الرحمة : كلمة تقع على القلب موقع الاطمئنان والسرور والمحبّة , وهي خلقٌ إنسانيّ أوجب الله تعالى ـ وهو أرحم الراحمين ـ أن يرحم من تخلّق به ؛ إذ الرحمة من أخلاقه سبحانه (عزّ وجلّ) ؛ ولذا نسمع رسول الله , نبيّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( الراحمون يرحمهمُ الرحمنُ يومَ القيامة . ارحمْ مَن في الأرض يرحمْك مَن في السماء ))(1) .
وجاء رجلٌ فقال له : أحبّ أن يرحمني ربّي . فقال له المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : (( ارحم نفسَك , وارحم خلْقَ الله يرحمْك الله ))(2) .
أمّا أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد كان له كلمات اُخرى تدعو إلى الرحمة وترغّب فيها , وتبيّن عوائدها الطيّبة , من ذلك قوله (سلام الله عليه) : (( أحْسِن يُحسَنْ إليك . ارحم تُرحم(3) . اِرحم مَن دونَك يرحمْك مَن فوقَك , وقس سهوه بسهوك , ومعصيته بمعصيتك لرّبك , وفقرَه إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك(4) . عجبت لمَن يرجو رحمة من فوقه كيف
لا يرحم من دونه ))(5) .
وفي موجبات الرحمة الإلهيّة قال (عليه أفضل الصلاة والسّلام) : (( ببذل الرحمة تستنزل الرحمة(6) . رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة(7) . أبلغُ ما تُستدرُّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة ))(8) .
وهذا خلق الأنبياء والأوصياء , وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أرحم الناس بالناس , فنصح لهم وهداهم سبيل الخير والصلاح , ودعاهم إلى السّلام والأخلاق الطيّبة , وأخذ بأيديهم إلى سعادة الدنيا والآخرة , إلاّ من أبى , حتّى قال الله تعالى فيه : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة : 128] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء : 107] .
فكان من أوصافه (صلّى الله عليه وآله) أنّه يشقُّ عليه ضرُّ الناس أو هلاكهم , وأنّه حريصٌ عليهم جميعاً ؛ من مؤمنٍ أو غير مؤمن , وأنّه رؤوفٌ رحيمٌ بالمؤمنين منهم خاصّة . وكان (صلّى الله عليه وآله) رحمةً لأهل الدنيا ؛ لأنّه أتى بدين فيه سعادتهم , وهو القائل : (( إنّما أنا رحمةٌ مهداة ))(9) .
وتلك سيرته الشريفة العاطرة تشهد برحمته التي طبّقت الآفاق , وشملت الناس جميعاً , فكان يحنو على الأطفال واليتامى والأرامل , والفقراء والمساكين , ويشفق على الصبيان والبنات , والمظلومين والمحرومين , ويرحم أصحابه والمخالفين , ويدعوهم بأخلاقه العظيمة إلى الهداية من الضلال , والنور من الظلمات حتّى عُرف بالعفو والصفح والمواساة , وتطييب الخواطر وجبر القلوب , والمسح بيد الرحمة على رؤوس اليتامى وصدور المحزونين وجراح المكلومين .
ومِن بعده كان وريثه وسبطه الحسين (سلام الله عليه) مقتفياً آثاره الشريفة في كلّ خلُقٍ فاضلٍ كريم ؛ فوعظ الناسَ كجدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) لينقذهم من الظلمات إلى النور , ويخلّصهم من شِراك الشياطين , وأسرِ ظلمة السلاطين الذين يأخذون بأيديهم إلى مهاوي الجحيم .
وقد مدَّ سيّد شباب أهل الجنّة (صلوات الله عليه) على الناس يد الرحمة فشمل القاصي والداني , والعدوَّ والصديق , والمخالف والمؤالف ؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى بَرٌّ رحيم , وقد دعاه إلى ذلك ؛ فأغاث الملهوف , وأدخل على قلب المحزون السرور , وتفقّد المحرومين والمعوزين , وعاد المرضى , ومسح على آلام المحرومين والمظلومين فأبرأها , وعلى عيون المضلَّلين فبصّرها , وعلى آذان المغفّلين فأسمعها كلماتِ الهداية والرشد , وعلى صدر المفجوعين فسكّنها وطمأنها .
