الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

... لعلّ أصعب ما يواجه الباحث المؤرّخ هو أن يضع خطّاً حاسماً يفصل بين مرحلتين تأريخيتين لمُجتمع ما ؛ فإنّ تحوّل المُجتمع من حالة إلى أُخرى بطيء وتدريجي ولذلك فمن العسير تعيين وحدة زمنية والقول بأنّها خاتمة عهد وبداية عهد جديد .
وهذه هي الصعوبة التي نواجهها هنا حين نبغي وضع تحديد زماني دقيق للمرحلة التأريخيّة التي بدأت الأمّة المُسلمة تشهد فيها الانحراف الصريح عن مبادئ الإسلام ولكنّنا نستطيع أن نشهد هذا التحوّل واضحاً منذ بداية النصف الثاني من عهد عثمان .
ومن الطبيعي إذاً أن تكون قد أعدّت ومهّدت سبيل الظهور لهذا التّيار الجديد في المُجتمع أحداث وأشكال جديدة في التنظيم نشأ ـ هذا التيار ـ من تفاعلها مع ذهنية الفئات التي كانت تحكم المُجتمع الإسلامي آنذاك وتقوده .
وعلينا ـ لكي تستوفي هذه الدراسة شروط البحث الموضوعي ـ ألاّ نكتفي بالظواهر فقط , بل نمضي في البحث عن جذور هذه الظواهر في تصرّفات الجماعات والرجال الذين صاغوا تأريخ هذه الفترة مُنبّهين إلى أنّنا هنا إنّما
(34)
نبحث عن طبيعة الأحداث وآليتها ومدى مساهمتها في التّعجيل بظهور هذا التّيار الجديد في الحياة الإسلاميّة دون أن نعني بإصدار حكم أخلاقي على الرجال الذين صنعوا تأريخ هذه الفترة أو الأعمال التي كوّنت هذا التأريخ بل نهدف من بحثنا إلى اكتشاف الظروف الاجتماعيّة والإنسانيّة التي مهّدت لثورة الحسين (عليه السّلام) ؛ لاعتقادنا بأنّ هذه الثورة كغيرها من الأحداث الاجتماعيّة الهامّة لم تكن وليدة اندفاعات وقتيّة وإنّما كانت نتاجاً للظروف الاجتماعيّة التي سبقتها .
وإذا استعرضنا جملة الأحداث التي كان لها تأثير في التّمهيد للتّطورات الكبرى في عهد عثمان وجدناها كثيرة ولعلّ أهمّها ثلاثة :
* منطق السّقيفة .
* مبدأ عمر في العطاء .
* حادثة الشورى .
ونظراً لِما لهذه الأحداث من أهميّة بالغة في تكوين هذه الفترة فإنّنا نخصّ كلّ واحد منها بشيء من الحديث .
أ ـ منطق السّقيفة
لا يسع الباحث أن يُنكر أنّ وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) قد كشفت عن أنّ الرّوح القبلية كانت لا تزال مُتمكّنة في نفوس كثير من المسلمين فقد عبّرت هذه الرّوح عن نفسها في أعمال الرجال الذين ظهروا على الصعيد السياسي في المدينة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) بساعات وتحكّمت في توجيه سير الأحداث التي توالت بسرعة مذهلة .
ففي سقيفة بني سعادة اجتمع الأنصار يتداولون ـ بمعزل عن سائر المسلمين ـ في مسألة الحكم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ويرون أنّه من حقّهم بينما تكتّل ضدّهم فريق من القرشيين يُنازعهم هذا الأمر مع العلم بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يُفارقهم إلاّ بعد أن عهد بالحكم من بعده إلى علي بن أبي طالب (عليه السّلام) الذي لم يشترك في أحداث السّقيفة ؛ بسبب انشغاله مع الهاشميّين وبعض الأنصار بجثمان النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي كان لم يُدفن بعد .
ولكنّ تيّار الأحداث الجارف وتسابق الكُتل السياسيّة إلى اغتنام فرصة الذّهول الذي أصاب أكثر المسلمين لوفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) من أجل الوصول إلى الحكم حمل الجميع على تناسي عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وقد تولّى عمر في خلافته تبرير هذا الموقف في عدّة أحاديث له مع عبد الله بن عباس .
وإذا فحصنا المنطق الذي استُخدم في الجدل الذي دار آنذاك بين المهاجرين والأنصار نجد أنّ الرّوح القبلية ظاهرة فيه ظهوراً بيّناً ؛ فقد أثار كلام أبي بكر الأحقاد والإحن الكامنة بين الأوس والخزرج , وأغرى بينهما ؛ حيث تحدّث عمّا بين الحيين من القتلى وعن الجُراح التي لا تُداوى بينما نرى أنّ الحبّاب بن المنذر ـ خطيب الأنصار ـ قد تكلّم بنفس جاهلي صرف حين تحدّث إلى الأنصار يُهيجهم ويشدّ من عزائمهم .
ولم يخرج لسان المهاجرين عن هذه الرّوح حين قال : مَنْ يُنازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّ مُدلٍ بباطل أو متجانفٍ لإثم أو مُتورّط في هلكة ! .
وقد سارت الأحداث في الاتّجاه الذي رسمه أبو بكر ؛ فانقسم الأنصار بتأثير الرّوح القبلية التي تأججت وانخذل سعد بن عبادة الخزرجي ـ مُرشحهم للخلاقة ـ حيث بادرت الأوس فبايعت أبا بكر .
هذه الرّوح القبلية التي عبّرت عن نفسها يوم السّقيفة فتحت على المسلمين باباً من أبواب الفتنة ؛ فقد خرجت قريش من هذه التّجربة وهي ترى أنّ الحكم حقّ من حقوقها وأنّ الخلافة وراثة آلت إليها بحكم كون نبيّ المسلمين منها ممّا سبّب أسوأ الآثار في فهم القرشيين لمهمّة الحكم في الإسلام وستظهر هذه الآثار واضحة في عهد عثمان .
ب ـ مبدأ عمر في العطاء
سوّى النبي (صلّى الله عليه وآله) بين المسلمين في العطاء فلم يُفضّل أحداً منهم على أحد وجرى على مبدأ التّسوية في العطاء أبو بكر مدّة خلافته أمّا عمر فقد جرى ـ حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة ـ على مبدأ التّفضيل ؛ ففضّل السابقين على غيرهم وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين وفضّل المهاجرين كافّة على الأنصار كافّة وفضّل العرب على العجم وفضّل الصريح على المولى , وفضّل مضر على ربيعة ففرض لمضر في ثلاثمئة , ولربيعة في مئتين وفضّل الأوس على الخزرج .
