من خصائص الادب الشيعي وميزاته
مما لا شكّ فيه أن الشعر ـ بما له من مميزات ـ يُعتبر من العوامل المؤثرة إلى حد كبير في إحياء وحفظ الوقائع والاحداث ، وما ينبغي تخليده وتدوينه وخصوصاً القضايا التي لا غنى للمسلم عن معرفتها والوقوف على حقيقتها ، إذ أن ما سجله الشعر تتلقاه الاجيال ، ويبقى في قلوب الناس.
وقد كان الشعر ـ خصوصاً في تلك الايام ـ الوسيلة الوحيدة التي بها يُناط نقل الاخبار والاحداث ، إذ لم تكن في السابق وسائل إعلام كما هو عليه الحال في الزمان الحاضر ، ولذا دأب الشعراء على تسجيل ما هو مهم في نظرهم في الشعر ولذلك ترى الكثير من الوقائع والاحداث تلقيناها من طريق الشعر ، هذا مع ما مرّ عليه من ظروف وملابسات ، ولهذا اُعتبر الشعر مدرسة مهمة في حفظ التاريخ والحوادث بصورها الواقعية ، وقد يؤرخها بأجلى أبعادها وأصدق معانيها.
ومن مميزات الشعر التي لا تنكر كونه عاملاً مساعداً في تفجير العواطف النفسية واستمالة القلوب والضمائر ، والانشداد التام فيجعل من السامع كأنّما يعيش الواقعة تماماً وكأنه يراها أمام عينيه ، وما ذلك إلاّ لاشتماله على المؤثرات النفسية التي يتميز بها عن غيره.
ولهذا كلّه تعرف سبب اهتمام أهل البيت (عليهم السلام) وإلحاحهم الشديد في تخليد شهادة الحسين (عليه السلام) وما جرى على أهل بيته ـ في الشعر خاصة ـ فقد تواتر عنهم أنهم ركزوا تركيزاً بالغ الاهتمام في نظم الشعر في فضائلهم ومصائبهم (عليهم السلام) وخصوصاً في الحسين (عليه السلام) ، ولم يقتصروا على ذلك بل تحدثوا أيضاً عن فضله وثوابه العظيم عند الله ـ تعالى ـ ترغيباً لهم في ذلك ، ولا شك في أن إنشاد الشعر فيهم (عليهم السلام) هو مصداق من مصاديق إحياء أمرهم ، وإليك بعض ما ورد في ذلك :
1 ـ ما روي عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال : دخل الكميت بن زيد على أبي جعفر (عليه السلام) وأنا عنده ، فأنشده : « من لقلب مُتيّم مستهام » ، فلما فرغ قال (عليه السلام) للكميت : لا تزال مؤيداً بروح القُدُس ما دمت تقول فينا .
2 ـ ما روي عن علي بن سالم عن أبيه عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : ما قال فينا قائلٌ بيتاً من شعر حتى يؤيّد بروح القُدُس .
3 ـ ما روي عن عبدالله بن الفضل الهاشمي قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : من قال فينا بيت شعر ، بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة
4 ـ وروي أن جعفر بن عفان دخل على الامام الصادق (عليه السلام) فقال له : أنك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيده قال : نعم ، فاستنشده فلما قرأ عليه بكى حتى جرت دموعه على خديه ولحيته وقال له : لقد شهدت ملائكة الله المقرّبون قولك في الحسين (عليه السلام) وإنهم بكوا كما بكينا ولقد أوجب الله لك الجنة ثم قال (عليه السلام) : من قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى غفر الله له ووجبت له الجنة
5 ـ ما روي عن الحسن بن الجهم قال : سمعت الرضا (عليه السلام) يقول : ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا به ، إلاّ بنى الله له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرّات يزوره فيها كل ملك مقرّب وكل نبي مرسل .
وغير ذلك من الاخبار التي أكدوا فيها (عليهم السلام) ورغبوا شيعتهم في ذلك مع بيان فضل الانشاد وما له من الثواب والجزاء عند الله ـ تعالى ـ ، وما ذلك كلّه إلاّ لاهمية الشعر وأثره الكبير في إحياء ذكرهم.
وامتثالاً لامرهم (عليهم السلام) هبّ الاُدباء والشعراء ـ قديماً وحديثاً ـ لهذا النداء فأخذوا يبثّون فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ويُظهرون مظلوميتهم وما جرى عليهم من قتل وتشريد وتعذيب في السجون ونفي عن الاوطان ، وخصوصاً واقعة الطف الدامية وما جرى فيها على ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يكتفوا بذلك إذ ضمّنوا أشعارهم الاحتجاجات الصارخة المدوية والاستنكار الشديد على قاتليهم وظالميهم ، ولذلك كان الشعر الحسيني ولا يزال يُدوي في ضمير التاريخ ، ويلهب النفوس ويوقظ النائمين وينبه الغافلين والذين عُتمت عليهم الحقيقة ولتصحو كلُ نفس من سباتها العميق.
فالادب الشيعي الحسيني هو من قوام وأساس التعبير الصادق الذي يُظهر لنا المأساة بأجلى أبعادها وصورها وأصدق معانيها الواقعية.
