كانت سياحةً ممتعةً في الأخلاق الحسينيّة الشريفة ؛ حيث تعرّفنا فيها على بعض فضائل مولانا سيّد الشهداء أبي عبد الله السبط , سيّدِ شبابِ أهل الجنَّة الإمام الحسين بن عليّ , ابن فاطمةَ بنت النبيّ المصطفى (صلوات الله عليهم أجمعين) .
ولم يَنتهِ بعدُ ما في أيدينا ممَّا حفِظتْه بطونُ كتبِ المناقب والفضائل والخصائص ونقله الرواة والمؤرِّخون وكُتَّابُ السير من أهل الإسلام على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم ومشاربهم ؛ لذا رغِبْنا أن نَعرض ـ وبشكلٍ مختصرٍ وعاجل ـ خصالاً اُخرى للإمام الحسين (عليه السّلام) , وهي :
1 ـ العَفْوُ الحُسَينِيّ
والعفو هو ضدُّ الانتقام , وهو إسقاطُ ما يستحقُّه من قصاصٍ أو غرامة (1) . وقد وردت في كتاب الله العزيز آيات كثيرة تدعو إلى العفو
وترغِّبُ فيه , منها قولُه تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف : 199], وقوله (عزَّ مِن قائل) : {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة : 237], وقولُه (عزَّ وجلَّ) : {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور : 22].
أمَّا من الأحاديث فقد ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنَّه قال : (( العفوُ لا يزيد العبدَ إلاَّ عِزَّاً ؛ فاعفُوا يُعزَّكمُ الله(2) . مَن عفا عن مظلمةٍ أبدله الله بها عزَّاً في الدنيا والآخرة(3) . عليكم بمكارم الأخلاق ؛ فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) بعثني بها , وإنَّ مِن مكارم الأخلاق أنْ يعفوَ الرجلُ عمَّنْ ظلمَه , ويُعطيَ مَنْ حرمَه , ويَصلَ مَنْ قطعَه , وأنْ يعودَ مَنْ لا يعودُه ))(4) .
ورُوي عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) أنَّه قال : (( العفوُ تاجُ المكارم(5) . شيئانِ لا يوزن ثوابهما ؛ العفوُ والعدل ))(6) .
وقال (سلام الله عليه) : (( أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم , فما يعثر منهم عاثر إلاّ ويدُ الله بيده يرفعُه ))(7) . كذا قال (صلوات الله عليه) : (( إنَّما ينبغي لأهل العصمةِ والمصنوعِ إليهم في السلامة أنْ يرحموا أهلَ الذنوب والمعصية , ويكونَ الشكرُ هو الغالبَ عليهم ))(8) .
وجاء عنه (عليه السّلام) أيضاً قولُه : (( إذا قدرتَ على عدوّك فاجعلِ العفوَ عنه شكراً للقدرةِ عليه ))(9) .
وقوله : (( بالعفوِ تنزل الرحمة ))(10) .
والإمام الحسين (عليه السّلام) هو الملبّي لنداء الله تعالى في كلِّ دعوةٍ إلى خُلُقٍ فاضلٍ حميد , وهو أتقى الناس وأولى منهم بالفضائل , ومنها العفو . وهو العزيزُ النفس والجانب بالعفوِ عن المخطئين , وغير ذلك من مكارمِ الأخلاق حتَّى عفا عمَّن ظلمَه , وأعطى مَنْ حرمه , ووصلَ مَن قطعهُ , وعادَ مَن لم يعدْه .
وقد أقالَ عثراتِ الناس جزاءً على مروءاتهم , ورحمةً بحالهم , وتجاوز بعصمته المقدّسة عن ذنوبهم ومعاصيهم , وكان قادراً أنْ يعاقب فعفا , كجدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) حين قال لأهل مكّة : (( اذهبوا فأنتمُ الطلقاء )) , من بعد ما آذَوه أشدَّ الإيذاء .
وصدرَ عفوه عن مقدرة فكان أحسنَ العافين , وهو القائل (عليه السّلام) : (( إنَّ أعفى الناس مَنْ عفا عند قدرته ))(11) .
روى ابنُ الصبَّاغ المالكيّ : جنى بعضُ أقاربه جنايةً تُوجب التأديب , فأمر بتأديبه , فقال : يا مولاي , قال الله تعالى : (والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) .
قال (عليه السّلام) : (( خلُّوا عنه , فقد كظمتُ غيظي )) .
فقال : (وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ) .
قال (عليه السّلام) : (( قد عفوتُ عنك )) .
فقال : (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .
قال : (( أنتَ حُرٌّ لوجه الله تعالى )) . وأجازه بجائزة سَنيّة(12) .
وفي رواية الإربلي في كشف الغمّة(13) : قال (عليه السّلام) : (( أنتَ حُرٌّ لوجه الله , ولكَ ضِعفُ ما كنتُ اُعطيك )) .
فكان عفوُ الحسين (سلام الله عليه) :
أوَّلاً : مكافئة هنيئة على ذلك الغلام ؛ لأنَّه استعانَ بالقرآنِ
الكريم , وخاطب به سيّدَ الأخلاق معوِّلاً على كرمه وعفوه , فلم يُخيّبْه الإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه) , بل صفحَ عنه , ثمّ قدَّمَ له هديَّتينِ ؛ الاُولى العتق , وأيُّ هديَّة تلك ! والثانية عطاءٌ مضاعفٌ أو جائزةٌ سنيّة يستعين بها على العيش الحرّ الكريم .
فجمع الإمامُ الحسين (عليه السّلام) أكثرَ مِن خلُق ؛ العفو والتعليم والكرم , وتلك هي أخلاقُه (سلام الله عليه) متعدّدةٌ في الموقف الواحد , متداخلةٌ فيما بينها لا تدري أيّاً منها تُشير إليها .
ثانياً : كان عفوُ الحسين (عليه السّلام) تأديباً وإصلاحاً لذلك الغلام , وإعطاءً لفرصةٍ يستدرك بها خطأَه , ويستفيد من رحمةِ الإمام الحسين (عليه السّلام) وعفوه وحلمه .
ثالثاً : كان عفوه (سلام الله عليه) عن قدرة شكرَها لله تعالى بالعفوِ عن عباده , وإلاّ كان من حقّه (عليه السّلام) أن يعاقب , إلاّ أنَّه اختار العفو بحكمته , وبلطفه ورحمته .
رابعاً : لم يكن عفوُه (عليه السّلام) مجرَّد عفو , أي مجرَّد إسقاطِ حقٍّ من قصاص , بل كان إضافةً إلى ذلك صفحاً جميلاً , والصفحُ الجميل في قوله تعالى : {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر : 85] هو العفوُ من غير عتاب كما قال الإمام الرضا (عليه السّلام)(14) , أو هو كما قال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( عفواً مِن غير عقوبة , ولا تعنيف , ولا عتب ))(15) .
ولم يجمعِ الإمامُ الحسين (عليه السّلام) ذلك فحسب , إنَّما أضاف إليه الجائزةَ السنيّة ورحمةَ الحرِّيَّة .
وفي كلّ مواقفه (سلام الله عليه) كان يقدِّم عفوَه على غضبه , ويعرضُ العفوَ على مبغضيه وأعدائه علَّهم يهتدون , وإلى الحقِّ يؤوبون , وعن الباطل والضلال يرجعون , ومن فرصةِ السلام يستفيدون .