وكان من رحمته على المؤمنين أن ذرف عليهم دموعه حزينةً ساخنةً سخيّة , ثمّ شفعها بكلمات هي بلسم العليل , وهديّة الخليل , والماء البارد على جمرة الغليل . فحين اشتدّ بولده عليّ الأكبر (عليه السّلام) [العطش] رجع إلى أبيه الحسين (سلام الله عليه) يستريح , فلمّا ذكر له ما أجهده من العطش بكى الحسين (عليه السّلام) , وقال : (( وا غوثاه ! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها )) .
ثمّ أخذ لسان ولده فمصّه , ودفع إليه خاتمة ليضعة في فيه . فعاد (عليٌّ) إلى الميدان مبتهجاً بالبشارة حتّى قَتل عدداً كبيراً من أعداء الله .
وبعد أن قُتل عبد الله بن مسلم بن عقيل حمل آل أبي طالب حملةً واحدة , فصاح بهم الحسين (عليه السّلام) : (( صبراً على الموت يا بني عمومتي , والله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم ))(10) .
النداء الحسينيّ الرحيم يقع على قلوبهم موضعَ المُطَمْئِن المسكِّن , فيصبّرهم ويشدّ عزائمهم على الأمر العصيب .
وحين خرج ابن أخيه (القاسم بن الحسن) وهو غلام لم يبلغ الحلُم , نظر إليه الحسين (عليه السّلام) واعتنقه وبكى , نظر إليه وهو بقيّة أخيه السبط الشهيد أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليه السّلام) , ولولا إصراره على النزال ما أذن له (عليه السّلام) . ولكنَّ هذا الغلام الغيور لم يصبر أن يرى أعداء الله يقتلون أولياء الله , حتّى إذا استشهد قام عمّه على رأسه وقال : (( بُعداً لقومٍ قتلوك ! خصمُهم يومَ القيامة جَدُّك )) . ثمّ قال : (( عزَّ والله على عمّك أن تدعوَه فلا يُجيبك , أو يُجيبك ثمّ لا ينفعك ! )) . ثمّ احتمله فألقاه مع ولده عليّ الأكبر (عليه السّلام) .
ورفع طرفه إلى السماء وقال : (( اللّهمّ أحصهم عدداً , ولا تغادر منهم أحداً , ولا تغفر لهم أبداً . صبراً يا بني عمومتي , صبراً يا أهل بيتي , لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ))(11) .
ولمّا استُشهد أخوه أبو الفضل العبّاس (سلام الله عليه) حضر عنده وبكى عليه .
لقد جاء الحسين (عليه السّلام) بهذا الركب القدسيّ من أهل بيته النجباء ليقدّمهم قرابين لله تعالى ؛ فداءً لدينه الأقدس , ورحمةً بالاُمّة كي تنتفع بدمائهم , وائتماراً بما يريد الله تعالى ويرضى . وقد قال (عليه السّلام) : (( شاء الله أن يراني قتيلاً , ويرى النساءَ سبايا )) .
هذا ما بلّغ به أخاه محمّدَ بن الحنفيّة , أمّا ما قاله لاُمّ المؤمنين اُمّ سلمة (رضوان الله عليها) فهو : (( يا اُمّاه , وأنا أعلم أنّي مقتولٌ مذبوح ظلماً وعدواناً , وقد شاء (عزّ وجلّ) أن يرى حرمي ورهطي مشرَّدين , وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين , وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ))(12) .
فقدّم الحسين (عليه السّلام) كلَّ شيء لله ؛ لأجل أن تُسمِع صرختُه آذانَ النائمين والغافلين والذين خدّرتهم الدنيا ؛ فبتضحياته تلك استطاع أن يُثبت للاُمّة بأنَّ الخلافة بيد أعداء الإسلام , وأنَّ الدين في خطر , وأنَّ بني اُميّة لا يتورّعون عن تحريف الرسالة المحمّدية , وعن استئصال أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , وأهل بيت الوحي والرسالة , وعن التنكيل بحرم المصطفى وبناته ؛ وبذلك عيّن الإمام الحسين (عليه السّلام) للاُمّة ـ رحمةً بها ـ تكليفها لتنجو بأدائه من غضب الله (عزّ وجلّ) .