قال أحد الاعلام : أنا لا أنكر ما للادب الشيعي من الروعة ، وما فيه من الجمال ، لانّ هذه الظاهرة في الادب الشيعي واضحة يجدها كل قارىء تذوّق
الادب ، أدب الشيعة صدى لعواطف ملتهبة ، أخمد الزمان لهيبها أن يظهر ، وأطلق الادب دخانها أن يثور ، ففاح كما يفوح النَّدُ حين يحترق ، وماء الورد حين يتصعد.
وفي الادب الشيعي رقة الدمع ورهبة الدم ،والحزن للقلوب الكئيبة ، كالنار حين تنفي خبث الحديد وتنقي الذهب الابريز ، ويستطيع الاديب الشيعي أن يبكي في ثورته وأن يثور في بُكائه وأن يُسيطر على الموقف في كلتا الحالتين ، لانه يُلقي من شظايا فؤاده.
لم تستطع الشيعة أن تعمل ولكنها استطاعت أن تقول ، والكبت حين يشتد يتصل بأعماق النفس ليمزج العقيدة بالعاطفة ، ثم يتصعد مع الزفرات أدباً يُلهب ويتلهب ويبكي ويستبكي ، وفي أنّة الحزين معاني لا تستطيع أن تعبر عنها أنةُ المعافى وإن تشابهتا في التوقيع.
هذا ما يجعل أدب الشيعة في القمة من أدب المسلمين وفي الذروة من أدب العروبة وهذا بعض ما استفادته من يوم الحسين (عليه السلام) وأيام العترة في التاريخ ، وأيامهم في التاريخ دموعاً ودماً .
ولما كانت هذه بعض خصائص ومميزات الادب الشيعي ، وقف المناوئون ـ لاهل البيت (عليهم السلام) وخصوصاً بنو اُمية وأتباعهم ومن نحا نحوهم لاتخاذ المواقف الحازمة ، والتدابير اللازمة ضد شعراء أهل البيت (عليهم السلام) والذين جعلوا على عاتقهم إظهار مظلوميتهم انتصاراً للحق مهما كلفهم ذلك ما دام أنه يرضي الله ورسوله ، إذ أن الامويين واتباعهم يُدركون تماماً مدى خطورة التفاعل الشعري على نواياهم وافعالهم.
ومع ذلك كلّه نجد بعضاً من ذلك الشعر مدحاً ورثاءً قد وصل إلينا على امتداد العصور مع ما لابسه من محن ومتاعب ، ناهيك عمّا ضمّته موسوعات الشعر الحسيني في ذلك والذي يمثل ثروة أدبية لا غنى للمكتبة الاسلامية عنها.
ولإهمية هذا الأدب الثري يضم هذا القسم ما جاء في ليلة عاشوراء ـ قديماً وحديثاً ـ من قصائد الولاء والتي ارسلت أضوأها على أحداث ومواقف هذه الليلة العظيمة تخليداً لذكراها الأليمة.
- أهمية النقد الادبي الموضوعي
إنّ من أهم الدراسات الادبية هي الدراسات النقدية الموضوعية ، والتي تستأثر بأهمية بالغة عند الدارسين والباحثين في الادب ، وموضع عناية الاديب والناقد والشاعر ، وحتى القاريء النبيه الذي تستهويه مثل هذه الدراسات.
وكما لا يخفى أنّ للنقد الادبي قيمته الذاتية ، إذ هو يُقوّم النص الادبي ، ويُميّز جيده من غيره ، ويحلله ويدرسه على ضوء أدوات النقد الادبي ومعادلاته الخاصة ، والتي منها ـ كما قيل ـ :
الذوق السليم ، والتجربة الشخصية ، والقواعد العقلية ، والمعرفة اللغة العربية وقواعدها ، والاحاطة بأساليب البيان ، بعيداً عن كلّ نزعة وتعصب أو ميول نفسية ، ومَنْ ثَمَّ الحكم على النص من خلال قراءته وملاحظة عناصره الاخرى.
ومن الضرورة بمكان أن يتناول النقدُ الشعرَ من جهاته المُهمّة والتي تنصب على مستوى اللفظ وسلامته والمعنى وصحته ، واستقامة الغرض ، وملاحظة الوزن والقافية ، وائتلاف كل منهما مع الاخر ، كما يتناوله أيضاً من الناحية الفنية والجمالية للقصيدة والاشارة إلى مفاهيمها ، واستخراج معانيها النفيسة التي يرمي اليها الشاعر والاغراض التي إعتمدها الشاعر في بناء قصيدته ، ومقدار عمقها وسعة خيالها ومزاياها الادبية الاخرى ، كما يبحث أيضاً عن خلل القصيدة واضطرابها وعيوبها إن وجد ذلك. فعلى هذا أصبح من الضروري أن يقف الشاعر على نقاط الضعف في قصيدته ، الامر الذي يجعله أكثر دقة وتلافياً لاخطائه في محاولاته الاخرى اللاحقة.
