الدروس المستخلصة منها
الاسباب و الاهداف

لماذا امتنع الحسين (عليه السّلام) من البيعة ليزيد بن معاوية ؟
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
البيعة لغة : من البيع ضد الشراء . وفي الاصطلاح العرفي : إعطاء المحكومين ثقتهم للحاكم وانتخابهم له , وقبولهم به حاكماً وأميراً .
وفي الشرع ومنطوق الآية الكريمة : عبارة عن معاهدة وميثاق مع الله تعالى يوقّعها المسلم بواسطة النبي (صلّى الله عليه وآله) أو نائبه الشرعي ؛ معاهدة وعقد وميثاق على الطاعة والانقياد والعبودية الكاملة في كلّ ما يأمر به وينهى عنه على لسان أنبيائه وحججه .
ومرجع هذا المعنى إلى المعنى اللغوي السابق أي البيع ضد الشراء فالبيعة تعني : بيع الإنسان نفسه لله تعالى على حدّ قوله سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] .
فالمبايع للنبي (صلّى الله عليه وآله) أو نائبه يعني سلّم نفسه وإرادته بيد المبايع له مقابل قيام الأخير بأداء واجبه تجاهه ؛ مِنْ تبليغ وإرشاد وتنظيم على أكمل وجه . وكلّ إخلال أو تقصير بلوازم هذه البيعة وهذا الميثاق من الطرفين يعدّ خيانة لله تعالى كما أنّ تنفيذ مقرّراتها والالتزام بشروطها يؤتي الأجر العظيم في الدنيا والآخرة .
وعليه فيجب على المبايع أنْ لا يمدّ يد البيعة إلاّ بعد التحقّق والتأكّد ؛ حتّى يعرف إلى مَنْ يمدّ يده وممّنْ يبيع نفسه ولمَنْ يسلّم مقدراته ومقدّرات اُمّته ومجتمعه ؛ لله تعالى أمْ للشيطان للحقّ أمْ للباطل للعدل أمْ للجور للوفاء والصدق أمْ للخيانة والكذب .
إنّ البيعة في عصرنا الحاضر عبارة عن الانتخاب أو قريبة منه فكلّ صوت يُعطى للمرشح للرئاسة أو النيابة هو بمثابة البيعة معه فإذا كان المرشّح شيطاناً مِنْ شياطين الإنس يكون مثله مثل شيطان الجنّ إبليس {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16].
والخلاصة : إنّ البيعة في الدنيا على قسمين : بيعة حقّ وهداية أو بيعة باطل وضلال ؛ لأنّ هناك شروطاً وصفات يجب أنْ تتوفّر في المبايع له حتّى تكون البيعة بيعة حق وهداية . وقد لخص تلك الشروط والصفات الإمام علي (عليه السّلام) في خطبة له مِنْ نهج البلاغة فقال : وَقَد عَلِمتُم أَنَّهُ لا يَنبَغِي أَن يَكُونَ الوَالِي عَلَى الفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالأَحكَامِ , وَإِمَامَةِ المُسلِمِينَ البَخِيلُ ؛ فَتَكُونَ فِي أَموَالِهِمْ نَهمَتُهُ , وَلا الجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَلا الجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَلا الحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوماً دُونَ قَوم وَلا المُرتَشِي فِي الحُكمِ فَيَذهَبَ بِالحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ وَلا المُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّةَ .
وعلى ضوء كلّ ما ذُكر يظهر جلياً الجواب الكافي عن السؤال القائل : لماذا لمْ يبايع الحسين (عليه السّلام) يزيد بن معاوية ؟
وحاصل الجواب هو : أنّ يزيد لمْ يكن أهلاً لأنْ يُبايَع مِنْ قبل أي مسلم كان فضلاً عن الحسين (عليه السّلام) المسلم الأول في عصره وسيد شباب أهل الجنة . بل إنّ يزيد لمْ يكن مسلماً بالمرّة فكيف يبايع بإمرة المؤمنين وخليفة على المسلمين ؟! فإنّ كفر يزيد وزندقته وإلحاده واستهتاره بكلّ القيم والمقدّسات أشهر من الشمس في رابعة النهار .
ولقد أجمع المؤرخون وأهل السيرة على أنّ يزيد بن معاوية كان فاسقاً فاجراً خمّاراً سكّيراً يضرب بالطنبور ويلعب بالفهود والقرود فرضه أبوه معاوية خليفة على المسلمين بقوّة السيف مع علمه بفساده حيث كان يقول : لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي .
واليك تصريحات بعض الخبراء بيزيد من الأولين والآخرين .
مَنْ هو يزيد بن معاوية ؟
ولنبدأ بكلمة الحسين (عليه السّلام) نفسه عن يزيد التي قالها بمحضر واليه على المدينة الوليد بن عتبة وبمحضر قريبه مروان بن الحكم فلمْ ينكر عليه أحد منهما فقال (عليه السّلام) : . . . ويزيد رجل فاسق فاجر شارب للخمر قاتل للنفس المحرمة معلن بالفسق والفجور ومثلي لا يُبايع مثله . وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون وعلى الإسلام السّلام أنْ قد بُليت الاُمّة براع مثل يزيد بن معاوية .
آراءُ العلماء الأقدمين والمعاصرين في يزيد :
وهذا عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة الصحابي الجليل ورئيس وفد أهل المدينة إلى الشام بعد قتل الحسين (عليه السّلام) فلمّا عاد إلى المدينة جمع الناس في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقال : أيّها الناس قد جئناكم مِنْ عند رجل يترك الصلاة ويشرب المسكرات وينكح الاُمهات والأخوات ويلعب بالقرود والكلاب وإذا لمْ تُخلع بيعته أخشى أنْ نقذف بالحجارة من السماء .
وهذا الحسن البصري العالم والنابغة المعروف بزهده وعلمه قال في معرض بيان جرائم معاوية العظيمة الموبقة التي لخّصها في أربعة وهي : اغتصابه الخلافة ثمّ استلحاقه زياد بن سميّه بأبيه أبي سفيان ثمّ قتله لحجر بن عدي الكندي وأصحابه وأخيراً فرضه لابنه يزيد الخمّير السكّير خليفة على المسلمين بعده .
ويشارك اللاحقون من العلماء مَنْ سبقهم في الرأي في يزيد فهذا مثلاً العالم والفيلسوف الشهير ابن خلدون يدّعي الإجماع على فسق يزيد وفجوره مِنْ قبل كافة علماء المسلمين ثمّ هذا الفيلسوف الآخر المعروف بالتفتازاني يحكم بجواز لعن يزيد ولعن أتباعه فيقول بالنص في كتابه شرح العقائد : الحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسين (عليه السّلام) واستبشاره به وإهانته أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ممّا تواتر معناه ونحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه .
