عن علي بن الحسين (عليه السّلام) قال: جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد و ذلك عنه قرب المساء، فدنوت منه لأسمع و أنا مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه:
اتني على اللّه- تبارك و تعالى- أحسن الثناء، و أحمده على السرّاء و الضرّاء، اللهمّ اني أحمدك على أن اكرمتنا بالنبوّة، و علّمتنا القرآن و فقّهتنا في الدين، و جعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدة، و لم تجعلنا من المشركين.
أما بعد؛ فاني لا أعلم أصحابا أولى و لا خيرا من أصحابي، و لا أهل بيت أبرّ و لا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عني جميعا خيرا.
ألا و إنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا و اني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم منّي ذمام، هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملا
ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، و تفرّقوا في سوادكم و مدائنكم حتى يفرّج اللّه، فان القوم انما يطلبوني، و لو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.
ف بدأ القول العبّاس بن علي (عليه السلام) فقال له:
لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا!
ثم إنّ اخوته و أبناء الحسين عليه السّلام و بنى أخيه الحسن عليه السّلام و ابنى عبد اللّه بن جعفر محمد و عبد اللّه تكلموا بهذا و نحوه.
فقال الحسين عليه السّلام: يا بني عقيل: حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا، قد أذنت لكم!
قالوا: فما يقول الناس! يقولون إنّا تركنا شيخنا و سيّدنا و بني عمومتنا خير الأعمام، و لم نرم معهم بسهم، و لم نطعن معهم برمح، و لم نضرب معهم بسيف، و لا ندري ما صنعوا! لا و اللّه لا نفعل، و لكن تفديك أنفسنا و أموالنا و أهلونا، و نقاتل معك حتى نرد موردك! فقبّح اللّه العيش
و قام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال:
أ نحن نخلّي عنك و لمّا نعذر الى اللّه في أداء حقّك! أما و اللّه حتى اكسر في صدورهم رمحي، و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، و لا افارقك، و لو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى اموت معك!
و قال سعيد بن عبد اللّه الحنفي: و اللّه لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أنا حفظنا غيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيك، و اللّه لو علمت اني اقتل ثم احيا ثم احرق حيّا ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا افعل ذلك و إنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا.
و قال زهير بن القين: و اللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتى اقتل كذا ألف قتله، و أن اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!
و تكلّم جماعة أصحابه فقالوا: و اللّه لا نفارقك، و لكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا و جباهنا و أيدينا، فاذا نحن قتلنا كنا وفينا و قضينا ما علينا.
و تكلّم جماعة أصحابه في وجه واحد بكلام يشبه بعضه بعضا .
عن علي بن الحسين بن علي (عليه السّلام) قال: إني جالس في تلك العشيّة التي قتل أبي صبيحتها، و عمّتي زينب عندي تمرّضني، اذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له، و عنده حوىّ مولى أبي ذرّ الغفاريّ، و هو يعالج سيفه و يصلحه، و أبي يقول:
يا دهر افّ لك من خليل كم لك بالإشراق و الاصيل
من صاحب أو طالب قتيل و الدّهر لا يقنع بالبديل
و إنما الأمر الى الجليل و كلّ حيّ سالك سبيلي
فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي و لزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل.
فأمّا عمّتي فانها سمعت ما سمعت- و هي امرأة، و في النساء الرقة و الجزع- فلم تملك نفسها أن و ثبت تجرّ ثوبها- و انها لحاسرة- حتى انتهت إليه، فقالت:
وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة امّي، و عليّ أبي، و حسن أخي، يا خليفة الماضي و ثمال الباقي!
فنظر إليها الحسين عليه السّلام فقال: يا اخيّة! لا يذهبن بحلمك الشيطان!
قالت: بأبي أنت و امّي يا أبا عبد اللّه! أ ستقتل؟ نفسي فداك.
فردّ غصّته و ترقرقت عيناه و قال: لو ترك القطا ليلا لنام!
قالت: يا ويلتى! أ فتغصب نفسك اغتصابا؟! فذلك أقرح لقلبي و أشدّ على نفسي! و لطمت وجهها، و أهوت الى جيبها و شقّته و خرّت مغشيا عليها!