ومن أجل ذلك قدّم أهل بيته وأصحابه حتّى الطفل الرضيع ؛ فتقدّم وهو يتأذّى لعويل الأيامى وصراخ الأطفال , فأمر عياله بالسكوت وودّعهم , وتقدّم يقتل بسيفه أعداء الله حتّى أردى منهم جمعاً كثيراً , ثمّ عاد إلى عياله يودّعهم ثانياً , ويأمرهم بالصبر قائلاً لهم : (( استعدّوا للبلاء , واعلموا أنَّ الله تعالى حاميكم وحافظكم , وسينجيكم من شرّ الأعداء , ويجعل عاقبةَ أمركم إلى خير , ويعذّب عدوَّكم بأنواع العذاب , ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة ؛ فلا تشكو , ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص مِن قدْركم ))(13) .
كلمات نزلت منزل الرحمة على النفوس الحزينة , ومنزل الطمأنينة على القلوب الخائفة الوجلة ؛ فسكّن بها روعتهنّ , وبلّ غلّتهن . ثمّ التفت (عليه السّلام) إلى ابنته سكينة فرآها منحازةً عن النساء , باكية معولة , فوقف عليها مصبّراً ومسليّاً .
يقول الشيخ التستري : الملاطفة من الآباء مع الأولاد مستحبّ خاصّة , ولتفريح البنات خصوصيّةٌ في الفضيلة . وقد تحقّق ذلك من الحسين (عليه السّلام) بأحسن وجوهه , وأراد ذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينة , أراد أن يفرّحها بتقبيل وجهها ومسح رأسها وتسليتها , فما تزداد بهذه إلاّ غصّةً وحزناً .
وقيل : فضمّها الحسين (عليه السّلام) إلى صدره الشريف , وقبّلها ومسح دموعها بكُمّه , وقال :
سيطول بعدي يا سكينةُ فاعلمي منك البكاءُ إذا الحِمام دهاني
لا تُحرقي قلبي بدمعِكِ حسرةً مادام منّي الروحُ في جثماني
فإذا قُتلتُ فأنتِ أَولى بالذي تأتينه يا خيرة النسوانِ(14)
ولقد ترك الحسين (عليه السّلام) آثار رحمته الأبويّة عليها , فعاشت بعده أكثر من ستّين عاماً لا تنساه , ولا تنسى دروس الصبر والوفاء .
وكذلك ترك على اُخته زينب (عليها السّلام) آثاراً من الصبر الجميل حين عزّاها وأوصاها في كربلاء , قائلاً لها : (( يا اُختاه , تعزَّي بعزاء الله ؛ فإنّ سكّان السماوات يفنون , وأهل الأرض كلّهم يموتون , وجميع البريّة يهلكون ))(15) .
فزرع في قلبها الصبر والثبات ورباطة الجأش , فنهضت بأعباء مسؤوليّاتٍ تنوء من حملها الجبال الرواسي , وتحمّلت مصائب وآلاماً تنهدّ لهولها عزائم الرجال الأشدّاء ؛ فهي التي شهدت واقعة الطفّ بكلّ مآسيها وفجائعها , ومصائبها ونكباتها , وعانت الجوع والعطش .
وكُلّفت بجمع الأرامل واليتامى , وانتشال الأطفال من تحت حوافر الخيل , وستر العيال في خيمة , والأسر إلى الكوفة والشام مربّطين بالحبال هديةً إلى الطاغية عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية , والسفر إلى المدينة بعد وقوفٍ حزين في كربلاء يوم أربعينيّة أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) ؛ تبكي عليه وعلى إخوتها , وولدَيها وأولاد إخوتها , وبني عمومتها والخلّص من الأصحاب الشهداء الأبرار .
وفي المدينة أبلت البلاء الحسن في عرض وقائع فاجعة الطفّ العظمى ؛ فألهبت العواطف , وألّبت القلوب , وخلقت ثورةً في المدينة بانت فيما بعد آثارها , فتُرجمت إلى ثوراتٍ انفجرت ضدّ الحكم الاُمويّ حتّى زلزلته ودمّرته .