وقد ولّد هذا المبدأ فيما بعد أسوأ الآثار في الحياة الإسلاميّة ؛ حيث إنّه وضع أساس تكوّن الطبقات في المجتمع الإسلامي وجعل المزية الدينية من سُبل التفوّق المادي وزََوّد الإرستقراطية القرشية التي مكّنت لنفسها من جديد بتمكّن أبي بكر من الحكم بمبرر جديد للاستعلاء والتحكّم بمقدّرات المسلمين فجميع اعتبارات التفضيل تجعل القرشيين أفضل في العطاء من غير القرشيين وهذا يعني أنّ قريشاً هي أفضل النّاس ؛ لأنّها قريش , وكفى بهذا مبرراً للتحكيم والاستعلاء .
وقد كوّن هذا المبدأ سبباً جديداً من أسباب الصراع القبلي بين ربيعة ومضر وبين الأوس والخزرج بما تضمّن من تفضيل سائر مضر على سائر ربيعة وتفضيل الأوس على الخزرج .
ونظن أن هذا المبدأ قد أرسى أوّل أساس من أسس الصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم والصّريح على المولى.
وكأنّ عمر قد أدرك في آخر أيّامه الأخطار السياسيّة والاجتماعيّة التي يؤدّي إليها مبدؤه هذا ولعلّه رأى بعض الآثار الضّارة التي خلّفها هذا المبدأ في حياة المسلمين ومنها هذه الظاهرة التي دلّت على تسرّب روح التحزّب والانقسام إلى مجتمع المدينة والتي لاحظها عمر وحذّر منها بقوله : بلغني أنّكم تتّخذون مجالس لا يجلس اثنان معاً حتّى يُقال : من صحابة فلان من جلساء فلان حتّى تُحُوميت المجالس . وأيم الله إنّ هذا لسريع في دينكم سريع في شرفكم سريع في ذات بينكم ... .
ولذلك أعلن عزمه على الرجوع إلى المبدأ النبويّ في العطاء , فقال : إنّي كنت تألّفت الناس بما صنعت في تفضيل بعض على بعض وإن عشت هذه السّنَة ساويت بين الناس فلم أفضّل أحمر على أسود ولا عربياً على أعجمي وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر .
ولكنّ عمر قُتل قبل أن يرجع عن هذا المبدأ فجاء عهد عثمان وسار عليه فظهرت آثاره الضّارة في الحياة الإسلاميّة وكان من أهم العوامل التي مهّدت للفتنة بين المسلمين .
ج ـ الشورى
وإذا كان التفضيل في العطاء قد خلق شعوراً بالامتياز والتفرّد لدى قريش فإنّ الشّورى التي اقترحها عمر قد أثارت في نفوس كثير من الأشخاص البارزين في قريش آنذاك وفي نفوس قبائلهم وأنصارهم مطامح سياسية ما كانوا ليحلموا بها ؛ فقد جعل عمر الشّورى في ستة نفر من قريش وكلّهم مرشّح للخلافة .
وها نحن نُثبت هنا نصّاً يصوّر لنا توزيع القوى السياسيّة أمام الحدث الذي يوشك أن يقع وهو بيعة خليفة جديد للمسلمين بعد عمر بن الخطّاب من بين هؤلاء المرشّحين , ... فخرج عبد الرحمن ـ ابن عوف ـ فمكث ثلاثة أيّام يُشاور الناس ثمّ رجع واجتمع الناس وكثروا على الباب لا يشكّون أنّه يبايع علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان هوى قريش كافّة ـ ما عدا بني هاشم ـ في عثمان وهوى طائفة من الأنصار مع علي (عليه السّلام) وهوى طائفة أخرى مع عثمان وهي أقل الطائفتين .
فالناس يريدون علياً (عليه السّلام) ؛ لأنّهم يخشون سلطان بني أُميّة أمّا قريش فهي تخشى علياً وعدله واستقامته ولعلّ كثيرين منهم كانوا على علم ببعض آرائه في المال والاجتماع والولايات وأمّا الأنصار فكثرتهم مع علي (عليه السّلام) , وقلّتهم مع عثمان وهذا طبيعي ؛ بسبب خوفهم من تسلّط قريش على جميع مقدّرات الدولة .
وقد سيطر منطق السّقيفة القبلي على بني أُميّة في الجدل الذي دار في مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) في المدينة والذي سبق البيعة لعثمان وبدا واضحاً أنّ قريشاً اعتبرت الخلافة مؤسسة من مؤسساتها وشأناً من شؤونها الخاصّة وليس لأيّ من المسلمين أن يتقدّم في الخلافة برأي يتنافى ورغباتها .
هذا عبد الله بن أبي ربيعة بن المُغيرة المخزومي يقول للمقداد بن عمرو : يابن الحليف العسيف ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش .
وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح الاُموي : أيّها الملأ إنّ أردتم ألاّ تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان .
أمّا عمار بن ياسر قال : إنّ أردتم ألاّ يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا علياً .
فقد آلت الشّورى إذاً في النتيجة إلى استيلاء الاُمويِّين ـ في شخص عثمان ـ على الحكم ولكنّها خلقت مواقف مختلفة من هذه النتيجة حيث بدأ التفكير في الخلافة يتسرّب إلى نفوس هؤلاء المرشّحين من رجال الشّورى وغدا كلّ واحد منهم يرجوها لنفسه بعد أن رشّحه لها عمر وطمح إلى الخلافة رجال غير رجال الشّورى من قريش ؛ لأنّهم رأوا أنّ بعض مَنْ رشّحهم عمر لا يفضلونهم في شيء بل ربّما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة .
وكان لنظام الشّورى أسوأ الأثر في نفسيّات الأنصار هؤلاء الذين وعدوا في السّقيفة أن يكونوا وزراء وشركاء في الحكم وإذا بهم يُحرمون من كلّ شيء حتّى من حقّ المشورة .
أضف إلى هذا : إنّ النتيجة التي آلت إليها لم تكن مُرضية لهم ؛ فقد رأوا في انتصار الاُمويِّين انتصار لأعدائهم القدماء من مشركي مكّة .
وقد عبّر علي بن أبي طالب (عليه السّلام) عن عدم رضاه عن هذه النتيجة وتسليمه بالأمر الواقع قائلاً : لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري ووالله لأُسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جوز إلاّ عليّ خاصّة .
بينما أخذ الطّامحون إلى الخلافة يجمعون الأنصار حولهم في الخفاء ويستعينون على ذلك بأموالهم وقبائلهم وإنشاء علاقات المصاهرة مع القبائل الأخرى حتّى إذا تقدّم العمر بخلافة عثمان ظهرت هذه الأحزاب إلى العلن , تعمل في سبيل هدفها الفريد .