وهذا من الرحمةِ الحسينيّة التي استفاد منها الحرُّ بنُ يزيد الرياحيّ (رضوان الله عليه) ؛ إذ لمّا سمع كلامَ الحسين (عليه السّلام) , ودعوتَه الحقَّة أقبل على عمر بنِ سعد وقال له : أمُقاتلٌ أنتَ هذا الرجل ؟
قال عمر : إي والله قتالاً أيسرُه أنْ تسقط فيه الرؤوس , وتطيحَ الأيدي .
فقال الحرّ : ما لكم في ما عرضه عليكم من الخصال ؟
فقال عمر : لو كان الأمرُ إلَيَّ لقبِلتُ , ولكنَّ أميرَكَ أبى ذلك .
فتركه الحرُّ ووقف مع الناس , وكان إلى جنبهِ قُرَّةُ بنُ قيس , فقال لقُرّة : هل سقيتَ فرسَكَ اليوم ؟
قال : لا .
قال : فهل تُريد أن تَسقيه ؟
فظنَّ قُرَّةُ مِن ذلك أنَّه يُريد الاعتزال ويكرهُ أن يشاهدَه , فتركه , فأخذ الحرُّ يدنو من الحسين قليلاً , فقال له المهاجرُ بنُ أوس : أتريد أن تحمل ؟
فسكتَ الحرُّ , وأخذتْه الرعدة , فارتاب المهاجرُ مِن هذا الحال , وقال له : لو قيل لي : مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفةِ لما عدوتُك , فما هذا الذي أراه منك ؟!
فقال الحرّ : إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنَّةِ والنار , والله لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً ولو حُرِّقتُ .
ثمَّ ضرب جوادَه نحو الحسين(16) ؛ منكِّساً رمحَه , قالباً ترسَه , وقد طأطأ برأسِه حياءً مِنْ آل الرسول بما أتى إليهم , وجعجعَ بهم في هذا المكان على غير ماءٍ ولا كلأ , رافعاً صوته : اللَّهمَّ إليك اُنيب فتُبْ عَلَيَّ ؛ فقد أرعبتُ قلوبَ أوليائك وأولادِ نبيِّك . يا أبا عبد الله , إنّي تائب , فهل لي من توبة .
فقال الحسين (عليه السّلام) ـ وهو العفوُّ ـ : (( نعم , يتوبُ الله عليك ))(17) .
فسرَّه قولُه , وتيقَّنَ الحياةَ الأبديَّةَ والنعيمَ الدائم , ووضح له قولُ الهاتف لمّا خرج من الكوفة , فحدّثَ الحسينَ (عليه السّلام) بحديثٍ قال فيه : لمّا خرجتُ من الكوفة نُوديتُ : أبْشِرْ يا حُرُّ بالجَنَّةِ . فقلتُ : ويلٌ للحرِّ ! يُبشَّرُ بالجنَةِ وهو يسير إلى حرب ابن بنتِ رسول الله(18) !
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( لقد أصبتَ خيراً وأجراً )) . وكان مع الحرّ غلامٌ له تركيّ(19) .
ثمَّ استأذنَ الحرُّ الحسينَ (عليه السّلام) في أنْ يكلِّمَ القوم , فأذِنَ له , فنادى بأعلى صوته : يا أهل الكوفة , لأمَّكم الهبل والعبر ! إذْ دعوتموه وأخذتُم بكظمه , وأحطْتُم به من كلِّ جانب فمنعتموه التوجّهَ إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمَنَ وأهلُ بيته , وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً , وحَلأْتُموه ونساءَه وصبيتَه وصَحبَه عن ماءِ الفراتِ الجاري الذي يشربه اليهودُ والنصارى والمجوس , وتمرغ فيه خنازير السوادِ وكلابُه , وها هم قد صرعهمُ العطش , بئسما خلفتُم محمَّداً في ذرّيّته ! لا سقاكمُ اللّهُ يومَ الظمأ .
فحملتْ على الحرّ رجَّالةٌ ترميه بالنبل , فتقهقر حتّى وقفَ أمامَ الحسين (عليه السّلام)(20) .
وهكذا يتحوّل الحرّ ببركة عفو سيّده الحسين (عليه السّلام) إلى صفّ الإيمان والحقّ , والجهاد والشهادة , ويعلو صوتُه بدعوةِ أهل الكوفة إلى المعروف , ونهيهم عن منكرهم وضلالهم في قتالهم لسيّد شباب أهل الجنّة (عليه السّلام) .
وبعد شهادة حبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه) خرج الحرُّ بن يزيد الرياحيّ ومعه زهيرُ بنُ القين يحمي ظهرَه , فكان إذا شدَّ أحدُهما واستلحم شدَّ الآخرُ واستنقذه ففعلا ساعة(21) , وإنَّ فرس الحرّ لمضروب على اُذُنَيه وحاجبَيْه , والدماءُ تسيل منه , وهو يتمثّل بقول عنترة :
ما زلتُ أرميهم بثغرةِ نحرِه ولبانه حتّى تسربل بالدمِ
فقال الحصين ليزيد بن سفيان : هذا الحرُّ الذي كنتَ تتمنّى قتله .
قال : نعم .
وخرج إليه يطلب المبارزة , فما أسرع أن قتله الحرّ , ثمّ رمى أيُّوبُ بنُ مشرح الخيوانيّ فرسَ الحرّ فعقره , وشبّ به الفرس فوثب عنه كأنَّه ليث (22) , وبيده السيف , وجعل يقاتل راجلاً حتّى قتل نيّفاً وأربعين (23) , ثمَ شدَّتْ عليه الرجَّالةُ فصرعته , وحمله أصحابُ الحسين (عليه السّلام) ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلونَ دونه , وهكذا يُؤتى بكلّ قتيل إلى هذا الفسطاط , والحسينُ (عليه السّلام) يقول : (( قتلةٌ مْثلُ قتْلةِ النبيِّينَ وآل النبيّين ))(24) .
ثمَّ التفتَ (عليه السّلام) إلى الحرّ , وكان به رمق , فقال له وهو يمسح الدمَ عنه : (( أنت الحرّ كما سمّتْك اُمُّك , وأنت الحرُّ في الدنيا والآخرة )) .
ورثاه رجل من أصحاب الحسين (عليه السّلام) , وقيل : عليُّ بن الحسين (عليه السّلام)(25) , وقيل : إنَّها من إنشاء الحسين (عليه السّلام)
خاصّة (26) :
لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَني رِياحِ صبورٌ عندَ مشتَبكِ الرماحِ
وَنِعْمَ الحرُّ إذْ فادى حسين وجاد بنفسه عند الصباحِ
2 ـ الحِلْمُ الحُسَينِيّ
والحلم هو طمأنينةُ النفس , بحيث لا يُحرِّكها الغضب بسهولة , ولا يزعجُها المكروهُ بسرعة ؛ فهو الضدُّ الحقيقيُّ للغضب ؛ لأنَّه المانعُ من حدوثِه وبعدَ هيجانه .
