الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

ما انقطعت دعوة الحسين (عليه السّلام) بقتله ولكن ما برح جهاده مستمرّاً بعد قتله من كربلاء أرض الشهادة إلى الكوفة ثمّ إلى الشام عاصمة أُميّة ثمّ منها إلى المدينة .
فسار جهاد الحسين مع الأُسارى أينما ساروا ؛ يدعو كلّ حي إلى الجهاد عن العقيدة فما مرّ ركب الأُسارى على بلد إلاّ وأهلها يلبّون دعوة الحسين (عليه السّلام) , إلى أن انقلب الشام على يزيد وحكمه ودكدك عرشه .
وكذلك كان ركب الأسر مهيّجاً للخواطر الغافلة ضدّ الظلم المطبق فلم تمت مقاصد الحسين (عليه السّلام) بموت شخصه ؛ فالحسين (عليه السّلام) أخرج أهل بيته لتكون ثورته متّصلة الحلقات إلى تحقيق مقاصده السامية ؛ فكان ركب أهل بيت الحسين يسير أسيراً وينادي : نحن عيال الحسين الشهيد بأرض الطفّ سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي قتله يزيد ظلماً وعدواناً ؛ فالقلوب تثور على يزيد والأفكار تهيج ضدّه وتتلوها الأبدان .
وفي أخذ الحسين (عليه السّلام) أهل بيته إلى أرض الثورة والشهادة (كربلاء) تأييد عظيم لدعوته ورسالة مرفوعة إلى كلّ الأنحاء ؛ فكم موقف وقفت فيها عيالات الحسين (عليه السّلام) محاربات باللسان ناشرات مبدأ الحسين (عليه السّلام) في هذا الأسر .
فمنها : بسالة الحوراء زينب بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) حين رأت الناس يبكون في سكك الكوفة فأومأت إلى الناس أن اسكتوا فسكتت الأجراس وهدأت الأنفاس فانطلقت قائلة : الحمد لله والصلاة على محمّد وآله الطيبين الأخيار . أمّا بعد يا أهل الكوفة , يا أهل الختل والغدر ! أتبكون ؟! فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنّة ؛ إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً , تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النطف والعجب والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كفضّة على ملحودة ألا ومعنى كلامها (سلام الله عليها) : أنتم يا أهل الكوفة كالمرأة التي نقضت غزلها وأفسدتها بالحلّ من بعد إعمال القوّة والإبرام في نسجه فجعلت غزلها أنكاثاً (وهو جمع نكث ـ بكسر الأوّل ـ وهو المنقوض بعد الفتل) أي خيوطاً .
والمعنى : نقضت غزلها نقض أنكاث (بمعنى المصدر) كما تتّخذون حلفكم على عهودكم خيانة ومكراً .
وهكذا جعلت العقيلة القرآن شعاراً لها في جميع خطاباتها الجبّارة ؛ لتعلن إلى الملأ أنّ الثائرين مع القرآن والثورة للقرآن .
{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] أتبكون وتنتحبون ؟! {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82]؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة ومدرأ حجّتكم ومنار محجّتكم وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم وسيّد شباب أهل الجنّة ؟! {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31] .
فتعساً لكم ونكساً وبعداً لكم وسحقاً ; فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة وبئتم بغضب من الله ورسوله وضربت عليكم الذلّة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم وأيّ كريمة له أبرزتم وأيّ دم له سفكتم وأيّ حرمة له انتهكتم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 89، 90] ولقد أتيتم بها فرقاء شوهاء كطلاح الأرض وملأ السماء .
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ؟ {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16] فلا يستخفنّكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإنّ ربّكم لبالمرصاد .
هذه إحدى المقامات الثورية للعقيلة فقد قلبت لأوّل مرّة الكوفة من الفرح إلى بكاء وحزن وحيرة وكاد الركب أن يحدث ثورة فيها فانتبه الأمير لذلك ووجّههم إلى الشام وأوردوا على يزيد ـ وكان محتفلاً بسرور ـ ورود أُسارى الخوارج (على ما أذاعه) إلى الشام وحضر المحفل كلّ ذي شأن من جميع الطوائف ؛ أُمراء وعلماء وشيوخ ووفود .
فرأت عقيلة حيدر أنّ هذا هو المحلّ الذي يلزم أن تجاهد فيه وأن تؤدّي فيه رسالة الحسين أخيها الشهيد ; فصرخت في وجه يزيد قائلة : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه حيث يقول : {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10].
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأُسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ؛ فشمخت بأنفك ونظر في عطفك) جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأُمور متّسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً ! أنسيت قول الله تعالى : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] .
أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا ؛ قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والداني والشريف ليس معهنّ من حماتهنّ حمي ولا من رجالهنّ ولي ؟!
وكيف يُرتجى مراقبة مَنْ لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ وكيف يُستبطأ في بغضنا أهل البيت مَنْ نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان , ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :
لأهلّوا واستهلّوا iiفرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشلْ
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك ؟!
وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذريّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ونجوم
الأرض من آل عبد المطلّب ؟ وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تُناديهم ! فلتردنَّ وشيكاً موردهم ولتودّنَّ أنّك شُللت وبُكمت ولم تكن قلت ما قُلت وفعلت ما فعلت .
اللّهمّ خذ لنا بحقّنا وانتقم ممّن ظلمنا وأحلل غضبك بمَنْ سفك دماءنا وقتل حماتنا .
فوالله ما فريت إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك ولتردنَّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في
عترته ولحمته حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقّهم {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وحسبك بالله حاكماً وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً .
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إنّي لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك لكن العيون عبرى والصدور حرّى ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء !
فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفّرها أُمّهات الفراعل .
ولئن اتّخذتنا مغنماً , لتجدنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك {... وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك ؛ فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ولا يرحض عنك عارها .
وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد وجمعك إلاّ بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين والحمد لله ربّ العالمين الذي ختّم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويُحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وهكذا تُحارب العقيلة فتقلب الأفكار على الظلم والباطل إنّه حقّاً أعظم من البسالة في ميادين الجهاد .
وكذلك خطبة الإمام زين العابدين [عليه السلام] وسائر الآل في الكوفة والشام توضّح حال الأُسراء وأنّهم مَنْ ؟ ولماذا أُسروا ؟ ومَنْ أسرهم ؟ وكشف القناع عن فضائح بني أُميّة وذكر أنسابهم الحافلة بالإجرام .
فأسباب إخراج الحسين (عليه السّلام) أهل بيته معه إلى أرض كربلاء تتلخّص في ما يلي :
الأوّل : إنّ مشيئة الله تعلّقت بذلك ؛ لينتج نتائجه القيّمة من نشر الحقّ ودفع الباطل .
وقد أفصح (عليه السّلام) عن ذلك بقوله لأُمّ سلمة : قد شاء الله أن يراني مقتولاً ظلماً وعدواناً وشاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردّين وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً .
وفي قوله لأخيه ابن الحنفيّة لمّا قال له : إذا علمت أنّك مقتول , فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك ؟
ـ لقد قال لي جدّي : قد شاء الله أن يراهنّ سبايا متهتّكات .
وأمره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للرضا بذلك كما قال (عليه السّلام) لابن عبّاس حين أشار إليه بعدم المسير بهنّ خوفاً من القتل والسبي : يابن العمّ إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منامي وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه وإنّه أمرني بأخذهنّ معي .
الثاني : عدم ائتمان أحد عليهنّ كما صرّح هو به في تتمّة قوله لابن عبّاس الآنف : وإنّهنّ ودائع رسول الله ولا آمن عليهنّ
أحداً . ولخوفه (عليه السّلام) من تعرّض يزيد لهنّ إن تركهنّ بقتل أو سبي أو اعتداء وهو حي وذلك أعظم مصيبة عليه .
الثالث : عدم مفارقتهنّ له ؛ لأنّه (عليه السّلام) كان عميداً لآل البيت وسيّداً للعلويين وحامي حماهم وملجأهم الوحيد عند الشدائد فكيف يتركه أهل بيته وأخواته ؟ كما قال هو أيضاً في قوله لابن عبّاس : وهنّ أيضاً لا يفارقنني .
ويدلّ عليه أيضاً قول العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين حين سمعت كلام ابن عبّاس في إخلافهنّ في المدينة : يابن عبّاس , أتشير إلى شيخنا وسيّدنا أن يخلفنا ها هنا ويمضي وحده ؟! وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟ لا والله بل نحيى معه ونموت معه .
الرابع : كشف الحُجب عن ظلم بني أُميّة وعدائهم إلى آل البيت النبوي وإبانة واقعهم المرموق في الملأ وتمويه سعي يزيد من قلب الواقع على الأُمّة حيث أذاع فيهم أنّ الثائرين خوارج وأنّ الأُسارى أُسارى الخارجين فأبانت عيالات الحسين بذلك الجهاد المقدّس الواقع للأُمّة , مبيّنة أنّ الثائرين هم حسين وأصحابه ـ أصحاب الحقّ والإيمان ـ والأُسارى هم آل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) وكان ذلك أقوى ذريعة لدكّ صروح الظلم .
الخامس : بثّ دعوة الحسين ووصل حلقاتها فبالأُسارى انتشر نبأ الحسين (عليه السّلام) إلى العالم الإسلامي ؛ فإنّ آل البيت لم تدخل بلدة أو محفلاً إلاّ ونادوا بنداء الحسين فأبانوا واقع ثورته .
ولولا الأُسارى لأنقطع نداؤه (عليه السّلام) ولأخمد الأُمويّون نور دعوته ونار ثورته وذلك
غير ما جعله هدفاً لثورته .
السادس : تحريض الأُمّة على أخذ الثار من الأُمويين الكفرة وإرسال خبر قتله بتلك القساوة إلى كلّ ذي ضمير عادل حي وشعور يقظ حتّى حنق كلّ سامع على يزيد وأصبح كلّ صغير وكبير سمع نعيه يبرأ من يزيد وفعله ولم يبقَ مَنْ لم يسمع نداءه (عليه السّلام) الرفيع ; فلذلك تلت ثورته وسبي عياله ثورات عدّة :
منها : حركة أهل المدينة ؛ فإنّ أهل البيت بعد رجوعهم إلى المدينة كانوا ينوحون على الحسين ويذكرون مصائبه التي تحرق القلب وتذيب الكبد فكان أهل المدينة يسمعون ذلك وهم يحبّون أهل البيت فينقلبون حميماً على يزيد إلى أن حدثت تلك الثورة الأليمة وقعة الحرّة وتلتها ثورة ابن الزبير والمختار والتوّابين وابن الأشتر وبعدها نهوض زيد بن علي الشهيد (رضي الله عنه) والحسين بن علي الشهيد ـ صاحب فخّ ـ (رضي الله عنه) ... إلى العشرات من الثورات التي قام بها المصلحون .
فأخذُ الحسين (عليه السّلام) أهله وأطفاله معه إلى أرض شهادته نصرةٌ للدين وتأييدٌ لما خرج لأجله وبعد ذلك كان ما أراد وأُزيل ذلك الحكم الغاشم وقُطعت تلك الشجرة الملعونة وانقطع دابر الكافرين وعاش المسلمون بعدهم بهناء وعزّ وسيادة وازدهار وفاقت الأُمم كلّها قوّة وعلماً وثروة وتقدّماً وذلك ما أراده الحسين (عليه السّلام) بعد إرادة الله ورسوله .