الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

التناقض الصارخ بين الواقع والشرعيّة
لمّا هلك معاوية آلت خلافته لابنه بحكم الكيد والمكر والوراثة . كان الخليفة الجديد على يقين بأن أخطر خصومه هو الإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) ؛ لذلك انصبَّ اهتمامه على أخذ البيعة من الحسين (عليه السّلام) .
وكان أول مراسيمه الملكية أن كتب كتاباً إلى واليه على المدينة جاء فيه : « خذ البيعة على أهل المدينة عامة ، وخاصة على الحسين ، فإن أبى عليك فاضرب عنقه » .
وجاء في تاريخ الطبري : « أما بعد , فخذ حسيناً ، وعبد الله بن عمر , وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا . والسّلام »(1) . فالخليفة الجديد مصمم على أخذ البيعة من الحسين (عليه السّلام) ، ومصمم على قتل الحسين إن أبى بيعته .
ولما شعر يزيد بن معاوية أن الحسين ممتنع عن البيعة صمم نهائياً على قتل الإمام الحسين (عليه السّلام) أشنع قتلة ؛ ليجعله عبرة لغيره , وليتخلص نهائياً من وجوده ومن خطره المحتمل على الملك الاُموي . وحجته العلنية ووسيلته إلى ذلك منحصرة بامتناع الحسين عن البيعة .
تواصل لتاريخ أسود
ليس جديداً إصرار يزيد بن معاوية على تجاهل حق أهل بيت النبوة (عليهم السّلام) ، وعلى إرغام أنف الحسين (عليه السّلام) وأخذ البيعة منه راغماً أو قتله أشنع قتلة ؛ فهذا الموقف الاعتباطي الأرعن امتداد لموقف أبيه وعمّه وجده ، والبطن الأموي وبطون قريش الـ 23 التي تشكّل بمجموعها حلقات تاريخيّة متّصلة ، وأدواراً متّفقاً عليها تماماً .
فأبو سفيان ومعاوية يقودان جبهة الشرك 23 عاماً ، ثمَّ ينخرطان في مؤامرة بطون قريش الـ 23 ويحصلان على ولاية الشام ، ثمَّ يترك معاوية بهذه الولاية 20 عاماً ، ثمَّ يستولي بالقوة على منصب الخلافة ، ثمَّ يجعل الخلافة ملكاً ، ويحصر هذا الملك في بيت أبي سفيان , ويكون ابنه يزيد بن معاوية أول ملك أموي يرث أباه .
ولا يترك معاوية الاُمور تجري على مسارها الطبيعي , بل يمهد لابنه ويعيّنه ولياً لعهده ، وخليفة من بعده ، ويأخذ بيعة الرعية , ويحاصر ـ وبغير رحمة ـ أهل بيت النبوة ، أصحاب الحق الشرعيين بخلافة النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ فيوجب على الرعية لعنهم ، ويحرم محبتهم ، ويعتبر موالاتهم من جرائم الخيانة العظمى .
ثمَّ يتوّج معاوية سلسة أعماله « البطولية » بقتل الإمام الحسن (عليه السّلام) عن طريق السم ؛ ولمواجهة امتناع الحسين (عليه السّلام) عن البيعة عهد معاوية بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد ، واتفق على اُسلوب التعامل مع الحسين إن امتنع عن البيعة ، وكلّف معاوية ابنه يزيد أن يرسل مسلم بن عقبة إلى أهل المدينة إن أثاروا عليه ، واتفق معاوية على اُسلوب التعامل مع أهل المينة .
وبعد هذه الإنجازات الرائعة هلك معاوية , وجاء ابنه يزيد ليسير سيرة سلفه ووالده , وليحافظ على الملك الذي ورثه منه بالأساليب والأنماط نفسها التي استعملها أبوه من قبله ؛ فأعمال يزيد بن معاوية سلسلة من حلقات متكاملة ومتّفق عليها بين الابن وأبيه ؛ ومن هنا نعرف سر إصرار يزيد بن معاوية على أن يعطي الحسين (عليه السّلام) بيعته أو يُقتل أشنع قتلة ، والبيعة ما هي إلاّ ستار كقميص عثمان الذي استعمله أبوه .
لقد صالح الإمام الحسن (عليه السّلام) معاوية بن أبي سفيان حقناً للدماء , وبقياً منه على مَن تبقّى من المؤمنين ، فهل حال هذا الصلح دون إصرار معاوية على قتله ؟ ولو بايع الإمام الحسين (عليه السّلام) يزيد بن معاوية وصالحه وصفى له ، فالبيعة والصلح لن يحولا دون قتل الحسين ؛ لأن وجه الخلافة لن يصفو لمعاوية مع وجود الإمام الحسن (عليه السّلام) ، ولن يصفو وجهها ليزيد مع وجود الإمام الحسين (عليه السّلام) .
ثمَّ إنّ معاوية موتور ، ويزيد موتور , فقتل الإمام الحسن والإمام الحسين « سيدي شباب أهل الجنة »(2) , و « ريحانتي النبي (صلّى الله عليه وآله)
من هذه الاُمّة »(3) يحقق لمعاوية وابنه يزيد والبيت الاُموي مطلبين معاً :
أولهما : يصفى لهم وجه الخلافة .
وثانيهما : يشفي ما في صدورهم من غلِّ وحقد على آل محمّد .
ويؤكّد هذا أنه لمّا وُضع رأس الإمام الحسين (عليه السّلام) بين يدي يزيد بن معاوية شعر أنه قد ثأر لشيوخه الذين قتلوا في بدر ؛ لذلك تمثّل بأبيات من قصيدة ابن الزبعرى : ليت أشياخي ببدر شهدوا ...(4) , الشعور نفسه الذي راود والده معاوية عندما سمع بموت الحسن (عليه السّلام)(5) .
كان الإمام الحسن (عليه السّلام) آمناً مطمئناً يوم جاءته رسل الموت التي أرسلها معاوية لسمّه وقتله , وكان الإمام الحسين (عليه السّلام) آمناً مطمئناً يوم أبلغه والي يزيد بن معاوية على المدينة بكتاب يزيد الذي يطلب منه فيه أخذ البيعة من الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ويأمره بضرب عنقه إن أبى(6) .
فيزيد بن معاوية يضع الإمام الحسين (عليه السّلام) أمام خيارات محدودة وصعبة ومرّة ، أحلاها أمرّ من العلقم .
كان الإمام الحسين (عليه السّلام) على يقين بأن يزيد بن معاوية يخطّط لقتله عاجلاً أم آجلاً ، بايع أو لم يبايع ، ولكن يزيد يريد أن يستفيد من الحسين ما أمكن قبل الإقدام على قتله , تماماً كما فعل أبوه مع الإمام الحسن (عليه السّلام) ؛ فمعاوية ويزيد والبيت الاُموي خاصة , والأكثريّة الساحقة من أبناء بطون قريش الـ 23 لا يدعون لأحد من أهل بيت النبوة إلاً ولا ذمّة ؛ لأن الحقد أتلف أي مظهر من مظاهر الإنسانيّة لديهم . لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم .
