السخاء خُلقٌ من أخلاق الأنبياء على نبيّنا وآلِه وعليهم أفضلُ الصلاةِ والسّلام , قال تعالى : {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان : 17]. والرسولُ الكريمُ هنا هو موسى (سلام الله عليه) .
وقال تعالى : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة : 40] .
وهنا المراد به المصطفى محمّد (صلَّى الله عليه وآلِهِ) الذي جمع الشمائلَ الشريفة كلَّها , وكان منها الكرم المادّيُّ والمعنويّ , في الأقوال والأفعال والصفات .
والسخاء خلُقٌ يُحبُّه الله (جلَّ وعلا) , ويدعو عبادَه إليه , فقال عزَّ مِن قائل : {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل : 20] . وفي الحديث الشريف قال النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) : (( خُلقانِ يُحبّهما الله , وهما حُسْنُ الخلُق , والسخاء )) .
ومع أنَّ السخاءَ من حُسْنِ الخلُق , إلاّ أنّه جاء مُميَّزاً معتنىً به , مُفرداً له لفظٌ , ومعدوداً من بين خلُقَينِ يُحبُّهما الله سبحانه وتعالى ؛ اهتماماً به .
وبين السخاء والكرم والجُودِ والسماحة مشتركاتٌ في المعنى وفروقات , نستطيع فهمَها بعد التأمّل في هذه الأحاديثِ الشريفة :
قال النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( الرجالُ أربعة ؛ سخيٌّ وكريم , وبخيلٌ ولئيم ؛ فالسخيُّ الذي يأكلُ ويُعطي , والكريمُ الذي لا يأكلُ ويُعطي , والبخيل الذي يأكلُ ولا يُعطي , واللئيمُ الذي لا يأكلُ ولا يُعطي )).
وسُئل الإمامُ الصادق (عليه السّلام) عن حدّ السخاء , فقال : (( تُخرجُ مِن مالِكَ الحقَّ الذي أوجبَه الله عليك فتضعُه في موضعه )) .
وجاء عنه (سلامُ الله عليه) أيضاً أنّه قال : (( السخيُّ الكريم الذي يُنفقُ مالَه في حقٍّ )) .
ورُوي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (صلواتُ الله عليه) أنّه قال : (( السخيُّ يأكلُ مِن طعام الناس ليأكلوا من طعامه , والبخيلُ لا يأكلُ من طعام الناس لئلاّ يأكلوا من طعامه )) .
فالسخاء ليس في الإعطاء فحسب , بل في مقدِّماته أيضاً ؛ بأن يَمُدّ الرجلُ يدَه إلى طعامٍ يُدعى إليه ؛ تواضعاً لِما يُقدّم له , واستجابةً لدعوةِ الإخوان , وتشجيعاً لهم على أن يأكلوا من عنده , وكذا تشجيعاً لهم على الكرم . ألم نقرأ قولَ مولانا الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) في مواعظه الشريفة : (( مَن قَبِلَ عطاءَك فقد أعانَكَ على الكرم )) .
أمّا الجُود , فيقول الشيخُ الجليل محمّد مهدي النراقيّ (رحمه الله) في بيانه : اتّصافُه [المنفق] بالجود بقدْرِ ما تتّسع له نفسُه من قليلٍ أو كثير . وتختلفُ درجاتُ ذلك ؛ فاصطناعُ المعروف أمرٌ وراءَ ما تُوجبه العادةُ والمُروّة , وهو الجودُ بشرطِ أن يكون عن طيبةٍ من النفس , ولا يكون لأجلِ غرضٍ من خدمةٍ أو مدحٍ أو ثناء ؛ إذ مَن يبذلُ المالَ بعِوضِ المدحِ والثناءِ أو غيرِه فليس بجواد , بل هو بيّاعٌ يشتري المدحَ بماله ؛ لكونِ المدحِ ألذَّ عنده من المال .