وكانت عاقبة الشّورى أنّها سبّبت نُشوء هذه الأحزاب القائمة على الولاء لأشخاص مُعيّنين ذوي أهداف شخصيّة في الوصول إلى الحكم مستغلّة أسباب الشّكوى والاستياء من عثمان وبطانته وولاته على الأمصار .
وقد روى ابن عبد ربّه حديثاً لمعاوية بن أبي سفيان اعترف فيه بأنّه : لم يُشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشّورى التي جعلها عمر في ستة نفر ... لم يكن رجل منهم رجاها لنفسه ورجاها له قومه وتطلّعت إلى ذلك نفسه .
هذه هي الأحداث التي نرى أنّها تتّصل اتصالاً وثيقاً بالفتنة التي أصابت المسلمين في عهد عثمان فقد تفاعلت هذه الأحداث فيما بينها وتفاعلت مجتمعة مع أسلوب عثمان في سياسة المال والإدارة والاجتماع فكان من ذلك جميعاً الانحراف الصريح عن مبادئ الإسلام الذي وصل بالمأساة إلى قمّتها فدفع بالمسلمين إلى الثورة وانتهى بهم إلى شرّ ما كانوا يحذرون .
سياسية عثمان الماليّة والإداريّة
وسار عثمان حين ولي الخلافة على سياسة في المال لم يعهدها المسلمون ممّن تقدّمه ولم يألفوها ؛ فقد راح يغدق الهبات الضخمة على آله وذويه وغيرهم من أعيان قريش وعلى بعض أعضاء الشّورى بصورة خاصّة .
ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصّة لما أثارت اعتراض أحد ولكنّها كانت من بيت المال الذي يشترك فيه المسلمون جميعاً . وقد سار عمّال عثمان في أنحاء الخلافة سيرته في المدينة فانكفؤوا على بيوت الأموال المحلية ينفقونها على آلهم وأنصارهم والمقرّبين إليهم .
وقام عثمان بإجراء مالي فتح به للطّبقة الثريّة التي كان يخصّها بهباته وعطاياه أبواباً من النشاط المالي وأتاح لهم فرص التّمكين لنفسها وتنمية ثرواتها وذلك حين اقترح أن ينقل الناس فيهم من الأرض إلى حيث أقاموا ؛ فلمَنْ كان له أرض في العراق أو في الشام أو في مصر أن يبيعها ممّن له أرض بالحجاز أو غيره من بلاد العرب .
وقد سارع الأثرياء إلى الاستفادة من هذا الإجراء فاشتروا بأموالهم المُكدّسة أرضين في البلاد المفتوحة وبادلوا بأرضهم الحجاز أرضين في البلاد المفتوحة وجلبوا لها الرقيق والأحرار يعملون فيها ويستثمرونها وبذلك نمت هذه الثروات نمواً عظيماً وازدادت هذه الطّبقة الطّامحة إلى الحكم والطّامحة إلى السيادة قوّة إلى قوّتها .
وقد ذكر المسعودي وغيره بعض الأمثلة على هذه الثروات الضّخمة في ذلك الوقت , فقد بلغت ثورة الزبير خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وضياعاً وخططاً في البصرة والكوفة ومضر والإسكندرية .
وكانت غلّة طلحة بن عبيد الله من العراق كلّ يوم ألف دينار وقيل أكثر وبناحية الشّراة أكثر ممّا ذكرنا . وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة وبلغ ربع ثمن ماله بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً .
وحين مات زيد بن ثابت خلّف من الذهب والفضة ما كان يُكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار . ومات يعلى بن مُنبه وخلّف خمسمئة ألف دينار وديوناً وعقارات وغير ذلك ما قيمته ثلاثمئة ألف دينار .
أمّا عثمان نفسه فكان له يوم قُتل عند خازنه مئة وخمسون ألف دينار ومليون درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مئة ألف دينار وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً .
ثمّ قال المسعودي بعد ذلك : وهذا باب يتّسع ذكره ويكثر وصفه فيمَنْ تملّك الأموال في أيّامه .
وقد جدّت إلى جانب هذه الطّبقة الثريّة طبقة أُخرى فقيرة لم تملك أرضاً ولا مالاً وليس لها عطاءات ضخمة تلك هي طبقة الجنود المُقاتلين وأهلهم وذراريهم .
وقد تكوّنت هذه الطبقة باستئثار عثمان وعمّاله بالفيء والغنائم لأنفسهم والمُقرّبين منهم وحرمان المقاتلين منها ؛ مدّعين أنّ الفيء لله وليس للمحارب إلاّ أجر قليل يُدفع إليه .
أمّا السّواد سواد العراق فهو ـ على حدّ تعبير سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة ـ إنّما السّواد بُستان لقريش تأخذ منه ما شاءت , وتترك منه ما شاءت .
وأمّا أموال بيت المال فقد قال عثمان نفسه عنها : لنأخُذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام .
ومضت الأيّام , والأحداث تزيد الهُوّة اتّساعاً بين هاتين الطبقتين ؛ فبينما تزداد الطّبقة الإرستقراطية الثريّة ثراء وتسلّطاً وتُمعن في اللهو والبطالة والعبث بحيث يُشارك بعض أولاد الخليفة نفسه في اللهو الحرام والمجون , تُزداد الطّبقة الأُخرى فقراً وإحساساً بهذا الفقر .
ولم يكن المُسلمون بحاجة إلى وقت طويل ليتبيّن لهم أنّهم حين بايعوا عثمان قد سلّموا السّلطان الفعلي على المُسلمين إلى آله وذوي قرابته من بني أُميّة وآل أبي معيط ؛ فقد اتّضح في وقت مبكّر أنّ عثمان ليس إلاّ واجهة يكمن خلفها الاُمويّون . وسرعان ما عزّزت الأحداث هذا ؛ وذلك إنّ عثمان أسند إلى آله وذويه الولايات الكبرى في دولة الخلافة وهي : البصرة والكوفة والشام ومصر .
وهذه الولايات الكبرى الأربع هي الولايات ذات المنزلة العظيمة في الحرب والاقتصاد والاجتماع . فهي مركز الثروة المالية والزراعية لدولة الخلافة منها تُحمل الأموال والأقوات وهي مركز تجمّع الجيوش الإسلاميّة الوافدة من شتى بقاع الدولة وهي مركز عمليات الفتح الكبرى التي كانت إذ ذاك لا تزال في أوجها وما عدا هذه الولايات فذو شأن ثانوي لا يُؤبه له ولا يُلتف إليه .