الإمام الحسين (عليه السّلام) والخيارات المتاحة
خيار البيعة ليزيد
كان الإمام الحسين (عليه السّلام) على يقين من ربّه بأن القيادة من بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) كانت حقاً خالصاً لأبيه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ؛ فقد اختاره الله تعالى لهذا المنصب ، وأهّله ، وأعده لذلك ، وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يعلن هذا الاختيار للاُمّة فأعلنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكلِّ وسائل الإعلان المعروفة حتّى اُحيطت الاُمّة كلها علما بهذا الاختيار .
وحتّى معاوية وهو الطليق ابن الطليق , ومن المؤلفة قلوبهم , والذي أعلن إسلامه متأخراً كان يعلم ذلك علم اليقين ؛ فقد قال برسالة وجهها إلى محمّد بن أبي بكر : « كنّا وأبوك معاً في حياة من نبيّنا نرى حقَّ ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرزاً علينا , فلما اختار الله لنبيّه ما عنده . . . فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزّه وخالفه ، على ذلك اتفقا واتّسقا ... »(7) .
وحتّى الذين غصبوه هذا الحق يعلمون ذلك علم اليقين .
لقد صرح عمر بن الخطاب ذات يوم قائلاً بأن الأمر كان لعلي بن أبي طالب ، فزحزحوه عنه لحداثة سنه , وللدماء التي كانت عليه(8) .
وكيف ينسى عمر والخلفاء ذلك وهم الذين قدموا التهاني لأمير المؤمنين (عليه السّلام) في غدير خمٍّ(9) ؟
وحسب يقين الإمام الحسين (عليه السّلام) فإنه هو الإمام والقائد والخليفة الشرعي ، وليس يزيد بن معاوية ؛ فيزيد بن معاوية غاصب لحق الحسين (عليه السّلام) تماماً كما كان أبوه غاصباً لحق الإمام الحسن (عليه السّلام) ، وباغياً على الإمام علي (عليه السّلام) ، وبالتالي فالأولى بيزيد بن معاوية أن يبايع للإمام الحسين وليس العكس .
لكن ابن معاوية لا يكتفي بغصب حق الإمام الحسين (عليه السّلام) , بل يريد من الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يشهد بالزور بأن يزيد هو صاحب الحق الشرعي , ويريد من الحسين أيضاً أن يقرّ ضمناً بأنه لا حق له بالخلافة , وهذا منتهى الظلم الذي ينفر الإمام الحسين (عليه السّلام) بطبيعته وتكوين نسيجه النفسي .
هذا على صعيد الشرعيّة الإلهية ، أمّا على صعيد العقل والمنطق فإن الإمام الحسين (عليه السّلام) هو ابن فاطمة الزهراء ( عليها السّلام) بنت النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ومن صلب علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ابن عم النبي , والاُمّة هي اُمّة النبي ، والملك هو ملك النبي الذي بناه حجراً فوق حجر ، والإمام الحسين (عليه السّلام) أولى بقيادة جده , وبملك جدّه من يزيد بن معاوية بن أبي سفيان , هذا هو أبسط مظاهر العدل الذي يفهمه الإنسان بالفطرة والضرورة .
أمّا على صعيد التاريخ ، فعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) ابن عم النبي عاش في كنفه طوال حياته , وكان أول من صدّقه وآمن به , وكان عضده وفارسه الأعظم طوال فترة الصراع المسلح الذي نشب بين الرسول وبين بطون قريش ؛ فهو بطل بدر بلا منازع ، وهو بطل أحد بلا منازع ، وهو بطل الخندق بلا منازع ، وهو حامل راية الرسول في كل زحف(10) , وجده أبو طالب كان حامي النبي ودينه طوال حياته(11) , وهو الذي كفل النبي وربّاه يتيماً , ونصره كبيراً ، وكانت زوجته بمثابة الاُم الحقيقية للنبي (صلّى الله عليه وآله)(12) .
أما أبو سفيان جد يزيد , ومعاوية والد يزيد بن أبي سفيان فهما الّذان وحّدا بطون قريش الـ 23 ومن والاهم ضد النبي ودينه ، وهما الّذان قادوا جبهة الشرك التي قاومت النبي (صلّى الله عليه وآله) وحاربته طوال 23 عاماً ، ورموا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكل سهم في كناناتهما حتّى أحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) بهما ، فاضطروا للاستسلام واُكرهوا على إعلان الإسلام .
وأمّا على الصعيد الشخصي , فالإمام الحسين (عليه السّلام) ابن النبي وحفيده ، وسيد شباب أهل الجنة ، وسبط النبي وريحانته من الاُمّة ، وهو الإمام الذي اختاره الله لقيادة الاُمّة من بعد أخيه الحسن (عليه السّلام) ، وهو التقي ، النقي ، الطاهر ، المؤهل للإمامة(13) .
أمّا يزيد فهو ابن معاوية بن أبي سفيان ، وهو الأشد عداوة لله ولرسوله , وقد لعنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل أن يولد(14) .
فأيهما الأولى بخلافة النبي ؟ ابنه الحسين التقي ، النقي ، المؤهل للإمامة , أم يزيد بن معاوية شارب الخمر ، وقاتل النفس المحترمة ، والمشكوك حتّى بدينه ؟
القرار
بعد أن قلّب الإمام الحسين (عليه السّلام) الاُمور على مختلف الوجوه ، وزانها بميزان الشرع الحنيف , رأى بيقين أنه الإمام الشرعي , وأن معاوية مغتصب للخلافة ؛ لذلك نراه يقول : (( إنما كان الأمر لي من بعد أخي الحسن ، فصنع معاوية ما صنع ، وحلف لأخي الحسن أنه لا يجعل الخلافة لأحد من بعده ، وأن يردها للحسين إن كان حيّاً . فطالما أنّ معاوية لم يفِ لي ولا لأخي الحسن بما كان ضمن لنا ، فقد والله أتانا ما لا قوام لنا به . . . ))(15) .
لهذا كله فإن الحسين (عليه السّلام) كان يعتقد أنه الأولى بالبيعة من يزيد ، وأن من واجب يزيد بن معاوية ، وواجب الاُمّة الإسلاميّة أن يبايعوا الحسين (عليه السّلام) وليس العكس .
وطالما يزيد هو المالك الفعلي للخلافة ، ومن بيده مفاتيح القوة والمال والنفوذ ، فلا يملك الإمام الحسين (عليه السّلام) من حيث المبدأ إلاّ الامتناع عن البيعة ، وقرر عدم مبايعة يزيد مهما كلّف الثمن ، وبعد ذلك أعلن قراره .