فقام إليها الحسين (عليه السلام) فصبّ على وجهها الماء و قال لها: يا اخيّة: اتقي اللّه و تعزّي بعزاء اللّه، و اعلمي أن أهل الارض يموتون، و أنّ أهل السماء لا يبقون، و أنّ كل شيء هالك إلا وجه اللّه الذي خلق الأرض بقدرته، و يبعث الخلق فيعودون، و هو فرد وحده، أبي خير منّي، و امّي خير منّي، و أخي خير منّي، ولي و لهم و لكلّ مسلم برسول اللّه اسوة.
فعزّاها بهذا و نحوه و قال لها: يا اخيّة! انّي اقسم عليك فأبرّي قسمي: لا تشقّي عليّ جيبا و لا تخمشي عليّ وجها، و لا تدعي عليّ بالويل و الثبور اذا انا هلكت!
ثم جاء بها حتى اجلسها عندي.
و خرج الى اصحابه فأمرهم ان يقرّبوا بعض بيوتهم من بعض، و أن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، و أن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم .
و اتي الحسين عليه السّلام بقصب و حطب الى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه في ساعة من الليل فجعلوه كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب و القصب و قالوا: اذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار، كي لا نؤتى من ورائنا و قاتلنا القوم من وجه واحد .
و لمّا امسى حسين و أصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون و يستغفرون، و يدعون و يتضرّعون.
قال الضحّاك بن عبد اللّه المشرقي الهمداني و هو الذي نجا من أصحاب الحسين عليه السّلام:
فمرّت بنا خيل لهم تحرسنا و انّ حسينا (عليه السلام) يقرأ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 178، 179] فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا فقال: نحن و ربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم! فعرفته، فقلت لبرير بن حضير الهمداني : تدري من هذا؟ قال: لا، قلت: هذا أبو حرب السّبيعي الهمداني عبد اللّه بن شهر، و كان مضحاكا بطّالا، و كان شريفا شجاعا فاتكا، و كان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية!
فقال له برير بن حضير: يا فاسق! أنت يجعلك اللّه في الطيّبين؟!
فقال له ابو حرب: من أنت؟
قال: أنا برير بن حضير.
قال ابو حرب: انّا للّه: عزّ عليّ، هلكت و اللّه، هلكت و اللّه يا برير!
قال برير: يا أبا حرب! هل لك أن تتوب الى اللّه من ذنوبك العظام! فو اللّه إنّا لنحن الطيّبون، و لكنكم لأنتم الخبيثون!
قال ابو حرب مستهزأ: و أنا على ذلك من الشاهدين!
قلت له: و يحك! أ فلا ينفعك معرفتك!
قال ابو حرب: جعلت فداك، فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي و ها هو ذا معي.
قال برير: قبّح اللّه رأيك، على كلّ حال أنت سفيه!
ف انصرف عنّا .
فلما كان يوم عاشوراء- يوم السّبت- صلّى عمر بن سعد صلاة الغداة و خرج فيمن معه من الناس
و كان على ربع أهل المدينة يومئذ: عبد اللّه بن زهير الأزدي و على ربع مذحج و أسد: عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، و على ربع ربيعة و كندة: قيس بن الأشعث بن قيس الكندي، و على ربع تميم و همدان: الحرّ بن يزيد الرّياحي التميمي اليربوعي.
و جعل عمر على ميمنته: عمرو بن الحجاج الزّبيديّ، و على ميسرته شمر بن ذي الجوشن الضبّاب ي الكلاب ي و على الخيل: عزرة بن قيس الاحمسيّ، و على الرّجال: شبث بن ربعيّ الرّياحي التميمي، و أعطى الراية ذو يدا مولاه .
و لما صبّحت الخيل الحسين (عليه السلام) رفع الحسين يديه فقال: اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب، و رجائي في كل شدّة، و أنت لي في كل أمر نزل بي ثقة و عدّة، كم من همّ يضعّف فيه الفؤاد و تقلّ فيه الحيلة، و يخذل فيه الصديق و يشمت فيه العدوّ، انزلته بك و شكوته إليك، رغبة منّي عمّن سواك، ففرّجته و كشفته، فانت وليّ كل نعمة، و صاحب كل حسنة و منتهى كل رغبة و قال الضحّاك بن عبد اللّه المشرقي الهمداني، و هو الذي نجا من أصحاب الحسين (عليه السّلام) : لما اقبلوا نحونا فنظروا الى النار تضطرم في الحطب و القصب الذي كنا الهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض فرسه و هو كامل الأداة، فلم يكلّمنا حتى مرّ على أبياتنا، فنظر الى أبياتنا فاذا هو لا يرى إلا حطبا تلتهب النار فيه، فرجع و نادى بأعلى صوته.