لقد ولّى عثمان على البصرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز وعمره خمس وعشرون سنة وولّى على الكوفة أخاه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثمّ عزله تحت ضغط الرأي العام بعد أن ثبت عليه شرب الخمر والتهتّك وولّى مكانه سعيد بن العاص وكان معاوية عاملاً لعمر على دمشق والأردن فضمّ إليه عثمان ولاية حمص وفلسطين والجزيرة وبذلك مدّ له في أسباب السّلطان إلى أبعد مدى مُستطاع وولّى مصر أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح .
كان هؤلاء الولاة جميعاً من قرابة عثمان ولم يكن سلوكهم الديني أو الإداري أو هما معاً في أمصارهم ومع رعيتهم مُرضياً ومقبولاً ؛ فقد كانوا جميعاً من قريش وكانوا في تصرّفاتهم لا يخفون قبليتهم وتعصّبهم على غير قريش من قبائل العرب ؛ ففي الكوفة تجبّر سعيد بن العاص وتعصّب لقريش وقال : إنّما السّواد بُستان لقريش تأخذ منه ما شاءت , وتترك منه ما شاءت .
فلمّا اعترضه المسلمون من غير قريش نفاهم إلى الشام وإذا بمعاوية يناظرهم في فضل قريش وتقدّمها على سائر المسلمين فلمّا أنكروا عليه ذلك نفاهم إلى الجزيرة ـ وأميرها من قبل معاوية عبد الله بن خالد بن الوليد المخزومي ـ فأذلّهم وأظهر لهم سيادة قريش بامتهانه لهم وتحقيره لشأنهم وحطّه من مقامهم .
وفي مصر قسا عبد الله بن سعد في جباية الخراج فظلم وأسرف في الظلم ثمّ أظهر من العصبيّة لقريش ما أثار غير قريش من العرب المسلمين ودفعهم إلى أن يشكوه إلى عثمان فلمّا كتب إليه عثمان يأمره بالإقلاع عمّا هو عليه عدا على الشهود فعاقبهم وضرب رجلاً منهم حتّى قتله .
ولم يكن ولاة عثمان هؤلاء من ذوي السابقة في الدين والجهاد في الإسلام وإنّما كانوا متّهمين في دينهم , بل كان فيهم من أمره في الفسق ورِقّة الدين معروف مشهور .
كان فيهم عبد الله بن سعد الذي بالغ في إيذاء النبي (صلّى الله عليه وآله) والسُّخر منه وبالغ في الهُزء بالقرآن حتّى نزل القرآن بكفره والوليد بن عقبة ممّن أمره في الفُسق معروف مشهور وقد نزل فيه قرآن يُعلن فسقه .
وكان المُسلمون ـ أعيانهم وعامّتهم ـ يُراجعون عثمان في شأن هؤلاء الولاة من أقاربه ويطلبون منه عزلهم فلا يعزلهم ولا يسمع فيهم أيّة شكوى إلاّ كارهاً .
هذه السياسة التي سلكها عثمان في الولايات أثارت عليه وعلى عهده موجة عامّة من السّخط بين المسلمين ؛ لِما رأوه فيه من عصبية قبلية يمارسها هو وولاته من قريش .
وأثارت عليه سخط المسلمين والمعاهدين من غير العرب ؛ لِما عوملوا به من امتهان وقسوة من قبل ولاته وعمّاله , وأثارت عليه سخط الصحابة ؛ لأنّه ولّى أمور المسلمين وأموالهم وأبشارهم هؤلاء الغُلمة القرشيين الذين لا يحترمون الدين ولا يأبهون له والذين يظلمون دون أن يَردوا من قِبل عثمان .
وأثارت عليه سخط الأنصار ؛ لأنّهم حُرموا من الولايات بعد أن وعُدوا بأن يكونوا شركاء في الحكم ولم ينس الأنصار يوماً أنّ سيوفهم وقتلاهم وأموالهم هي التي بوّأت قريشاً هذه المنزلة .
وأثارت سخط شباب قريش والطامحين إلى الحكم من أعضاء الشورى ؛ لأنّهم أُهملوا ولم ينالوا ولاية من هذه الولايات .
موقف عثمان من معارضيه
ولقد كان سُلوك عثمان إزاء مُعارضي سياسته في المال والإدارة من كبار الصحابة سبباً في مُضاعفة النّقمة عليه في قريش وفي عامّة المسلمين وعاملاً مهمّاً من عوامل تعقيد الأزمة التي عاناها عثمان وعاناها المسلمون في عهد عثمان ؛ فقد عارض سياسة عثمان في المال والإدارة عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة وكان خازناً لبيت المال فاعترضه عثمان بقوله : إنّما أنت خازن لنا .
ثمّ اشتدّت معارضة ابن مسعود فأمر عثمان بضربه حتّى كسر بعض أضلاعه , وعارضه أبو ذرّ الغفاري فنفاه إلى الشام فلم يكُفّ عن المُعارضة بل أمدته أساليب معاوية في الناس بمادة جديدة فأخذ ينتقد أساليب معاوية في إنفاق الأموال العامّة وصادف كلامه هوى في نفوس رعية معاوية فكتب بشأنه إلى عثمان فأرسل إليه عثمان : أرسل إليّ جندباً ـ وهذا اسم أبي ذرّ ـ على أغلظ مركب وأوعره .
فوصل أبو ذرّ إلى المدينة وقد تآكل لحم فخذيه من عنف السير ولكنّه لم يكُفّ عن المعارضة أيضاً فنفاه عثمان إلى الربذة ولبث فيها حتّى مات غريباً وحيداً سنة 32 هـ .
وعارضه عمّار بن ياسر حليف بني مخزوم فشتمه عثمان وضربه حتّى غُشي عليه سائر النهار ولكنّ هذا العنف لم يثنِ عماراً فاستمر في معارضته فشتمه عثمان وأمر به فطرح على الأرض ووطئه برجليه وهما في الخف حتّى أصابه الفتق .
وعارضه غير هؤلاء من الصحابة من المهاجرين والأنصار في الأحداث التي كان يقدم عليها والسياسة التي كان ينتهجها فلم يسمع منهم ولم يستجيب لهم .
وقد كانت هذه المُعارضة تشيع في المسلمين فينتظرون من عثمان أن يستجيب لها ؛ لأنّها كانت معارضة قائمة على إدراك حاجات المجتمع وكانت تعبيراً عن عدم رضا المسلمين عن السياسة التي كانوا يُساسون بها ولكنّهم بدل ذلك كانوا يرون ويسمعون أنّ عثمان وآله قد نكّلوا بالمعارضين هذا التنكيل الشديد ومسّوهم بهذا الأذى البالغ ولم يستجيبوا إلى شيء ممّا دعوا إليه.