قال عبد الله بن الزبير لما علم بهلاك معاوية : . . . فما ترى أن تصنع إن دُعيت إلى بيعة يزيد يا أبا عبد الله ؟
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( أصنع , أني لا اُبايع له أبداً . . . ))(16) .
ولما دُعي الإمام الحسين (عليه السّلام) لمقابلة والي المدينة بعد موت معاوية , وطلب منه أن يبايع ليزيد بن معاوية ، قال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( أيها الأمير , إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحل الرحمة ؛ بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب للخمر ، قاتل للنفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع لمثله ، ولكن نصبح وتصبحون , وننتظر وتنتظرون أيّنا أحق بالخلافة والبيعة ))(17) .
وجد الإمام الحسين (عليه السّلام) مروان بن الحكم في طريقه ذات يوم ، فقال له مروان : يا أبا عبد الله , إني لك ناصح ، فاطعني ترشد وتسدد .
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( وما ذلك حتّى أسمع ؟ )) .
فقال له مروان : أقول : إني آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد ؛ فإنّه خير لك في دينك ودنياك .
فاسترجع الإمام الحسين (عليه السّلام) وقال : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون , وعلى الإسلام السلام إذ قد ابتُليت الاُمّة براع مثل يزيد ! )) . ثمَّ أقبل الإمام الحسين (عليه السّلام) على مروان وقال له : (( ويحك ! أتأمرني في بيعة يزيد وهو رجل فاسق ؟! لقد قلتَ شططاً من القول يا عظيم الزلل . لا ألومك على قولك ؛ لأنك اللعين الذي لعنك رسول الله وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ، فإن من لعنه رسولُ الله لا يمكن له ولا منه إلاّ أن يدعو إلى بيعة يزيد )) .
ثمَّ قال : (( إليك عنّي يا عدو الله ، فإنّا أهل بيت رسول الله ، والحق فينا ، وبالحق تنطق ألسنتنا ، وقد سمعت رسول الله يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري ، فابقروا بطنه . فوالله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدي فلم يفعلوا ما اُمروا به ، فابتلاهم الله بابنه يزيد ، زاده الله في النار عذاباً ))(18) .
فغضب مروان من كلام الحسين (عليه السّلام) , ثمَّ قال : والله , لا تفارقني أو تبايع ليزيد بن معاوية صاغراً ؛ فإنكم آل أبي تراب قد مُلئتم كلاماً ، واُشربتم بغض آل بني سفيان .
فقال له الحسين : (( ويلك يا مروان ! فإنك رجس ، وإنّا أهل بيت الطهارة الذين أنزل الله على نبيّه محمّد {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب : 33] .
فنكس مروان رأسه لا ينطق بشيء , فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( أبشر يابن الزرقاء بكلِّ ما تكره من رسول الله ، يوم تقدم على ربك فيسألك جدي عن حقّي وحق يزيد )) . فمضى مروان مغضباً حتّى دخل على الوليد بن عتبة ، فأخبره بما سمعه من الحسين بن علي (عليه السّلام)(19) .
والتحق الحسين (عليه السّلام) بقبر جدّه يبكي , تماماً كما فعل أبوه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) عندما هدّدته زعامة بطون قريش بالقتل إن لم يبايع ، فالتحق بقبر النبي (صلّى الله عليه وآله) يبكي ويتلو الآية الكريمة : {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف : 150] .
وبكى الإمام الحسين (عليه السّلام) أمام قبر جدّه بكاءً مراً ، ونام بعد ذلك ، فرأى جدّه في المنام يضمّه إلى صدره , ويقبّله ويقول له : (( يا بُني يا حسين , كأنك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء ، من عصابة من اُمّتي ، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تُروى ، وهم في ذلك يرجون شفاعتي يوم القيامة ! فما لهم عند الله من خلاق . حبيبي يا حسين , إنّ أباك واُمّك وأخاك قد قدموا علي ، وهم إليك مشتاقون ، وإنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة . . . ))(20) .
وانتبه الإمام الحسين (عليه السّلام) من نومه , وودّع قبر جده وقال : (( بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، لقد خرجت من جوارك كرهاً ، وفُرّق بيني وبينك ، حيث إني لم اُبايع ليزيد بن معاوية شارب الخمور ، وراكب الفجور , وها أنا خارج من جوارك على الكراهية ، فعليك مني السّلام ))(21) .
وقال له عبد الله بن عمر بن الخطاب : وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس ، واصبر كما صبرتَ لمعاوية ؛ فلعلّ الله يحكم بينك وبين القوم الظالمين.
فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( أبا عبد الرحمن , أنا اُبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبي فيه وفي أبيه ما قال ؟! )) .
وبعد حوار بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وابن عباس وابن عمر ، قال الإمام الحسين (عليه السّلام) لابن عمر : (( أسألك بالله , أنا عندك على خطأ من أمري هذا ؟ فإن كنت عندي على خطأ فردّني ؛ فإني أخضع وأسمع واُطيع )) .
فقال ابن عمر : اللّهمَّ لا , ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ , وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول على مثل يزيد بن معاوية لعنه الله باسم الخلافة ، ولكني أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف , وترى من هذه الاُمّة ما لا تحب ، فارجع معنا إلى المدينة ، وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً(22) .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( هيهات يابن عمر ، إنّ القوم لا يتركوني وإن أصابوني ، وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتّى اُبايع وأنا كاره أو يقتلوني . . . اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدع نصرتي . . . ))(23) .
والخلاصة : إنّه كان على الحسين أن يتّخذ قراره , وأن يختار أحد خيارين لا ثالث لهما ؛ فإمّا أن يبايع ليزيد بن معاوية ليكون « خليفة لرسول الله ، وأميراً للمؤمنين , ومرجعاً لهم » , وإمّا أن يمتنع عن البيعة فيُقتل في النهاية .
لقد اتّخذ الإمام الحسين (عليه السّلام) قراره النهائي بالامتناع عن بيعة يزيد ، وأعلن هذا القرار بكلِّ وسائل الإعلان المعروفة في زمانه , وهذا القرار لم يكن اعتباطياً ، إنما بُني على قناعات دينية يقينية ، وحقائق تاريخيّة وعقلية وفطرية معلومة بالضرورة , وقد أشرنا إليها في هذا البيان .
الحسين (عليه السّلام) ومغادرة المدينة المنورة
إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) يمثّل قمة الوعي الديني والسياسي ؛ فهو إمام . ومصطلح الإمام شرعاً يعني الأفهم , والأقرب إلى الله , وأفضل الموجودين . فالإمام الحسين (عليه السّلام) يعلم بالضرورة أنّ الامتناع عن مبايعة الخليفة الطاغية يعني المواجهة ؛ لأنّ عدم البيعة بمفاهيم الخلفاء الطغاة تعني الخروج على الطاعة وإعلان الحرب .