فالجودُ هو بذلُ الشيء عن طيبةٍ من القلبِ من غير غرض , فإذا لم يكن غرضُه إلاّ الثوابَ في الآخرة , ورفعَ الدرجات , واكتسابَ فضيلةِ الجود , وتطهيرَ النفسِ عن رذيلةِ البُخل سُمّي جواداً .
و أمّا في بيان السماحة فنُوردُ هاتينِ الروايتين :
قال أمير المؤمنين عليٌ لولده الحسن (سلام الله عليهما) : (( يا بُنيَّ , ما السماحة ؟ )) .
قال : (( البذلُ في العسر واليُسر )) .
وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( خيارُكم سمحاؤُكم , وشِرارُكم بُخلاؤُكم )) .
ثمّ قال (سلام الله عليه) : (( إنَّ صاحبَ الكثير يهونُ عليه ذلك (أي البِرّ) , وقد مدح الله (عزَّ وجلَّ) صاحبَ القليل فقال : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر : 9] .
والإمامُ الحسين (صلواتُ الله عليه) يجمع كلَّ فضائل الكرم والسخاءِ , والجود والسماحة , ويضمُّ إليها مراقي الخصال والصفات الحميدةِ الطيّبة والأخلاق المحمودةِ , هذا ما حكتْه لنا سيرتُه الطاهرة .
فإذا كان السخاء من الإيمان ؛ لقولِ الرسول المعظّم (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ السخاء من الإيمان )) , ولقولِه (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ أفضلَ الناسِ إيماناً أبسطُهم كفَّاً )) , فمَن ينافسُ الحسينَ (عليه السّلام) في ثبات إيمانه ورسوخه وشموخه ؟!
وإذا كان للسخاء معالم ؛ منها الابتداءُ بالأَوْلى , ومعرفةُ ما يجبُ بذلُه , والصدورُ عن طيبِ قلب , والإنفاق خالصاً لوجهِ الله تعالى , وما إلى ذلك , فمَنْ يزاحمُ الإمامَ الحسينَ (سلامُ الله عليه) في هذه المعارف والمعاني والحالات ؟!
لقد بذل (صلواتُ الله عليه) حتّى عُرِف أنَّه لا يخشى النفاد ؛ لأنَّه أحسنَ الظنَّ بالله تعالى ؛ إذ هو الرزَّاق ذُو القوَّةِ المتين . فكانَ (عليه السّلام) كما قال وكما دعا ؛ حيث ورد عنه (سلام الله عليه) في جملةِ حِكَمِه قولُه : (( إنَّ أجودَ الناسِ مَنْ أعطى مَنْ لا يرجوه )).
ولقد أعطى مَنْ يئس من الناس , وأعطى فوق ما ينتظر المعسر . ولا تستغرب وهو القائل : (( مالُكَ إنْ لم يكنْ لك كنتَ له , فلا تُبقِ عليه ؛ فإنَّه لا يُبقي عليك , وكُلْه قبل أنْ يأكلَك )) .
ولقد زهد (صلواتُ الله عليه) في الدنيا , وأحبَّ للناس أن يأخذوا منها حاجاتِهم , ولو أعطاهم مِن عنده ما يخلّفُ لديه خصاصة . فما أوفقَه (سلام الله عليه) مصداقاً لقول جَدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : (( ما جُبِلَ وليُّ الله إلاّ على السخاء . والسخاءُ ما يقعُ على كلِّ محبوبٍ أقلُّه الدنيا . ومِن علاماتِ السخاء أن لا يُبالي مَن أكلَ الدنيا , ومَن ملكها ؛ مؤمنٌ أو كافر , ومطيعٌ أو عاصٍ , وشريفٌ أو وضيع .
يُطعم غيرَه ويجوع , ويكسو غيرَه ويعرى , ويُعطي غيرَه ويمتنعُ من قبول عطاءِ غيره , ويُمَنُّ بذلك ولا يَمُنّ , ولو ملكَ الدنيا بأجمعها لم يرَ نفسه فيها إلاّ أجنبيّ , ولو بذلها في ذات الله (عزَّ وجلَّ) في ساعةٍ واحدةٍ ما ملء ))(1) . أو في روايةٍ : (( ما مَلّ )) .