وهكذا تستحقّ أن توصف بما وصفتها الزيارة الزينبيّة : (( سلامٌ على مَن ناصرتِ الحسينَ في جهادِه , ولم تضعفْ عزيمتُها بعد استشهادِه . سلامٌ على قلبِ زينب الصبور , ولسانِها الشكور . سلامٌ على مَن تظافرت عليها المصائبُ والكروب , وذاقت من النوائب ما تذوب منها القلوب . سلامٌ على مَن تجرّعت غصصَ الآلامِ والمآسي , وما لا تقوى على احتمالها الجبالُ الرواسي ؛ فأصبحت للبلايا قِبلتَها , وللرزايا كعبتَها . سلامٌ على مَن شاطرت اُمَّها الزهراء في ضروب المحنِ والأرزاء , ودارت عليها رحى الكوارث والبلاء يوم كربلاء . سلامٌ على من عجبت من صبرها ملائكة السماء , سلامٌ على من فُجعت بجدّها وأبيها , واُمّها وبنيها , والخيرة من أهلها وذويها )) .
ولا نستطيع أن نقول : إنَّ ذلك دون أن تسعفها الرحمة الحسينيّة بالرعاية والتوجيه , وشدِّ القلب على الصبر , والتسليم لله (عزّ وجلّ) والرضا عنه , حتّى إذا قال لها عبيد الله بن زياد : كيف رأيتِ فعْلَ الله بأهلِ بيتك ؟ أجابته قائلة : ما رأيتُ إلاّ جميلاً ؛ هؤلاءِ قومٌ كتب الله عليهمُ القتل فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم , فانظر لمَنِ الفلجُ يومئذٍ , ثكلتك اُمّك يابن مرجانة !
ونعود إلى الشيخ جعفر التستريّ لنسمع منه مقالته في الرحمة الحسينيّة , حيث يقول : (باب ردّ العادية وإغاثة اللهيف) , له (عليه السّلام) من هذين المستحبّين ما لم يتحقّق لغيره منذ صارت من المستحبّات ؛ فقد ردّ العادية لمّا صرخن النساء حين الإحاطة بهنّ بأحسن ردّ , فقال لهم : (( اقصدوني بنفسي , يعني اشتغلوا بضربي بالسيوف ورميي بالسهام , واتركوا حرمي )) .
وقد أغاث اللهيف لاثنين وسبعين مغيثاً من أصحابه حين كانوا ينادونه إذا صُرعوا ليحضر عندهم , فأغاثهم كلَّهم , وسبعةً وعشرين مغيثاً من أهل بيته .
(باب إدخال السرور على المؤمن , وزيارة المؤمن) , وهما من أفضل الأعمال كما في الروايات , وقد سعى (عليه السّلام) في إدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات في ذلك اليوم بتسلياتٍ وملاطفات , وأمر بالصبر ومواعظ نحو ذلك ...
(باب عيادة المريض) التي ورد فيها أنَّ عيادة المريض بمنزلة عيادة الله (جلّ جلاله) , ولقد ظهر منه عيادةٌ للمريض والمجروحين حين دعَوه إليهم ليعودهم , فلم يكتفِ بمحض المجيء والجلوس عندهم , بل كان يخصّ بعضهم بملاطفاتٍ خاصّة , وخصوصاً الغرباء منهم ؛ كالعبد الأسود , والغلام التركيّ الذي جاء إليه ووجده قتيلاً ... .
لقد كان من رحمة الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّه كان يخفّف آلام المؤمنين , ويشدّ على قلوب أهل الابتلاء برباط الصبر والتوكّل ؛ فلمّا نُفي اُبو ذرّ ـ الصحابيّ الجليل (رضوان الله عليه) ـ إلى الربذة بأمر عثمان الذي منع الناسَ أن يودّعوه ويشيّعوه , خرج الإمام عليّ وولداه الحسن والحسين (سلام الله عليهم) إلى أبي ذرّ وودّعوه وشيّعوه , وقالوا له كلمات كانت من بينهنّ كلمة الإمام الحسين (عليه السّلام) :
(( يا عمّاه , إنَّ الله قادرٌ أن يغيّر ما قد ترى , والله كلَّ يوم هو في شأن , وقد منعك القومُ دنياهم ومنعتَهم دينَك , فما أغناك عمّا منعوك , وأحوجهم إلى ما منعتهم ! فاسأل الصبرَ والظفر , واستعذ به من الجشع والجزع ؛ فإنَّ الصبر من الدين والكرم , وإنَّ الجشع لا يقدّم رزقاً ولا يؤخّر أجلاً ))(16) .