ثم إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) رجل منطق وعقل ؛ فهو يعلم علم اليقين أن معاوية قبل أن يهلك سلّم ابنه يزيد مفاتيح بيوت الأموال ، فصارت أموال الدولة بيده ، ويعلم الإمام الحسين (عليه السّلام) أن معاوية قبل أن يهلك أيضاً سلّم ابنه قيادة الجيوش المدربة على الطاعة , والتي تتقاضى رواتبها من بيوت الأموال التي يملك يزيد بن معاوية مفاتيحها .
ويعلم الإمام الحسين (عليه السّلام) أن اُمراء الأقاليم لهم ضلع بالمؤامرة ، وهم ليسوا أكثر من موظّفين يتقاضون رواتبهم من يزيد بن معاوية , ويعلم أن الناس مع من غلب ، وأن الجيوش التي يقودها يزيد لا تعرف من الدين إلاّ قشوره ؛ فهي مجهلة ومعدّة إعداداً كاملاً لتكون درعاً لدولة الخلافة وللخليفة ، وعصا بيده يضرب بها مَن يشاء .
ويعلم الإمام الحسين (عليه السّلام) أنه بنظر الناس مجرد ابن النبي المغضوب عليه هو وأهل بيته من قبل الخلفاء خاصة معاوية الذي فرض مسبّة أبيه على الرعية , واعتبر محبّة أهل بيت النبوة وموالاتهم من جرائم الخيانة العظمى .
وما زالت قوانين معاوية سارية المفعول ؛ فقد هلك قبل أيام ، ولم يقم أحد بإلغاء تلك القوانين ، وليس مع الإمام الحسين (عليه السّلام) عملياً إلاّ أهل بيت النبوة وبضعة عشر رجلاً من المؤمنين ، ولا قدرة لأهله ولا للقلة المؤمنة على حمايته وحماية موقفه إذا حدثت أية مواجهة بينه وبين والي المدينة وجيش الخليفة في المدينة ، وسيتمكن جيش الخليفة من القضاء عليه وعلى أهل بيته بصمت ودون أن يشعر به أحد من المسلمين خارج المدينة .
أين المهاجرون والأنصار ؟
الأكثريّة الساحقة من المهاجرين ـ والنبي (صلّى الله عليه وآله) على فراش الموت ـ قد اتّحدت مع اُخوانها من أبناء بطون قريش الـ 23 , أمّا الأقلّية المؤمنة منهم والتي لم تتّحد فقد ماتت ، وهوى أبناء الأكثريّة من المهاجرين هوى بطون قريش ، فلا أمل للإمام الحسين (عليه السّلام) بنصرتهم له , ولا بدفاعهم عنه وعن موقفه .
ثمَّ [إنَّ] الإمام الحسين (عليه السّلام) لن يكون أعظم من أبيه علي (عليه السّلام) ومع هذا هُدّد أبوه بالموت إن لم يبايع(24) أمام المهاجرين , ولم يحرّكوا ساكناً وهمّ الخليفة الأوّل ونائبه بإحراق بيت فاطمة بنت محمّد (صلوات الله عليهما) على مَن فيه , وفيه علي والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، وشرعوا بإحراق البيت بالفعل .
ولم يعترض أحد من المهاجرين على هذا العمل الفظيع ، واكتفى المهاجرون بالتفرج على ما يحدث ، أو شاركوا بما يحدث ، وبالتالي لا ينبغي للإمام الحسين (عليه السّلام) أن يتأمّل بسكان المدينة من المهاجرين أكثر مما أمّل أبوه وأكثر مما أمّلت اُمّه(25) .
أمّا بالنسبة لسكان المدينة من الأنصار ، فالإمام الحسين (عليه السّلام) يذكر تجربة أبيه معهم . صحيح أنّ الأنصار أو بعض الأنصار قد قالوا في سقيفة بني ساعدة : لا نبايع إلاّ علياً . وعلي غائب(26) , وصحيح أيضاً أنّ المنذر بن الأرقم قد قال في سقيفة بني ساعدة : وإن فيهم رجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد . وهو يعني علي بن أبي طالب . . .(27) .
وإن نسي الحسين فلن ينسى يوم حَمَلَ أبوه علي اُمّه فاطمة الزهراء (عليهما السّلام) على حمار , وقاد الحسن والحسين (عليهما السّلام) وطاف على بيوت الأنصار بيتاً بيتاً يسألهم النصرة , فكانوا يقولون : يا بنتَ رسول الله , قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو كان ابنُ عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به .
فكان علي (عليه السّلام) يقول لهم : (( أفكنتُ أترك رسول الله ميتاً في بيته لم اُجهّزه ، وأخرج إلى الناس اُنازعهم في سلطانه ؟! )) . وكانت البتول الزهراء (عليها السّلام) تقول : (( ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه ))(28) .
وقد أشار معاوية إلى هذه الواقعة قائلاً : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار , ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع لأبي بكر . . .(29) .
فالأنصار لم تنصر أهل بيت النبوة بعد يوم واحد من وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فهل يعقل أن تستجيب الأنصار للحسين (عليه السّلام) وحده ؟! ثمَّ إنّ الأنصار قد سمعت بموقف الإمام الحسين (عليه السّلام) وتجاهلت الأمر ، وتظاهرت كأنها لم تسمع .
وإن نسي الإمام الحسين (عليه السّلام) فلن ينسى يوم حُرمت اُمّه من ميراث أبيها ، وصودرت المنح التي اُعطيت لها حال حياة أبيها ، ومُنعت الخمس المخصص لذوي القربى ، وطالبت بحقها أمام المهاجرين والأنصار فلم يدعمها أحد ولو بكلمة واحدة . إنما وقف الجميع يتفرجون على صراع السيدة مع الخليفة وأركان دولته ، وكان بوسعهم أن يأمروا على الأقل بالمعروف وينهوا عن المنكر باللسان , وهذا أبسط ما على الإنسان .
والخلاصة : إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان واثقاً ثقة مطلقة بأن أهل المدينة لن يحموه ، ولن يحموا موقفه ، ولن يحموا أهل بيت النبوة , وأن الخليفة يزيد بن معاوية لو كلّفهم بحرق بيت الحسين(عليه السّلام) على مَن فيه لأطاعته الطائفة التي كلّفها بالحرق ، ولبقيت الطائفة الاُخرى تتفرج ؛ لهذه الأسباب مجتمعة ومنفردة قرر الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يترك المدينة وجوار جده العظيم وهو كاره .