وقال ابن حزم العالم المعروف قال في رسائله ما نصه : قيام يزيد بن معاوية كان لغرض الدنيا فقط فلا تأويل له فهو بغيّ مجرّد .
وقال الجاحظ بالحرف : المنكرات التي اقترفها يزيد مِنْ قتل الحسين وحمله بنات رسول الله سبايا وقرعه ثنايا الحسين بالعود وإخافته أهل المدينة وهدمه للكعبة المشرفة تدلّ على القسوة والغلظة والنصب والحقد والبغضاء والنفاق والخروج عن الإيمان . فالفاسق ملعون ومَنْ نهى عن شتم الملعون ملعون .
وهذا القدر مِنْ آراء الشخصيات العظام والعلماء الأعلام في سقوط يزيد عن مستويات الإنسانية وانحطاطه إلى أسفل درك الشقاء والوحشية والرذيلة يكفي للدلالة على أنّ الحسين (عليه السّلام) عمل بما يفرضه الواجب الإسلامي والإنساني عندما امتنع مِنْ إعطاء البيعة ليزيد وأبى أنْ يعترف بشرعية خلافته .
قال الاُستاذ المسيحي الكبير جورج جرداق في كتابه (علي وعصره) : نشأ يزيد في الاُسرة الاُمويّة التي كانت تنظر إلى الإسلام كحركة سياسية قامت طلباً للرئاسة والملك والزعامة ؛ بدليل قول زعيم تلك الاُسرة أبو سفيان بن حرب عند دخول الرسول إلى مكّة قال للعباس بن عبد المطلب : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً ! فقال له العباس : ويلك يا أبا سفيان ! إنّها النبوّة . فقال : أجل . ولا بدّ لهكذا حركة أنْ تنتقل مِنْ اُسرة إلى اُسرة .
واجتمع إلى هذه النشأة جهل وتحلّل وعدم الشعور بالمسؤوليّة ؛ لذا كانت نتيجته العبث والمجون وهكذا عرف يزيد بالإدمان على شرب الخمر واللعب بالكلاب والقرود .
وذكر أنّه سابق قرداً فسقط عن فرسه سقطة كان فيها هلاكه (لعنه الله) وكان يلبس كلابه الكثيرة أساور مِنْ ذهب وخلاخل مِنْ فضة وأثمن أنواع الحرير والدمقس فيما كانت السياط مِنْ عمّاله تلهب ظهور الفقراء والكادحين لجمع الضرائب والخراج والجزية منهم . . . انتهى ما قاله جرداق .
الشعرُ يدين يزيد :
ولا بأس أنْ نستمع إلى بعض ما نظمه الشاعر الكبير الاُستاذ بولس سلامة في (ملحمة الغدير) عن هذا المخلوق الحقير يزيد بن معاوية (لعنه الله) .
قال يخاطب المؤذّن :
رافـع الـصـوت داعياً للفلاح اخفض الصوتَ في أذانِ الصباحِ
وتـرفّق بـصاحب العرش مش غـولاً عن الله بـالقيان الملاحِ
ألــف ( الله أكـبر) لا تساوي بـيـن كـفَّـي يزيد نهلة راحِ
تـتـلظّى في الكأس شعلةُ خمر مـثـل أجّ اللهيبِ في المصباحِ
عـنست فـي الدنانِ بكراً فلمْ تد نـسْ بـلـثـم و لا بماء قراحِ
إلى أنْ يقول مخاطباً معاوية :
يـا بـن هند أبيت إلاّ يزيدا رايـة لـلـرشادِ و الإصلاحِ
أنت رغم العيوبِ كالليل جنحا قـطرة في هتونهِ الضحضاحِ
رغـم آثامك الجسام ابن هند أنـت مـنه كريشة في جناحِ
وإليك الآن نزراً قليلاً ممّا حفظه لنا التاريخ مِنْ شعر يزيد نفسه المعلن فيه بالكفر والإلحاد والمصرّح فيه بفسقه وفجوره واستهتاره بالمقدّسات . من باب : مِنْ فمك اُدينك .
قالوا : كان يقضي ليله ساهراً على موائد الخمر وفي مجلس الغناء فقيل له يوماً ـ وقد صاح المؤذن بصلاة الصبح : الله أكبر ـ : قم يا أمير المؤمنين إلى المسجد لأداء الصلاة . فأنشد يزيد قائلاً :
دعِ الـمـسـاجـدَ للعبادِ تسكنها وقـفْ على دكّةِ الخمّارِ واسقينا
مـا قـالَ ربُّكَ ويل للذي شربوا بـلْ قـالَ ربُّـكَ ويل للمصلّينا
إنّ الذي شربوا في شربهم طربوا إنّ الـمـصلّينَ لا دنيا و لا دينا
وطلع الفجر مِنْ ليلة وهو سكران مع الندماء والمغنّين ثمّ طرق سمعه نداء المؤذّن : حي على الصلاة فقال اللعين :
مـعشرَ الندمان قوموا واسمعوا صوتَ الأغاني
واشـربوا كـأس مدام واتـركوا ذكرَ المعاني
أشغلتني نغمةُ العيدا نِ عن صوت الأذانِ
وتعوّضت عن الحورِ خـمـوراً بـالدنانِ
وممّا يُنسب إليه أيضاً (لعنة الله عليه) قوله :
أقولُ لصحب ضمتِ الكأسُ شملَهمْ وداعـي صـبابات الـهوى يترنّمُ
خـذوا بـنصيب مِـنْ نعيم و لذّة فـكلّ وإنْ طـالَ الـبقا يـتصرّمُ
وقال في حفل الترحيب بعبيد الله بن زياد (لعنه الله) قال وهو يخاطب ساقي الخمر :
اسـقني شربةً تروّي فؤادي ثـمّ ملْ بعدها إلى ابن زيادِ
صاحبِ السرِّ والأمانةِ عندي ولـتـسديدِ مغنمي وجهادي
قاتلِ الخارجي أعني حسيناً ومـبـيـدِ الأعداء والحسّادِ
وعلى هذا فهل يوجد في العالم دين وضمير وقانون يبيح لإنسان أنْ يعترف بيزيد بن معاوية إماماً لأمّة وقائداً لشعب وحاكماً مطلقاً على مجتمع إنساني فضلاً عن كونه خليفةً لرسول الله ونائباً عن خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) ؟!
الجواب طبعاً : كلا وألف كلا . . . ومع غض النظر عمّا تقدّم نتساءل : هل كان الحسين (عليه السّلام) يسلم على حياته مِنْ يزيد لو بايعه وصالحه ؟!
الجواب : كلا ؛ بدليل أنّ الحسن (عليه السّلام) بايع لمعاوية ولمْ يسلم .