أو في رواية البرقيّ في المحاسن / 353 , ح 45 , عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) قال : (( لما شيّع أمير المؤمنين (عليه السّلام) أبا ذرّ , وشيّعه الحسن والحسين (عليهما السّلام) , وعقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر (رض) , قال لهم أمير المؤمنين (عليه السّلام) : ودّعوا أخاكم ؛ فإنّه لا بدّ للشاخص من أن يمضي , وللمشيّع من أن يرجع )) .
قال : (( فتكلّم كلّ رجل منهم على حياله , فقال الحسين بن عليّ (عليه السّلام) : رحمك الله يا أبا ذرّ , إنّ القوم إنّما امتهنوك بالبلاء لأنّك منعتَهم دينَك فمنعوك دنياهم , فما أحوجك غداً إلى ما منعتَهم , وأغناك عمّا منعوك !
فقال أبو ذرّ (رحمه الله) : رحمكم الله مِن أهل بيت , فما لي في الدنيا من شجنٍ غيركم , إنّي إذا ذكرتُكم ذكرتُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) )) .
عباراتٌ هي بلسمٌ شافٍ لجراحات أبي ذرّ , قوّمتْه وشدّت عزيمته , وصبّرتْه وقوّت شكيمته , فواصل جهاده ؛ جهاد الكلمة الحقّة العادلة , لا تأخذه في الله لومة لائم حتّى تُوفّي وفيّاً للإسلام , ناصحاً مخلصاً للمسلمين .
وكتب الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى عبد الله بن العبّاس حين سيّره عبد الله بن الزبير إلى اليمن(*) : (( أمّا بعد , بلغني أنّ ابن الزبير سيّرك إلى الطائف , فرفع الله لك بذلك ذكراً , وحطَّ به عنك وزراً , وإنّما يُبتلى الصالحون . ولو لم تُؤجر إلاّ فيما تحب لقلّ الأجر . عزم الله لنا ولك بالصبر عند البلوى , والشكر عند النعمى , ولا أشمت بنا ولا بك عدوّاً حاسداً أبداً . والسّلام ))(17) .
هذه هي الرحمة الحسينيّة , ولكن لنذهب إلى كربلاء لنجدها صوراً تتجاوب معها اللواعج والدموع .
لمّا عرف الإمامُ الحسين (عليه السّلام) من أصحابه صدق النيّة والإخلاص في المفاداة دونه , أوقفهم على غامض القضاء بأنّه مقتولٌ غداً , وكلّهم مقتولون .
فقالوا بأجمعهم : الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك , وشرّفنا بالقتل معك , أوَ لا ترضى أن نكون معك في درجتك يابن رسول الله ؟! فدعا لهم بالخير , وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان , وعرّفهم منازلهم فيها .
ولمّا فرغ (عليه السّلام) من الصلاة يوم عاشوراء قال لأصحابه : (( يا كرام , هذه الجنّة قد فُتحت أبوابها , واتّصلت أنهارها , وأينعت ثمارها , وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم , ويتباشرون بكم ؛ فحاموا عن دين الله ودين نبيّه , وذُبّوا عن حرم الرسول )) .
فقالوا : نفوسُنا لنفسك الفداء , ولَدماؤُنا لدمك الوقاء , فو الله لا يصل إليك وإلى حرمك سوءٌ وفينا عرقٌ يضرب .
إنّها الرحمة الحسينيّة تجعل المُرَّ شهداً .
وقف جون مولى أبي ذرّ الغفاريّ أمام الحسين (عليه السّلام) يستأذنه , فقال (عليه السّلام) : (( يا جون , إنّما تبِعتَنا طلباً للعافية , فأنت في إذنٍ منّي )) .