انظر إلى قوله ومناجاته لجده (صلّى الله عليه وآله) : (( وأنا خارج من جوارك وعلى الكراهية ، فعليك مني السلام ))(30) .
كان الإمام الحسين (عليه السّلام) يشعر أنه في قوم فرعون ، وتحت حكم شبيه بحكمه . انظر إليه وهو يردد الآية نفسها التي ردّدها موسى عندما خرج من عاصمة فرعون , وخرج الإمام الحسين (عليه السّلام) ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستّين ببنيه وإخوته وبني أخيه , وجُلِّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفيّة , وهو يتلو هذه الآية : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] (31) .
وتابع الحسين (عليه السّلام) حالة التمثل بموسى (عليه السّلام) ، فلمّا وصل إلى مكّة قرأ آية : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] (32) .
فالحسين (عليه السّلام) على يقين أن فرعون حقيقي يلاحقه , وأنه يتنقل ضمن مملكة فرعون بني اُميّة ، وأنه وأهل بيته يمثلون الشرعيّة الإلهية والحق الذي كان يمثله موسى .
لا يعني امتناع سكان المدينة عن حماية الإمام الحسين (عليه السّلام) وحماية أهله وموقفه أن اُولئك السكان خاصة الأنصار يكرهون الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فليس بالحسين ما يُكره , بل على العكس هم يحبون الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وعندما سمعوا في ما بعد بقتله بكت القلة المؤمنة على الحسين دموعاً من دم .
ويكمن السر بامتناع الأنصار عن حماية الإمام الحسين (عليه السّلام) ونصرته , والدفاع عن موقفه بأنهم لا يريدون مواجهة مع الخليفة , ولا مع أركان دولته ؛ لأنه لا طاقة لهم بهذه المواجهة ، ولا مصلحة لهم فيها .
فليس عند الإمام الحسين (عليه السّلام) ما يطمعون به ، وكل ما يريدونه موجود لدى الخليفة وأركان دولته : المال ، النفوذ ، الجاه ، الدنيا كلها بيد الخليفة ، فما هي مصلحة أكثريّة الأنصار ليتخلوا عن الدنيا من أجل الإمام الحسين (عليه السّلام) ؟
ثمَّ إنّ الإحساس بالانتماء الاجتماعي ، والانتماء لمثله العليا قد مات بالفعل ، أو تحوّل إلى كلمات جامدة ليس أمامها أي فرصة للتطبيق والتفعيل ، استقرت نهائياً روح التواكل في مجتمع المدينة وغيره من المجتمعات الإسلاميّة .
صحيح لقد كانت هنالك عناصر ثائرة على خلق التواكل الذي ساد المجتمعات الإسلاميّة ، لكنها سرعان ما تغرق في محيط التواكل . قال الطبري يصف هذه الحالة : إن المرأة كانت تأتي ابنها وأخاها ، فتقول : انصرف ، الناس يكفونك . ويجيء الرجل إلى ابنه فيقول : غداً يأتيك أهل الشام . . .»(33) .
فالأنصار يتمنون قلبياً أن ينتصر الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وأن تنتصر مبادئه , ويتمنون أن يهزم يزيد وأتباعه ، ويرجون أن ييسّر الله للإمام الحسين (عليه السّلام) مَن ينصره ويحميه ، لكنهم ليسوا على استعداد إطلاقاً للمساهمة بأي شكل من الأشكال بنصرة الحسين أو حمايته .
لقد تعودوا أن يقفوا ساكنين أمام أي مواجهة بين فريقين ، فإذا انتصر أحدهما وقفوا مع الغالب ، وسلموا له تسليماً كاملاً ، فإذا ظهر على المسرح فارس جديد يريد أن يغلب غالب الأمس فإنهم يتمسكون بغالب الأمس , لا حباً به ، ولكن خوفاً منه , كأن إنسانيتهم قد اُصيبت بالشلل فعلاً .
لمّا قال أمير المدينة إن الخليفة في دمشق أمره أن يأخذ البيعة من الحسين ، وإن أبى فعليه أن يضرب عنقه , يمكن لعقلاء الأنصار التدخل بهذه الحالة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والاقتراح على الأمير أن يعطي الإمام الحسين (عليه السّلام) فرصة لإعادة النظر في موقفه .
يمكنهم أن يقولوا للأمير : رجاءً أن تبلغ الخليفة في دمشق أن الإمام الحسين (عليه السّلام) هو ركن آل محمّد , وأهل بيته وذوي قرباه , وهو ابن رسول [الله] ، وقتل هذا الرجل يسبب حرجاً للجميع . ولكن أهل المدينة ليسوا على استعداد حتّى لمثل هذه التضحية البسيطة ؛ فقلوبهم مسكونة بالرعب .
فقد يظن الخليفة أو أميره على المدينة أنهم يوالون أهل بيت النبوة ، وقد بيّنا أن موالاة أهل البيت كانت من جرائم الخيانة العظمى , وعقوبتها التنكيل وهدم الدار(34) .
وقد يظن الخليفة أن أهل المدينة يحبون أهل البيت ، وحب أهل بيت النبوة أيضاً من جرائم الخيانة العظمى , وعقوبتها شطب ومحو اسم ( المجرم ) من ديوان العطاء ، وتجريده من الحقوق المدنية , بحيث لا تُقبل له شهادة(35) .
فمَن له بهذه الحالة مصلحة ليأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر ؟ فتقدير أهل المدينة أن الإمام الحسين (عليه السّلام) سيقدّر أوضاعهم ، وسيلتمس لهم عذراً ! إن الفراعنة أنفسهم لم يذلّوا رعاياهم لهذه الدرجة التي أذل فيها معاوية وابنه وخلفاء بني اُميّة رعاياهم , لقد كان حكمهم أكثر بشاعة وقبحاً وظلماً من حكم الفراعنة .
والخلاصة : وأمام هذه السلبيات القاتلة فإنه لا ينبغي للإمام الحسين (عليه السّلام) أن يأمل بنصرة ومنعة أهل المدينة له ولموقفه , ولآل محمّد وذوي قرباه ، فلو أمرهم الخليفة أن يصلبوا الإمام الحسين (عليه السّلام) في جذوع النخل أو أن يحرقوه حياً لنفّذوا أمر الخليفة بأيديهم , بالوقت الذي تكون فيه عيونهم تسيل دماً حزناً على الحسين ، وقلوبهم تنفطر أسىً جزعاً لما فعلوا بالحسين (عليه السّلام) .
لقد خالف الله ما في صدورهم عمّا في ألسنتهم , لقد جعل الله باطنهم شيئاً وظاهرهم شيئاً آخر ، وهذا أحدثُ فنٍّ من فنون العذاب , ومسخ إنسانيّة الإنسان .