وقد أثار موقفه هذا سخط عامّة المسلمين ؛ فهؤلاء المعارضون من أعلام الصحابة وأركان الدعوة يمتهنهم عثمان ويضطهدهم لدعائهم إيّاه إلى الإصلاح في الوقت الذي يسمع فيه من مروان بن الحكم وأشباهه من بني أُميّة وأنصارهم من مسلمة الفتح الطلقاء الذين ليس لهم سابقة ولا مكانة في الإسلام .
وهؤلاء المعارضون كانوا يعبّرون بمعارضتهم هذه عن إرادة جميع المسلمين الذي آذتهم سياسة عثمان في كراماتهم وأرزاقهم ولم يُفسّر المسلمون موقف عثمان من المعارضين إلاّ بأنّه عازم على المضي في سياسته دون الالتفات إلى أيّ نُصح أو تحذير .
وإلى جانب هذه المعارضة الصادقة المخلصة الهادفة إلى خير المسلمين جميعاً كانت توجد معارضة أخرى مدفوعة بأسباب مُغايرة وتستهدف نتائج مُغايرة .
وقد رأى زعماء هذه المعارضة في فساد الأوضاع العامّة وشيوع التذمّر والنقد فرصة يستغلّونها لاستعجال نهاية عهد عثمان التي تُمكّنهم من الوصول إلى مآربهم فأخذوا يُساهمون في نشر رُوح التذمّر وتعميقها .
وقد مكّن عثمان بسياسته الإدارية لهذه الطائفة من معارضيه أسباب القوّة والنفوذ ؛ وذلك حين أطلق لها أن تُنمي ثرواتها إلى أبعد مدى بإجرائه الذي قدّمنا الحديث عنه في الأراضي وتكوين الإقطاعات الضّخمة , وحين أطلق لها أن تُغادر المدينة إلى البلاد المفتوحة ؛ حيث راح أفرادها يستكثرون لأنفسهم من الأموال ويستكثرون من الأتباع ويُمنّون أنفسهم بالوصول إلى الخلافة ويمنّيهم بذلك أتباعهم وقبائلهم .
وقد أشار الطبري في أحداث سنة خمس وثلاثين إلى هذه الحقيقة فقال : كان عمر بن الخطّاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلاّ بإذن وأجل .
فلمّا ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر , فانساحوا في البلاد فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع مَنْ لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام فكان مغموراً في الناس وصاروا أوزاعاً إليهم وأمّلوهم وتقدّموا في ذلك فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم فكان ذلك أوّل وهن دخل على الإسلام وأوّل فتنة كانت في العامّة ليس إلاّ ذلك .
وقال في موضع آخر : ... فلمّا ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس ... .
نتائج سياسة عثمان
فإذا لاحظنا أنّ عثمان فتح باب الهجرة أمام قريش فانساحوا في البلاد يستصلحون الأموال ويُكوّنون الثروات ويجمعون حولهم الأنصار بالمال والأصهار إلى قبائل العرب وبسمعتهم الدينية التي جاءتهم من صحبتهم للنبي (صلّى الله عليه وآله) , وسبقهم إلى الإسلام وجهادهم في سبيله .
وإنّ سلوك عمّال عثمان على الأمصار الكبرى وسلوك عثمان نفسه في المدينة مع ناصحيه والمشفقين عليه , وعلى الناس من سلوكه , كان يُقدّم للمسلمين أسباب التذمّر والشكوى وأنّ هؤلاء الصحابة من قريش كانوا يرون هذا ويسمعونه ويشاركون فيه فإذا أضفنا إلى ذلك ما خلّفه تدبير الشّورى لدى هؤلاء من طموح إلى الخلافة وسعي في سبيلها ... إذا لاحظنا هذا كلّه اتّسقت لأعيننا الخطوط البارزة والعوامل الأساسية في ثورة المسلمين على عثمان وعلى عهده .
طبقة ارستقراطية دينية كوّنتها السقيفة بما بعثت من مركز قريش غدت ـ بالإضافة إلى ارستقراطيتها الدينية ـ تتمتّع بثروات طائلة بسبب مبدأ التفضيل في العطاء وسياسة عثمان في المال والأرض والهجرة وقد كوّن مبدأ الشّورى في نفوس كثير من أفرادها الطموح إلى الحكم ممّا دفعهم إلى استغلال كلّ الظروف المواتية للوصول إلى هذا الهدف يُقابل هذه الطبقة طبقة المحاربين والمسلمين الجُدد المحرومة من كافة الامتيازات والتي كانت أسباب تذمّرها مُتوفّرة .
لقد كانت جماهير المحاربين هي مادة الثورة أمّا وقودها فهو تصرّفات عثمان وولاته وآل بيته وأمّا الذي أجّجها فهم أصحاب المصلحة فيها . هم هؤلاء الزعماء الذين أوتوا من الطموح ما جعل الخلافة هدفهم ومن المال والمنزلة الدينية ما مكّنهم من جمع الأنصار حولهم ومن سوء الأوضاع ما سهّل عليهم أن يعدّوا الناس بخير ممّا هم فيه .
وقد تمخّضت هذه الملابسات والظروف السيئة عن حركة عامّة إن فقدت النظام بالمعنى الحزبي الدقيق فإنّها لم تفقد وحدة الأفكار الدافعة والأهداف المشتركة .
وقد سلك عثمان وبطانته من الاُمويِّين والمنتفعين تجاه هذه الحركة سلوكاً بعيداً عن الحكمة والعدل ؛ فبدلاً من أن تُجاب مطالب الثوّار رُدوا بعنف واستُهين بهم وجوبهوا بسياسة قاسية هي هذه السياسة التي تمخّض عنها مؤتمر عثمان مع عمّاله على الأمصار والتي قدّم لنا الطبري صورة عنها : ... فقال له عبد الله بن عامر : رأيي يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تُجمرهم في المغازي حتّى يذلّوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه وما هو فيه من دُبرة دابته وقمّل فروه ...
فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم وأمرهم بالتّضييق على مَنْ قبلهم وأمرهم بتجمير الناس في البعوث وعزم على تحريم اُعطياتهم ؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه .
ولكنّ هذه الإجراءات العنيفة زادت نار المقاومة اشتعالاً بدل أن تُخفّف من شدّتها ؛ فقد رأى هؤلاء المحاربون الفقراء أنّهم خُدعوا فتكتّلوا من الكوفة والبصرة ومصر والحجاز ومن هنا وهناك للقيام بمسعى جماعي لإرغام عثمان على تغيير بطانته التي اعتبروها مسؤولة عن كثير من المآسي وتبديل عمّاله الذي أساؤوا السيرة وجاروا على الرعية ... وتغيير سياسته المالية .