والحلم أشرفُ الكمالاتِ النفسيّة بعد العلم , بل لا ينفع العلمُ بدونه أصلاً ؛ ولذا كلّما يُمدح العلمُ أو يُسأل عنه يُقارَنُ به . قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( اللَّهمَّ أغنني بالعلْم , وزيِّنِّي بالحلْم )) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ الله يُحِبُّ الحيّيَ الحليم )) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( ما أعزَّ الله بجهلٍ قطّ , ولا أذلَّ بحلمٍ قطّ )) .
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( ليس الخيرُ أن يكثر مالُك ووُلْدُك , ولكنَّ الخيرَ أن يكثُرَ علمُك ويَعظُمَ حِلْمُك )) .
وقال عليُّ بنُ الحسين (عليهما السّلام) : (( إنَّه لَيُعجبُني الرجلُ أن يُدركَه حِلْمُه عند غضبه )) .
وقال الرضا (عليه السّلام) : (( لا يكون الرجلُ عابداً حتّى يكون حليماً ))(27) .
والحلم ـ كما يرى علماءُ الأخلاق ـ من آثارِ قوّةِ النفسِ وشجاعتِها , ولا يُعرف إلاّ في الموقف الصعب أو حالةِ الهيجان . قال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ثلاثة لا تُعرف إلاّ في ثلاثة مواطن ؛ لا يُعرف الحليم إلاّ عند الغضب , ولا الشجاع إلاّ عند الحرب , ولا أخٌ إلاّ عند الحاجة ))(28) .
والحاجات تختلف ؛ فمنها معنويّةٌ أخلاقيّة ؛ إذ قد يحتاج الأخُ من أخيه أن يعفوَ عنه ويصفح , وأن يحلمَ عليه ولا يغضب . والشجاعة لا تقتصر على قوّةِ البدن واندفاعه في ساحةِ القتال ؛ إذ منها إمساكُ النفس عن الغضب كما هو منها إمساكُ النفس عن الخوف والجُبن والوهن .
سألَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) يوماً أصحابَه : (( ما الصرعةُ فيكم ؟ )) .
قالوا : الشديدُ القويُّ الذي لا يُوضَعُ جنبُه .
فقال : (( بل الصرعةُ حقّ الصرعة رجلٌ وكزَ الشيطانَ في قلبه , واشتدّ غضبُه وظهر دمُه , ثمَّ ذكرَ الله فصرعَ بحِلْمِه غضبَه ))(29) .
وفي رواية أنَّه (صلّى الله عليه وآله) خرج وقومٌ يُدحرجون حجر , فقال : (( أشدُّكم مَنْ ملكَ نفسَه عند الغضب , وأحلمُكم مَنْ عفا بعدَ المقدرة ))(30) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( ليس الشديد بالصرعة , إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسَه عند الغضب ))(31) .
وجاء عن مولانا الإمام عليّ (عليه السّلام) أنّه قال : (( أقوى الناس مَن قوِيَ على غضبهِ بحِلْمِه ))(32) .
ورُوي عن مولانا الإمام الباقر (عليه السّلام) قولُه : (( لا قُوَّةَ كَرَدِّ الغَضَبِ ))(33) .
وصورة من صور الحلم الحسينيّ الشريف ما رواه للتاريخ عصام بن المصطلق , حيث قال : دخلتُ المدينةَ فرأيتُ الحسينَ بنَ عليّ (عليه السّلام) فأعجبني سمْتُه ورواؤُه , وأثارَ مِن الحسدِ ما كانَ يُخفيهِ صدري لأبيهِ من البُغض , فقلتُ له : أنتَ ابنُ أبي تراب ؟
فقال : (( نعم )) .
قال عصام : فبالغتُ في شتمِه وشتمِ أبيه (نعوذ بالله) , فنظر إلَيَّ نظرةَ عاطفٍ رؤوف , ثمّ قال : (( أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمنِ الرحيم , {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف : 199 - 202] )) .
قال عصام : ثمّ قال لي : (( خفّضْ عليك , أستغفر الله لي ولك , إنَّكَ لوِ استعنتَنا لأعنّاك , ولوِ استرفدتنا لرفدناك , ولوِ استرشدتنا لرشدناك )) .
قال عصام : فتوسّم منّي الندمُ على ما فرط منّي , فقال : (({لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف : 92] . أمِن أهل الشامِ أنت ؟ )) .
قلتُ : نعم .
فقال : (( شنشنةٌ أعرفُها مِن أخزمِ . حيّانا الله وإيّاك , انبسطْ إلينا في حوائجك وما يعرضُ لك تجدني عند أفضلِ ظنِّكَ إنْ شاء الله تعالى )) .
قال عصام : فضاقتْ عَلَيَّ الأرضُ بما رحُبتْ , ووددتُ لو ساختْ بي , ثمَّ سللْتُ منه لواذاً وما على الأرضِ أحَبُّ إلَيَّ منه ومِن أبيه(34) .
فبالحلم أعزّ الإمامُ الحسين (عليه السّلام) نفسَه وأكرمَها , وأنقذ هذا المسكين الذي أثّرتْ عليه دعاياتُ وافتراءاتُ بني اُميّة ضدَّ أهلِ بيت العصمة والطهارة (صلوات اللَّه عليهم) , حتّى إذا التقى بأحدهم ـ وهو الحسين (سلام اللَّه عليه) ـ وجدَ خلُقاً رفيعاً , وحلْماً عظيماً , وصدْراً رحباً واسعاً يتحمّل إساءاتِ الآخرين حتّى السبَّ منه .
وقد قال (عليه السّلام) وهو الصادق , كما روى الزرنديُّ الحنفيّ في كتابه (نظم درر السمطين)(35) : (( لو شتمني رجلٌ في هذه الأذُن ـ وأومى (عليه السّلام) إلى اليُمنى ـ واعتذر لي في الاُخرى لقبِلْتُ ذلك منه ؛ وذلك أنَّ أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالب (رض) حدّثني أنه سمع جَدّي رسولَ اللَّه (صلّى الله عليه وآله) يقول : لا يرِد الحوضَ مَنْ لم يقبلِ العُذرَ من مُحقٍّ أو مُبطل )) .
لقد كان صدرُ الإمام الحسين (عليه السّلام) صدراً حليماً بحقّ , تحمّلَ وصبر وحلم على شتم الشاتمين , ولكن كيف يحقُّ لمسلمٍ أن يسبَّ مَن قال فيه رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله) : (( حسين منّي وأنا مِن حسين )) كما روى الترمذي في صحيحه(36) , وابنُ ماجة في الفضائل(37) , والهندي في كنز العمال(38) , وأحمد بنُ حنبل في مسنده(39) , وغيرُهم كثير(40) ؟!
ألا بعد هذا أنَّ شتمَ الإمام الحسين (عليه السّلام) , وهو مِن رسول اللَّه ورسولُ اللَّه منه , أنّه شتمٌ لرسولِ اللَّه (صلّى الله عليه وآله) ؟!
وهذا ما بدا من جيش يزيد بن معاوية بقيادة عبيد اللَّه بن زياد , وتنفيذ عمر بن سعد , وعلى ألسنةِ المرتزقة الذين لم يكفهم أنْ رماه أبو الحتوف الجعفيّ بسهم في جبهة الحسين (عليه السّلام) , ورماه رجلٌ بحجر في جبهته المقدسةِ أيضاً , ورماه آخَرُ بسهمٍ محدّدٍ له ثلاثُ شعب وقع في قلبه المقدِّس للَّه (عز ّوجلّ) , فأعياه نزفُ الدم , فجلس على الأرض ينوء برأسه , لم يكفهم هذا حتّى انتهى إليه في تلك الحال مالكُ بنُ النسر فشتمه , ثم ضربه بالسيف على رأسه , وكان عليه برنسٌ فامتلأَ البرنسُ دماً(41) .