وهذا هو شأن الدراسات النقدية الادبية البنّاءة الهادفة والتي تُعد ثروة فكرية لا غنى عنها في عالم الادب.
وانطلاقاً من ذلك وللاهمية المتوخاة نقدّم دراسة نقدية موضوعية بقلم الاستاذ ثامر الوندي حول ما جاء في ليلة عاشوراء من قصائد وتقويم مستواها وذكر بعض مزاياها وأغراضها والاشارة أيضاً الى خللها واضطرابها إن وجد ذلك ،كما تناول دراسة عامة لبعض السمات المشتركة فيما يخص ليلة عاشوراء ، فلم يأل جهداً في هذه الدراسة القيّمة والتي إستغرقت منه وقتاً ليس بالقصير فجزاه الله خيراً.
وكما لايخفى أنّ الاستاذ الناقد لاتخفى قدرته النقدية وعمقه في معاني الشعر ، وإني أخاله يستنطق القصيدة بلا عناء فتُفصح له عن أسرارها الكامنة فتُخرج له ماخبأه الشاعر في أعماقها بما في ذلك أسرار شاعرية صاحبها ، ليقف الشاعر على ما تركه من لمسات في نصّه الشعري ليكون له حافزاً في تطوره مستقبلا.
وآمل أن تكون مثل هذه الدراسات مستوعبة أدب الجيل بالشكل المناسب وتعطيه أهميةً بالغةً لما في ذلك من تقدم أدبي على صعيد أفضل مما هو عليه الان مما يجعله أكثر تطوراً من ذي قبل.
مرايا ليلة عاشوراء
بقلم الأستاذ الوندي
داخل هذا التخصيص والحصر ، لا يمكن للاستقصاء الباحث عن النصوص الشعرية أن يصل إلى أقصى مما وصل إليه الباحث في الحصول على نصوص تخص ليلة العاشر من المحرم وحدها ، و هذا الجهد الظاهر و العناء الواضح من لدن الباحث في تضاعيف المنشور والمطبوع من النصوص المختصة يصاحبه جهد و عناء آخر تحمّله الاخوة الشعراء المعاصرون الذين طاردتهم رغبة الباحث وملاحقاته الجادة وحتى توسلاته ـ جزاه الله كل خير ـ و لا أرى فيه إلا معرفته الحقّة بما يعتري الشعراء من نزق منطلق بلا قيود ونزوع طفوليّ الى التحرر والانعتاق من كل فكرة ضاغطة ومشروع يفرض على الشاعرية ما يريده لا ما تريده هي ، وإذ نحيّي سعي الباحث الدؤوب نكبر كذلك الروح الولائية الوثّابة والاستجابة الكريمة التي أولاها الاخوة الشعراء لهذا المشروع الرائد.
لنقرر إبتداءً بعض نقاط الانطلاق كفرضيات قابلة للامتداد التطبيقي في قراءتنا للنصوص الشعرية وهي :
1 ـ إن الاحداث التي جرت في ليلة عاشوراء هي مادة أولية خام سيتناولها الشاعر أو الاديب في نصّه فيعمل كل على شاكلته ، بمعنى الاختلاف في طرق وأساليب التناول مما يفرز نتاجات مختلفة أو حتى متقاطعة متباينة لكنها مؤطّرة بالاطار الكلي العام.
2 ـ تباين الرؤيا الشعرية عن الرؤية التأريخية حيث تُعنى الثانية بالتطابق مع المقطع الزمني للحادثة بتفاصيلها في شكل الصدق الواقعي ، أما الاُولى فتُعنى بالعلاقة الضمنية أو حتى التلازمية مع الحادثة في شكل الصدق الفني الجمالي
3 ـ إن الشاعرية عمل إنساني كباقي الاعمال الانسانية الاخرى ، ففيها عرض عريض بين القوة والضعف ، وبين الاجادة والكبوة ، والاتقان والرداءة ، فربما نواجه شاعراً مُجيداً لم تتوفر في نصّه هنا عوامل الاجادة والاتقان والتوفيق ، فلن تمنعنا إجادته في نصوصه الاُخرى عن مُساءلته نقديّاً والاشارة إلى مواطن الضعف في نصّه مع جليل إحترامنا لتجربته ورصيده.
4 ـ هناك نصوص شعرية مكتوبة للقراءة الشعرية سيكون إنحياز الاهتمام والرعاية النقدية لها مبرّراً ، لقابلية مثل هذه النصوص على إعطاء الفحص والاستقصاء النقدي أكثر من مفتاح لذلك ، مع الاشارة المستعجلة لثلاثة أنواع من النصوص المنظومة الاُخرى : ـ أوّلها منظوم للتوثيق ، والثاني للخطابة ، والثالث للانشاد.
5 ـ في غمرة هذا الخليط لم نجد ما يشترك به الشعراء والناظمون ليؤلّف سمة مشتركة يمكن تحديدها وإبرازها لذا آثرنا أن نتعامل مع النصوص بشكل مفرد وقد أهملنا بعض النصوص إما لخلوّها من القيم الجمالية الفنية ، أو اختصاراً لوجود تجارب مشابهه مع الاعتذار من كل الاخوة.