وبينما كان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يُسفر بين الثوار وبين الخليفة فيُهدئ من ثورة اُولئك وينبّه عثمان وينصحه بالاستقامة والعدل نرى أنّ الآخرين من الطامحين إلى الخلافة ينتهزون فرصة ثورة الجماهير للوصول إلى هدفهم فيؤجّجون الثورة ويزيدون النّقمة اشتعالاً ويبذلون الأموال الطائلة في تمويل الثورة واصطناع قادتها وتسليح أفرادها .
وبلغت المأساة قمّتها بمقتل عثمان .
موقف الإمام علي (عليه السّلام) من الحكم بعد عثمان
وجاء الناس إلى الإمام علي (عليه السّلام) يطلبون منه أن يلي الحكم ولكنّه أبى عليهم ذلك ؛ لا لأنّه لم يأنس من نفسه القوّة على ولاية الحكم وتحمّل تبعاته فقد كان (عليه السّلام) على تمام الأُهبة لذلك كان قد خبر المجتمع الإسلامي من أقطاره وخالط مُختلف طبقاته وراقب حياتها عن كثب ونفذ إلى أعماقها وتعرّف على الوجدان الطبقي الذي يشدّها ويجمعها .
وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الذي كان يتمتّع به من النبي (صلّى الله عليه وآله) فهو وزيره ونجيّه وأمين سرّه وقائد جيوشه ومنفّذ خططه ومعلن بلاغاته ... هذه المنزلة الفريدة التي لم يتمتّع بها أحد من الصحابة أعدّته إعداداً تامّاً لمهمّة الحكم .
وقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به إعداده للمنصب الإسلامي الأوّل ليصل إليه وهو على أتمّ ما يكون أهلية واستعداداً .
ولقد غدا من نافلة القول أن يُقال : إنّه هو الخليفة الذي كان يجب أن يلي حكومة النبي (صلّى الله عليه وآله) في المجتمع الإسلامي , وإذا لم يقدر له أن يصل إلى الحكم بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة بل ساهم فيها مساهمة خصبة ؛ فقد كان أبو بكر , ثمّ عمر ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آرائه في القضاء والسياسة والحرب وخاصّة في خلافة عثمان ؛ فقد كان على أتمّ الصّلة بالتيّارات التي تمخُر المجتمع الإسلامي، ولكنّ عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الإمام يُقدّمه ؛ لأنّ بطانته المعروفة كانت تأبى عليه ذلك .
ولقد رأى أنّ المجتمع الإسلامي قد تردّى في هوّة من الفوارق الاجتماعيّة والاقتصادية التي زادت عمقاً وحدّة بسبب السياسة غير الحكيمة التي اتّبعها ولاة عثمان مدّة خلافته ورأى أنّ التوجيهات الدينية العظيمة التي عمل النبي (صلّى الله عليه وآله) طيلة حياته على إرساء أصولها في المجتمع الإسلامي الناشئ قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس .
وإنّما صار الناس إلى واقعهم هذا ؛ لأنّهم فقدوا الثقة بالقوّة الحاكمة التي تُهيمن عليهم فراحوا يسعون إلى إقرار حقوقهم وصيانتهم بأنفسهم وهكذا انقطعت الصلة بينهم وبين الرموز المعنوية التي يجب أن تقود حياتهم .
والسبيل إلى تلافي هذا الفساد هو إشعار الناس أنّ حكماً صحيحاً يهيمن عليهم لتعود إلى الناس ثقتهم الزائلة بحكّامهم ولكنّ هذا لم يكن سهلاً قريب الجنى فثمّة طبقات ناشئة لا تُسيغ مثل هذا ؛ ولذلك فهي حريّة بأن تقف في وجه كلّ منهج إصلاحي ومحاولة تطهيرية .
وإذاً فقد كان علي (عليه السّلام) يُدرك ـ نتيجة لوعيه العميق للظروف الاجتماعيّة والنفسية التي كانت نجاح المجتمع الإسلامي في ذلك الحين ـ أنّ المدّ الثوري الذي انتهى بالأمور إلى ما انتهت إليه بالنسبة إلى عثمان يقتضي عملاً ثورياً يتناول دعائم المجتمع الإسلامي من النواحي الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسية .
ولمّا كانت البيعة عقداً حقيقياً يستتبع مسؤوليات وواجبات وحقوقا لكلّ من الراعي والرعية ؛ لذلك امتنع من الاستجابة الفورية لضغط الجماهير والصحابة عليه بشأن قبول بيعتهم له بالخلافة .
فقد أراد أن يضعهم أمام اختبار يكشف به مدى استعدادهم لتحمّل أسلوب الثورة في العمل ؛ لئلاّ يروا فيما بعد أنّه استغفلهم واستغلّ اندفاعهم الثوري حين يكشفون صعوبة الشروط التي يجب أن يُناضلوا الفساد الذي ثاروا عليه في ظلّها .
من أجل هذا قال لهم : دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي ؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ , لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ , وَلا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ , وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ , وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ . وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ , وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ , وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ , وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ , وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً . ولكنّ الناس أبَو عليه إلاّ أن يلي الحكم فاستجاب لهم .
وما أن بويع حتّى عالنهم بسياسته التي قرّر أن يتّبعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها . ولم تكن هذه السياسة شيئاً مرتجلاً اصطنعه لنفسه يوم ولي الخلافة وإنّما كانت منهجاً مدروساً ومنتزعاً من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي آنذاك ومعدّة للسّير بهذا المجتمع إلى الأمام ومُهيّأة لتنيل هذا المجتمع المطامح التي كان يحلم بها ويصبو إليها .
إصلاحات الإمام (عليه السّلام) وموقف المسلمين منها
وقد تناولت إصلاحات الإمام الثورة ثلاثة ميادين : الإدارة , والحقوق , والمال ؛ ففيما يرجع إلى سياسة الإدارة أصرّ على عزل ولاة عثمان على الأمصار هؤلاء الولاة الذين كانوا من الأسباب الهامّة في الثورة على عثمان ؛ لظلمهم وبغيهم وعدم درايتهم بالسياسة وأصول الحكم .
وقد كلّمه المغيرة بن شعبة في شأن ولاة عثمان فأشار عليه بأن يُثبت هؤلاء على أعمالهم ولكنّه أبى عليه ذلك وعزلهم وكلّمه طلحة والزبير في شأن الولاية على الكوفة والبصرة فردّهما ردّاً رفيقاً وولّى رجالاً من أهل الدين والعفّة والحزم فولّى على البصرة عثمان بن حُنيف وعلى الشام سهل بن حُنيف وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة وثبّت أبا موسى الأشعري على الكوفة وهذه هي الأمصار الكبرى في دولة الخلافة حينذاك .
