحب المقالة أنْ يتعرَّف أوَّلاً أقسام السخرية والخرافة وأحكامها ، ليُلحق بكلِّ موضوع حُكمه ولا يتورَّط .
ويعلم المسلمون والأجانب ـ جميعاً ـ أنَّ جميع التذكارات الحسينيَّة ، ليست مِن المجعولات بالأصالة في دين الإسلام كسائر قوانينه مِن صلاة ، وصيام ، وصدقة ، وإلاَّ لاشترك فيها جميع المسلمين ولم تختصَّ بالشيعة .
أمَّا عقائد الإسلام بما هي توحيد وتنزيه لمرتبة الربِّ ، وقوانينه الوضعيَّة بما هي شريعة زمنيَّة حافظة لحقوق المربوب ، ليس في شيء منها ما يوجب السخرية ، بلْ هي حافظة للنواميس الكلِّية ، التي لأجلها أُرسِلت الرُّسل وأُنزلت الكتب ، ومِن ثمَّة كانت غنيَّة عن تبشير المُبشِّرين بها ؛ لأنَّها داعية بنفسها إلى نفسها ، ومُبشِّرة بذاتها إلى ذاتها .
وهذا أمر بيانه خارج عن موضوع مقالتي ، وإنْ كان مُهمِّاً جدَّاً في نفسه ، وعلى هذا فلا علينا إذا سخر الأغيار بتمثيلنا . إنَّ علينا أنْ نُعرِّف الأجانب براءة دين الإسلام بذاته ، ممَّا هو أوقر منه لا أنْ نتركه ونمنع عنه .
إنَّ التذكارات الحسينيَّة ـ جميعاً ـ لم تُسنَّ كمُبشِّرة بالمذهب ليحصل لنا الاستياء بالسخرية منها ، بلْ شُرِّعت لحفظ عقائد الجعفريَّة فيما بينهم لإحياء أمر أئمَّتهم ، وتلك الفائدة حاصلة لهم برغم سخرية الأغيار .
إنَّ الأغيار لا يسخرون بالمواكب والتمثيل فقط ، بلْ بالمآتم أيضاً والزيارات ولبس السواد .
وكيف لا يسخر العقلاء مِن اجتماع جماعة مِن الرجال مِن أهل الجَلَد والقوَّة يبكون بكاءً عالياً على رجل منهم أو مِن غيرهم مات مُنذ مئة سنة مثلاً ؟!
أجلْ ، إنَّ بكاء الرجل وحده مُستهجن ، فكيف باجتماع مئة رجل مثلاً على ذلك ؟!
ألست ـ أسوة بجميع العقلاء ـ تُسفِّه أحلامهم إذا شهدت مجمعهم ، وعلمت أنَّه قد أتى على فقيدهم الذي يندبونه وينتحبون عليه نحو سنتين وهو رُمَّة بالية ؟
ألست تزيد سخرية واستهزاءً ، إذا رأيت أولئك الرجال بعد بكائهم وقوفاً ـ في دار أعدُّوها للنياحة وصرفوا على تنظيمها المبالغ الطائلة مِن المال ـ قد جرَّدوا عنهم الثياب إلى أوساطهم وحسروا عن رؤوسهم ، وهم يضربون صدورهم ضرباً تُدمى به صدور كثير منهم حزناً على ذلك الفقيد ، الذي طحنه البلاء وأكله الثرى ؟
ألست تعدُّها من الأفعال الوحشيَّة الهمجية ؟
أفهل يصلح لعارف مِن الشيعة أنْ يمنعها جميعاً لذلك ؟
ثمَّ إنَّه كان بين ظهرانينا ـ قبل دخول الأُمم الأوروبيَّة ـ عدد جَمٌّ مِن غير المسلمين في كلِّ مكان ـ وإنْ اختلفوا قلَّة وكثرة وزاد عددهم بأفراد الأُمَّة الإنكليزيَّة الذين لا يُهمُّهم مِن أمر ديانة العناصر وعوائدهم شيئاً ـ ولا ينكرون على مراسم عاديَّة ولا عباديَّة ، ونحن للآن ما بلغنا عن أحد منهم الاستخفاف والاستهزاء ، ولا شكَّ أنَّ صاحب المقالة لم يسمع ولم يرَ مِن أجبنيٍّ قطُّ استهزاء ، وإنَّما ينقل له ذلك المُستاؤن مِن أعمال الجعفريَّة ، وهم على الأغلب مِن أفراد ( الجمعيَّة الأُمويَّة ) التي تحقَّقتُ أنَّ لها فروعاً في بغداد والبصرة وغيرهما مِن عواصم العراق ، وهم الذين يغرُّون أهل الدين ليقتلوه باسمه مِن حيث لا يشعرون .