وأقصى ما فعله الأنصار للإمام الحسين (عليه السّلام) أن خرج معه خمسة منهم رافقوه بكلِّ المراحل ، ولم يتخلوا عنه ، وقاتلوا برجولة نادرة بين يديه حتّى قتلوا(36) .
وعذر أنصار المدينة أنهم ضاعوا وسط الأكثريّة التي كانت على الشرك ثمَّ أسلمت ، وصارت أكثريّة مسلمة ، واستولت على الخلافة بالقوة ، فصار حاكم الأنصار هو عدوها الذي حاربته بالأمس تحت قيادة الرسول وآله ، فكانت عيون الأكثريّة الحاكمة مفتوحة على كل حركة وسكنة للأنصار .
وكان الأنصار بنظر الأكثريّة الحاكمة موضع شبهة بموالاة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذين قادوا الحرب ضد تلك الأكثريّة عندما كانت على الشرك ، وكان الأنصار وأولادهم إذا ما أرادوا الحياة أن يثبتوا لبطون قريش الـ 23 أنهم ليسوا مع آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
فضلاً عن ذلك فإنّ الأنصار صاروا قلة قليلة جداً وسط الكثرة التي كانت مشركة ثمَّ أسلمت ، ووسط الكثرة الوافدة من البلاد المفتوحة ، وبالتالي قلّت أهمية الأنصار ، وتضاءلت فعاليتهم . لكل هذه الأسباب اضطّر الإمام الحسين (عليه السّلام) ليخرج من المدينة كارهاً .
أهداف الإمام (عليه السّلام) المرحلية
وفق التحليلات الدقيقة للإمام الحسين (عليه السّلام) ـ والتي أشرنا [إليها] قبل قليل ـ رأى أن مبايعته ليزيد بن معاوية جريمة كبرى , وبكل المعايير الدينية والتاريخيّة والمنطقية ؛ لذلك امتنع عن بيعة يزيد بن معاوية ، وأعلن هذا الامتناع بكل وسائل الإعلان .
الامتناع عن البيعة في عرف الخلفاء وأركان دولتهم يُعتبر خروجاً على طاعة الخليفة الغالب ، وعدم القبول بخلافته . ووفق قوانين دولة الخلافة السائدة فإن هذا الامتناع بمثابة إعلان حرب , وهو من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب مرتكبها بالموت كائناً مَن كان .
ومن الطبيعي أنّ الخليفة وأركان دولته قد سمعوا بامتناع الإمام الحسين (عليه السّلام) عن البيعة ، وأنهم بوقت يطول أو يقصر سيرسلون قواتهم المسلحة لتجر الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته بالقوة ، وتجبرهم على البيعة وهم صاغرون ، أو تقتلهم أشنع قتلة ، ولن تأخذ الخليفة ولا أركان دولته بهم رحمة أبداً ، ولن يرعوا فيهم إلاً ولا ذمة .
فالحسين (عليه السّلام) موقن أنه أمام فرعون وجنوده ، ولكن فرعون المسلمين مسلح بالدين ؛ فهو يلبس قفازات بيض ، ويتظاهر بالإسلام والطهارة والبراءة ، ويده ملطخة بدماء الجريمة . والحسين (عليه السّلام) بشر مزوّد فسيولوجياً بالطاقة على الهروب ممّا يؤذيه , وعلى البحث عما يأويه ويحميه .
فالحسين (عليه السّلام) يريد فئة من الناس تحميه وتحمي أهل النبوة ، وتنصرهم من فرعون وجنوده إذا ما جاؤوا يوماً ـ وهم قادمون لا محالة ـ لجرِّ الحسين وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) إلى البيعة وهم صاغرون أو قتلهم ، هذا بالضبط ما يريده الإمام الحسين (عليه السّلام) .
إصلاح الاُمّة
خلال فترة امتناع الحسين (عليه السّلام) عن البيعة ، وخلال فترة المطاردة سيسمع كل المسلمين بواقعة امتناع الحسين عن المبايعة , وبواقعة مطارة الفرعون وجنوده , وسيسمعون بالأسباب التي دعت الإمام الحسين (عليه السّلام) للامتناع عن البيعة.
فالحسين (عليه السّلام) ليس رجلاً من عامة الناس ؛ فالمسلمون يعرفونه على أنه عميد آل محمّد الذين يصلّون عليهم في صلاتهم ، وعميد أهل بيت النبوة الذين طهّرهم الله ، وعميد ذوي القربى الذين افترض الله مودتهم على العباد ؛ لذلك فمن المعروف بالضرورة أن المسلمين سيتابعون مآل امتناع الإمام عن البيعة , وعاقبة هذا الامتناع , ويتابعون أيضاً أنباء المطاردة ، ويتابعون بالضرورة تصريحات الإمام الحسين (عليه السّلام) خلال فترة المطاردة ، وهذا بالضبط ما أراده الإمام الحسين (عليه السّلام) .
وسيعرف المسلمون في النتيجة أن خليفتهم ليس هو خليفة رسول الله كما يدّعي ، إنما هو رجل غاصب للسلطة ، استولى عليها بالقوة , وفرض نفسه على المسلمين بالقهر ، وحكمهم بالطريقة التي يحكم بها أئمة الكفر رعاياهم ، وخاصة وأن المسلمين جميعاً يعرفون السيرة الشخصية النتنة لهذا الرجل الذي يزعم أنه خليفة رسول الله .
ولقد ركّز الإمام الحسين (عليه السّلام) على هذه الناحية تركيزاً خاصاً خلال فترة المطاردة ، فبيّن للمسلمين حقيقة هذه الاُمور . ففي كتابه لأهل البصرة ذكّر الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما فعل ، ثمَّ قال (عليه السّلام) : (( ... ثمَّ قبضه الله إليه ، وقد نصح لعباده ، وبلّغ ما اُرسل به ، وكنّا أهله وأولياءه , وأوصياء ورثته , وأحقَّ الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا , وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحق المستحق علينا ممّن تولاّه ... )) .
ثم قال (عليه السّلام) : (( وقد بعثت إليكم رسولي بهذا الكتاب , وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ؛ فإنّ السنة قد اُحييت ، وأن البدعة قد اُحييت ، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ))(37) .
ومثل ذلك كتابه إلى أهل الكوفة , فقد جاء فيه : (( فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه , وانصروه ولا تخذلوه ؛ فلعمري ليس الإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق ، ولا يهدي ولا يهتدي ))(38) . فالإمام الحسين (عليه السّلام) يحثّهم على المقارنة ، ويبيّن لهم الحقيقة الشرعيّة ، ويُيئسهم من صلاح يزيد بن معاوية .