يا حسين! استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة!
فقال الحسين (عليه السلام): من هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن؟!
فقالوا: نعم أصلحك اللّه، هو هو.
فقال: يا ابن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّا!
فقال له مسلم بن عوسجة: يا ابن رسول اللّه جعلت فداك أ لا أرميه بسهم، فانه قد امكننى، و ليس يسقط سهم منى فالفاسق من أعظم الجبّارين!
فقال له الحسين (عليه السلام): لا ترمه، فاني اكره أن أبدأهم .
و لما دنا منه القوم دعا براحلته فركبها، ثم نادى بأعلى صوته يسمع جلّ الناس:
أيّها الناس! اسمعوا قولي، و لا تعجلوني حتى أعظكم بما ي حقّ لكم عليّ، و حتى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فان قبلتم عذري و صدّقتم قولي، و اعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، و لم يكن لكم عليّ سبيل، و ان لم تقبلوا مني العذر، و لم تعطوا النّصف من أنفسكم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196].
فلمّا سمع أخواته كلامه هذا صحن و بكين، و بكى بناته و ارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس بن علي و عليّا ابنه و قال لهما: سكّتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن.
فلما سكتن، حمد اللّه و اثنى عليه و ذكر اللّه بما هو أهله، و صلّى على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و على ملائكته و أنبيائه قال الراوي: فو اللّه ما سمعت متكلّما قط قبله و لا بعده أبلغ في منطق منه. ثم قال:
أمّا بعد: فانسبوني فانظروا من أنا؟! ثم ارجعوا الى أنفسكم و عاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟! أ لست ابن بنت نبيكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ابن وصيّه و ابن عمّه، و أول المؤمنين باللّه و المصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه، أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟!
أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لي و لأخي:هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟!
فان صدّقتموني بما أقول، و هو الحق، فو اللّه ما تعمّدت كذبا مذ علمت أن اللّه يمقت عليه أهله، و يضرّ به من اختلقه ...
و ان كذّبتموني فانّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري .
أو أبا سعيد الخدري .
أو سهل بن سعد الساعدي .
أو زيد بن ارقم .
أو أنس بن مالك .
يخبروكم: أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لي و لأخي، أ فما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!
فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد اللّه على حرف ان كان يدري ما يقول! .
فقال حبيب بن مظاهر: و اللّه اني لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا، و أنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع اللّه على قلبك.
ثم قال لهم الحسين (عليه السلام): فان كنتم في شك من هذا القول، أ فتشكون أثرا بعد؟ أما انّي ابن بنت نبيّكم؟ فو اللّه ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبيّ غيري منكم و لا من غيركم، انا ابن بنت نبيّكم خاصة.
أخبروني، أ تطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال استهلكته؟ أو بقصاص من جراحة؟ فأخذوا لا يكلّمونه ...
فنادى: يا شبث بن ربعي، و يا حجّار بن أبجر، و يا قيس بن الاشعث و يا يزيد بن الحارث، أ لم تكتبوا إليّ: أن قد اينعت الثمار و اخضرّ الجناب، و طمّت الجمام و انما تقدم على جند لك محنّد، فاقبل؟!
فقال: سبحان اللّه! بلى و اللّه لقد فعلتم. ثم قال: أيها الناس! اذ كرهتموني فدعوني انصرف عنكم الى مأمني من الارض!
فقال له قيس بين الاشعث: أو لا تنزل على حكم بني عمّك! فانهم لن يروك إلا ما تحب، و لن يصل إليك منهم مكروه!
فقال الحسين (عليه السلام): أنت أخو أخيك محمد بن الاشعث أ تريد ان يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟! لا و اللّه لا اعطيهم بيدى اعطاء الذليل، و لا اقرّ اقرار العبيد! .
عباد اللّه {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27] .
ثم رجع ف أناخ راحلته، و أمر عاقبة بن سمعان فعقلها .