ولله درّ القائل :
بأبي ابنُ فاطمة والسيفُ في يدهِ أنّ ابنَ ميسونَ جهراً يعبد الوثنا
وقال الآخر مخاطبا الحسين (عليه السّلام) :
وتـرفّـعت يدُكَ الكريمةُ عن يد لـمْ تـتّـخذ غيرَ الجريمةِ مأربا
شُـلّـت يـد ترضى ببيعةِ ظالم طـاغ وتخشى أنْ تثورَ وتغضبا
فـالموت فـي ظلِّ الكرامةِ منهل عـذب ومَـيت مَنْ يعيش معذّبا
يا صارمَ الحقّ الصريح تدارك ال دنـيا فـسيل البغي قد بلغ الزُّبا
بك نستعينُ على الطغاةِ و نزدري بـالـنـائـباتِ و نستعيدُ تصلّبا
ونـقـودُ ركـب الحقّ لاستقلاله حـتـماً وإنْ تكن المشانقُ مركبا
لماذا لمْ يفعل الحسن (عليه السّلام) مثل ما فعل الحسين (عليه السّلام) ؟
إنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) تثير التساؤل غالباً حول ما فعله أخوه الحسن(عليه السّلام) مِنْ قبل مع طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان من الصلح والمهادنة والبيعة له مع العلم أنّ كلاً منهما (عليهما السّلام) إمام معصوم من الخطأ والمعصية فإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسين فلماذا لمْ يفعل الحسن (عليه السّلام) مثله ؟ وإذا كانت الحكمة والمصلحة فيما فعله الحسن (عليه السّلام) , فلماذا لمْ يفعل الحسين (عليه السّلام) مثل فعله ؟
والجواب : هو أنّ كلا الفعلين والسيرتين حكمة ومصلحة وحقّ وصواب ولكنّ المصلحة والحقّ والحكمة تختلف صورها ومواردها باختلاف الأحوال والظروف والأشخاص .
وأهم تلك الفوارق بين الحالين هو : أنّ فساد الحكم الاُموي وتذمّر الرأي العام منه في عصر الحسن (عليه السّلام) كان بعد لمْ يبلغ من الاشتهار والشدّة إلى المستوى الذي بلغ إليه في عصر الحسين (عليه السّلام) ؛ وعليه فتضحية الحسن (عليه السّلام) بنفسه وأهل بيته حينئذ ما كانت تُفسّر لدى الرأي العام بأنّها ثورة ضد الفساد والظلم أو إنّها تضحية في سبيل الدين والمصلحة العامة كما فُسرت تضحية الحسين (عليه السّلام) بل كانت تضحية الحسن (عليه السّلام) في ذلك الوقت تفسّر غالباً بأنّها صراع على السلطة وتنافس وتزاحم وتنازع حول الملك والخلافة . وكانت النتيجة حينئذ فشل قدسية الثورة وعقم تلك التضحية واستفادة العدو منها أكبر فائدة دعائية لنفسه وضد أهل البيت (عليهم السّلام) .
والنتيجة الأسوأ مِنْ ذلك هو فراغ الجوِّ وخلو الميدان لمعاوية ولآل أبي سفيان فيطلقون أيديهم هدماً وتحطيماً لكلّ ما تبقّى مِنْ اُصول الإسلام وأركانه تحت ستار كثيف من الدجل والتضليل والخداع .
فهل ترى بعد كلّ هذا حكمة ومصلحة للإسلام والمسلمين في تلك التضحية لو قام بها الحسن (عليه السّلام) ؟! أجل إنّ السنوات العشرين التي استولى فيها معاوية على مقاليد الملك والسلطة المطلقة بعد أمير المؤمنين (عليه السّلام) وبعد صلح الحسن , هي التي ملأ فيها معاوية وبطانته وأقاربه العالم الإسلامي بالظلم والفساد والدمار والخراب وهتك المقدّسات وانتهاك الحرمات تماماً كما تنبأ به مِنْ قبل رسول الله حيث قال في الحديث المشهور المتواتر عنه (صلّى الله عليه وآله) : رأيت بني اُميّة في المنام ينزون على منبري نزو القردة ويضربون وجوه الناس فيردّونهم القهقرى . فأنزل الله فيهم : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] .
وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال : لكلّ شيء آفة وآفة هذا الدين بنو اُميّة .
وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حديثاً حول بني اُميّة جاء فيه : هلاك اُمّتي على يد هذا الحي مِنْ بني اُميّة .
وقال أيضاً (صلّى الله عليه وآله) : لو لمْ يبقَ مِنْ بني اُميّة إلاّ عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً . رواه صاحب كتاب صلح الحسن / 45 .
وروى البخاري في صحيحه عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أيضاً أنّه قال : هلاك اُمّتي على يد أُغيلمة سفهاء . فسّرها ببني اُميّة .
وذكر ابن حجر عن الحاكم قال : كان أبغض الأحياء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنو اُميّة .
ومن المفيد أنْ نشير هنا إلى ما صرّح به الكتّاب المعاصرين والسابقين ومنهم الاُستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (أبو الشهداء) مِنْ أنّ بني اُميّة ليسوا مِنْ قريش بل ولا من العرب أصلاً ؛ وذلك لأنّ اُميّة لمْ يكن ابناً صلبيّاً لعبد شمس بل كان غلاماً روميّاً تبنّاه عبد شمس على سنّة التبني في الجاهليّة فعرف به وسمّي اُميّة بن عبد شمس .
ونعود إلى أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) في تلك الاُسرة المشؤومة فنقرأ منها هذا الحديث المتواتر وهو قوله (صلّى الله عليه وآله) : إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ودينه دغلاً وعباده خولاً .
ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث النبويّة وننتقل إلى أقوال الكتاب الناطق والإمام الصادق علي (عليه السّلام) في نهج البلاغة حيث يقول في خطبة له في الملاحم : أَلا وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ ؛ فَإِنَّهَا فِتْنَة عَمْيَاءُ مُظْلِمَة عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَأَصَابَ البَلاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَأَخْطَأَ الْبَلاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا . وَايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوء بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَتَمْنَعُ دَرَّهَا .
لا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ ضَائِر بِهِمْ , وَلا يَزَالُ بَلاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاّ كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ . تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً , لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَلا عَلَم يُرَى .
والله لا يزالون حتّى لا يدَعون لله محرماً إلاّ استحلّوه ولا عقداً إلاّ حلّوه وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ ودخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم وحتّى يقوم الباكيان ؛ باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه . . . .
وذكر السيّد المقرّم (رضي الله عنه) في (المقتل الكبير) عن كتاب (ضحى الإسلام) لأحمد أمين المصري قوله : الحقّ إنّ الحكم الاُموي لمْ يكن حكماً إسلامياً يساوى فيه بين الناس في الحقوق والواجبات ويكافأ فيه المحسن أيّاً كان ويعاقب فيه المجرم أيّاَ كان وإنّما كان حكماً شعاره التعصّب الممقوت وتسوده النزعة الجاهليّة ومظاهرها لا النزعة الإسلاميّة .