6 ـ رأيت أن أتوسع مع الشاعر بولس سلامة لمقتضيات عقائدية ، لانّه كتب عن أهل البيت (عليهم السلام) و هو مسيحي الديانة ، ولمقتضيات فنية لانّ شعره نموذج للتجربة الشعرية الناضجة فنيّاً ، ولمقتضيات تأريخية لانّه كتب ملحمته شعراً عمودياً في سنين الخروج على هذا الشكل من النظم بالشكل الجديد المسمى (الشعر الحر) أعوام 1947 ـ 1948 م.
7 ـ سأبدأ بدراسة عامة لبعض السمات المشتركة عند شعراء المجموعة فأتناول أولاً الخطاب الشعري الخاص بالشعراء لليلة عاشوراء على المستوى المضموني ثم أدرس ثانياً وعلى المستوى الشكلي البنائي ظاهرة الاستحضار الحسي أو الشعوري في شعر بعض الشعراء الذين وثّقوا لحالتين أسميتهما على التوالي (إتخاذ الليل جملا... ودويّ النحل) وهذه هي السمات المشتركة التي وجدتها في النصوص وإن لم يشترك فيها معظم الشعراء.
فنرجو أن تروق لكم هذه المحاولة ونسأل الله السداد والتوفيق.
القسم الاول : الخطاب الشعري لليلة عاشوراء
عندما نمتلك وعياً نقدياً مبسّطاً ونقرأ من خلاله المشهد الشعري المجاور لحركة بثّ المنظومة المعرفية الحسينية على إختلاف وسائطها ، لا نرى هناك إلا الشعر محرّكاً للوجدان والضمير الموالي ، ولا نجد سواه وَقوداً ملتهباً متأججاً بانفعالاته المتولدة من صوره وتراكيب ألفاظه وجمله.
فلو تأملنا مجلساً حسينياً بلا شعر ، فهل يستطيع خطيب أن يقرّب سامعيه من الابعاد المأساوية بِقِطَع نثرية ؟ وكيف سيتمكّن من تصوير المصاب بإغفال الجذوة الجيّاشة بالعواطف والاحاسيس والمشاعر التي يحملها الشعراء في حبات قلوبهم ؟ لابد من تأشير ذلك لئلا يُهمّش دور الشعر في الحمّى التبخيسية التي تتعرض لها كلّ الانشطة الانسانية الحقة والتي تملا الفراغات الحساسة في حيات البشر ، بعد غَلَبة الافكار المُسلّطة التي تحمل طابع السطو على المجالات والحقول المؤثّرة والفاعلة في الانسان الفرد والمجتمعات.
ولعلّي أجد أكثر من مبرّر أحتمي تحت ظلاله في محاولتي قراءة نصوص المجموعّة إنطلاقاً من النصوص نحو ليلة عاشوراء وليس العكس ، أي من ليلة عاشوراء نحو النصوص.
فليلة عاشوراء لاتحتاج الادب إلا كحلّة لها ، وصورة تتجلّى بها ، ووتر يرنّم انشودة العطاء والفداء والتضحية.
ربّ سائل يطرح هذه الاثارة (ما علاقة النقد الادبي بليلة عاشوراء ؟) ونحن
بدورنا نجيب :
أنها علاقة أي نشاط إنساني حيوي بمبادئه وثوابته ومرتكزاته العقائدية والدينية من خلال الواقع والتاريخ الذي يعيشه ، فمادام هناك أدب يُكتب عن المأساة الحسينية (شعراً كان أو غيره من الاجناس الادبية والفنية) فلابد من وجود نقد يختبر ويفحص ويؤشّر ويقوّم ويثمّن ويوجّه ويفتتح طرق التلقي السليم ويُشذّب أساليب القراءة الصحيحة.
فالنقد يُفعّل عملية الالتفاف حول الادب (مؤلفين وقراء) وكذلك هو يرفع من درجات الاهتمام بالنشاط الادبي كنشاط إنساني ضروري يكتسب مشروعيته من حاجة الناس اليه لايجاد حالة التوازن في الجانب الشعوري الوجداني لبني البشر.
وبعد.. فالشاعر الولائي بحاجة الى الاحتضان والرعاية والاحتفاء ، لانه المعادِل العاطفي الوجداني للعالِم والمفكّر والفيلسوف ، وهو حنجرة الاماني المستترة ، وصوت الضمير النابع من أعماق الذات المتفاعلة مع النداء الالهي المتجلي ، دائماً وأبداً على صفحات الولاء الحق لحملة النور الرباني المتوهّج ، بسيد الاكوان والمخلوقات الرسول الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وآلِ بيته المعصومين (عليهم السلام) .
ليلة عاشوراء ما هي إلا محطة من محطات المسيرة العظيمة ، وهي موقف يمتد وأفق إنتظار لما سيحدث ، فلا غرو أن تُثير عند الشعراء كوامن الابداع وينابيع العطاء ليقفوا أمام جلالها وعظمتها وقفة حيرة ووجل.