فيالَحلم الحسين ! ويالحلم اللَّه ! وللَّه درُّ الحسين (سلام اللَّه عليه) وهو على تلك الحالة يُخرج السهمَ مِن قفاه , فينبعث الدمُ كالميزاب(42) , ويضع يدَه تحت الجراح , فإذا امتلأتْ رمى به نحو السماء وقال : (( هوّنَ عَليَّ ما نزل بي أنّه بعين اللَّه )) . فلم يسقط مِن ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض(43) .
3 ـ المروءة الحسينيّة
والمروّة أو المروءة خلُقٌ يحمل عدّةَ معانٍ إنسانيّة وسلوكية , نستطيع أن نتبيّن ذلك من خلال الأحاديث الشريفة :
قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) لرجلٍ من ثقيف : (( يا أخا ثقيف , ما المروءةُ فيكم ؟ )) .
قال : يا رسول اللَّه , الإنصافُ والإصلاح .
قال : (( وكذلك هي فينا ))(44) .
وجاء عن الإمام عليّ (عليه السّلام) أنّه قال : (( ثلاثٌ هنّ جماعُ المروءة ؛ عطاءٌ مِن غير مسألة , ووفاءٌ مِن غير عهد , وجودٌ مع إقلال(45) . على قدْرِ شرف النفس تكونُ المروءة ))(46) .
وخرج (عليه السّلام) على أصحابه وهم يتذاكرون المروّة , فقال : (( أين أنتم مِن كتاب اللَّه (عزّ وجلّ) ؟ )) .
قالوا : يا أمير المؤمنين , في أيّ موضع ؟
فقال : (( في قوله (عزّ وجلّ) : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) ؛ فالعدل : الإنصاف , والإحسان : التفضّل ))(47) .
وقال (سلام اللَّه عليه) : (( المروّة اسم جامع لسائر الفضائل والمحاسن ))(48) .
وسألَ معاويةُ الحسنَ بنَ عليٍّ (عليه السّلام) عن الكرم والمروءة , فقال : (( أمّا الكرم فالتبرعُ بالمعروف , والإعطاءُ قبل السؤال , والإطعامُ في المحلّ ؛ وأمّا المروءة فحفظُ الرجلِ دينَه , وإحرازُ نفسِه مِن الدنس , وقيامه بضيفه , وأداء الحقوق , وإفشاء السّلام ))(49) .
وقال عبد الرحمن بن عباس , رفعه , قال : سأل معاويةُ الحسنَ بن عليّ (عليهما السّلام) عن المروّة , فقال : (( شُحُّ الرجلِ على دينه , وإصلاح ماله , وقيامُه بالحقوق )) .
فقال معاوية : أحسنت يا أبا محمّد , أحسنتَ يا أبا محمّد .
فكان معاوية يقول بعد ذلك : وددتُ أنَّ يزيدَ قالها وإنه كان أعور(50) .
وسُئل الإمام الحسن (عليه السّلام) : ما المروّة ؟
فقال : (( حفظُ الدين , وإعزازُ النفس , ولين الكنف , وتعهّدُ الصنيعة , وأداء الحقوق , والتحبّبُ إلى الناس ))(51) .
ورُويَ عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قولهُ : (( الفتوّةُ والمروّة : طعامٌ موضوع , ونائلٌ مبذول , واصطناعُ المعروف , وأذىً مكفوف ))(52) .
إلى ما يقرب من ذلك مِن معاني العفّة والشهامة , والتفضّل والرحمة , والإحسان والإصلاح , وإكرام النفس وإعزازها , والترفع عن الخسّةِ والدناءةِ والرذيلة .
والآن نأتي إلى مروءة الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) لنرى ماذا أبقى للناس مِن منزلتها :
فممّا روي فيها ما رواه القوم , منهم الحافظ محمد بن جرير الطبريّ في تاريخ الاُمم والملوك(53) قال : وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة , والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم , فقال الحسين لفتيانه : (( اسقوا القوم وارووهم من الماء , ورشّفوا الخيل ترشيفاً )) .
فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً , فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم , وأقبلوا يملؤون القصاع و الأنوار والطساس من الماء ثمَّ يُدنونها من الفرَس , فإذا عبّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخَر حتّى سقوا الخيل كلّها .
وفي رواية اُخرى : قال هشام : حدّثني لقيط , عن عليّ بن طعان المحاربيّ [قال] : كنت مع الحرّ بن يزيد , فجئت في آخر من جاء من أصحابه , فلمّا رأى الحسينُ ما بي وبفرسي من العطش قال : (( أنخِ الراوية )) . والراوية عندي السّقاء , ثمّ قال : (( يابن أخي , أنخِ الجمل )) . فأنختُه , فقال : (( اشرب )) . فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء , فقال الحسين : (( اخنث السقاء )) , أي أعطفه . قال : فجعلت لا أدري كيف أفعل , قال : فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي .
ومنهم ابن الأثير في (الكامل) , روى الحديث بعين ما تقدّم أوّلاً عن (تاريخ الإسلام) , لكنّه أسقط قوله : والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم .
ومنهم أبو المؤيد موفّق بن أحمد في «مقتل الحسين» : أخبرني الإمام الأجل مجد الدّين قوام السنّة أبو الفتوح محمّد بن أبي جعفر الطائيّ فيما كتب إليَّ من همدان , أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقي سنة اثنتين وخمسمئة بباب المدينة بمرو في الجامع , أخبرنا الإمام حقّاً وشيخ الإسلام صدقاً أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرّحمن الصابونيّ , أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن محمّد بهراة , أخبرنا أبو عليّ أحمد بن محمّد بن عليّ , حدّثنا عليّ بن خشرم , سمعت يحيى بن عبد الله بن بشير الباهليّ , حدّثنا ابن المبارك أو غيره ـ شكّ الباهليّ ـ قال : بلغني أنَّ معاوية قال ليزيد : هل بقيت لذَّة من الدُنيا لم تنلها ؟
قال : نعم , اُمّ أبيها هند بنت سهيل بن عمرو , خطبتها وخطبها عبد الله بن عامر بن كريز فتزوّجته وتركتني .
فأرسل معاوية إلى عبد الله بن عامر وهو عامله على البصرة , فلمّا قدم عليه قال : انزل عن اُمّ أبيها لوليّ عهد المسلمين يزيد .
قال : ما كنت لأفعل .
قال : أقطعك البصرة , فإن لم تفعل عزلتك عنها .
قال : وإن .
فلمّا خرج من عنده قال له مولاه : امرأة بامرأة , أتترك البصرة بطلاق امرأة ؟! فرجع إلى معاوية فقال : هي طلاق . فردّه إلى البصرة , فلمّا دخل تلقّته اُمّ أبيها فقال : استترى . فقالت : فعلها اللّعين ! واستترت .