فالسخيّ مَن بذل ولم يخشَ الفقر , وأطعمَ غيرَه وجاع , وأعطى غيرَه وامتنع من قبولِ عطاءِ غيره إذا كان ذلك الغيرُ مُغرضاً , أو كان السخيُّ يخشى على نفسِه الطمع . إذاً فالسخاء ما حظيَ بخصلة العفَّة والإباء , فهذا من كرمِ النفس وعزّتِها .
ولقد ذَكَر لنا التاريخُ أنَّ الإمامَ موسى بن جعفرٍ الكاظم (عليه السّلام) قال : (( إنَّ الحسنَ والحسين (عليهما السّلام) كانا لا يقبلانِ جوائزَ معاوية بنِ أبي سفيان ))(2) ؛ ذلك أنَّ معاويةَ كان يحاول بجوائزه أن يستميلَ الإمامين (عليهما السّلام) ـ وحاشاهما ـ ليقولا له بالإمامةِ الشرعيّة , والخلافة على المسلمين , وهيهات هيهات ذلك ! هذا من جهة .
ومن جهةٍ اُخرى كان يحاول أن يقول للناس : إنَّ الأئمَّةَ ـ حاشاهم ـ أهلُ دنيا ؛ ألا ترَونَ كيف يفرحون بالهدايا , ويطمعون بالعطايا , ويتنازلون بذلك عن شؤون الدين واُمور المسلمين ؟.
قال محمّدُ بنُ طلحةَ الشافعيّ : وقد اشتهر النقلُ عنه (صلواتُ الله عليه) (أي الحسين عليه السّلام) أنَّه كان يُكرم الضيف , ويمنحُ الطالب , ويصلُ الرحم , ويُنيلُ الفقير , ويُسعفُ السائل , ويكسو العاري , ويُشْبع الجائع , ويُعطي الغارم , ويشدّ من الضعيف , ويُشفقُ على اليتيم , ويُعين ذا الحاجة , وقَلَّ أن وَصَلَه مالٌ إلاّ فرَّقَه .
ونُقل أنَّ معاويةَ لمَّا قدِمَ مكَّةَ وصله بمالٍ كثير , وثيابٍ وافرة , وكسواتٍ وافية , فردَّ الجميعَ عليه ولم يقبلْه منه , وهذا سجيّةُ الجواد , وشِنشنة الكريم , وسمةُ ذي السماحة , وصفةُ مَن قد حوى مكارمَ الأخلاق ؛ فأفعالُه المَتْلُوَّةُ شاهدةٌ له بصفةِ الكرم , ناطقةٌ بأنَّه متَّصفٌ بمحاسنِ الشِّيم .
ولقد أجاد مَن قال في مدح الأئمّة (عليهمُ السّلام) :
كرُموا وجادَ قبيلُهم مِن قبلِهم وبنوهُمُ مِن بعدهم كُرَماءُ
فالناسُ أرضٌ في السماحةِ والندى وهمُ إذا عُدَّ الكرامُ سماءُ
وكلُّ ما قيل في الكرم والسخاء , والجود والسماحة ينطوي في أخلاق الإمام الحسين (سلام الله عليه) ويصغر ؛ ذلك لأنَّ أخلاق الحسين (عليه السّلام) ـ ومنها الكرم ـ هي على أفضل النيّةِ وأصلحها , وأنورِ الحكمةِ وأعقلها .
ثمّ إنَّ الكرمَ الحسينيّ يشملُ كلَّ ما ورد من خصائصَ وفضائلَ يحملها السخاءُ والجود والسماحة , حتّى لَيتميَّز عن كرمِ الناسِ باقترانِه بأخلاقٍ اُخرى , ومعانٍ عُلْويَّةٍ اُخرى , ومحاسنَ شريفةٍ اُخرى . فهو كرمٌ مقترنٌ بخلُقٍ طيّبٍ آخر , وهو كرمٌ مع فضلٍ نافل آخر .