مالذي يفعله كائن سينتهي في يوم ما من أيام الزمن مع واقعة تشمخ على قوانين الزمن الصارمة ؟.
إن لليلة عاشوراء من الخصائص ما يجعلها تحقق إمتدادات متنائية النهايات ، ومساحات مترامية الابعاد ، وحجوماً غائرة الاعماق في الوجود الانساني عبر أزمانه المتعددة.
تُرسل الواقعة رسالتها ـ الى هدا الكائن الحساس في زمنه المحصور المهشّم ـ عبر سياق يحفظ للرسالة هويتها وصفاتها ، وهذا السياق هو ـ عملية نقل الوقائع التاريخية المهمة ـ وسيكون هناك نظام إتصال مادّي يؤمّن وصول الواقعة بطزاجتها ونضارتها وحيويتها من المرسل (ليلة عاشوراء) الى المستلم (وهو الشاعر هنا) وستنبري شيفرة محددة خاصة ـ يعرف الشاعر المستلم مفاتيحها ـ لاعادة حدوث الواقعة في ذهن المستلم.
بعد هذا ماالذي سيحدث ؟
هل يصح أن نعدّ المفردات التاريخية لليلة عاشوراء كمواد أولية خام للعملية التحويلية الشعرية التي ستتناولها أم لا ؟
إن مفردات ليلة عاشوراء ـ أحداثاً وشخصيات وحوارات وخِطباً ـ لحظات زمنية خاصة تجاوزة خصوصيتها المشخصة ، وتخطة إثباتها في السجلّ التاريخي لتستمرّ في نفض أغبرة النسيان عنها بنبض حيوي متصاعد لتتواصل ، مع كل اللحظات والازمان الخاصة التي ستعقبها وتليها ، بنداء حيّ متدفق فتخاطب عقولاً وقلوباً لم تعش معها تلك اللحظة التاريخية ولم تعاصرها ولم تتزامن معها.
فهي مواد أوليّة لعملية الكتابة تشعّ إمكانات وقدرة وطاقة هائلة لايمكن أن يحيط بكلياتها متأمل ، ولايستطيع أن يستوعب جزئياتها متفكر ، فنرى الشعراء حيارى بين من يقارب الوثيقة التاريخية بنظمه موثّقاً ، وبين من يستبطن مفرداتها ويدور حولها متصوّراً.
سنقف عند أحد المداخل المتفاعلة مع الليلة ، وهذا المدخل هو الخطاب الذاتي الخاص بالشاعر عندما ينادي ليلة عاشوراء لنرى سمات وصفات وأبعاداً سنحددها تباعاً من مجمل خطابات شعراء المجموعة كالاتي :
أ ـ البعد المأساوي المجرّد :
لابدّ لظاهرة الالم والتوجّع أن تطفو على السطح في الغليان الانساني المنفعل بالقضية الحسينية على وجه العموم ، لكني أقصد هنا حصر الخطاب الشعري لليلة عاشوراء بالصورة العامة للالم والمأساة بدون تفاصيل فنرى الشيخ النصيراوي يخاطبها :
ياليلة الحزن خطّي للنهى علما * فقد كتبناك في أعماقنا ألما
ب ـ البعد المأساوي المتجسّد :
وهو بعد يوضح أثر الليلة على حزن الشاعر ، حيث يتجسد هذا الحزن بصورة دمع يسيل دماً عند الشيخ المنصوري في خطابه لها :
بك ياليلة الوداع الرهيب * سال دمعي دماً لرزء الغريب
أو أن يتجسد جمراً وحرقة في الاكباد عند السيد القزويني :
ليلة العاشر قد خلّفت حتى الحشر في الاكباد جمراً
ج ـ البعد الحركي :
وهو بعد يخاطب فيه الشاعر الليلة كحق مضيّع ، فيسقطها تاريخياً على
الحاضر والمستقبل ليتم التحرك نحو ثارات الامام الحسين (عليه السلام) كما عند السيد مدين الموسوي :
لا تتركي حجراً على حجرِ * ياليلــة الارزاء والكــدر
صبّي على الدنيا وما حملت * من نار غيضك حارق الشرر
ياليلة وقــف الزمـان بها * وجِـلاً يُـدوّن أروع الصور
ونهج الشاعر ناجي الحرز المنهج نفسه لكن بتفصيل بالمطالبة للثارات ليقول :
أليلة يوم عاشــوراء عـودي * بكلّ الصحــوّ والهمم العظام
أعيدي فتحك القــدسيّ زهـواً * حسينيـاً علـى الــداء العقام
وصبي النور فـي شرق وغرب * ولـيس على عــراق أو شآم
لقد عمّ الظـلام وعـاد حيــاً * أبـو سفيان ينفــخ في الظلام
أو أن يتوجه الشاعر لكشف حركية الليلة وما تولّده في الحركة العامة للانسان والكون والحياة كما عند الشيخ مهدي المصلي :
ليلة أسهرت عيــون الليـالـي * لتــرينا عـزائــم الابطال
وتــرينا الـشموس تفترس الليل * لتمحو عصر الليــالي الطوال
وتــرينا التـاريخ أشرق فيــه * عِقــد نـور مُـرصّع باللالي
وترينا الانسان يسمـو على النجم * منــاراً ورجلـه فـي الرمال
وترينا الليل الذي يلـد الفجــر * فيهـوي ظلامــه للــزوال
أو هي حركيّة قيم ومُثُل وتجاوز على ثبات التاريخ في نداء أخلاقي سلوكي كما عند يقين البصري :
ياليلةً يا مخاضَ الدهرِ ياحِقبــاً * قدسيةً يانضالاً مــورقاً ذهبا
ياليلة مـن عـذابـات مطـرّزة * بالكبرياء شطبت المحل والجدبا
ياليلة عمرهـا التاريخ أجمعــه * والمـجدُ أشرفُه بالعزّ ما إكتسبا