قال : فعدّ معاوية الأيّام حتّى إذا انقضتِ العِدَّة وجّه أبا هريرة يخطبها ليزيد , وقال له : أمهرها بألف ألف . فخرج أبو هريرة فقدم المدينة , فمرّ بالحسين بن عليّ (عليه السّلام) , فقال : (( ما أقدَمك المدينة يا أبا هريرة ؟ )) .
قال : اُريد البصرة أخطب اُمّ أبيها لوليّ عهد المسلمين يزيد .
قال : (( فترى أن تذكرني لها )) .
قال : إن شئت .
قال : (( قد شئت )) .
فقدم أبو هريرة البصرة , فقال لها : ياُمّ أبيها , إنَّ أمير المؤمنين يخطبك لوليّ عهد المسلمين يزيد , وقد بذل لك في الصّداق ألف ألف , ومررت بالحسين بن عليّ فذكرك .
قالت : فما ترى يا أبا هريرة ؟
قال : ذلك إليك .
قالت : فشَفَةٌ قبّلها رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) أحبّ إليَّ .
قال : فتزوّجت الحسينَ بن عليّ (عليه السّلام) , ورجع أبو هريرة فأخبر معاوية .
قال : فقال له : يا حمار , ليس لهذا وجّهناك .
قال : فلمّا كان بعد ذلك حجَّ عبد الله بن عامر , فمرّ بالمدينة فلقيَ الحسين بن عليّ , فقال له : يابن رسول اللَّه , تأذن لي في كلام اُمّ أبيها ؟
فقال : (( إذا شئت )) .
فدخل معه البيت , واستأذن على اُمّ أبيها فأذنت له , ودخل معه الحسين , فقال لها عبد الله بن عامر : يا اُمّ أبيها , ما فعلت الوديعة الّتي استودعتُكِ ؟
قالت : عندي . يا جارية , هاتي سفط كذا .
فجاءت به , ففتحته وإذا هو مملوء لآلي وجوهر يتلألأ , فبكى ابن عامر , فقال الحسين : (( ما يبكيك ؟ )) .
فقال : يابن رسول اللَّه , أتلومني على أن أبكى على مثلها في ورعها وكمالها ووفائها ؟
قال : (( يابن عامر , نِعم المحلّل كنت لكما , هي طلاق )) . فحجّ , فلمّا رجع تزوّج بها .
ومنهم العلاّمة الشيخ تقيّ الدين أبو بكر بن عليّ الحنفيّ في (ثمرات الأوراق) , أورد الواقعة لكنّه ذكر اسم المرأة اُرينب بنت إسحاق , واسم زوجها عبد الله بن سلام .
هذه هي شهامة الحسين (عليه السّلام) ومروءتُه ونُبلُه وإنسانيّتُه , وتلك كانتْ مواقفُه مع نساءِ المسلمين , فكيف كان خصومُه مع نسائه ؟
قال المؤرّخون : لمّا قُتل أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) مالَ الناسُ على ثقله ومتاعه , وانتهبوا ما في الخيام , وأضرموا النارَ فيها , وتسابق القومُ على سلب حرائر الرسول (صلّى الله عليه وآله) , ففررنَ بناتُ الزهراء (عليها السّلام) مسلّباتٍ باكيات .
قال أبو مخنف (رحمه اللَّه) : فلمّا ارتفع صياحُ النساء صاح ابنُ سعد : ويلكم ! اكبسوا عليهنّ الخِبا , وأضرموهنّ ناراً فأحرقوها ومَنْ فيها .
فقال رجلٌ منهم : ويلك يابنَ سعد ! أما كفاك قتلُ الحسينِ وأهلِ بيته وأنصاره عن إحراق أطفاله ونسائه ؟! لقد أردتَ أنْ يخسفَ الله بنا الأرض ؟! فتبادروا إلى نهبِ النساءِ الطاهرات .
وبقين بناتُ الرسالة والأراملُ واليتامى ليلة الحادي عشر من المحرّم بعد شهادة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) في حلكٍ دامس مِن فقد تلك الأنوار الساطعة ؛ بين رحْلٍ منتهَب , وخباءٍ محترق , وفرَقٍ سائد , وحُماةٍ صرعى , لا مُحامٍ لهنّ ولا كفيل . نعم , كان بينهنّ صراخُ الصبية , وأنينُ الفتيات , ونشيج الوالهات .
ولمّا سيّر ابنُ سعدٍ الرؤوسَ ـ رؤوسَ شهداءِ الطفّ ـ أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر , فجمع قتلاه وصلّى عليهم ودفنهم , وترك سيّد شبابِ أهل الجنّة وريحانة الرسول الأكرم ومَن معه من أهل بيته وصحبهِ بلا دفن , تسفي عليهمُ الصبا .
وبعد الزوال ارتحل إلى الكوفة ومعه نساءُ الحسين وصبيتهُ وجواريه وعيالات الأصحاب , وكنّ عشرينَ امرأة , وسيّروهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء كما يساق سَبيُّ التركِ والروم , وهنّ ودائعُ خير الأنبياء , ومعهنّ السجاد (عليه السّلام) وقد أنهكتْه العلّة , ومعه ولدُه الباقر (عليه السّلام) وله سنتانِ وشهور .
فقلن النسوة : باللَّه عليكم إلاّ ما مررتُم بنا على القتلى .
ولمّا نظرنَ إليهم مقطَّعي الأوصال , قد طعمتْهم سُمْرُ الرماح , ونهلتْ مِن دمائهم بيضُ الصفاح , وطحنتْهمُ الخيلُ بسنابكها , صحن وصاحتْ زينب : يا محمّداه ! هذا حسينٌ بالعراء , مرمّلٌ بالدماء , مقطّع الأعضاء , وبناتُك سبايا , وذريّتُك مقتَّلَة . فأبكتْ كلَّ عدوٍّ وصديق .
ثمّ بسطتْ يديها تحت بدنه المقدس ورفعتْه نحو السماء وقالت : إلهي , تقبّلْ منّا هذا القربان . واعتنقتْ سكينةُ جسدَ أبيها الحسين (عليه السّلام) ولم يستطعْ أحدٌ أن يُنحّيها عنه حتّى اجتمع عليها عدّةٌ وجرّوها بالقهر .
ولمّا اُدخلتْ بناتُ أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى الكوفة اجتمع أهلُها للنظر إليهم , فصاحتْ اُمُّ كلثوم : يا أهلَ الكوفة , أما تستحون مِن اللَّهِ ورسوله أنْ تنظروا إلى حرم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ؟!
وأشرفتْ عليهنّ امرأةٌ من الكوفيّات , ورأتهنّ على تلك الحالِ التي تُشجي العدوَّ الألد , فقالت : مِن أيّ الاُسارى أنتم ؟ فقلن : نحن اُسارى آلِ محمّد.
تلك كانت مروءةَ الحسين (صلوات اللَّه عليه) , دعتْه إلى الحفاظِ على الذمام , وحفظ العهود , والاستجابة إلى رسائل أهل الكوفة , والدعوة إلى الإصلاح في اُمّةِ جدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) , وهذه أخلاقُ القوم ؛ غدر , وتنكيل , وانتقام بلا مبرر , وطمع في دنيا غير دائمة وغير مضمونة , وهتكٌ للحرمات , وأسرٌ لاُسرةِ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) وتسييرُها إلى الكوفة ثمّ إلى الشام في تقييدٍ بالحبال , وحالةٍ من الجوعِ والعطش .