إنَّ التأثُّر بتمثيل المحزن طبيعي ؛ إذ إنَّه لازم لذات ذلك التمثيل وإنْ اختلف شدَّة وضعفاً فكيف ـ وهم مُتأثِّرون حزناً أقلَّ تأثُّر ـ يسخرون ويستهزؤن ؟! اللَّهمَّ إلاَّ أنْ يكون التمثيل غير واقع طبق الأمر المُمثَّل بكلِّ قول وفعل ، بحيث لا يوجب التحزين وإثارة العواطف ، وإلاَّ فتمثيل فاجعة الطفِّ مُحزنة لكلِّ مُدرِك عاقل .
إنَّ ذلك التمثيل المُقرح للأكباد إذا سخر منه أغرار الأجانب ، فإنَّ العقلاء المُفكِّرين ربَّما يدعوهم ذلك إلى الفحص عمَّن تتمثَّل فاجعته لدى العموم وتحقيق مُصائبه ، وأسباب حدوثها ، ومَن ذا أحدثها ؟ ومَن مهَّد ذلك ؟ وتلك نُكتة أُخرى لرُجحان التمثيل ، قد تدعو البعض إلى الفحص عن دين الإسلام أو التمذهب بالمذهب الجعفري ، ولهذه النكتة بعينها سرى أمر الشيعة إلى غير المسلمين مِن الفرق في الهند والصين ، وكثر ببركته ـ في تلك الأماكن الشاسعة عن مراكز الشيعة ـ مذهب التشيُّع والولاء لأهل البيت ( عليهم السلام ) .
وقد ذكر فلاسفة التاريخ الحادث ، والمُتعمِّقين في أسرار الحوادث مِن الأجانب ، أنَّ السبب الوحيد لذلك هو جعل الجعفريَّة طريق إقامة العزاء مُشابهاً لمراسم إقامة العزاء في الهند ، وهو التمثيل والتشبيه .
ومِن المُضحك المُبكي ، أنَّ الأجانب يُدركون ويُذيعون أسرار إقامة المآتم والتشبيهات المُتداولة عند الشيعة ، وهي على عرفاء الشيعة حقائق مخفيَّة !!
إنَّ الأجانب ـ في جميع أنحاء المعمورة ـ يُقيمون حفلات التذكار سنويَّاً لكبار الحوادث ، وينصبون التماثيل والهياكل في المحلاَّت العموميَّة لكبراء الرجال تخليداً لذكر الرجل ، والتفاتاً للجاهل به إلى معرفته ، وما أبداه مِن اختراع أو بسالة في حرب ، أو فتح ، أو قلب سُلطة ، أو مظلوميَّة مُتناهية في العظم عندهم ، نحو مظلوميَّة المسيح أو غير ذلك ، فكيف يسخرون مِن شيء همْ فاعلوه ؟!!
إنَّ الهياكل القائمة في جميع معابدهم على مرور الأيَّام ـ نحو تجسيم صورة البتول العذراء ( مريم ) بصورة مُختلفة منها صور مُحزنة وتمثيل هيكل السيِّد ( المسيح ) مصلوباً على خشبة وغير مصلوب وطفلاً تحمله مريم وكَهلاً غير محمول ـ هي في الحقيقة تمثيل دائمي لا سنوي . أليس غرضهم مِن ذلك تخليد ذكر المسيح وظهور مظلوميَّته التي هي اليد القويَّة لاستحكام الروابط المسيحيَّة ، وعدم اندراسها على مرور الأزمان ؟!!