ثم خرج زهير بن القين على فرس ذنوب شاك في السلاح، فقال: يا اهل الكوفة! نذار لكم من عذاب اللّه نذار! انّ حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، و نحن حتى الآن اخوة و على دين واحد و ملة واحدة ما لم يقع بيننا و بينكم السيف، و انتم للنصيحة منّا أهل، فاذا وقع السيف انقطعت العصمة و كنّا أمّة و أنتم أمّة.
إن اللّه قد ابتلانا و اياكم بذرية نبيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لينظر ما نحن و أنتم عاملون، انّا ندعوكم الى نصرهم و خذلان الطاغية عبيد اللّه بن زياد، فانكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كلّه، ليسملان اعينكم، و يقطّعان ايديكم و ارجلكم، و يمثّلان بكم، و يرفعانكم على جذوع النخل، و يقتلان أماثلكم و قرّاءكم: أمثال حجر بن عديّ و اصحابه، و هانئ بن عروة و اشباهه.
فسبّوه و أثنوا على عبيد اللّه بن زياد و دعوا له و قالوا: و اللّه لا نبرح حتى نقتل صاحبك و من معه، أو نبعث به و بأصحابه الى الامير عبيد اللّه سلما!
فقال لهم: عباد اللّه، إنّ ولد فاطمة رضوان اللّه عليها أحق بالودّ و النصر من ابن سميّة فان لم تنصروهم فاعيذكم باللّه أن تقتلوهم، فخلّوا بين الرجل .
و كان يزيد بن مفرّغ الحميري مع عبّاد بن زياد أخي عبيد اللّه في حروب سجستان فأصابهم ضيق فهجا ابن المفرّغ عبّادا فقال:
إذا اودى معاوية بن حرب فبشر سعب قعبك بانصداع
فاشهد ان امّك لم تباشر أبا سفيان واضعة القناع
و لكن كان أمرا فيه لبس على وجل شديد و ارتياع
و قال:
ألا أبلغ معاوية بن حرب مغلغلة من الرجل اليمانى
أ تغضب أن يقال: أبوك عفّ و ترضى ان يقال: ابوك زانى
فاشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الأتان
و قدم رجل من آل زياد يقال له: الصغدي بن سلم بن حرب، على المهدي العباسي و هو ينظر المظالم، فقال له: من أنت؟ قال: ابن عمّك! قال: ايّ ابن عمّي أنت؟! فانتسب الى زياد! فقال له المهديّ: يا ابن سميّة الزانية! متى كنت ابن عمّي؟! و أمر به فوجئ عنقه و اخرج.
ثم التفت المهدي الى من حضر فقال: من عنده علم من آل زياد؟ فلم يكن عند احد منهم شيء، فلحق منهم رجل يدعى عيسى بن موسى أو موسى بن عيسى بأبي علي سليمان، فسأله أن يكتب له كل ما يحدّث به في زياد و آل زياد، حتى يذهب به الى المهدي، فكتبه و بعث به إليه.
و كان هارون الرشيد اذ ذاك والي البصرة من قبل المهدي، فأمر المهدي بالكتاب الى هارون الرشيد يأمره أن يخرج آل زياد من ديوان قريش و العرب، فكان فيما كتب أنه قال:
و قد كان من رأي معاوية بن ابي سفيان في استلحاقه زياد بن عبيد- عبد آل علاج من ثقيف- و ادعائه ما أباه- بعد معاوية- عامة المسلمين و كثير منهم في زمانه، لعلمهم بزياد و أبي زياد و امّه، من أهل الرضا و الفضل و الورع و العلم.
و بين ابن عمّه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضي من طاعتكم بدون قتل الحسين (عليه السلام).
فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم و قال: أسكت، اسكت اللّه نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك!
فقال له زهير: يا ابن البوّال على عقبيه ما ايّاك اخاطب، إنما أنت بهيمة! و اللّه ما اظنّك تحكم من كتاب اللّه آيتين! فابشر بالخزي يوم القيامة و العذاب الأليم!
فقال له شمر: ان اللّه قاتلك و صاحبك عن ساعة!
قال: أ فبالموت تخوّفني! فو اللّه للموت معه احبّ إليّ من الخلد معكم!
ثم أقبل على الناس رافعا صوته فقال:
عباد اللّه! لا يغرنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي و اشباهه، فو اللّه لا تنال شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوما هراقوا دماء ذريّته و أهل بيته، و قتلوا من نصرهم و ذبّ عن حريمهم!