ومثل قوله في خطبة له أمام جند الحر الذي جاء ليستطلع أمر الإمام الحسين (عليه السّلام) , وليحبسه ريثما يكتمل جند الخليفة : (( ... يا أيها الناس , أنا ابن بنت رسول الله ، ونحن أولى بولاية هذه الاُمور عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالظلم والعدوان ؛ فإن تثقوا بالله وتعرفوا الحقّ لأهله فيكون ذلك لله رضا ، وإن كرهتمونا وجهلتم حقّنا , وكان رأيكم على خلاف ما جاء في كتبكم ، وقدمت به رسلكم , انصرفت عنكم ))(39) .
ثمَّ انظر إلى مناجاته لأصحابه ذات مرة , حيث خطب فيها فقال : (( ... وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكرت , وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء , وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقّاً حقّاً ؛ فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً ))(40) .
وانظر إلى قوله (عليه السّلام) : (( ... ما أهون الموت على سبيل نيل البر وإحياء الحقِّ . ليس الموت في سبيل العز إلاّ حياة خالدة , وليست الحياة مع الذل إلاّ الموت الذي لا حياة معه ... إنّ في نفسي لأكبر ، وهمتي لأعلى من أحمل الضيم خوفاً من الموت ... مرحباً بالقتل في سبيل الله ... وهل تقدرون على أكثر من قتلي ؟ ... ولكنكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزّي وشرفي ))(41) .
ثمَّ انظر إلى وصية الإمام الحسين (عليه السّلام) التي كتبها إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ، فابن الحنفيّة هو الوحيد من إخوان الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي لم يخرج معه ، وبالضرورة ستأتي رسل الفرعون وتسأل محمّد بن الحنفيّة عن أخبار الحسين (عليه السّلام) وأقواله ، وبالضرورة سيأتي أهل المدينة ويسألونه أيضاً ، وبالضرورة سيسأله كل المشفقين على مصير الحسين (عليه السّلام) ؛ لذلك اختاره الإمام الحسين (عليه السّلام) , وكتب له وصية بيّن فيها أسباب خروجه .
فقال بعد أن ركّز على فكرة الحق تركيزاً خاصاً : (( ... وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدي ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحقِّ , ومَن رد عليّ هذا اصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ... ))(42) .
فالوصية مصاغة ومعدّة لتكون بمثابة رسالة خاصة لكلِّ واحد من أبناء الاُمّة تبيّن له وبمنتهى الإيجاز الغاية من خروج الإمام الحسين (عليه السّلام) , وهي بمثابة سؤال موجّه لكلِّ فرد من أفراد الاُمّة مفاده : هل تقبل هذا الحقَّ أو تردّه على صاحبه ؟ وهي بمثابة دعوة لكل من بلغ لينصر هذا الحقّ .
وهذه الوصية التي سمعت بها الاُمّة بالضرورة هي بمثابة الحجة التي يقيمها الإمام الحسين (عليه السّلام) على الاُمّة . ولم يتوقف الإمام الحسين (عليه السّلام) عند الوصية , بل كشف للاُمّة حقيقة الخليفة ونظامه ، فأعلن أمام الاُمّة أنّ الخليفة ومن والاه قوم لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن , وأظهروا الفساد في الأرض ، وأبطلوا الحدود ، وشربوا الخمور ، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين(43) .
وصعّد الإمام (عليه السّلام) هجومه على النظام ؛ إمعاناً بكشف زيفه وإظهاره على حقيقته , فقال في خطبة له : (( ... فبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الاُمّة ، وبقية الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومطفئ السنن ، ومؤاخي المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، وعصاة الإمام ، وملحقي العهرة بالنسب , ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون ! ... ))(44) .
ثمّ كشف ابن النبي حال الخليفة وأركان دولته ، فقال أمام فرقة من فرقهم : (( ... لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولما تريدون ! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظالمين ! ... ))(45) .
وطلب الإمام (عليه السّلام) من الاُمّة أن ترجع إلى نفسها أبجديات الفهم , فقال : (( ... فلعمري ليس الإمام العامل بالكتاب ، والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحق , ولا يهدي ولا يهتدى ))(46) .
لقد استغل الإمام (عليه السّلام) فترة مطاردة دولة الخلافة له أحسن استغلال , وكل ليلة قضاها الإمام الحسين (عليه السّلام) مطارداً ، وكل تصريح أدلى به ما هو إلاّ صرخة مدويّة لتستفيق الاُمّة من غفوتها وترهّلها ونومها العميق ، ولوناً من ألوان الحجة البالغة التي أمر الإمام الحسين (عليه السّلام) على إقامتها كاملة على الاُمّة .
مضمون وصية الإمام الحسين (عليه السّلام) التي كتبها لأخيه محمّد بن الحنفيّة قد عرف من العامة والخاصة على السواء ، وعرفته دولة الخلافة ، وعرفته رعايا دولة الخلافة بالضرورة ؛ فهو يبرر امتناع الإمام الحسين (عليه السّلام) عن البيعة ، ويبرر أسباب خروجه من جوار جده (صلّى الله عليه وآله) .
وكل فرد من أفراد الاُمّة عرف بالضرورة أن الخليفة وأركان دولته يطاردون الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) ليقبضوا عليهم ، ويُكرهونهم على البيعة أو يقتلونهم .
وكل فرد من أفراد الاُمّة كان يعلم علم اليقين أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) يبحث عمّن ينصره ، ويحميه ويحمي أهل بيته ، ويحمي دعوة الحق التي ينادي بها .
وكل فرد من أفراد الاُمّة سمع بكل التصريحات التي أدلى بها الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وهي تصريحات واضحة لا تحتاج إلى توضيح ، وهي تفيض بأنبل مشاعر الإخلاص للإسلام وقضيّته ، وتضع بين يدي أفراد الاُمّة قراءة موضوعية لواقع دولة الخلافة المناقض تماماً للشرع الحنيف .
وكل الاُمّة كانت تعرف بأن الإمام الحسين (عليه السّلام) لن يتراجع عن موقفه لنصرة الحق , وأنّه بانتظار المخلصين من الاُمّة ليشاركوه نصرة الحق .
وانتظر الإمام الحسين (عليه السّلام) اُولئك المخلصين مدة طويلة ، وصمد من شهر رجب حتّى العاشر من محرم بوجه مطاردة دولة عظمى في زمانها ، وطال انتظاره ولم يأتِ المخلصون ، واخترقت نداءاته القدسية طبلة اُذن كل فرد من أفراد الاُمّة .
وتجاهلت الاُمّة نداءات الإمام (عليه السّلام) ، وخذلته الاُمّة بالفعل . كان الإمام سلفاً يعلم بأن الاُمّة ستخذله وستضيعه ، ولن تحفظه , بدليل شكواه أمام قبر جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبل خروجه من المدينة , حيث قال : (( السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، أنا فرخك وابن فرختك ، وسبطك في الخلف الذي خلّفت على اُمّتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم خذلوني وضيّعوني ، وأنهم لم يحفظوني , وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ))(47) .