أليس غرضهم هذا يرمز إليه تعليق الإشارة المسيحيَّة ( الصليب ) وساماً لصدورهم وقلادة لأعناقهم ؟ فكيف يسخرون ؟!
إنَّ ( الروايات التمثيليَّة ) التي تُقام في العواصم كلَّ ليلة في محالٍّ عديدة ، لم يؤسِّسها إلاَّ أرباب السياسة مِن الأجانب إصابة لأغراضهم ، وهي ليست إلاَّ تجسيم خيالي للحوادث الغابرة ، ولو أنَّهم ألبسوها لباس التفرُّج والانشراح لكانت موقع استهزاء وتهجين ، لكنَّهم بتفريح الطبايع جذبوا إليها قلوب العامَّة . أفهل يطلب الأجانب مِن الجعفريَّة أنْ تَطرح ذلك الثوب على التمثيل الذي لم تقصد به إلاَّ تحزين الطبايع ، وإبكاء النواظر وإثارة العواطف الرقيقة نحو المصاب بتلك ( الفادحة ) الكبرى ؟!!
تمثيل النساء
اندفع صاحب المقالة ـ بكلِّه وبجميع ماله مِن حماسة ـ على تشبيه عقائل النبوَّة بثُلَّة مِن النساء المومسات والمُتبرِّجات ، وأبرق وأرعد على فاعل ذلك في مقالته مِن صفحة 4 إلى 8 ، يرى كلَّ قارئ أنَّ التشبيه الذي تفعله الجعفريَّة هو هذا القسم مِن التشبيه الشائن .
غفرانك اللَّهمَّ ، غفرانك مِن هذا التهويل ودفع الحقِّ بالأباطيل .
إنَّ هذا التشبيه لم يقع في البصرة على طوال السنين إلاَّ منذ أربعة أعوام ، شهده غير واحد مِن الصلحاء وأجلب على منعه فمنعه مَن له قوَّة المنع مِن ساحته ، وهذا الرجل يرى بكلامه كلَّ أحد أنَّ ذلك التشبيه المُستهجن هو مِن الرسوم العاديَّة حتَّى في عامه هذا ، وإلاّ فما هو معنى المنع عن شيء مضى وما عاد له نظير أبداً ، لا في البصرة ولا في غيرها ؟!
إنَّ تشبيه النساء لا يُستحسن حتَّى لو كانت الشبيهات مِن ذوات العفَّة والنجابة ؛ لأنَّ إشهار النساء بنفسه وسوقهن أمام ركاب القوم سبياً مجلوباً ـ كما فعله آل أُميَّة ـ مِن الأُمور المُستقبحة ، وهذا لا يكون تمثيله على الأغلب إلاَّ مُستقبحاً . لكن الميرزا أبو القاسم القُمِّي ( 10 ) والشيخ مُرتضى الأنصاري ( قدّس سرَّهما ) ـ وناهيك بهما علماً وورعاً ـ جوَّزا تشبيه الرجال بالنساء مُدَّعيين أنَّ المُحرَّم هو أنْ يتأنَّث الرجل ويعدَّ نفسه امرأة . أمَّا التشبيه مِن دون ذلك ـ كما هو واقع في بعض الأحيان لغرض مخصوص ـ فليس بمُحرَّم ، وهو خارج عن مُنصرف الأخبار .
ولقد سأل بعض المُتطرِّفين فيما يتعلَّق بالحسين ( عليه السلام ) مِن فضلاء أهل العلم عن تشبيه النساء ، فقال: إنَّه ليس بإشهار للنساء حتَّى يكون قبيحاً ، وظهور المرأة المُتسترة للرجل مِن دون نظر مِن كلٍّ منهما للآخر ليس بمُحرَّم . نعم ، هو موجب للالتفات إلى قُبح ما ارتكبه بنو أُميّة مِن سبي عقائل الرسالة ولا قُبح فيه ، وإنْ كان فهو على الأُمويِّين لا على المُمثِّلين ، ولولا أنَّه ممَّا تأباه الغيرة والحميَّة لم أمنع منه .