وقد أصاب هذا الإجراء قريشاً بضربة قاصمة في كبريائها وسلطانها ونفوذها ؛ لأنّ هؤلاء جميعاً من غير قريش . وقد قال في شأن ولاة عثمان ومَنْ لفّ لفّهم : ... وَلَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا , فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلاً , وعِبَادَهُ خَوَلاً , وَالصَّالِحِينَ حَرْباً , وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً ؛ فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ , وَجُلِدَ حَدّاً فِي الإِسْلامِ , وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى الإِسْلامِ الرَّضَائِخُ .
وفيما يرجع إلى الحقوق نادى بأنّ المسلمين جميعاً سواء في الحقوق والواجبات في الإسلام وقد كانت هناك فروق حقوقية جاهليّة قضى عليها الإسلام وأُعيدت في عهود لاحقة ؛ فقريش ذات الماضي العريق في السيادة على القبائل العربية عادت في عهد عثمان إلى إيمانها بتلك الفروق فغدا أُناس ليس لهم ماضٍ مشرّف بالنسبة إلى الإسلام ونبيّه يتعالون على أعظم المسلمين جهاداً وسابقة وبلاء لمجرّد أنّهم قرشيون .
هذه الفروق المعنوية الجاهليّة قضى عليها الإمام (عليه السّلام) فقال : الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له والقوي عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه .
وفيما يرجع إلى سياسة المال وقف موقفاً صارماً وكانت تواجهه فيما يتعلّق بهذه السياسة نقطتان هامّتان ؛ إحداهما الثروات التي تكوّنت في أيام عثمان بأسباب غير مشروعة والثانية أسلوب توزيع العطاء .
وقد أعلن في الخُطب الأولى التي استهل بها حكمه مصادرة جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة لطبقة الإرستوقراطيين كما أعلن أنّه سيتّبع مبدأ المساواة في العطاء فقال : أيّها الناس إنّي رجل منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم ومنفّذ فيكم ما أمر به .
ألا وإنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ؛ فإنّ الحقّ لا يبطله شيء ولَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ , وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ ؛ فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً , وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ .
وقال من خطاب آخر : ... ألا لا يقولنّ رجال منكم غداً غمرتهم الدنيا فاتّخذوا العقار وفجّروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة واتّخذوا الوصائف الرُّوقة فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً , إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأخّرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون فينقمون ذلك ويستنكرون , ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا .
ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرى أنّ الفضل له على سواه لصحبته ؛ فإنّ الفضل النيّر غداً عند الله وثوابه وأجره على الله .
وأيّما رجل استجاب لله وللرسول فصدّق ملّتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا , فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ؛ فأنتم عباد الله والمال مال الله يُقسم بينكم بالسويّة لا فضل فيه لأحد على أحد وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب . لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار .
وإذا كان غد إن شاء الله فاغدوا علينا ؛ فإنّ عندنا مالاً نقسمه ولا يتخلّفنّ أحد منكم ؛ عربي ولا عجميّ , كان من أهل العطاء أو لم يكن , إلاّ حضر إذا كان مسلماً حرّاً .
فلمّا كان من الغد غدا وغدا الناس لقبض المال فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه : ابدأ بالمهاجرين فنادهم وأعطِ كلّ رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ومَنْ حضر من الناس كلّهم ؛ الأحمر والأسود , فاصنع به مثل ذلك .
فقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم . فقال : نعطيه كما نُعطيك . فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير , ولم يفضّل أحداً على أحد . وتخلّف عن هذا القسم يومئذ طلحة , والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش وغيرها .
وهكذا قضى بسرعة وحسم على شرعيّة التفاوت الطبقي بما له من ذيول اقتصادية ودينية فسوّى بين المعتقين والأحرار والسابقين في الإسلام والمسلمين الجدد ولم يجعل من الفضل الديني ذريعة إلى المغانم الاقتصادية كما شلّ بإجراء آخر قوّة هذه الطبقة التي تكوّنت في عهد عثمان ؛ وذلك حين صادر قطاع عثمان والأموال التي أعطاها .
وبقدر ما كانت هذه السياسة مصدر فرح وجدل للطّبقة المستضعفة الفقيرة الرازخة تحت أثقال من الظلم كانت أيضاً صفعة لقريش ولغرورها , وخيلائها واستعلائها على الناس فمن أين لها بعد اليوم أن تحوز الأموال العظيمة دون أن تنفرج شقتان لتقولا لها : من أين لك هذا ؟وكيف لها بعد اليوم أن تستعلي وتستبد وتفرض على الناس في ظلّ الإسلام سلطانها عليهم في الجاهليّة.
ولعلّ قادة الطبقة الثرية وزعماءها فكّروا في أن يساوموا علياً على بذل طاعتهم له على أن يُغضي عمّا سلف منهم ويأخذهم باللين والهوادة فيما يستقبلون فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إليه وقال : يا أبا الحسن إنّك قد وترتنا جميعاً ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال أيّام عثمان وأن تقتل قتلته وإنّا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام .
فقال (عليه السّلام) : أمّا ما ذكرتم من وتري إيّاكم فالحقّ وتركم ؛ وأمّا وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حقّ الله عنكم ولا من غيركم ... .
ولمّا أيقن زعماء هذه الطبقة أنّهم لن يُفلحوا عن طريق المساومة والتهديد لجؤوا إلى السعي لنقض البيعة وقد جاء مَنْ أخبر علياً بأنّهم يدعون الناس إلى رفض البيعة ؛ مدفوعين إلى ذلك بالامتيازات الاقتصادية والاجتماعيّة التي فقدوها .
فخطب الناس وكأنّه أراد بذلك أن يكشف عناصر الفتنة الجديدة ويخرج بالمسألة من حدود الهمس والعمل في الظلام إلى الصعيد العام ويسلّط عليه وعلى زعمائها النور ويفضح أهدافهم ويُطلع الأمّة على المناورة التي تريد أن تحوّل نتائج الثورة إلى مغانم شخصيّة وتُعيد الأوضاع القديمة كما كانت فلا تحصل الأمّة من ثورتها إلاّ على تبديل الوجوه .
وقد أكّد في هذه الخطبة عزمه على مواصلة تطبيق المنهج الذي بدأ به فقال : فأمّا هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرَة وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا وعهد نبيّنا بين أظهرنا , فمَنْ لم يرض به فليتولّ كيف شاء .
ولكنّ الإرستقراطية الجديدة لم تقف مكتوفة اليدين فقامت بحركة تمرّد الأولى في البصرة تحت ستار الثأر لعثمان وما هي في واقعها إلاّ تدبير دبّره مَنْ لم يُماش الحكم الجديد أهواءهم من بني أميّة وغيرهم من المنتفعين بعهد عثمان .