فقبل أن يخرج الإمام الحسين (عليه السّلام) من المدينة كان يعلم علم اليقين أن الاُمّة ستخذله وستضيعه ، ولن تحفظه ، وستتفرج على الفرعون وجنوده وهم يطاردون آل محمّد وأهل بيته وذوي قرباه ، وستشترك بالمطاردة , ولكن الإمام يريد أن يقيم الحجة عملياً عليها . يريدها أن تكتشف ذات يوم بأنه قد ضحّى بروحه الطاهرة ، وبأرواح آل البيت وأهل البيت وذوي القربى ليخرج من هذه المذبحة دوي هائل يجبر الاُمّة على الصحوة من نومها .
أراد الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يكون دمه ودم أهل البيت زيتاً يضيء الدرب أمام الاُمّة ذات يوم عندما تكتشف كم فرّطت في جنب الله يوم خذلت الإمام وأهل بيته (عليهم السّلام) . ونجح الإمام الحسين (عليه السّلام) بالفعل بإقامة الحجة على الاُمّة ، فاتّبعه أقل من مئة رجل ، وخذلته البقية منها مع سبق الترصد والإصرار .
لقد جرت العادة على أن يقاتل أبناء الاُمم والشعوب الأقل أهمية أمام السادات الأكثريّة أهمية ؛ دفاعاً عنهم وعن قيم وشرف تلك الشعوب والاُمم التي يمثّلها اُولئك السادات .
وجاء الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وكان من المفترض أن يتقدّم أبناء الاُمّة ويقاتلوا بين يديه دفاعاً عن ابن النبي ، وآل النبي ، وأهل بيت النبي وذوي قرباه . كان المفترض أن يموت الألف المؤلفة من أبناء الاُمّة قبل أن يضطرّوا الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته للقتال ، لكن أبناء الاُمّة لم يفعلوا ذلك ؛ فقد أجبروا الإمام وأهل بيته (عليهم السّلام) على القتال بين يدي الاُمّة دفاعاً عن الإسلام ورموزه الخالدة .
وطالما أن أبناء الاُمّة لم يقاتلوا بين يدي الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيت النبوة رموز الإسلام الخالدة ، ليتهم لم يقاتلوهم على الأقل ، ليتهم وقفوا يتفرجون ، لكان ذلك أقل عاراً وأخف غباراً .
وباختصار , لقد نالت الاُمّة من الحسين (عليه السّلام) وأهل بيت النبوة ونالوا منها ، وما أشبه هذا القول بقول الإمام علي (عليه السّلام) : (( فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم ))(48) .
لقد قامت الحجة على الاُمّة بالفعل ولم تنصر الإمام الحسين وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) , إنما خذلتهم مع سبق الإصرار وبعد قيام الحجة . واكتشف الإمام الحسين (عليه السّلام) أن أفراد اُمّة جده والأكثريّة الساحقة جداً منهم كاره للموت وقيمه بالحياة , حتّى إنهم ليكادون أن يموتوا من الرعب حذر الموت ؛ لذلك صمم وبكلِّ قواه أن يكسر حاجز الخوف ، وأن يعطي الاُمّة دروساً من الموت وعن الموت ليشفيها من مرضها القاتل «الرعب من الموت» .
فسار الإمام الحسين (عليه السّلام) أمام أفراد الاُمّة كلها في رحلة الموت ، ثمَّ خاض بحار الموت شرقاً ومغرباً على حدِّ تعبيره , وطارد الموت مطاردة ساخنة حثيثة ، وكلمّا مر منه الموت لاحقه ، حتّى ليخال الناظر ـ وهو مصيب ـ بأن الآية قد انقلبت ، وأنّ الموت صار يخشى الإمامَ وأهل بيته ومن والاهم بدلاً من أن يخشونه .
وبدأ الإمام رحلة الموت ومطاردة الموت أمام الاُمّة ، وبخطوات واثقة متّزنة كأنها بالتصوير الفني البطيء ليحررهم من عقدة الخوف من الموت ؛ فالإمام مصرٌّ إصراراً بالغاً على أن يكشف حقيقة نظام يزيد للعالم ، فهو بالظاهر والادّعاء خليفة رسول الله ، وفي الحقيقة والممارسة هو الفرعون وجنوده .
وكما أنّ الإمام مصرٌّ على إقامة الحجة على الاُمّة ، هو مصرٌّ أيضاً على تحريرها من عقدة الخوف ، ومصرٌّ على إجبارها على معرفة الواقع ، ومقارنته بالشرعيّة الإلهية لتعرف البون الشاسع بين النقيضين .
لقد توصّل الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى نتيجة مفادها أن أهل المدينة لن ينصروه ، ولن يحموه ، بل سيسلمونه للفرعون وجنوده ، وأنّ الاُمّة ستخذله ؛ لذلك كلّه قرر أن يكشف هذا الغيب للاُمّة ، وأن يترجمه إلى وقائع ، وأن يبدأ رحلة الموت والشهادة بمغادرة المدينة وترك جوار جده (صلّى الله عليه وآله) كارهاً .
إلى أين يابن رسول الله ؟
فأقاليم دولة الخلافة المترامية الأطراف هي عبارة عن ضيعات كبيرة يملكها الخليفة ، ويتصرّف بها كما يتصرّف الأقطاعي بممتلكاته الخاصة .
وسكان تلك الأقاليم ليسوا أكثر من أقنان أو عبيد للخليفة يعملون لديه في ضيعاته مقابل جُعل أو عطاء شهري ، واُمراء تلك الأقاليم ليسوا أكثر من موظفين وكبراء عمال يتقاضون رواتبهم شهرياً مقابل الطاعة والإشراف على تنفيذ رغبات الخليفة وأوامره .
والجيوش المجنّدة تحت تصرف الخليفة يتقاضى أفرادها وقادتها رواتبهم الشهرية من الخليفة مقابل الولاء له ، وحفظ الأمن في أرجاء الأقاليم , وتنفيذ أوامر الخليفة بالقوة ، أو تحقيق أمجاد الخليفة الشخصية إن رغب بالفتوحات .
فأنت يا مولاي تسير في مملكة الفرعون , وعلى مرأى من فرعون وجنوده , فإلى أين عساك أن تذهب يابن رسول الله إن خرجت من المدينة وتركت جوار جدك العظيم ؟ ولكن ما هو البديل ؟ هل يجلس الحسين وأهل بيت النبوة (عليهم السّلام) في بيوتهم وينتظرون فرعون وجنوده حتّى يأتوا فيذبحونه كما تُذبح الأضاحي ؟ أو يجبرونه على البيعة كأقنان « لأمير المؤمنين » يزيد ؟
مثل الحسين (عليه السّلام) , ومثل أهل بيت النبوة لن