وعلى كلِّ حال ؛ فالتشبيه المُتداول في بُلدان الشيعة هو تمثيل فاجعة الحسين ( عليه السلام ) ، بما صدر فيها من أقوال وأفعال عدا تشبيه النساء وهتكهنَّ ، وهو محلُّ العناية في الكلام لا هذا التشبيه المُستهجَن .
ثمَّ إنَّه في أثناء الإرعاد على تشبيه النساء ، ذكر أمرين قد يشتبه على الناظر في كلامه مُراده لإدماجه :
أحدها : في الصفحة 6 ، فإنَّه قال ـ مُخاطباً لعامل الشبيه ـ ما مُلخَّصه: ( لِمَ لَمْ تسأل مَن تركن في دينك إليه عن هذه الهيئات السخيفة الموجبة للسخرية بالشريعة ؟! فليت شعري هل ورد عن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) ولو خبر ضعيف في شرعيَّتها حتَّى تصول به على المُتشرِّعين ) ؟!
فإنْ كان يُريد الإنكار على تشبيه النساء ، لأنَّه ذكره في أثناء إنكار ذلك فهو ، وإلاَّ فإنَّ طلب الخبر الضعيف لولا الجهل بأصول الفنِّ لا وجه له ؛ لأنَّ التحريم هو المُحتاج إلى الدليل لا الجواز . ومع غَضِّ النظر عن ذلك ، فإنَّ في الأخبار العامَّة كفاية ، كأخبار الإبكاء والتحزين ، وإحياء أمر الحسين ( عليه السلام ) وذكر مُصيبة ، فإنَّ ذكرها لا يلزم أنْ يكون لسانيَّاً كما أنَّ إحياء أمره كذلك . هذا مُضافاً إلى ما أسلفناه مِن قيام العلَّة التي أوجبت شرعيَّة المآتم فيه بوجه أتمِّ .
وأمَّا الخبر الخاصُّ بالتمثيل ، إنْ كان يُريد به نحو أنْ يقول القائل : ( مثِّلوا مُصيبة الحسين { عليه السلام } ) فمِن الجهل طلبه ( 11 ) ، وإنْ كان يكتفي بما كان مُتضمِّناً لوقوع التمثيل فهو كثير ، وقد نطق القرآن المجيد بتمثيل غير المسيح به وإلقاء شَبَهه عليه ، فإنَّ هذا ليس إراءة وتخييلاً نحو الإراءة الطيفيَّة ، بلْ هو حقيقة واقعيَّة لابسة ثوب خيال ، وقد ورد في الأخبار تمثيل الملائكة لعليٍّ ( عليه السلام ) شخصيَّاً ( 12 ) مرئيَّاً مِن لدُن إدراكه إلى حين وفاته ، وأنَّه يوم ضُرِب بالسيف على رأسه في الدنيا وقع سيف على رأس التمثال فشجَّه وسقط في محراب عبادته ، فبكت عليه الملائكة ولعنت قاتله .
الإمام الشيخ محمد حسن النجفي ( قدِّس سرُّه ) :
ولقد سُئِل العلاَّمة المؤتمن ( الشيخ محمد حسن ) صاحب كتاب ( الجواهر ) عن مثل ذلك . فأجاب بإخبار تمثيل النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) والأئمَّة أشباحاً نورانيَّة حول العرش قبل خلقهم ، وأخبار تمثيل مثال لكلِّ مؤمن في السماء ، بارزاً للملائكة حال إطاعته في الدنيا ، مستوراً عنهم حال عصيانه ، وليس غرضي الاستدلال بهذا لشرعيَّة التمثيل ؛ لأنَّي في غُنية عنه بما أسلفته وفيه كفاية للمُتبصِّر .
ثانيهما : إنَّه ذكر في الصفحة 8 مُخاطباً لمُستعمل الشبيه ـ أيضاً ـ ما مُلخَّصه : ( حَسْبَ الدهر صدمة ما فعله يزيد بعقائل النبوَّة ، فمالك في كلِّ سنة على ما فعلوه تزيد ؟! دعهم مُنفردين بالخزي الذي سوَّد وجوههم في الدنيا والعُقبى ، فما وجه تكريرك مثل ما فعلوه وما لم يفعلوه في كلِّ عام ، حتَّى توجب سُخرية ذوي العقول والأوغاد الطَّغام بدين الإسلام ؟ ) انتهى .