أقول : إنّ تلك الأعوام العشرين التي قبض فيها معاوية على مقاليد الحكم بدون رادع ولا مانع هي التي كشفت الحجاب عن مدى فساد السياسة الاُمويّة الرعناء وأظهرت للناس عمق العداء والحقد الذي يحمله الأمويون ضد الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين جميعاً وفي خلال تلك السنوات تيقّظ الرأي العام الإسلامي إلى عظيم أخطار البدع والانحرافات التي أحدثها الأمويون منذ أنْ تسللوا إلى مراكز السلطة والحكم أفراداً وجماعات ابتداء مِنْ عهد الخليفة الأول أبي بكر
فما بعد وفي أعقاب تلك الفترة المظلمة المشؤومة ـ فترة سلطان معاوية ـ صار الفرد المسلم العادي يشعر في قرارة نفسه وأعماق شعوره نفوراً شديداً وكرها مريراً تجاه الجهاز الاُموي الحاكم خليفة وعمالاً وولاة وبطانة .
فكان الشعب المسلم ينظر إليهم كعصابة لصوص وقطّاع طريق وجلادين لا همّ لهم إلاّ نهب الأموال وسلب الحقوق واغتصاب الأعراض وسفك الدماء والتمادي في المتع الحقيرة وإشباع الشهوات وغير ذلك ممّا لا يسع المقام وصفه حسب ما هو مسطور في كتب التاريخ والتراجم .
وليس أدلّ على نقمة المسلمين وتذمّرهم مِنْ حكامهم الاُمويِّين مِنْ هذه الأبيات لشاعر عاش تلك الفترة القاسية وهو عبد الله بن همام السلولي حيث يقول :
فـإنْ تـأتوا برملَةَ أو بهند نُـبـايـعـها أميرةَ مؤمنينا
إذا ما مات كِسرى قام كِسرى نـعـدُّ ثـلاثـةً مُـتناسقينا
فـيـا لهفا لَوَ انّ لـنا اُنوفاً ولـكـن لا نـعود كما بدينا
إذاً لـضُربتموا حتّى تعودوا بـمكّة تـلعقون بها السَّخينا
خشينا الغيظ حتّى لو شربْنا دمـاءَ بـني اُميّة مـا رُوينا
لـقد ضـاعت رعيّتُكُم وأنتمْ تـصـيدون الأرانب غافيلنا
ففي البيت الأوّل منها يبيّن أنّه قد ضاعت موازين الخلافة الإسلاميّة ومقاييسها بحيث لو جاءتنا رملة أو هند ابنتا معاوية المعروفتان بالمجون والفسوق لوجب علينا نحن المسلمين أنْ نبايعهن بالخلافة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) , والإمرة على المؤمنين ؛ لأنّنا إنْ رفضنا قُتلنا .
وفي البيت الثاني يقول : إنّ الخلافة الإسلاميّة تحوّلت إلى ملك وراثي تماماً كالنظام الملكي عند الأكاسرة ملوك الفرس قبل الإسلام كلّما مات كسرى الأب قام كسرى الابن مقامه . وهنا كذلك مات عثمان كسرى الاُمويِّين الأوّل الذي جعل الدولة الإسلاميّة بما فيها مِنْ خيرات ملكاً خاصاً له ولأسرته الاُمويِّين قام كسرى الثاني مقامه وهو معاوية ثمّ مات فقام كسرى الثالث مقامه وهو يزيد . فالنظام نفس النظام مع الاختلاف في الأسماء والعناوين فقط . . .
وباقي الأبيات ظاهرة المعنى واضحة الدلالة على مدى النقمة التي كان يكنّها المجتمع الإسلامي والكبت الذي كان يشعر به مِنْ رعونة الحكّام واستهتارهم .
فجاءت ثورة الحسين (عليه السّلام) تعبيراً كاملاً عن شعور ذلك الشعب المكبوت وتجسيداً حقيقياً لآمال ورغبات تلك الاُمّة المضطهدة فكانت القلوب معها تؤيدها وتبارك خطاها . . . وأُعطيت صفة الثورة التحررية المثالية بين جميع الثورات في العالم .
أمّا في عصر الحسين (عليه السّلام) وبعد أبيه أمير المؤمنين حيث كان معاوية بعد لمْ يصل إلى الخلافة العامّة والسلطة العامّة ولمْ يظهر أمام الرأي العام على حقيقته الفاسدة وواقعه الخبيث فإنّ الأمر كان يختلف عنه في عصر الحسين (عليه السّلام) ويزيد اختلافاً كبيراً .
ولذا يجزم الخبراء بأنّ صلح الحسن (عليه السّلام) مهّد الطريق لثورة الحسين (عليه السّلام) وهيّأ لها الجو والمناخ الملائم لتبرز إلى الوجود كأقدس ثورة إنسانية في العالم وأظهر مصداق لصراع الحقّ ضد الباطل وأعظم جولة في معركة الخير مع الشرّ في حياة البشرية مِنْ أولها إلى آخرها .
أجل كلّ هذه الصور المثالية التي اكتسبتها ثورة الحسين (عليه السّلام) تعود في جملة ما تعود إليه مِنْ عوامل وأسباب إلى صلح الحسن (عليه السّلام) مع معاوية .
وبعد هذا كلّه يمكننا أنْ نقول : بأنّ الحسن والحسين (عليهما السّلام) كانا واجهتين لرسالة واحدة ؛ واجهة التخطيط والتمهيد التي أبرزها الحسن (عليه السّلام) بصلحه ومسالمته ثمّ واجهة التطبيق والتنفيذ التي أبرزها الحسين (عليه السّلام) بقيامه ونهضته .
وتضحيات الحسن (عليه السّلام) في سبيل أداء سهمه من الرسالة وحصته من المسؤوليّة لمْ تكن قليلة ولا بسيطة بل كانت تضحيات شاقّة وغالية كثيراً . إنّها تضحيات أعصاب وعواطف تضحيات قلب وفكر وروح فصلوات الله وسلامه عليك يا أبا محمد بما صبرت وأحتسبت وأثابك الله أجر الصابرين .