فحسْبُكمُ هذا التفاوتُ بينن و كلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
أو كما قال الشاعر :
يا اُمّةً نقضتْ عهودَ نبيِّه أفمَنْ إلى نقض العهودِ دَعاكِ
لولاكِ ما ظفرتْ عُلوجُ اُميّةٍ يوماً بعترةٍ أحمدٍ لولاكِ
وعليكِ خزْيٌ يا اُميّةُ دائمٌ يبقى كما في النار دام بَقاكِ
فلقد حملتِ من الأَثامِ جهالةً ما عنه ضاق لمَن وَعاكِ وِعاكِ
هلاّ صفحتِ عن الحسينِ ورهطِه صفحَ الوصيِّ أبيه عن آباكِ
وعففتِ يومَ الطفِّ عِفّةَ جَدِّه ال ـمبعوثِ يومَ الفتحِ عن طُلَقاكِ
أفهَلْ يدٌ سلبتْ إماءَكِ مثْلم سلبتْ كريماتِ الحسين يَداكِ
أم هل بَرزْن بفتح مكّةَ حُسّر كنسائهِ يومَ الطفوف نِساكِ
ما بينَ نادبةٍ وبين مَرُوعةٍ في أسرِ كلِّ معاندٍ أفّاكِ
يا اُمّةً باءتْ بقتلِ هُداته شُلّتْ يداكِ و ما بلغتِ مُناكِ
بئس الجزاءُ لأحمدٍ في آلهِ وبنيهِ يومَ الطفّ كان جَزاكِ
يا عينُ ما سفحتْ دمُوعُكِ فلْيكُنْ حزناً على سبطِ النبيّ بُكاكِ
وابكِ القتيلَ المُستضام ومن بَكتْ لمصابهِ الأملاكُ في الأفلاكِ
4 ـ التواضعُ الحسَيْني
والتواضع كما يعرّفه علماء الأخلاق : احترامُ الناس حسب أقدارهم , وعدمُ الترفّع عليهم . وهو خُلقٌ كريم , وخلّةٌ جذّابة تستهوي القلوب وتستثير التقدير . وناهيك في فضل التواضع أنَّ اللَّه تعالى أمرَ حبيبه وسيّد رسُلِه به , فقال (جلّ وعَلا) : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 215].
وقد أشاد أهلُ البيت (عليهم السّلام) بشرفِ هذا الخُلق , وشوّقوا إليه
بأقوالهمُ الحكيمة , وسيرتِهمُ المثالية , وكانوا رُوّادَ الفضائل , ومنارَ الخُلقِ الرفيع(54) .
قال النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (( لا حسبَ كالتواضع ))(55) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) أيضاً : (( إنّ التواضع يزيد صاحبَه رفعة , فتواضعوا يرفعْكمُ اللَّه ))(56) .
وعنه (صلّى اللَّه عليه وآله) أيضاً قال : (( إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم منيّ يوم القيامةِ مجلساً أحسنُكم خُلُقاً , وأشدُّكم تواضعاً ... ))(57) .
وقال أمير المؤمنين عليٌ (سلام اللَّه عليه) : (( التواضع زينة الحسب(58) . التواضع زكاة الشرف(59) . التواضع ينشر الفضيلة(60) . عليك بالتواضع فإنه مِن أعظم العبادة ))(61) .
وجاء عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّ في السماء ملَكينِ موكَّلينِ بالعباد , فمَنْ تواضع للَّهِ رفعاه , ومَنْ تكبّر وضعاه ))(62) .
وممّا قيل في التواضع قولُ أبي العلاء المعرّي :
فيا واليَ المِصر لا تظلِمَنْ فكم جاءَ مثْلُك ثم انصرَفْ
تواضعْ إذا ما رُزقتَ العُل فذلك مِمّا يزيد الشرفْ
وقد كان النبيُّ المصطفى الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أكثرَ الناسِ تواضعاً ؛ يقعد في أدنى المجلس حيث يدخل , وكان يحلبُ شاتَه , ويرقع ثوبه , ويخصف نعلَه , ويخدم نفسه , ويحمل بضاعتَه في السوق , ويجالس الفقراء , ويواكل المساكين(63) .
عن أبي ذرّ الغِفاريّ (رضوان اللَّه عليه) : كان رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) يجلس بين ظهرانيّ أصحابه , فيجيء الغريبُ فلا يدري أيُّهم هو حتّى يسأل , فطلبنا إليه أنْ يجعل مجلساً يعرفه الغريبُ إذا أتاه .
ورُويَ أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان في سفر , فأمر بإصلاحِ شاة , فقال رجل : يا رسولَ اللَّه , علَيّ ذبحها , وقال آخر : علَيّ سلخها , وقال آخر : علَيَّ طبخُها . فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( وعلَيّ جمع الحطب )) .
فقالوا : يا رسولَ اللَّه , نحن نكفيك .
فقال : (( قد علمتُ أنكم تكفوني , ولكنْ أكرهُ أنْ أتميّزَ عليكم ؛ فإنّ اللَّه يكرهُ مِن عبدِه أنْ يراه متميّزاً بين أصحابه )) . وقام وجمع الحطب(64) .
والإمام الحسين (عليه السّلام) كان مِن سماتِه الواضحة بين الناس التواضع , فلم يجالسِ الطواغيت والمتكبّرين , وأصحابَ القلوبِ الميّتة والضمائر الفاسدة , والمغرورين بدُنياهم . كان ينصح , ولكنّه في الوقت ذاته كان يحبُّ الضعفاء والمساكينَ والفقراء , ويجالسهم ويواكلُهم ويحادثهم .
وممّا امتاز به تواضعه (سلامُ اللَّه عليه) :
أوّلاً : أنّه كان خالصاً مخلصاً لوجهِ اللَّه تعالى , لا يبتغي به إلاّ مرضاته (جَلّ وعَلا) ؛ لأنّ هناكَ مَنْ يتواضع للناس يطلبُ بذلك المدحَ والسمعة , يُرائي بتواضعه وينتظر أنْ يُثنى عليه , فاذا لم يحصل على ذلك عاد إلى كِبره , واذا طُلِبَ منه أنْ يُذعن للحقّ ظهرتْ عليه علاماتُ التجبّر والاستنكاف والتعالي .
أمّا الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) فكان متواضعاً لمَنْ دونَه في الفضل , يطلبُ بذلك طاعةَ الرحمن (جَلّ جلالُه) .
* حدّث الصوليّ عن الإمام الصادق (عليه السّلام) في خبر أنه جرى بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين أخيه محمّد بن الحنفية كلام , فكتب ابنُ الحنفية إلى الحسين (عليه السّلام) : أمّا بعدُ يا أخي , فإنَّ أبي وأباكَ عليٌّ , لا تفضلُني فيه ولا أفضلُك , واُمُّك فاطمةُ بنتُ رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله) , ولو كان مليء الأرض ذهباً مُلك اُمّي ما وفَتْ باُمِّك , فاذا قرأتَ كتابي هذا فصِرْ إليَّ حتى تترضّاني فإنّكَ أحقُّ بالفضلِ منّي , والسّلام عليكم ورحمةُ اللَّه وبركاته .
ففعل الحسين (عليه السّلام) , فلم يَجْرِ بعد ذلك بينهما شيء .