فإنْ أراد الإنكار على ظهور النساء مسبيَّة مهتوكة فالإنكار في محلِّة ، وإنْ كان مُراده ما عنى به غير واحد مِن أفراد ( الجمعيَّة الأُمويَّة ) ، وضرب على وتيرته بعض الكتَّاب العصريِّين مِن قوله : ( إنَّ يزيد قتل الحسين ( عليه السلام ) مرَّة ، والشيعة تقتله في كلِّ عام مرَّة ) فوا سوأتاه . إنَّ أولئك يُلقون تلك الأقاويل بذراً في قلوب العامَّة بأطوار وأساليب مُختلفة ؛ لتُثمر لهم ترك التذكارات الحسينيَّة جميعاً حتَّى ينتهي الأمر ـ بالآخرة ـ إلى إنكار قتل الحسين . فما بال المُصلح مِن الشيعة يتَّبع تمويهاتهم غفلة عن حقيقة الحال ؟!
إنَّ الشيعة لا تقتل الحسين ( عليه السلام ) في كلِّ عام ، وإنَّما تُحيي ذِكْره وتذكر فضله في كلِّ عام ، بلْ في كلِّ يوم ، وليس في ذلك حطٌّ مِن قَدره كما يزعمون ويُموِّهون ؛ لأنَّ الشيعة بتلك التذكارات لا تسند إليه ( سلام الله عليه ) أمراً قبيحاً ليكون موجباً للحطِّ مِن مقداره ، وقد تضمَّن التاريخ وخلَّد فضايع مُتناهية الفضاعة ، قد وقعت على عظماء الرجال ، ولم تُعدَّ حطَّّاً مِن مقامهم ، فلِمَ لذلك العضو النبوي يُعدُّ مِن أسباب الحَطِّ مِن شرفه إقامة تذكاراته ، التي تجتني الشيعة منها مِن لدُن قتله للآن ما يحفظ كيانهم ويربط فيما بينهم بأحكم الروابط بعد الجامعة الإسلاميَّة ؟!
( ومِن التذكارات الحسينيَّة ) :
مجامع اللَّدم ( 13 )
وهي النوادي الخاصَّة المُنعقدة لأجل اللطم على الصدور بالأيدي ، وهذه كالمآتم لا ريب في كونها مظهر الحزن والجزع ، وربَّما يُقال : بكونها أبلغ في إظهار الحزن مِن البكاء وحده ، هذه أيضاً لا كلام فيها ، وفي كون اللطم بها وبغيرها صِلة للرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) وإسعاداً للزهراء البتول .
وإذا كانت زيارته ( سلام الله عليه ) بِرَّاً لرسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ؛ باعتبار كونها توقيراً واحتراماً لفَلَذة كبده كما في الأخبار ( 14 ) ، فلا ريب أنَّ ذلك النوح الدائم أوْلى منها ، ولا شكَّ أنَّ أولئك الرجال اللاطمون هُمْ مِن أظهر مصاديق قول الصادق ( عليه السلام ) : ( يا مُسمع … إنَّ الموجَع قلبه لنا ... ) ( 15 ) ، وقوله : ( الجازع لمُصابنا والحزين لحزننا ) .
وأظهر مَن ينطبق عليه قول النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) كما في الخبر :
لمَّا أخبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين ، وما يجري عليه مِن المِحَن ، بكت فاطمة بكاءً شديداً ، وقالت : ( يا أبت ، متى يكون ذلك ؟ ) ، قال : ( في زمان خالٍ منِّي ومنك ومِن عليٍّ ) ، فاشتدَّ بكاؤها وقالت : ( يا أبت ، فمَن يبكي عليه ومَن يلتزم بإقامة العزاء له ؟ ) ، فقال النبي : ( يا فاطمة ، إنَّ نساء أُمَّتي يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ، ويُجدِّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلِّ سنة ) . الحديث ( 16 ) .