تعالوا نتعرّف على ذلك ونحن نمشي مع الحسين (عليه السّلام) في أخلاقه , وتعالَوا نتبيَّنْ ذلك من خلال الأخلاق الحسينيّة .
1 ـ السخاء مع الموعظة
فقد كان الإمامُ الحسين (عليه أفضلُ الصلاةِ والسّلام) يُقرن الكرمَ المادّيّ بالكرم المعنويّ ؛ فيُسدي النصيحةَ والموعظة ما أمكنه إلى مَن جاء يسأله , ولا يبخل عليه بحكمةٍ أو وصيّةٍ تنفعه ؛ فالمرءُ قد يحتاج إلى المال , لكنَّه إلى المواعظ أحوج .
عن عبد الرحمن العرزميّ , عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( جاء رجل إلى الحسنِ والحسين (عليهما السّلام) وهما جالسانِ على الصفا , فسألهما فقالا : إنَّ الصدقةَ لا تحلُّ إلاّ في دَينٍ مُوجِع , أو غرْمٍ مُفظع , أو فَقْرٍ مُدقع , ففيكَ شيءٌ من هذا ؟ قال : نعم . فأعطَياه , وقد كان الرجلُ سألَ عبد الله بنَ عمر وعبدَ الرحمنِ بنَ أبي بكر فأعطياه ولم يسألاهُ عن شيء , فرجع إليهما فقال لهما : ما لكُما لم تسألاني عمَّا سألني عنه الحسنُ والحسين ؟!
وأخبرهما بما قالا , فقالا : إنَّهما غُذِّيا بالعلمِ غذاءاً ))(3) .
وجاء الحسينَ (عليه السّلام) رجلٌ من الأنصار يريد أن يسأله حاجة , فقال (عليه السّلام) : (( يا أخا الأنصار , صُن وجهَكَ عن بِذلةِ المسألة , وارفعْ حاجتَكَ في رقعة ؛ فإنّي آتٍ فيها ما سارّك إنَّ شاء الله )) . فكتب : يا أبا عبد الله , إنَّ لفلانٍ عَلَيَّ خمسمئةِ دينار , وقد ألحَّ بي , فكلّمْه ينظرْني إلى ميسرة .
فلمّا قرأ الحسينُ (عليه السّلام) الرقعة دخل إلى منزله , فأخرج صُرَّةً فيها ألفُ دينار , وقال له : (( أمَّا خمسمئة فاقضِ بها دَينَك , وأمَّا خمسمئة فاستعنْ بها على دهرك , ولا ترفعْ حاجتَكَ إلاّ إلى أحدِ ثلاثة ؛ إلى ذي دِين , أو مُروَّة , أو حسب ؛ فأمَّا ذو الدِّين فيصون دينَه ؛ وأمَّا ذو المُروَّةِ فإنَّه يستحيي لمروّته ؛ وأمَّا ذو الحسب فيعلم أَنَّك لم تُكرمْ وجهَك أن تبذلَه له في حاجتِك , فهو يصون وجهَك أن يَرُدَّك بغيرِ قضاءِ حاجتِك ))(4) .
ولو وقفنا متأمّلين في هذه الرواية لوجدنا :
أوّلاً : أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) جمع إلى الكرمِ الماليّ الكرمَ المعنويّ ؛ بإسداءِ الحكمةِ والموعظة .
ثانياً : أعطانا درساً في الأخلاق والشخصيّة , وهو ألاّ يُسرعَ المرءُ إلى السؤال , السؤال هو بذلُ ماءِ الوجه فلا يسترخصْه لأتفهِ الأسباب ؛ كأن يبذّرُ فيعتمد على السؤال , أو يتكاسل عن العمل ويرجو إعانةَ الناس ؛ فمِن سماتِ شخصيّة المؤمن الحياء , أمَّا كثرةُ السؤال فتُذهب الحياء .