فالإمام الحسين (سلامُ اللَّه عليه) هو الأشرف مِن أخيه باعتراف أخيه , وهو الأفضل , ولكنّه كانَ الأسبقَ إليه ؛ تواضعاً منه لأنّه الأسبق إلى اللَّه (عزّ وجلّ) في الطاعات وارتقاء الدرجات .
ثانياً : أنَّ تواضع الحسين (صلوات اللَّه عليه) كان عن عِزّةٍ وكرامةٍ وكمال , لا عن ذِلّةٍ أو ضعفٍ أو طمع حاشاه عن كلِّ ذلك ؛ [إذ] (إنّ التواضعُ الممدوح هو المتّسم بالقصد والاعتدال , لا افراطَ فيه ولا تفريط ؛ فالإسرافُ في التواضع داعٍ إلى الخسة والمهانة , والتفريط فيه باعثٌ على الكِبرِ والأنانية , وعلى العاقل أنْ يختار النهجَ الوسط بإعطاءِ كلِّ فردٍ ما يستحقّه من الحفاوة والتقدير حسبَ منزلته ومؤهلاته ؛ لذلك لا يحسن التواضعُ للأنانيّين والمتعالينَ على الناس بزهوهم وصَلَفِهم . إنّ التواضعَ ـ والحالةُ هذه ـ مدعاةٌ للذُّلّ والهوان , وتشجيعٌ على الأنانية والكِبر).
ولذلك ـ كما مرّ بنا ـ كان الحسين (عليه السّلام) لا يتواضع للمتجبّرين كمعاوية ويزيد , ومراونِ بن الحكم وعمرو بن العاص والوليد بن عقبة , بل ترفّع عنهم , ولا للمستكبرين والمغرورين والمتعالين , حتّى قال له أحدُهم : إنّ فيكَ كِبْراً , فأجابه الحسينُ (عليه السّلام) : (( كلُّ الكِبْرِ للَّه وحدَه , ولا يكونُ في غيره , قال اللَّهُ تعالى : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )) .
وتكملةُ الآية (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) , فحاشاه أنْ يكون الإمام الحسين (سلام اللَّه عليه) متكبّراً , ولكنّه العزيزُ الذي لا يذلّ .
وخيرُ التواضع ما كان عن عزّةٍ وترفّع , قال رسولُ اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) : (( أفضل الناس مَنْ تواضع عن رفعة )) . وجاء عن الإمام عليّ (عليه السّلام) قولُه : (( التواضعُ مع الرفعة كالعفوِ مع المقدرة )) .
فمع الكافرين العزّة , والتواضع إنّما يكونُ مع المؤمنين , وهكذا وصف اللَّه تعالى مَن يُحبّه (... فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)(5) , [وهاتان] صفتانِ معربتانِ عن الاعتدال , وفي ذلك يقول المصطفى الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( طوبى لمَنْ تواضع للَّه تعالى في غير منقصة , و أذلَّ نفسَه في غير مسكنة )) , ويقول أميرُ المؤمينن عليٌّ (عليه السّلام) : (( طوبى لِمَنْ شغلَه عيبُه عن عيوبِ الناس , وتواضع مِن غير منقصة , وجالس أهل الفقهِ والرحمة , وخالط أهلَ الذلِّ والمسكنة , وأنفق مالاً جمعه في غير معصية ))(65) .
والآن تعالوا نتأمّل في هذه الرواية لنرى هل تركَ الإمام الحسين (عليه السّلام) شيئاً بعد (طوبى) ؟
* روى الشيخ نصر بنُ محمد السمرقنديّ الحنفيّ في (تنبيه الغافلين)(66) , عن سفيان بن مسعر قال : بلغني عن الحسين بن عليّ (رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما) أَنّه مرَّ بمساكينَ وهم يأكلون كسراً لهم على كساء , فقالوا : يا أبا عبد الله , الغداء .
فنزل وقال (عليه السّلام) : (( إنّه لا يحبّ اللَّهُ المستكبرين )) . فأكل معهم , ثمّ قال لهم : (( قد أجبتُكم فأجيبوني )) . فانطلقوا معه , فلمّا أتَوا المنزل قال لجاريته : (( أخرجي ما كنتِ تدّخرين )) .
ورواها ابو المؤيد الموفقُ بنُ أحمد الخوارزميّ في مقتل الحسين (عليه السّلام)(67) بهذه الصورة : كان ( أي الحسينُ بنُ عليّ (عليه السّلام) ) يجالس المساكين ويقرأ : (( إنّ اللَّه لا يحبّ المتكبّرين ))(68) . ومرّ على صبيانٍ معهم كسرة , فسألوه أنْ يأكلَ معهم فأكل , ثمّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم .
فلم يشتغل (سلام اللَّه عليه) ـ حاشاه ـ بنقصهم بل عيوبهم , وتواضع لهم مِن غير منقصة , بل عن رفعة , وجالسهم وهم أهل الرحمة , وخالطهم وهم أهلُ الفقر والمسكنة , وأنفق عليهم مِن مالٍ جمعه فوضعه في طاعةِ اللَّه سبحانه .
أضف إلى ذلك أنّه جمع إلى التواضع السخاء , وتلك هي أخلاق سيّدنا الإمام الحسين (عليه السّلام) , متعدّدةً في الموقف الواحد , متداخلةً مع بعضها , حتّى إذا تأمّلْتَها وجدتَها اكثَر مِن خلُقٍ طيّب .
بقيَ شيءٌ واحدٌ لم يكنْ للحسين (عليه السّلام) في هذه الرواية , وهو مجالسةُ أهلِ الفقه ؛ إذ هو الأفقه , وحيثما حَلّ بين الناس فقّههم بشريعة الإسلام وأخلاقهِ الفاضلة . نعم , جالسَ أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) فكان عنده أكثَر المجالسين أدباً ؛ حيث أجَلّ له إمامتَه . قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( ما تكلّم الحسين بينَ يَديِ الحسن ؛ إعظاماً له )) .
وقد بادله الإمام الحسن (سلام اللَّه عليه) هذا الأدب , فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال فيهما : (( ابنايَ هذانِ إمامانِ قاما أو قعدا )) ؛ ولذا نقرأ في كتاب (التعازي) للسيد الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي : كان الحسن (عليه السّلام) يعظّمُ الحسين (عليه السّلام) حتّى كأنه هو أسنُّ منه . قال ابنُ عباس وقد سألتُه عن ذلك , فقال : سمعتُ الحسنَ (عليه السّلام) وهو يقول : (( إنّي لأهابُه كهيبةِ أمير المؤمنين (عليه السّلام) )) .
وبقيت سِمةُ التواضعُ عند الإمام الحسين (عليه السّلام) خصلةً واضحة عرفها الناسُ فيه فأجلّوها , وحظيَ بها المؤمنون المخلصون لا سيّما شهداء كربلاء (رضوانُ اللَّه تعالى عليهم) .
فساعةَ سقط (أسلم) ـ وهو مولىً له ـ في ساحةِ الطفّ شهيداً مشى إليه الإمام الحسين (صلوات اللَّه عليه) بنفسه الشريفة واعتنقه , وكان به رمق , فتبسّم أسلم وافتخر بذلك ومات . هنيئاً له أنْ حظِيَ بلطف سيّد شباب أهل الجنّة , ورحمته وتواضعه .