فإنَّ العزاء المُتجدِّد كلَّ سنة هو ذلك اللطم والشبيه والمواكب ، التي تكون في عموم بُلدان الشيعة سنويَّاً لا يوميَّاً مثل المآتم .
إنَّ لطم الخدود وشقَّ الجيوب ممَّا لا ريب في مرجوحيَّته على غير الحسين ( عليه السلام ) ، وأمَّا عليه ( عليه السلام ) ـ ففضلاً عن جوازه ـ قد رغَّب فيه كثير مِن الأخبار ، كالمروي في التهذيب ، عن خالد بن سدير ، عن الصادق ( عليه السلام ) ، وفيه : ( ولقد شققن الجيوب والطمن الخدود الفاطميَّات على الحسين بن علي ( عليه السلام ) ، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب )(17).
وإذا كان لطم الخدود مندوباً كان لدم الصدور أولى بالرُّجحان ، وسيأتي في بعض التذكارات الآتية عدُّ لطم الصدر في بعض الأخبار مِن الجزع ، وفيه تعرف أنَّ الجزع نفسه في مصاب الحسين ( عليه السلام ) مُرغَّب فيه مندوب إليه .

( ومِن التذكارات الحسينيَّة ) :
المواكب وهي كثيرة فمنها :
موكب لدم الصدور
تنتظم مِن الرجال مواكب ـ وهم حفاة الأقدام حُسَّر الرؤوس عُراة الصدور والظهور ـ يضربون صدورهم ، وربَّما ضربوا رؤوسهم بأيديهم ، وقد يذروا على رؤوسهم التراب أو التبن ، وقد يُلطِّخ البعض رأسه بالطين تَقدَمهم وتحفُّ بهم ـ وهم على تلك الحال المحزنة ـ أعلام سود قد كُتب عليها بالبياض مثل : ( الحسين المظلوم ) أو ( العباس الشهيد ) ، يُنشدون باللغة الدارجة الأناشيد المُحزنة بموادِّها وألحانها ، يخترقون الأسواق والأزقَّة والجوادَّ العموميَّة ، وهم على تلك الحال المُشجية ، وإذا فعلوا ذلك ليلاً تُصحبهم الأنوار الكهربائيَّة أو المشاعل الموقدة بالبترول الأسود .
إنَّ هذه المواكب بتلك الهيئات وهاتيك الأحوال أبلغ ـ بلا شُبهةٍ ـ في إظهار مظلوميَّة سيِّد الشهداء ، وأشدُّ تأثيراً في القلوب مِن البكاء المُجرَّد ، وأحكم في وصل عُرى الجامعة الجعفريَّة ، وجعلها كحلقة واحدة أمام العامِّ والخاصِّ ، وأولى في صدق كون اللطم فيها إسعاداً للزهراء ، وصلةً لسيِّد الأنبياء ومصداقاً لقول النبي : ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( يُجدِّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلِّ سنة ) ( 18 ) .
ولفحوى قول الصادق ( عليه السلام ) : ( على مثله تُلطم الخدود ) ( 19 ) .
ولقول الرضا ( عليه السلام ) للريَّان بن شبيب : ( إنْ سَرَّك أنْ تكون معنا في الدرجات العُلى مِن الجِنان فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا ) ( 20 ) .
وقول علي ( عليه السلام ) في حديث الأربعمئة : ( إنَّ الله تبارك وتعالى اطَّلع إلى الأرض ، فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منَّا وإلينا ... ) ( 21) الحديث .
قلت : وقد يُراد بالنصرة في هذا الخبر وغيره ما يشمل اللطم باليد والسلاسل ونحوه ، وإذا كان صاحب ( الخصائص الحسينيَّة ) يعدُّ البكاء على الحسين ( عليه السلام ) نصرة له ، مُدَّعياً أنَّ النصرة في كلِّ وقت بحسبها ، فاللطم في الشوارع أولى أنْ يعدَّ نصرة وبذلاً للنفس في سبيل أئمَّة الهُدى .
ولا ينبغي الريب أنَّ هذا التذكار بحدوده المرموزة ثمَّة مِن مظاهر المودَّة في القُربى التي هي أجر الرسالة ، قال الله تعالى : ( ... قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ... ) .