فوقع جون على قدميه يقبّلهما ويقول : أنا في الرخاء ألحس قصاعكم , وفي الشدّة أخذلكم ! إنَّ ريحي لَنتن , وحسبي لَلئيم , ولوني لأسود , فتنفّسْ عَلَيَّ بالجنّة ليطيبَ ريحي , ويشرف حسبي , ويبيَّض لوني . لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم .
فأذِنَ له الحسين (عليه السّلام) , فقتل خمساً وعشرين وقُتل , فوقف (عليه السّلام) وقال : (( اللّهمَّ بيّضْ وجهه , وطيّب ريحه , واحشره مع محمّد (صلّى الله عليه وآله) , وعرّفْ بينه وبين آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) )) . فكان مَن يمرّ بالمعركة يشمُّ منه رائحةً طيّبةً أذكى من المسك .
وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهليّ شيخاً كبيراً , صحابيّاً رأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسمع حديثه , وشهد معه بدراً وحنيناً , فاستأذن الحسين (عليه السّلام) وبرز شادّاً وسطه بالعمامة , رافعاً حاجبيه بالعصابة , ولمّا نظر إليه الحسين (عليه السّلام) بهذه الهيئة بكى وقال : (( شكر الله لك يا شيخ )) . فقتل على كبره ثمانية عشر رجلاً وقُتل .
ولمّا استُشهد جُنادة الأنصاري جاء ابنه عمرو ـ وهو ابن إحدى عشرة سنة ـ يستأذن الإمامَ الحسين (عليه السّلام) , فأبى وقال : (( هذا غلامٌ قُتِلَ أبوه في الحملة الاُولى , ولعلَّ اُمّه تكره ذلك )) .
فقال الغلام : إنَّ اُمّي أمرتني .
فأذن له فقُتل , فأخذت اُمُّه عموداً , وقيل : سيفاً , فردَّها الحسينُ (عليه السّلام) إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين وهي تنشئ :
إنّي عجوزٌ في النِّسا ضعيفهْ خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ
أضربكم بضربةٍ عنيفهْ دون بني فاطمة الشريفهْ (18)
وقال (عليه السّلام) لبشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرمي : (( إنَّ ابنك قد اُسِر في ثغر الريّ )) .
فقال بشر : عند الله أحتسبه ونفسي .
فلمّا سمع الحسين (عليه السّلام) مقالته قال : (( رحمك الله , أنت في حلٍّ من بيعتي , فاذهب واعمل في فكاك ابنك )) .
قال بشر : أكلتني السباع حيّاً إن أنا فارقتك .
فقال (عليه السّلام) له : (( فأعطِ ابنَك محمّداً هذه الأثواب البرود ـ وكان معه ـ ليستيعن بها في فكاك أخيه )) . وأعطاه خمسة أثوابٍ قيمتها ألف دينار , وقُتل بشر في الحملة الاُولى(19) .
ولا تقف الرحمة الحسينيّة عند حدّ , فبعد شهادة القاسم (عليه السّلام) برز أخوه أحمد بن الحسن , فقاتل حتّى أخذه العطش , فنادى : يا عمّاه ! هل من شربة ماء ؟
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( يابن أخي , اصبر قليلاً حتّى تلقى جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيسقيك شربةً من الماء لا تظمأ بعدها أبداً ))(20) .
فرجع الغلام وقاتل صابراً متصبّراً بكلمة عمّه الحسين (سلام الله عليه) .
ولمّا سقط الإمام الحسين (عليه السّلام) بعد جراحات لا يقوى معها على قيام , نظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن السبط (عليه السّلام) , وله إحدى عشرة سنة , وقد أحدق به القوم , فأقبل يشتدّ نحو عمّه , وأرادت زينب حبسه فأفلت منها , وجاء إلى عمّه , فأهوى بحرُ بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام : يابن الخبيثة ! أتضرب عمّي ؟!
فضربه , واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد , فإذا هي معلّقةٌ , فصاح الغلام : يا عمّاه ! ووقع في حِجر الحسين (عليه السّلام) , فضمّه إليه وقال : (( يابن أخي , اصبر على ما نزل بك , واحتسب في ذلك الخير ؛ فإنّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين )) .