أو هي حركية سموّ ورفعة على الزمن بأيامه ولياليه كما عند السيد محمد شعاع فاخر :
اليل سجى في كربلاء أم الحشر ؟ * تسامت به الايام وافتخر الدهر
د ـ البعد الزمني المتقابل :
وهو بعد يقابل فيه الشاعر الليلة مع النهار كمفاهيم زمنية ليُخرِج الليلة من زمنيتها ولحظويتها كما عند الشاعر عبدالكريم آل زرع :
أليلة عاشوراء ياحلكاً شبّا * حنينكِ أدرى من نهارك ماخبّا
أما تقابل صفات الليل والنهار ، فبين السواد والبياض يعرض سعيد العسيلي ذلك :
هي ليلة كانت برغم سوادها * بيضاء تبعث في الهدى تغريدا
هـ ـ البعد التشكيلي :
وهو بعد الاستبطان وإعادة الصياغة والانشاء التصويري للمفردات ، فالليلة تبدو فاجعة في إنعكاسها عند الشيخ علي الفرج ليصفها هكذا :
أنت ياليلة إنخساف المرايا * في وجوه السنين والاحقاب
ويطالب الشاعر جواد جميل الليلة أن تُطفيء شموعه بدم الطفوف في تشكيل صوري بين سيولة الدماء واشتعال الشموع في تقابل (الماء ـ النار) من
العناصر الاربعة في جدلها عندما يخاطب الليلة قائلا :
آهِ ياليلة الاسى والدموعِ * أطفئي في دم الطفوف شموعي
وستنوسع مع أحد أبيات الشاعر جاسم الصحيّح فيما بعد والذي يحقق هذا البعد أيضاً حين يقول :
ياليلة كست الزمان بغابة * من روحها قمرية الادغالِ
إما الشاعر فرات الأسدي فقد خاطب الليلة عبر إخراجها عن دلالتها الزمنية إلى دلالة تشكيلية ملونة بلون النزيف حقق فيها ظاهرة لغوية قرآنية في التلاوة تسمى تعانق الوقف ، فبإمكاننا أن نقرأ بيته التيالي :
فناولي دمه ياليلة عبرت * إلى النزيف جريح الخطو منسكبا
إما أن تكون شبه الجملة ( إلى النزيف ) عائدة إلى ( ياليلة عبرت ) أو عائدة إلى ( فناولي دمه ) لتندمج بذلك حالتا التشكيل الرؤيوية واللفظية كما هو معهود عنده.
القسم الثاني : ظاهرة الاستحضار الحسي
بعد أن يتم الاتصال بين الشاعر ـ في لحظته الزمنية الهشّة.. وبين الواقعة التي تكرّست كموقف وجودي للانسان النوعي في لحظتها الزمنية الخارجة على التسلسل الطبيعي لسيرورة الزمن ـ يقرّر الشاعر أن يشتغل على إستحضار الهيئة الحسيّة أو الشعورية للواقعة ، فيكون هناك مفترق طرق في أساليب التناول والمعالجة.
ولأن الواقعة أرسلت تفاصيلها رسالة إليه (عبر نظام إتصال ماديّ ـ كتب المقاتل والسير والتأريخ عادة ـ ضمن سياق تاريخي حاضر يؤطرها ويحميها ويؤمّن توصيلها كمعنى حيوّي وطازج ، إضافة إلى وجود شفرة شفافة موجّهة ومحفزة لانتباه المتلقي للرسالة) عبر طريق إتصال كتابي ، فسيكون الاشتغال على الوثيقة المكتوبة الناقلة للواقعة كظاهرة لغوية فإما أن يطابقها باستنساخ فوري على ورقة أخرى ـ إن صح التعبير ـ أو أن لا يفعل ذلك ، ولغرض فحض هذه الفرضية سنتعرض ـ على مستوى الامتداد التطبيقي للفرضية ـ إلى محطتين أو موقفين من مواقف ليلة عاشوراء الحافلة بالمواقف لنلاحظ كيف عالج الشعراء هذين الموقفين في شعرهم :
محطة ( اتخاذ الليل جملاً )
نبدأ أولاً بالنص الذي حاور به الامام الحسين (عليه السلام) أصحابه ليلة العاشر من المحرم ليتركوه وحده للاعداء في نص يحمل كلّ أسرار البلاغة العلوية حين قال لهم : (هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً)
فسنرى كيف تناول الشعراء مقطعاً منه تحديداً وإختصاراً وهو نص (فهذا الليل فاتخذوه جملاً) فعند محاولة إستحضاره وإستضافته سيكون هناك إستحضاران للاداء الشعري المقابل في صيغة إعادة إنتاج أو مقاربة متدرجة وهما :
1 ـ الاستحضار اللفظي :
في هذا الجزء من النصّ الاصلي ثلاث كلمات هي (الليل ، فاتخذوه ، جملاً) وبما أن السياق الذي جاءت فيه هذه الكلمات في النص هو سياق الخطاب النثري غير الموزون فسوف يقرّبه الشعراء إلى واقع النظم وفقاً لمتطلبات الاوزان العروضية التي سيستخدمونها ، وسنقسّم هذا الاستحضار اللفظي وفقاً لوجود الكلمات الثلاث الى :
أ ـ لفظي تام :
إستطاع الشعراء أن يستخدموا الكلمات الثلاث فيه ومنهم الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في إرجوزته حيث قال من بحر الرجز :
الليل قد أجنّكم وأقبلا * فاتخذوه للنجاة جملا
وكذلك السيد محد رضا القزويني حيث قال من بحر الرمل :
أقبل الليل ألا فاتخذوه جملاً فالستر أحرى...