وكان للإمام الحسين (عليه السّلام) مولىً آخر هو (واضح التركي) (رضوان اللَّه تعالى عليه) , جاهد بين يدي الحسين (سلام اللَّه عليه) وقاتل أعداءَه , فلمّا صُرع على ساحةِ الشرف بكربلاء استغاث بالحسين , فأتاه (عليه السّلام) واعتنقه , فقال واضح : مَنْ مثْلي وابنُ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله) واضعٌ خدَّه على خدي ! ثمّ فاضتْ نفسُه الطاهرة .
5 ـ الوفاء الحسيني
قال تعالى في محكم كتابه المجيد : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
وفي ظلّ هذه الآية الكريمة قال العلامة المرحوم السيد محمّد حسين الطباطبائي (المفسّر المعروف) : يدلّ الكتاب على الأمر بالوفاء بالعقود , وهو بظاهره عام يشمل كلَّ ما يصدقُ عليه العقدُ عُرفاً ممّا يلائم الوفاء ... وكالعهد الذي يمكّن فيه العاهدُ المعهودَ له مِن نفسه فيما عهِدَه , وليس له أنْ ينقضَه .
وقد أكّد القرآن على الوفاءِ بالعقدِ والعهد بجميع معانيه , وفي جميع مصاديقه , وشدّد فيه كلّ التشديد , وذمَّ الناقضين للمواثيق ذمّاً بالغاً وأوعدهم إيعاداً عنيفاً , ومدح المُوفينَ بعهدهم إذا عاهدوا .
وأكّد اللَّهُ سبحانه على حفظ العهد والوفاء به , قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) , والآية تشمل العهدَ الفرديّ كما تشمل العهدَ الاجتماعي ... ؛ لذلك أتى الكتاب العزيز في أدقِّ موارده وأهونها نقضاً بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان , قال تعالى : (بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)( سورة براءة / 1 ـ 3) إلى أن قال : (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ)(براءة / 10) , وقال : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ)(براءة / 12) .
وجُملةُ الأمر أنَّ الإسلام يرى حرمةَ العهد ووجوبَ الوفاء به على الإطلاق ؛ سواء انتفع به العاهد أو تضرّر بعدما أوثق الميثاق ؛ فإنّ رعايةَ جانبِ العدلِ الاجتماعيّ ألزمُ وأوجبُ مِن رعاية أيّ نفعٍ خاص إلاّ أنْ ينقضَ أحدُ المتعاهدينِ عهدَه ؛ فللمتعاهد الآخَرِ نقضُه بمثل ما نقضَه , والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه .
وقد وردتْ في شأن الوفاء جملةٌ من الأحاديث الشريفة , منها : قولُ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( مَنْ كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليوم الآخر فلْيفِ إذا وعد )) .
وقولُه (صلّى الله عليه وآله) : (( أقربُكم غداً منّي في الموقف أصدقُكم للحديث , وأدّاكُم للأمانة , وأوفاكم بالعهد , وأحسنُكم خلُقاً , وأقربُكم من الناس )).
وقول الإمام عليّ (صلوات اللَّه عليه) : (( الوفاء حفظُ الذمام . الوفاء حلية العقل وعُنوانُ النُّبل . الوفاء وفورُ الدين وقوّة الأمانة . نعم قرين الصدق الوفاء . أشرفُ الخلائق الوفاء )) .
وقولُ الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ثلاثةٌ لا عذر لأحدٍ فيها ؛ أداءُ الأمانةِ إلى البَرّ والفاجر , والوفاءُ للبر والفاجر , وبرّ الوالدين برّينِ كانا أو فاجرين )).
والإمام الحسين (عليه السّلام) كجدِّه المصطفى وأبيه المرتضى (صلوات اللَّه عليهما وآلهما) , كان شديدَ الوفاء بالعهود ؛ فالنبيُّ (صلّى اللَّه عليه وآله) وفي لليهودِ حين عاهدهم حتّى نقضوا عهدَه فحاربهم وأجلاهم بعد واقعة الخندق ؛ حيث أغرى (حيُّ بنُ أخطب) زعيمَ بني قريظة كعبَ بنَ أسد وإخوانَه اليهود بنقضِ العهد مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , فيقول بعد ذلك : لا عهدَ بيننا وبينكم ولا عقد .
وكذلك غدر بنو النضير وقينُقاع فأجلاهم رسولُ اللَّه (صلّى الله عليه وآله) في واقعة خيبر , وكان أقدر عليهم قبل غدرهم , إلاّ أنه (صلّى الله عليه وآله) أوفى الناس مع الناس , فلمّا غدروا به أدّبهم , ولم يكن راغباً أنْ يبدأهم بقتال .
وبهذا عُرف أمير المؤمنين (سلام اللَّه عليه) , مثال ذلك ما جرى في معركةِ الجمل ... قال عبد الله بن عباس : فانصرفتُ إلى عائشة وهي في هودجٍ , وقد دُفّف بالدروعِ على جَمَلِها (عسكر) , وكعبُ بن شور القاضي أخذ بخطامه وحولها الأزد وضبّة , فلمّا رأتني قالتْ : ما الذي جاءَ بك يابنَ عباس ؟ واللَّهِ لا سمعتُ منكَ شيئاً , ارجع إلى صاحبك ( تعني عليّاً (عليه السّلام) ) وقُل له : ما بيننا وبينك إلاّ السيف .
وصاح مَنْ حولها : ارجع يابن عباس لئلاّ يُسفكَ دمُك .
قال ابنُ عباس : فرجعتُ إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأخبرتُه الخبرَ , وقلت : ما تنتظر ؟ واللَّهِ لا يُعطيكَ القومُ إلاّ السيف , فاحملْ عليهم قبل أنْ يحملوا عليك .
فقال (عليه السّلام) : (( نستظهرُ باللَّه عليهم )) .
قال ابنُ عباس : فو اللَّه ما رمتُ مِن مكاني حتّى طلع عليّ نشابُهم كأنه جرادٌ منتشر , فقلت : ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم ؟! مُرنا ندفعهم .
فقال : (( حتّى اُعذرَ إليهم ثانية )) . ثمّ قال : (( مَنْ يأخذ هذا المصحفَ فيدعوهم إليه وهو مقتول , وأنا ضامنٌ له على اللَّه الجنّة ... ))(69) .
والحسين (عليه السّلام) هو شبلُ ذلك الأسد عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) , وفرعُ تلك الشجرة النبوية , والدوحةِ الهاشمية , خُلقُه خلقُهم ؛ دليلُ ذلك تشابه المواقف : حين التقى جيش (الحرّ) في قرى الطفِّ بجيش الحسين (عليه السّلام) قرأ الحرُّ الكتاب على الحسين , فقال له (عليه السّلام) : (( دعْنا ننزلْ نينوى أو الغاضريّات أو شفية )) .
فقال الحرّ : لا أستطيع ؛ فإنّ الرجلَ عينٌ عَلَيّ(70) .
قال زهيرُ بنُ القين : يابنَ رسول اللَّه , إنَّ قتالَ هؤلاء أهونُ علينا مِن قتالِ مَنْ يأتينا مِن بعدهم , فلَعمري ليأتينا ما لا قِبَلَ لنا به .
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( ما كنتُ أبدأهُم بقتال ))(71) .
ويوم عاشوراء , وكان الإمام الحسين (عليه السّلا