فرمى الغلامَ حرملةُ بن كاهل بسهمٍ فذبحه وهو في حجر عمّه .
في حالةٍ كان يجود الحسين (عليه السّلام) بنفسه ضمَّ إليه ذلك الغلام , وصبّره بتلك الكلمات التي تُنسي الألمَ وشدّة الموقف . إنّها الرحمة الحسينيّة التي فاضت خيراً وإنسانيّة وكرماً لا على الإنسان فحسب , بل تعدّته إلى البهائم .
فعند مبارزته اشتدّ به العطش , فحمل نحو الفرات على عمرو بن الحجّاج فكشف جندَه , وكانوا أربعة آلاف , كشفهم عن الماء وأقحم الفرس الماء ليشرب .
وأكثر من ذلك ما رواه الطبريّ , حيث ذكر في تاريخه : فبعد أن طلع عليهم الحرّ الرياحيّ مع ألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده , أو يقْدم به الكوفة , فوقف الحرُّ وأصحابه مقابل الحسين في حَرِّ الظهيرة.
قال الطبريّ : فلمّا رأى سيّدُ الشهداء ما بالقوم (أي الحُرّ وأصحابه) من العطش أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشّفوا الخيل , فسقوهم وخيولَهم عن آخرهم , ثمّ أخذوا يملؤون القصاع والطساس ويُدنونها من الفرس , فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت وسُقي آخر حتّى سقوا الخيل كلّها .
وكان عليُّ بن الطعان المحاربيّ مع الحرّ , فجاء آخرَهم وقد أضرَّ به العطش , فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أنخِ الراوية )) . وهي الجمل بلغة الحجاز , فلم يفهم مراده , فقال (عليه السّلام) : (( أنخِ الجمل )) . ولمّا أراد أن يشرب جعل الماءُ يسيل من السقاء , فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( أخنث السقاء )) . فلم يَدْرِ (عليّ بن الطعان) ما يصنع ؛ لشدّة العطش , فقام (عليه السّلام) بنفسه وعطف السقاء حتّى ارتوى وسقى فرسه .
وهذه هي الرحمة الحسينيّة العجيبة , فبيده الشريفة يسقي البهائم الظامئة , وبيده الكريمة يقدّم الماء في البيداء المقفرة إلى العطاشى من أعدائه الذين سيشهرون سيوفهم غداً عليه , بل سيبضّعونه بها وهو يعلم ذلك , لكنَّ الرحمة تمنعه من الانتقام منهم وإجراء القصاص قبل الجناية .
وهذا هو الذي أيقظ في الحرّ بن يزيد الرياحيّ حالة الندم والتوبة , متأثّراً برحمة الإمام الحسين (عليه السّلام) , وهذا هو الذي جعل الأجيال تحبّ الإمام الحسين (عليه السّلام) وتُجلُّه وتقدُّسه ؛ لأنّه رجل المكارم , ورجل الأخلاق الفاضلة التي تترفّع ولا تمدّ إلى الناس إلاّ يد رحمة حتّى تشمل الخيول , خيول الأعداء .
قال الشيخ التستري : (باب سقي الماء) , والظاهر أنّه مستحبّ حتّى للكفّار في حال العطش , وللبهائم , وواجبٌ في بعض الأوقات , وأجره أوّل أجرٍ يُعطى يومَ القيامة . وقد تحقّق من الإمام الحسين (عليه السّلام) أنواع السقي كلّها حتّى السقي للمخالفين له , والسقي لدوابّهم بنفسه النفيسة , وسقي ذي الجناح , فقال له : (( اشرب وأنا أشرب ... )) .
(باب الإطعام) , وكفى في فضله أنَّ الخلاص من العقبة قد حُمل عليه في الآية الشريفة : {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } [البلد : 11 - 16].
قال الإمام السجّاد (عليه السّلام) : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً , قُتل ابن رسول الله عطشانَ ))(21) .