ورحم الله شيخنا الأصفهاني حيث يقول :
زكــت ثـمارُ العلم بالزكيّ أكـرم بـهـذا الـثمرِ الجنيّ
أعـطـاه جـدّه نبيُّ الرحمهْ ســـؤدده وعـلـمه وحلمهْ
يـهـنـيك يا أبا الولاةِ السادهْ وقــادة الـخلق إلى السعادهْ
بـمَنْ تـسامى شرفاً و مجدا أخــاً واُمّــاً وأبـاً وجـدّا
بـشـراك يـا حقيقة المثاني بـواحـدِ الـدهر بغير ثاني
بـالـحسنِ الـمنطق والبيان ومَـنْ حـوى بـدايع المعاني
مِنْ رشحات بحر علمه الخضمْ جـرت يـنابيعُ العلوم والحكمْ
وحـلـمه لـه المقام السامي فـي حلمه ظلّتْ اُولوا الأحلامِ
صـبّـره العظيمُ في الهزاهزْ يـكـاد أنْ يـلحق بالمعاجزْ
مِـنْ حـلمِهِ أصابه من البلا مـا لا تطيقه السماوات العُلا
رضـاه فـيـما كان لله رضا قـضى على حقوقه بما قضى
وسـلـمُهُ فـي موقع التسليمِ مِــنْ رشـحات قلبهِ السليمِ
لماذا لمْ يقم بالسيف أحد من الأئمة (عليهم السّلام) بعد الحسين (عليه السّلام) ؟
من الأخطاء التي وقع ويقع فيها بعض الناس هو القياس في سلوك الأنبياء والأوصياء فإذا أحد منهم قام بعمل بارز وحساس بحيث يعجبهم ويتلائم مع رغباتهم وأفكارهم فحينئذ يتوقّعون من الآخرين أيضاً أنْ يفعلوا نفس ذلك الفعل ويقوموا بمثل ما قام به فلان ؛ لأنّه أعجبهم ووافق أهوائهم وعلى هذا الأساس يقولون :
لماذا لمْ يقم أحد من الأئمّة بثورة مسلحة بعد الحسين (عليه السّلام) ؟ ومِنْ ثمّ رفض بعض المسلمين إمامة أي إمام لمْ يقم بالسيف ضد أعدائه . فالإمامة عندهم مشروطة بشرط الكفاح المسلح ؛ ولذا فهم يعترفون بإمامة علي (عليه السّلام) ثمّ الحسن (عليه السّلام) ثمّ الحسين (عليه السّلام) ثمّ زيد بن علي بن الحسين (عليه السّلام) وابنه يحيى بن زيد وهكذا أمّا زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق (عليهم السّلام) فليسوا عندهم من الأئمّة ؛ لأنّهم لمْ يقوموا بالسيف . وهؤلاء [هم] الطائفة الزيدية الموجودون بكثرة في اليمن وغيرها .
والواقع أنّ هؤلاء وأمثالهم يظنّون أنّ مصلحة الاُمّة دائماً تدور مدار استعمال السيف والكفاح المسلّح وجوداً وعدماً فالإمام الذي لا يقوم بهذا الكفاح لمْ يخدم مصلحة الاُمّة غافلين عن أنّ استعمال السيف هو علاج اضطراري ومِنْ باب آخر الدواء الكي .
فهذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مثلاً لمْ يستعمل السيف إلاّ بعد مضي ثلاثة عشر سنة أو أكثر مِنْ بدء الدعوة وبعد أنْ اضطر لاستعماله دفاعاً عن النفس وفي وجه اُناس كان موقفه معهم موقف حياة أو موت .
وبعده الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أغمد سيفه خمساً وعشرين سنة وصار
________________________________________
الصفحة (55)
يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن وأخيراً اضطر إلى استعمال السيف ضد اُناس فشلت معهم جميع الوسائل السلمية .
وبعده الإمام الحسن (عليه السّلام) الذي جرّد السيف في بدء الأمر ضد العدو ولكن لمّا ثبت لديه أنّ الكفاح السلمي والحرب الباردة في ذلك الظرف وفي تلك الأحوال أنجح وأنفع للمصلحة العامّة والإسلام من السيف ترك الحرب وجنح للسلم والمصالحة .
فالغرض : أنّه لا شك في أنّ مصلحة الحقّ والدين ليست منحصرة في الحرب بالسيف وفي الثورة الدمويّة دائماً بل في بعض الأحيان والأحوال وفي حالات شاذّة نادرة . فالحقّ لا يُفرض بالسيف والعقيدة لا تركّز بالقوّة ودين الله لا يقوم على الإكراه والإجبار .
وقد ذكرنا فيما سبق أنّ ظروف الحسين (عليه السّلام) كانت ظروفاً شاذّة انعدمت فيها كلّ وسائل الدعوة السلمية ولمْ يجد الحسين (عليه السّلام) معها بداً مِنْ أنْ يقوم بحركة غريبة ومدهشة لجلب الرأي العام وإلفات الأنظار وتحريك الضمير الإنساني .
وقد تحقّق كلّ ما أراده بحركته وبقي استغلال ذلك النتاج وصيانة تلك الثمرة بالبيان والتوجيه ورعاية تلك المكاسب بالدعم الفكري والعلمي والعملي ؛ وهذا هو بالذات كان دور الأئمّة (عليهم السّلام) مِنْ أبنائه بعده وقد قاموا به على أحسن ما يرام وأتمّ ما يكون .
فالحسين (عليه السّلام) وجّه بثورته الأفكار ولفت الأنظار إلى عدالة قضية أهل البيت (عليهم السّلام) وأنّهم مع الحقّ والحقّ معهم وأنّ خصومهم مع الباطل . ولكن يا ترى ما هي تفاصيل تلك القضية ؟ ـ أي قضية أهل البيت (عليهم السّلام) ـ وما هو مفصل هذا الحقّ الذي لهم ومعهم ؟ وما هو وجه الخلاف بينهم وبين غيرهم ؟
فهذه التفاصيل والشروح والبيانات للناس قام بها أبناؤه (عليهم السّلام) بعده بشتى الوسائل الممكنة لديهم ؛ وبذلك ظهر الحقّ وانتشر على الصعيد الفكري عامّة وعلى الصعيد العملي إلى حدّ كبير نسبة .
أمّا إذا قلت : لماذا قعدوا عن استعادة حقّهم المغتصب ولمْ يقوموا بثورة لاسترجاع الخلافة والإمرة والحكم ؟
قلت : إنّ ذلك لمْ يكن مقدوراً لهم جميعاً ولمْ تتوفّر لأحدهم الإمكانيات لذلك الغرض كما لمْ تتوفّر للحسن ولا للحسين (عليهما السّلام) كما قدّمنا سابقاً وأعني بتلك الإمكانيات اللازمة لاسترجاع الخلافة مِنْ أيدي الغاصبين الأعوان والأنصار بالقدر اللازم والعدد الكافي والنصاب الشرعي المعروف وهو النصف مِنْ عدد العدو وحسب نصوص الآية الكريمة : {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] , وكان النصاب الموجب للقتال قبل هذا هو العشر كما في صريح الآية الكريمة التي قبلها : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ....} [الأنفال: 65] , فكان النصاب المبرّر للقتال أوّلاً هو العشر ثمّ نسخ وصار النصف مِنْ قوّة العدو . ولا شك في أنّ النصاب الشرعي بصورتيه الأولى والثانية لمْ يحصل لأحد الأئمّة (عليهم السّلام) بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) سوى علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ؛ فإنّه الوحيد مِنْ بينهم الذي حصل على النصاب المذكور وتمكّن من القيام واستحصال حقّه .