ثمَّ إذا اضطُرَّ المرءُ إلى المسألة فعليه :
أ ـ أن يتكتّمَ ويتحرَّج في الطلب , ويتّخذ أشرفَ الأسباب إلى الاقتراض مثلاً , وأحفظها لكرامته .
ب ـ أن يختارَ من الناس مَن يحفظُ عليه ماءَ وجهه وكرامتَه , وقد وفَّرَ علينا الإمامُ الحسين (عليه السّلام) وعلى السائل عناءَ البحث عمّن يحفظ ماءَ وجهه وكرامته ؛ حيث دلاّه على ثلاثة ؛ إمَّا ذي دِين , أو مروّة , أو حسَب .
ثالثاً : جمع الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) إلى الكرم كفايةَ السائل , فلم يُعطِه نصفَ المبلغ مثلاً وقال له اطلبْ نصفَه الآخر من غيري , بل أعطاه ما يسدّ به دَينَه , ثمَّ زاد على ذلك بأن وهبَه خمسَمئةِ دينارٍ اُخرى يتوسَّع بها , ويُوسِّع بها على عياله ؛ فالمَدينُ لا بدَّ أن يكون عيالُه في ضائقة , ويستعين بها على ما بعد الدَّين ؛ لكي لا يستدينَ مرَّةً اُخرى .
ثمَّ لا يفوتنا أنَّ الرجلَ حينما قدِم إلى الإمام الحسين (سلام الله عليه) كأنّه كان قد نوى سؤالَ حاجته , فلمَّا أرشده الحسين (عليه السّلام) إلى صيانةِ وجههِ عن بذلة المسألة , ورفعِ حاجته في رقعة , كتب الرجلُ يسألُه أن يُكلِّمَ دائنَه في أن يُمهلَه إلى حين السعةِ والميسرة , ولم يكتبْ له في رقعته أن هبني ما أحتاجه وهو خمسُمئةِ دينار .
وكأنّه قد تعلَّم الدرس سريعاً , وكأنَّ الإمامَ الحسين (عليه السّلام) قد كافأه على ذلك ؛ بأن أكرمَه بما يقضي به دَينَه , وكافأه بخمسمئةِ دينارٍ اُخرى على حسن تعلّمه للدرس الأخلاقيّ , وهو صيانه الوجه عن بذلة المسألة , فصانَ وجهَه عن مطالبةِ الدائن , وعن المسألة في المستقبل , ووفّى (عليه السّلام) بما وعدَه بأن يُؤتيَه ما يسرّه , وكان ما يسرّه قضاء دينه , والسعة في المستقبل .
فكان إلى كرم الحسين (عليه السّلام) التكريم والمكافأة والرحمة ؛ لأنَّ
المَدينَ يشعرُ بالذلِّ , ويشعر بالقلق غالباً .
قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : (( لا تزال نفسُ المؤمن معلَّقةً ما كان عليه دَين ))(5) .
وقال الإمام عليٌّ (عليه السّلام) : (( إيَّاكُمْ والدَّين ؛ فإنَّه هَمٌّ بالليل , وذُلٌّ بالنهار ))(6) . هذا في الدَّين , أمَّا في المعيشة فيقول نبيُّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ النفسَ إذا أحرزتْ قُوتَها استقرَّتْ ))(7) .
وقد جادَ الإمامُ الحسين (عليه السّلام) على هذا الرجل السائل بالرحمة حين رفع عنه دَينَه , وأمَّنَ له قُوتَه للمستقبل , وكلُّ هذا كان مع الموعظة .
ذلك الكرمُ المعنويّ , فسلامُ الله عليك يا أبا عبد الله , يابن رسول الله , أيُّها الغصنُ الأشمُّ العاطر من الشجرةِ النبويّة والدوحة الهاشميّة .