ب ـ لفظي ناقص :
إستخدم الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي لفظة (الظلام) بدلاً عن لفظة (الليل) لمقتضيات عروضية إقتضاها النظم على بحر الخفيف فقال :
جنّ هذا الظلام فاتخذوه * جملاً للنجا وأضفى غشاء
ومن بحر الكامل قال السيد محسن الامين في قصيدته (همم على هام النجوم) :
جاء المسا فدعاهمُ قوموا اذهبوا * فالليلُ ستر جهرهُ إخفات
وقال في قصيدته الاخرى بعد أن إستبدل لفظة (الليل) بلفظة (المساء) ولم يذكر الكلمتين الاخريتين :
وأتى المساء وقد تجهّـم وجهه * واليوم محتشد البـلاء عصيب
قال إذهبوا وانجوا ونجّوا أهلـ * بيتي إنني وحدي أنا المطلوب
وقال السيد أحمد العطار بعد إبداله نفس اللفظة بلفظة (الدجى) ولم يذكر غيرها أيضا من بحر الخفيف :
إذهبو فالدجى ستير وما الوقت * هجيراً ولا السبيل خطيرا
وكذلك الشيخ محمد سعيد المنصوري باستبدالها بلفظة (الغروب) ولم يذكر غيرها أيضاً من بحر الخفيف :
قال يا صحبي الكرام وفيتم * فاذهبوا في ظلام هذا الغروب
ومن الشعراء من ذكر لفظة (الليل) دون غيرها كما فعل الشيخ ابن مغامس من بحر الطويل :
ألا فارحلوا فالليل مرخ سدوله * عليكم ومنهاج البسيطة خالِ
وكذلك فعل الشاعر بولس سلامه من بحر الخفيف :
وخذوا عترتي وهيموا بجنح الليل * فالليــل درعــكم للنجــاة
وكذلك الشاعر ابن الخلفة من بحر الكامل :
قوموا بحفظ الله سيروا واغنموا * ليلاً نجاة النفس قــبل فواتــها
وكذلك العسيلي في ملحمته من بحر الكامل :
هذا سواد الليـل مدّ ظلامه * وجناحه من فوقكم مسدول
هيا إذهبوا إن الفلاة وسيعة * وجبالهـا حصن لكم ومقيل
وكذلك الشيخ النصيراوي من بحر البسيط :
ويعجب الناس أن الليل حيـن بدا * يمدّ جنحاً من الظلماء محتدما
قال الحسين لهم : خفّوا على عجل * فمـا سواي أراد المعتدون دما
وممن إستبدل لفظة (الليل) بتركيب (قبل الصبح) الشيخ لطف الله الحكيم فقال من بحر الكامل :
ياقوم من يُردِ السلامة فليجدَّ * السير قبل الصبح وليترحّلِ
2 ـ الاستحضار المعنوي :
جرى التفاعل هنا مع الصورة البصرية لاتخاذ الليل جملا ، فاستحضرت هيئة الركوب المجازية التي قالها الامام الحسين (عليه السلام) ببلاغة التركيب المنتج للمعنى فتمّ للشاعر نزار سنبل باستحضار لفظي ناقص ـ كما أسميناه ـ أن ياتي باستحضار معنوي فيه الكثير من دقة المعنى فقال بعد أن مهّد لقوله بصورة مركبة عن إرتداء الدرب :
إرتدوا الدرب في الخفاء سراعاً * وإركبوا الليل أيّها الازكياء
على أن الشاعر محمد سعيد المناميين يتوسّع مع قرينة الركوب ليفصّلها ويفكّكها الى أدواتها ، ويوصل الركوب الى الامتطاء فيخصصه لان الامتطاء يكون ركوباً على ظهور الحيوانات فقط ليطابق مع لفظة النص (جملا) معنوياً ويستبدل لفظة (الليل) بلفظة (الظلام) وهو المطلوب من الليل في حديث الامام الحسين(عليه السلام).