أجل , فذلك الرجل العطوف الشفيق الرحيم يُقتل , ويُقتل عطشانَ بعد أن سقى الناس حتّى أعداءه , وحتّى البهائم التي ركبوها للكرّ عليه وقتلِه . وذلك الرجل الطيّب الذي طالما أشبع الجياع قُتل , وقُتل ساغباً جائعاً , وكانت يده السخيّة تحمل الطعام والماء كلَّ ليلةٍ إلى الفقراء والمساكين , والأيتام والاُسَرِ
الأبيّة , حتّى ترك ذلك أثراً على ظهره , فسُئل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عن ذلك , فقال : (( هذا ممّا كان ينقل الجرابَ على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين ))(22) .
إلاّ أنَّ هذا الظهر العطوف قد عملت فيه سيوفُ ورماح وسهام أعداء الله عملَها , ثمّ جاءت خيولهم فداسته . وذلك الصدر الرحيم الذي حمل هموم المحرومين , وفاض بالحنان على اليتامى والمساكين , وجاد على الناس حتّى العدوّ منهم بالنصيحة والموعظة لم يدّخر من ذلك شيئاً , قد هشّمته السيوفُ وسنابك الخيل .
وذلك الوجه النوريّ المقدّس الذي سجد لله طويلاً , وبكى على آلام الناس طويلاً فُصلِ عن البدن ورُفع على الرمح ؛ تشفّياً ونكالاً , ولم يستحِ العدوُّ وقد رأى الحسينَ (عليه السلامُ) يبكي , فسُئل عن ذلك وهو في ساحة الطفّ , فأخبر بأنّه يبكي على أعدائه حيث احتشدوا عليه يريدون قتله , وبذلك يدخلون النار بانتهاك حرمته .
لقد كان منهم ما تتفطّر له السماوات وتنهدّ الجبال ؛ حيث :
فرى الغيُّ نحراً يَغبطُ البدرُ نورَه وفي كلِّ عِرقٍ منه للحقِّ فرقدُ
وهشّمَ أضلاعاً بها العطفُ مودَعٌ وقطّع أنفاساً بها اللطفُ موجَدُ(23)
ــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 77 / 167 .
(2) كنز العمال ـ الخبر 44154 .
(3) بحار الأنوار 77 / 383 .
(4) غرر الحكم / 66 .
(5) غرر الحكم / 218 .
(6) غرر الحكم / 148 .
(7) غرر الحكم / 187 .
(8) غرر الحكم / 99 .
(9) تفسير نور الثقلين 3 / 466 ح 197 .
(10) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي 2 / 78 , واللهوف / 64 , تاريخ الطبريّ 6 / 256 .
(11) مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 28 .
(12) مدينة المعاجز ـ للبحرانيّ / 244 .
(13) جلاء العيون ـ للعلاّمة المجلسي .
(14) مقتل أبي مخنف / 132 .
(15) زينب الكبرى (عليها السّلام) / 119 .
(16) الروضة من الكافي ـ للشيخ الكليني / 207 .
(*) هكذا وردت العبارة هنا مأخوذة عن الحراني في تحف العقول , وحينما راجعنا المصدر الأساس وجدناها كما نقلها الأخ المؤلِّف , ولكن الغريب أننا لم نجد أي مؤرخ يذكر تسيير ابن الزبير لعبد الله بن العباس أيام الإمام الحسين (عليه السّلام) , وإنما أجمع المؤرّخون على أن هذا التسيير قد وقع بعد شهادة الإمام (عليه السّلام) , بل بعد ثورة المختار سنة (66) للهجرة ؛ وعليه فلا يمكن قبول ما ذُكر . اللهمّ إلاّ إذا قلنا : بأنّ هذا الكتاب هو من الإمام السجاد (عليه السّلام) لابن عباس , فحينها يمكن تصحيح الرواية على هذا القول . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(17) تحف العقول / 177 .
(18) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 2 / 22 .
(19) العيون العبرى ـ للسيّد إبراهيم الميانجيّ / 111 .
(20) مقتل أبي مخنف / 126 .
(21) الخصائص الحسينيّة / 33 .
(22) المناقب 4 / 66 .
(23) من قصيدة للسيّد صالح ابن العلاّمة السيّد مهدي بحر العلوم .