ولا شكَّ أحد مِن عرفاء الجعفريَّة أنَّ لَدْم الصدور لمصاب سيِّد الشهداء ( عليه السلام ) مِن الشعائر المذهبيَّة ، وهذا ما لا يُنكره صاحب المقالة قطعاً ، ولا ريب أنَّ خروج مواكب الرجال لادمةً صدورها ، وهي بتلك الهيئات المُحزنة أدخل في تعظيم تلك الشعائر مِن اللطم في المآتم والدور …
وعسى أنْ يكون صاحب المقالة لا يُنكر هذا كلَّه ، وإنَّما يُنكر على الجعفريَّة خروج المواكب ؛ لما يترتَّب عليه مِن بعض المُحرَّمات .
قال في الصفحة 8 ما مُلخَّصه ـ بإصلاح منِّي للتعبير ـ : ( وأمَّا لطم الصدور ، فلم أمنع منه ما يكون في المآتم ، وإنَّما منعتُ علناً مِن خروج مواكب اللطم في الأزقَّة ، لما بلغني مِن ترتُّب بعض المُحرَّمات على ذلك مِن فتنة وفساد ، ومُضاربة ومقاتلة عندما يلتقي أهل محلَّتين بحيث يحصل مِن جرَّاء ذلك جرح وقتل إلى غير ذلك ) .
قلت : أضف إلى هذا اللازم الفاسد بزعمه أُموراً : نظر النساء إلى الرجال عُراة الصدور ، بروز المُتبرِّجات والمومِسات مِن النساء حاسرات ، نظر الرجال إليهن وهُنْ مُكشَّفات الوجوه ، صياحهنَّ عند ذلك المنظر الهائل واستماع الرجال لأصواتهنَّ الرقيقة وو. ومع هذه الإضافات نقول : لا يجهل أحد مِن أهل العلم أنَّ ترتُّب بعض المُحرَّمات أحياناً على خروج المواكب لا يقدح برُجحانه ألبتَّة .
إنَّ المُحرَّم المُقارن ما لم يكن لازماً لذات الواجب أو عنواناً ثانويَّاً يتعنون به ذلك الراجح ، لا يوجب حرمته ولا مرجوحيَّته .
ولو كانت الأعراض المُفارقة الاتِّفاقيَّة ، في مورد اقترانها بالراجح توجب مرجوحيَّته لحرمت الصلاة في بعض الصور ومُنِع الحجُّ ، ولكان المنع مِن زيارة ذلك الشهيد الأعظم الكريم على الله تعالى أولى بالمنع ؛ لما فيها مِن مُزاحمة النساء للرجال ، وبروزهنَّ في وسط تلك المشاهد الشريفة المُقدَّسة مُكشَّفات الوجوه ، بلْ كثيراً ما يحدث فيها تخاصم فئتين مُتعاديتين ، جمعتهما البلدة للزيارة بحيث يحدث مِن خصامهم الضرب المؤلم والجروح الدامية ، بلْ إزهاق النفوس البريئة . لا شكَّ أنَّ ما يحدث مِن مُضاربة ومُقاتلة في الزيارات أكثر مِمَّا يحدث في المواكب التي تكون مرَّة واحدة في السنة .
عجباً ! كيف يعدُّ هذا الرجل الشُّخوص مِن البلدان النائية للزيارة ، وبذل الأموال الطائلة في سبيلها مِن الشعائر المذهبيَّة ، التي يجب تعظيمها ويجعلها مِن مظاهر المودَّة في القُربى ، التي ندب إليها الكتاب والسُّنَّة ورفع شأنها ؛ إذ جعلها جزاءً للنبي الأعظم على تبليغه عن الله جلَّ شأنه ، ولا يعدُّ مِن ذلك هذه المواكب السائرة مع اشتراك الجميع في المسنونيَّة بالذات ، وفي ترتب المُحرَّمات مِن غير فرق بينهما أصلاً .
لعمري ، إنَّ اختراق تلك المواكب المُشجية للشوارع ، واجتما