لكن المناميين يتوغل في مطابقة المعنى بإيراده للفظة (صهوة) وأضاف (الظلام) اليها ، ليحسن لديه جمال التركيب أيضاً أضافة الى الايجاز والتمكّن من حصر كل هذا في مجزوء الخفيف حيث قال :
فامتطوا صهوة الظلامْ * أســرعوا لا تلفّتـوا
محطة (دويّ النحل)
بعد أن رأينا التعامل مع الصورة البصرية فيما سبق سنتناول الان صورة (دويّ النحل) السمعية ، ومع إن إستحضار الواقعة التاريخية يجري عادة على المستوى الشعوري حسّاً وانفعالاً ، فإن الصورة البصرية تكون قريبة الاثر في الاستحضار أكثر من الصورة السمعية لاسباب تتعلق بطبيعة حاسة البصر وقابليتها التخييلية فهي تعطي الانفعال مساحة أوسع من قابلية حاسة السمع على ذلك ، نظراً للمسحة الموضوعية الدقيقة التي تتمتع بها السمعيات.
فالسمع والمسموعات أكثر عقلنة ـ إن صح التعبير ـ من البصر والمرئيات . وفي موضوع معالجتنا للصورة السمعية التي تناولها شعراء المجموعة سنفترض وجود إسلوبين من الاستحضار هما :
1 ـ الاستحضار المقترب :
وهو إستحضار تدرّج في الاقتراب من اللفظ على الاقل وورد على نوعين :
أ ـ مقترب مطابق :
وهو إستحظار جاء فيه التركيب كاملاً (دويّ النحل) مثلما أورده الشيخ هادي كاشف الغطاء في إرجوزته :
لهم دويّ كدويّ النحل * من ذاكر لله أو مصلِّ
وجاء في ملحمة (أهل البيت عليهم السلام ) للشيخ الفرطوسي :
كدويّ النحل ابتهالاً ونجوى * لهم في غياهب الظلماء
أو إستخدام السيد محمد رضا القزويني له في :
ولهم فيها دويّ كدويّ النحل قد غادر وكرا
أو الشيخ محمد حسين الانصاري حين قال :
ودويّ كالنحل في صلوات * لو أتوها على الوجود لزالا
أو السيد الامين في قصيدته (همم على هام النجوم) :
بات الحسين وصحبُه من حوله * ولهم دويّ النحل لمّا باتوا
ب ـ مقترب غير مطابق :
وهو في إستحضار جزء من التركيب لمتطلبات ومقتضيات جعلته هكذا كما في بائية السيد محسن الامين :
باتوا وبات إمامهم ما بينهم * ولهم دويٌّ حوله ونحيب
أو الشيخ محمد سعيد المنصوري عندما أورده ناقصاً :
ثم باتوا لهم دويّ تعالى * بالمناجاة للاله المجيب
وكذلك فعل الشيخ عبد الكريم آل زرع :
يقضّي بها صحب الحسين دُجاهم * دويّاً كمن يُحصي بجارحة تعبى
2 ـ الاستحضار المُزاح :
وهو إستحضار يتمثّل اللحظة جمالياً من خلال طاقتها الصوتية ويتمادى أحياناً في إستخدام جزء صغير من الظاهرة الصوتية وهو إهتزاز الحبال الصوتية فيركّب صورة ذهنية مرتبطة بالجوّ العام لكنها مزاحة بالكامل عن ألفاظها في النص ، مثل هذا الاستخدام ورد في قصيدة فرات الاسدي (الليلة الآخرة) :
عكفت تشحذ للموت نصالا * أو تهزّ الليل ذكراً وابتهالا
أو تتم الازاحة الى ظاهرة صوتية طبيعية أخرى عبر إستحضار مقترب غير مطابق كما عند مهدي المصلّي عندما أزاح النحل عن الدويّ ليشكل صورة أخرى بربطه للدويّ بالنهر في إنشاء تصويري يفيض إيحاءً وترميزاً فيقول :
في دوي كالنهر يملؤه التسبيح * ينساب مــن ربــى شــلال
لكن الإزاحة عند الشيخ علي الفرج جاءت متشابكة مع الأقتراب المطابق حيث استخدم التركيب كاملا ( دوي النحل ) وأضاف اليه ظاهرة الأهتزاز أيضاً ليصورهما في بيت محبوك بحنكة ودراية وتأمل :
عجب أن أرى لديك ( دوي النحل ) * يــهتز مــن إسود الغــاب
وقصارى القول أن التحام الشاعر مع هذه الليلة الجليلة القدر يتم بوجل وخوف وخصوصاً عندما يتم اختيار الشعر لتوثيق الواقعة أو توصيلها بشكلها الشعري ، فكما هو معلوم ، فالشاعر ليس مدوّناً ولا موثقاً ولا مسجلا للأحداث ، لكنه كائن نوعي ينفعل بواقعة عظيمة فيختار أن يوصلها عبر قنوات التعبير الفني والجمالي.