وقد كان القائمون بهذه الحركة يريدون أن يعطفوا أزمّة الحكم إلى جانبهم بعد أن يئسوا من مساعدة الإمام (عليه السّلام) لهم على ما يبتغون ولكنّ الإمام (عليه السّلام) قضى على الحركة في مهدها وفرّ مَنْ بقي من أنصارها إلى الشام حيث قامت حكومة برياسة معاوية بن أبي سفيان انضوت إليها جميع العناصر المنتفعة بعهد عثمان والتي رأت في الحكم الجديد خطراً عليها وعلى امتيازاتها الطبقية .
وبينما كانت حكومة الإمام (عليه السّلام) تسير على نهج إسلامي خالص أي أنّها كانت تحقّق للأمّة أقصى قدر مستطاع ـ في ظروفها السياسيّة والاقتصادية والعسكرية ـ من الرفاهية والعدالة والأمن كان معاوية يسير على نهج آخر في الحكم يقوم على شراء الضمائر بالمال وتفضيل طائفة بحرمان طائفة أخرى وتعطيل السبل وتعكير الأمن ولم يكن معاوية ليبالي في أن ينزل بدافعي الضرائب من الزرّاع والتجّار أفدح الظلم في سبيل أن يحصل منهم على مبلغ من المال يُغذّي به أطماع حفنة من رؤساء القبائل العربية يؤلّفون جهازه العسكري المتأهّب دائماً لقمع أي حركة تحرريّة تقوم بها جماعة من الناس .
وقد كان من الطبيعي أن تقوم حركة تمرّد أخرى وراء الواجهة نفسها بزعامة معاوية فكانت صفين وكان التحكيم ثمّ النهروان ثم قُتل (عليه السّلام) بثمرة من ثمرات التحكيم بعد أن غرس في عقول الناس وقلوبهم المبادئ الإسلاميّة في الحكم وسياسة الجماعات .
ثم كانت خلافة الحسن بن علي (عليه السّلام) ذات الشهور العاصفة الحُبلى بالدسائس والمؤامرات عليه من قبل الانتهازيين والوصوليين ثم اضطراره إلى التخلّي عن الحكم مؤقتاً تحت ضغط الأحداث التي لم تكن صالحة تفادياً لحرب خاسرة تذهب فيها دماء أنصاره دون الحصول على نصر آني أو في المستقبل القريب أو البعيد .
وصار الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان واتّسقت له الأمور وسيطر على العالم الإسلامي كلّه بعد أن أُخذت له البيعة على الناس في شوّال سنة إحدى وأربعين للهجرة .
وقد كانت سياسة الإمام علي (عليه السّلام) وطريقته في ممارسة مهمّة الحكم وفهمه لواجبات الحاكم كانت هذه الأمور تُشكّل تحدّياً مستمراً لمعاوية وبطانته وتهديداً لمشاريعه في التسلّط على المسلمين .
والذي زاد من خطورة هذه الأفكار على معاوية ومشاريعه أنّها لم تكن أفكاراً مجرّدة بل طُبّقت على حياة الناس بأمانة وإخلاص عظيمين ؛ لذلك عمل معاوية منذ انتهت مهزلة التحكيم على أن يحارب هذه المبادئ وأن يطبع حياة الناس وأفكارهم بالطابع الذي يؤمن له سيطرة دائمة خالية من أيّ رقابة أو احتجاج ؛ ولذلك مارس سياسة استهدف منها محق نزعة الحرية لدى الإنسان المسلم وتحويله عن أهدافه العظيمة ونضاله من أجلها .
ولقد كانت هذه السياسة تقوم على المبادئ التالية :
1 ـ الإرهاب والتجويع .
2 ـ إحياء النزعة القبلية واستغلاها .
3 ـ التحذير باسم الدين وشلّ الروح الثورية .
وبهذه السياسة حاول معاوية القضاء على ما لدى الجماهير المسلمة من نزعة إنسانيّة تجعلها خطراً على كلّ حاكم يجافي مبادئ الإسلام في ممارسته لمهمّة الحكم وبذلك أمن ثورة الجماهير ونقدها ولنأخذ هذه المبادئ بشيء من التفصيل .
سياسة معاوية الإرهاب والتجويع
لقد اتّبع معاوية سياسة الإرهاب والقتل والتجويع بالنسبة إلى الرعايا المسلمين الذين لا يتّفقون معه في الهوى السياسي وإطلالة قصيرة على تأريخ هذه الفترة من حياة المسلمين تُثبت هذه الدعوى .
حدّث سفيان بن عوف الغامدي وهو أحد قوّاد معاوية العسكريين قال : دعاني معاوية فقال : إنّي باعثك بجيش كثيف ذي أداة وجلادة فالزم ليّ جانب الفرات حتّى تمرّ بهيت فتقطعها فإن وجدت بها جُنداً فأغر عليهم وإلاّ فامض حتّى تُغير على الأنبار .
إنّ هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق تُرعب قلوبهم وتُفرح كلّ مَنْ له هوى فينا منهم وتدعو إلينا كلّ ما خاف الدوائر فاقتل كلّ مَنْ لقيته ممّن هو ليس على مثل رأيك وأخرب كلّ ما مررت به من القرى وأحرِب الأموال ؛ فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل , وهو أوجع للقلب .
ودعا معاوية بالضحّاك بن قيس الفهري وأمره بالتوجّه ناحية الكوفة وقال له : مَنْ وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه .
فأقبل الضحّاك فنهب الأموال وقتل مَنْ لقي من الأعراب حتّى مرّ بالثعلبية فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم ثمّ أقبل فلقي عمر بن عميس بن مسعود الدّهلي وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود فقتله في طريق الحاج عند القطقطانية وقتل معه ناساً من أصحابه .
واستدعى معاوية بُسر بن أرطأة ووجّهه إلى الحجاز واليمن وقال له : سر حتّى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف مَنْ مررت به وانهب أموال كلّ مَنْ أصبت له مالاً ممّن لم يكن دخل في طاعتنا فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تُريد أنفسهم وأخبرهم أنّ لا براءة لهم عندك ولا عذر حتّى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم فأكففّ عنهم ... وأرهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة واجعلها شردات ... .
وقال له : لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلاّ بسطت عليهم لسانك حتّى يروا أنّهم لا نجاء لهم وأنّك محيط بهم ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي فمَنْ أبى فاقتله واقتل شيعة علي حيث كانوا . فسار وأغار على المدينة ومكة فقتل ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أُحرق بالنار .
وبهذا المطلع الفاني استهلّ معاوية سياسته بعد التحكيم مع المسلمين الذين يخالفونه في الهوى السياسي .
وقد بلغ في ذلك شأواً بعيداً فقتل وأرعب واستصفى الأموال وعاث في الأرض فساداً.
وقد است