وأمّا الباقون فلمْ يحصلوا على أعوان وأنصار حتّى بمقدار النصاب الأول وهو العشر فضلاً عن النصف ؛ فالحسن (عليه السّلام) مثلاً بقي بعد خيانة الجيش في أهل بيته وعدد قليل من الأصحاب والأنصار لا يتجاوزون المئة رجل وفي قباله معاوية ومعه ستّون أو سبعون ألف مقاتل .
فأيّ توازن وأيّ تقارب بين القوّتين ؟! لذلك سقط عنه تكليف الجهاد الشرعي ولمْ يبقَ أمامه إلاّ التضحية والشهادة أو الصلح والمهادنة فاختار الصلح ؛ لأنّه كان أصلح يومئذ وأنفع لمصلحة الإسلام العُليا من التضحية حسب ما فصلناه سابقاً فراجع .
وكذلك الأمر مع الحسين (عليه السّلام) كما تعلم حيث بقي في نيف وسبعين رجلاً في مقابل سبعين ألفاً من الأعداء ولكنّه (عليه السّلام) آثر الشهادة والقيام بعمله الفدائي الخاص نظراً لظروفه الخاصّة حسبما فصّلناه سابقاً .
وأمّا باقي الأئمّة (عليهم السّلام) فحالهم لمْ تختلف عن حال الحسن والحسين (عليهما السّلام) بل ربّما كان أشدّ وأحرج .
يلتفت ذلك الرجل إلى الإمام الصادق (عليه السّلام) وهو يمشي معه في ضواحي المدينة فيقول له : يا سيدي كيف يجوز لك السكوت والقعود عن حقّك وأنت صاحب هذا الأمر وابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟!
فسكت عنه الإمام الصادق (عليه السّلام) حتّى مرّ بهم راع يسوق قطيعاً من الغنم فقال له الإمام (عليه السّلام) : يا فلان كمْ تعدّ هذا القطيع ؟ . فقال الرجل : لا أدري . فقال (عليه السّلام) : والله لو كان لي أنصار عدد هذا القطيع لنهضت بهم . فعطف الرجل على القطيع فعدّه فإذا هو سبعة عشر رأس .
ودخل سهل بن الحسن الخراساني عليه ذات يوم وقال : يابن رسول الله لا يجوز لك القعود عن حقّك ولك في خراسان مئة ألف رجل يُقاتلون بين يديك مِنْ شيعتك .
فقال له الإمام الصادق (عليه السّلام) : وأنت منهم يا سهل ؟ . فقال : نعم جعلت فداك يا سيدي . فقال له : اجلس . فجلس ثمّ أمر الإمام (عليه السّلام) الجارية وقال : يا جارية أسجري التنور . فسجرته حتّى صار اللّهب يتصاعد مِنْ فم التنور فالتفت الصادق (عليه السّلام) إلى سهل الخراساني وقال : يا سهل أنت مِنْ هؤلاء الذين ذكرت أنّهم يطيعون أمري ؟ . فقال : نعم سيدي أفديك بروحي . فقال (عليه السّلام) : قم وادخل في هذا التنور . فقال سهل : أقلني أقالك الله يابن رسول الله . فقال (عليه السّلام) : قد أقلتك .
فبينا هم كذلك إذ دخل أبو هارون المكّي (رحمه الله) فسلّم فردّ (عليه السّلام) وقال له : يا أبا هارون , ادخل في التنور . فقال له : سمعاً وطاعة . ثم ألقى نعله وشمّر عن ثيابه ودخل في التنور , فقال الإمام (عليه السّلام) : يا جارية اجعلي عليه غطاءه . فغطّته .
ثمّ التفت الإمام (عليه السّلام) إلى سهل بن الحسن وصار يحدّثه فقال سهل : إئذن لي يا سيدي أنْ أقوم وأنظر ما جرى على هذا الرجل . فقال (عليه السّلام) : نعم . ثمّ قام ومعه سهل وكشف الغطاء عن التنور وإذا أبو هارون جالس على رماد بارد فقال له الإمام : اخرج . فخرج صحيحاً سالماً لمْ يصبه أيّ أذى .
فقال (عليه السّلام) : يا سهل كم تجد مثل هذا في خراسان ؟ . فقال سهل : ولا واحد يابن رسول الله .
وهذه العملية هي كرامة ولا شك أظهرها الإمام الصادق (عليه السّلام) وعبّر بها عن أنّ أهل البيت إنّما هم بحاجة إلى جيش عقائدي يطيع الأوامر الصادرة إليه من الإمام (عليه السّلام) مهما كانت لا يعرف التردّد والهزيمة ولا يفكّر بغير الشهادة أو الغلبة ؛ لثقته التامّة بالإمام (عليه السّلام) واعتقاده الراسخ المتين بأنّ أوامره مِنْ أمر الله ورسوله وهو أعرف بالصالح والفاسد والحقّ والباطل مِنْ جميع الناس .
فهم بحاجة إلى هكذا جيش متوفّر لديهم قدر النصاب الشرعي على الأقل وقبل القيام بالحركة أو الثورة ؛ لكي لا تتكرر نكسة صفين أو مأساة كربلاء أو نكبة الحسن على يد جيشه يوم ساباط .
وخلاصة الكلام هو أنْ نقول : أمّا القيام لأجل أخذ حقّهم في الخلافة وانتزاع السلطة مِنْ أيدي الظالمين فإنّه كان مستحيلاً عادة بالنسبة لهم ؛ لعدم توفّر الشرائط واللوازم الضرورية لمثل هذا القيام لديهم وأهمّها الأنصار والأعوان المخلصون .
غير أنّهم كانوا يدعمون معنويّاً وماديّاً وفكريّاً قدر استطاعتهم كلّ الثورات الحرّة والحركات الإصلاحية التي كانت تقوم بين حين وآخر ضد الاُمويِّين أو العباسيِّين مثل : ثورة أهل المدينة على يزيد (لعنه الله) وثورة زيد بن علي بن الحسين على عبد الملك بن مروان وثورة المختار الثقفي في الكوفة وثورة محمد ذو النفس الزكية على المنصور العباسي وبعدها ثورة أخيه إبراهيم أحمر العينين على المنصور أيضاً وغيرها .
وأمّا القيام لأجل التضحية والشهادة مثل قيام الحسين (عليه السّلام) فإنّه لمْ يكن ضرورياً في عصرهم ؛ لأنّ وسائل الإعلام والدعوة إلى الحقّ وطرق إتمام الحجّة وتبيلغ الرسالة لمْ تنعدم كليّاً في عصر الأئمّة (عليهم السّلام) كما انعدمت في عصر الحسين (عليه السّلام) حتّى اضطر إلى القيام بالإبلاغ والإعلام عن طريق التضحية والشهادة .
فالإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السّلام) مثلاً قاما بأوسع حركة علميّة مستطاعة في ذلك العصر عن طريق المدرسة والتدريس ونشر العلم واستقطاب العلماء وتربية ثلة من الشباب المؤمن بالتربية الإسلاميّة وبثهم في الأقطار والأمصار يبشرون ويرشدون ويعلّمون . فكان عصرهما (عليهما السّلام) أحسن عصور الإسلام ازدهاراً بالعلم والمعرفة وتقدّم الثقافة وكثرة المدارس والمجالس العلميّة .
وبقي الحال على هذا الوصف بل وازداد تقدّماً وازدهاراً إلى عصر الإمام الرضا والجواد (عليهما السّلام) . . . وهما اللذان كوّنا بجهودهما وبمعونة المأمون العباسي وتعاون المجتمع معهما كونا من المسلمين أساتذة للعالم الغربي اليوم بكلّ علومه واكتشافاته المدهشة .
قال ابن الوشا : دخلت إلى جامع الكوفة في أيّام الرضا (عليه السّلام) فرأيت تسعمئة شيخ يحدّثون ويدّرسون ويقولون : حدّثنا جعفر بن محمد (عليه السّلام) .
وفي الختام نكرّر القول : بأنّ خدمة المصلحة العامّة ونصرة الحقّ ومكافحة الباطل والظلم ليست في الحرب دائماً بل الأمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال .
والحرب الدمويّة هي آخر وسيلة يفكر فيها المصلحون المخلصون لاُمّتهم وللصالح العام بعد اليأس من الوسائل السلمية . وإلى هذا يشير الإمام علي (عليه السّلام) في كلماته القصار : رأي الشيخ أحبّ إليّ مِنْ جلد الغلام .
وإلى هذا يشير المتنبي الشاعر في أبياته المعروفة فيقول :
الـرأيُ ثمّ شجاعةُ الشجعانِ هو أوّل وهي المحلّ الثاني
فـإذا هما اجتمعا لنفس حرّة بـلغتْ من العلياءِ كلَّ مكانِ
و لـربّما طعن الفتى أعداءهُ بالرأي قبل تطاعنِ الأقرانِ
لولا العقولُ لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسانِ
وقد جاء في الحديث الشريف قوله (صلّى الله عليه وآله) : مدادُ العلماء أفضل مِنْ دماء الشهداء.
هل يمتاز الحسين (عليه السّلام) على سائر الأئمّة (عليهم السّلام) في الصفات التي اشتهر بها ؟
يعرف الحسين (عليه السّلام) لدى الرأي العام بصفة الثورية والصلابة والشجاعة وإباء الضيم فهل هذا يعني أنّ الحسين كان متفوّقاً على سائر الأئمّة (عليهم السّلام) في هذه الصفات أو أنّ غيره من الأئمّة (عليهم السّلام) أو بعضهم على الأقل كان محروماً مِنْ هذه الصفات ؟ الجواب : كلاّ . . .
فالواقع هو أنّ الأئمّة الاثني عشر الذين أوّلهم علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وآخرهم المهدي المنتظر (عليه السّلام) كلّهم في مستوى واحد مِنْ حيث جميع الفضائل الكمالية والصفات الإنسانية ومكارم الأخلاق .
وهم بمجموعهم يفوقون كافّة الناس في التحلّي بالفضائل والكمالات أي ليس في العالم مثلهم بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولا نظير لهم في أي فضيلة أو كمال نفسي ؛ لأنّ ذلك شرط العصمة ولازمها .
وقد ثبت بدليل العقل والنقل أنّهم معصومون ولا يكفي في تحقق العصمة لشخص ما أنْ يكون مؤمناً صالح العمل والسيرة والأخلاق فحسب بل يجب أنْ يكون أيضاً فوق مستوى الناس في العلم والإيمان والعمل الصالح ومكارم الأخلاق ومِنْ ثمّ يستحق منصب الإمامة على الناس .
ومن شواهد ذلك قول الخليل بن أحمد العالم النحوي عندما سُئل : ما الدليل على إمامة علي (عليه السّلام) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دون سائر الصحابة ؟ فقال : الدليل استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكل إليه .
وهذا الدليل يجري بالنسبة إلى باقِ الأئمّة الأحد عشر مِنْ أبنائه أيضاً وهو أمر يفرضه العقل والمنطق والعدل . إذ إنّه لو وجد شخص آخر في عصر الإمام المعيّن هو مثل الإمام ومساو له في الفضل والكمال يكون حينئذ تقديم أحدهما على الآخر للإمامة والقيادة باطلاً عقلاً ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجح .
أمّا إذا وجد مَنْ هو أفضل من الإمام وأرفع مستوىً في العلم والقدرة والعمل فتقديم الإمام عليه أقبح عقلاً وأشدّ بطلاناً ؛ لأنّه مِنْ باب تقديم المفضول على الفاضل أو تقديم الفاضل على الأفضل وهو فاسد .
فالله تعالى إمّا اختار علياً (عليه السّلام) وأبناءه الأحد عشر المعروفين للخلافة عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ولقيادة الاُمّة بعده علماً منه تعالى بأنّ هؤلاء هم أكمل الناس وأفضلهم جميعاً إيماناً وعلماً وعملاً .
وأشار تعالى في كتابه العزيز إلى أنّ ملاك الإمامة والإمارة إنّما هي في الأفضلية لا غير فقال تعالى : {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] , وقال تعالى : {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلاّ أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ سورة يونس : 35] , وقال تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] , وقال تعالى : {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
وقد نصّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على هذا الملاك للسيادة والإمامة والإمرة في كلماته القصار فقال : أحسن إلى مَنْ شئت تكن أميرَه واحتج إلى مَنْ شئت تكن أسيرَه واستغن عمّن شئت تكن نظيرَه .
وقد كشف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) النقاب عن أنّ هذا الملاك متوفّر ومتحقّق فيه وفي أهل بيته الطاهرين (عليهم السّلام) فقال في وصيته العامّة قبيل وفاته : أيّها الناس لا تتقدّموهم فتهلكوا ولا تتأخروا عنهم فتضلّوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم .
وفي بعض خطب الإمام أمير المؤمنين من (عليه السّلام) نهج البلاغة قوله : لا يُقاس بآل محمد مِنْ هذه الاُمّة أحد ولا يسوّى بهم مَنْ جرت نعمتهم عليه أبداً ؛ هم أساس الدين وعماد اليقين بهم يلحق التالي وإليهم يفيء الغالي ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم النبوّة والوراثة .
وقال (عليه السّلام) في مقام آخر : نحن صنايع ربّنا والخلق بعد صنايع لنا , أي أنّ كمالهم مِنْ كمال الله سبحانه وكلّ كمال وصلاح وفضل يوجد في الناس فهو مِنْ طهرهم وفضلهم وصلاحهم (عليهم السّلام) .
وبعبارة اُخرى : إنّهم تربية الله تعالى والصالحون من الناس تربيتهم هم (صلوات الله عليهم) .