فناداه رجل فقال له: إنّ أبا عبد اللّه يقول لك: أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه و أبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء و ابلغت، لو نفع النصح و الإبلاغ!
توبة الحرّ الرّياحي
و لما زحف عمر بن سعد قال له الحرّ بن يزيد: أصلحك اللّه! مقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: اي و اللّه قتالا أيسره ان تسقط الرءوس و تطيح الأيدي!
قال: أ فما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا؟
قال عمر بن سعد: أما و اللّه لو كان الامر إليّ لفعلت، و لكن أميرك قد أبى ذلك!
فأقبل الحرّ حتى وقف من الناس موقفا، و معه رجل من قومه يقال له:
قرّة بن قيس فقال: يا قرة! هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: انما تريد ان تسقيه؟
قال (قرّة): فظننت- و اللّه- أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، و كره أن أراه حين يصنع ذلك فيخاف أن ارفعه عليه، فقلت له: لم اسقه و أنا منطلق فساقيه. فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه، فو اللّه لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه الى الحسين (عليه السلام).
و أما الحرّ فانه أخذ يدنو من حسين (عليه السلام) قليلا قليلا، فقال له رجل من قومه يقال له: المهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد؟ أ تريد ان تحمل؟ فسكت و اخذه مثل العرواء فقال له: يا ابن يزيد؟ و اللّه إنّ أمرك لمريب، و اللّه ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، و لو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة رجلا ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك!؟
قال: إني- و اللّه- اخيّر نفسي بين الجنّة و النار، و و اللّه لا أختار على الجنّة شيئا و لو قطّعت و حرّقت!
ثم ضرب فرسه فلحق بحسين (عليه السلام) فقال له:
جعلني اللّه فداك يا ابن رسول اللّه! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع و سايرتك في الطريق، و جعجعت بك في هذا المكان، و اللّه الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا، و لا يبلغون منك هذه المنزلة فقلت في نفسي: لا ابالي ان اطيع القوم في بعض أمرهم، و لا يرون أنّي خرجت من طاعتهم، و أمّاهم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، و و اللّه لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، و انّي قد جئتك تائبا مما كان مني الى ربّي و مواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أ فترى ذلك لي توبة؟!
قال الامام عليه السّلام: نعم، يتوب اللّه عليك، و يغفر لك، ما اسمك؟
قال: أنا الحرّ بن يزيد
قال: أنت الحرّ كما سمّتك امّك، أنت الحرّ إن شاء اللّه في الدنيا و الآخرة.
- انزل.
قال: أنا لك فارسا خير مني لك راجلا، اقاتلهم على فرسي ساعة و الى النزول ما يصير آخر أمري!
قال الحسين (عليه السلام): فاصنع ما بدا لك.
فاستقدم أمام أصحابه ثم قال: أيها القوم! أ لا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم اللّه من حربه و قتاله؟
قالوا: هذا الامير عمر بن سعد فكلّمه.
فكلّمه بمثل ما كلّمه به قبل، و بمثل ما كلّم به أصحابه.
قال عمر بن سعد: قد حرصت، لو وجدت الى ذلك سبيلا فعلت.
فقال: يا أهل الكوفة! لامكم الهبل و العبر ، إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه! و زعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه و أخذتم بكظمه، و أحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجّه في بلاد اللّه العريضة حتى يأمن و يأمن أهل بيته، و أصبح في أيديكم كالأسير، لا يملك لنفسه نفعا و لا يدفع ضرّا، و حلأتموه و نساءه و صبيته و أصحابه عن ماء الفرات الجاري، الذي يشربه اليهوديّ و المجوسيّ و النصراني، و تمرّغ فيه خنازير السواد و كلابه، و ها هم اولاء قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريّته! لا سقاكم اللّه يوم الظّمأ ان لم تتوبوا و تنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه .
فحملت عليه رجّالة لهم ترميه بالنّبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين (عليه السلام)
و كان يزيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عمر بن سعد الى الحسين، فلما ردّوا الشروط على الحسين (عليه السلام) مال إليه فهو ممن اهتدى يوم عاشوراء بخطبة الحرّ الرياحى.