فالغرض : أنّ أهل البيت (عليهم السّلام) أفضل الخلق وأكملهم بعد جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمّا هم وفيما بينهم فلا تفاضل ولا امتياز لأحدهم على الآخر في هذا الأصل أي أصل الكمال والعصمة . نعم قد يوجد تفاضل بينهم ولكن باعتبارات ثانوية كالاُبوّة والبنوة مثلاً .
ولعلك تقول : إذا كان الأمر كذلك فلماذا عرف واشتهر بعضهم في بعض الصفات الكمالية دون الآخرين ؟ كالإمام علي (عليه السّلام) مثلاً الذي عُرف بالبطولة والشجاعة والإمام الحسن (عليه السّلام) الذي عُرف بالحلم والصبر وكظم الغيظ والإمام الحسين (عليه السّلام) الذي عُرف بإباء الضيم والثورية والشدّة مع العدو والإمام زين العابدين (عليه السّلام) الذي عرف بالعبادة والإمامين الباقر والصادق (عليهما السّلام) اللذين عرفا بالعلم . . . وهكذا .
فنقول في الجواب : إنّ السبب في اشتهار هؤلاء بتلك الصفات لا يعود إلى تفوّق ذاتي وإلى أنّ هؤلاء توفّرت فيهم هذه الصفات دون الآخرين أو أكثر من الآخرين ! كلا .
فالشجاعة التي كانت في الإمام علي (عليه السّلام) مثلاً مثلها تماماً كان في الحسن والسجاد والباقر والصادق (عليهم السّلام) وغيرهم وكذلك الحلم الذي كان في الحسن وإباء الضيم والثورية اللذان كانا في الحسين وهكذا وعلى هذا القياس .
وإنّما السبب في ذلك ـ أي في اشتهار بعضهم ببعض الصفات الكمالية دون البعض الآخر ـ يعود بصورة رئيسة إلى الظروف الخاصة والمقتضيات الزمنية التي عاشها كلّ منهم ؛ فالإمام علي (عليه السّلام) عاش فترة خاصة وظروفاً معينة اقتضت منه أنْ يبرز شجاعته ويظهر بطولته ؛ بسبب الحروب التي خاضها دفاعاً عن الإسلام وصيانة له مع الرسول (صلّى الله عليه وآله) وبعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) . وأي واحد من الأئمة (عليهم السّلام) لو كان في عصر الإمام علي (عليه السّلام) وفي مثل ظروفه ومسؤولياته لأظهر من الشجاعة مثل ما أظهره الإمام علي (عليه السّلام) .
وأما الحسن (عليه السّلام) فبالعكس فإنّه عاش في ظرف كانت مصلحة الإسلام تقتضي منه المسالمة والمصالحة والصبر ؛ فلذلك عرف بالحلم . لكن الحسين (عليه السّلام) كانت ظروفه تفرض غير ذلك أي الاعتماد على الشدّة والثورة ورفض أي مسالمة ومصالحة مع حكّام عصره ؛ لذلك عرف بالإباء والثورية وصلابة العزيمة .
وأيّ إمام آخر لو كان بمكان الحسين وفي عصره وظروفه لما كان يعمل إلاّ ما عمله الحسين (عليه السّلام) وما قام به من الثورة والتضحية حسب ما شرحنا ذلك في بعض الفصول السابقة .
أمّا عصر الإمام الباقر وابنه جعفر الصادق (عليهما السّلام) فإنّه كان يتطلّب منهما الاعتماد على نشر العلم وبثّ الوعي العلمي وإرسال البعثات العلميّة وفتح المدارس والدورات الدراسية ؛ لمكافحة الدسائس الفكرية والتطرف العقائدي والفلسفات المادية التي تسرّبت إلى المسلمين بحكم اتصالهم بالأمم والشعوب الاُخرى ؛ لذلك فقد أسسا أكبر جامعة علميّة في العالم الإسلامي حيث انتمى إليها أكثر مِنْ أربعة آلاف طالب ؛ ومِنْ هنا عرفا بالعلم وكثرة الأحاديث والأخبار التي رويت عنهما حتّى روى راو واحد عن الإمام الباقر (عليه السّلام) ثلاثين ألف حديث وهو جابر الجعفي وهكذا .
وكلّ من الأئمة (عليهم السّلام) لو كان بمكانهما لعُرف بمثل ما عُرفا به ونشر من العلم مثل ما نشر الباقر والصادق (عليهما السّلام) .
والخلاصة : إنّ من الغلط الفاحش والخطأ الكبير ما يظنّه البعض مِنْ أنّ اشتهار بعض الأئمّة (عليهم السّلام) ببعض الصفات كانت بسبب ذاتي وملكات خاصة ومواهب فطرية معينة . كلا ليس كذلك ؛ فثورية الحسين (عليه السّلام) وإباؤه للضيم وشدّته مع الأعداء مثلاً ليست ناشئة عن حرارة دموية ومزاج عصبي خاص به ولا مِنْ كبت نفسي كما يزعم الكتاب الجاهلون بحقيقة الحسين (عليه السّلام) ومقامه وحقيقة أهل البيت (عليهم السّلام) .
وكذلك مسالمة الحسن (عليه السّلام) وصفته السلمية وحلمه مع الأعداء لمْ تكن أثراً لبرودة دمه وهدوء أعصابه ومزاج خاص به حسبما يصوّره لنا بعض المتطفّلين على الكتابة عن أهل البيت (عليهم السّلام) .
فالحقيقة هو أنّ كلّ ما قام به الحسن أو الحسين (عليهما السّلام) وغيرهما مِنْ أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) إنّما هو ناشئ ونابع عن إرادة الله وأمره وإيعاز من النبي (صلّى الله عليه وآله) مِنْ قبل ؛ خدمة لمصلحة الإسلام العليا وتمشياً مع متطلبات الظرف والأحوال .
إنّ أهواء النفس والعواطف والغرائز والحالات الفطرية العضوية لا تأثير لها مطلقاً على تصرّفات أهل بيت العصمة (عليهم السّلام) .
إنّ سيرة أهل البيت (عليهم السّلام) وسلوكهم في هذه الحياة كيّفتها الحكمة والمصلحة لا الغرائز والأمزجة وعواطف النفس الحيوانية . وكلّ حركة أو سكون أو فعل أو ترك وكلّ وجه مِنْ أوجه النشاط قام به أحدهم كان بوحي من الله ورسوله مطابقاً للكتاب والسنّة . هذا ما أثبتته الأحاديث الشريفة الصحيحة عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأكّدته التجارب والنتائج الواقعية .
فمن الأحاديث المؤكّدة قوله (صلّى الله عليه وآله) : إنّي مخلّف فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ؛ فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض .
وقوله (صلّى الله عليه وآله) في حقّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) : علي مع الحقّ والحقّ مع علي