2 ـ السخاء مع حفظ ماء الوجه
ولا يخفى على اللبيب أنَّ السائل إذا كان ذا عزَّةٍ وكرامة لا يهون عليه أن يبذلَ ماءَ وجهه إلاّ إذا اضطُرَّ لذلك , ووجدَ ذا دينٍ أو مروءةٍ أو حسب , فينهض إليه يعرض حاجته , فتتعثّرُ قدماه بأذيال الحياء , وتتردّد خطاه فيقوم بدافع الفاقة والضائقة , ويُحجم اُخرى بدافع العزّة والإباء , ثمَّ لا يجدُ بُدَّاً من أن يُعرِبَ عن حاجته وهو يُحسُّ أنّه باعَ ماء وجهه ولا يدري ماذا سيشتري به ؟
أيحصَلْ على ما يفكّ به ظنكَه , أم يرجعُ خائباً محروماً وقد ذهب ماءُ وجهه في غير موضعه ؟
هذا ما يجول في خاطر السائل , أمَّا مَن يقْدمُ على ريحانةِ المصطفى أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) فإنَّه لا يَرجِعُ إلى أهله وعياله إلاّ بالعطاءِ موفوراً , وبالكرامةِ محفوفاً , قد قضى الحسينُ (عليه السّلام) له حاجتَه , ونفّسَ كربتَه , ويسّر عُسرتَه , وحلَّ ضائقتَه بكرمه الغزير . وكلُّ ذلك يحظى به السائلُ عنده مع حفظ ماء الوجه , يشتريه بالتكريم ممّنِ اضطُرَّ إلى بيعه .
أعطى السائلَ الذي أتى إليه ألفاً , فأخذ ينقدها , فقال الخازن : بعتَنا شيئاً ؟
قال السائل : ماءَ وجهي .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( صَدَق , أعطِه ألفاً وألفاً وألفاً ؛ (الأوّل) لسؤالِك , (الألف الثاني) لماءِ وجهك , (الألف الثالث) لأنّك أتيتنا ))(8) .
وأعطاه رجلٌ قطعةً , فقال له الإمامُ الحسين (عليه السّلام) : (( حاجتُك مقضيّة )) , قبل قراءتها , فقيل له : هلاّ رأيتَ ما فيها .
قال : (( يسألُني الله عن وقوفه بين يدَيّ حتّى أقرأها ))(9) .
وفي روايةٍ اُخرى : قيل له : يابنَ رسولِ الله , لو نظرتَ في رقعته ثمَّ رددتَ الجوابَ على قدْرِ ذلك .
فقال : (( يسألُني الله تعالى عن ذُلِّ مَقامِه بين يدَيّ حتّى أقرأَ رقعتَه ))(10) .
أيُّ تقوى هذه ! وأيُّ عاطفةٍ شفّافةٍ تلك ! إنَّه الحسين سبطُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , ورث عن جَدِّهِ الأخلاقَ العظيمة , فحظيَ منه الناس بالكرمِ المُكْرِم , وبالعطاء والتكريم , وبالجود والكرامة .
ويبلغُ شرفُ السخاءِ عن الإمام الحسين (عليه السّلام) أنَّ سائلاً يتوهَّمُ فيأتي الحسينَ يظنُّه الحسنَ أخاه (سلام الله عليهما) ؛ لأنّه كان قد وعدَه بمكافأة , فلم يفشله , ولم يخيّبْه , ولم يكشف له توهّمَه , وإليك الرواية بتفاصيلها كما ينقلُها الخوارزميّ , حيث يقول :
خرج الحسن (عليه السّلام) إلى سفرٍ , فمرَّ براعي غنم , فنزل عنده فألطفه وبات عنده , فلمَّا أصبح دلّه على الطريق , فقال له الحسن (عليه السّلام) : (( إنّي ماضٍ إلى ضيعتي ثمّ أعود إلى المدينة )) . ووقّت له وقتاً وقال له : (( تأتيني به )) .
فلمّا جاء الوقتُ شُغل الحسنُ بشيءٍ من اُموره عن قدوم المدينة , فجاء الراعي وكان عبداً لرجلٍ من أهل المدينة , فصار إلى الحسين وهو يظنُّه الحسنَ , فقال : أنا العبدُ الذي بتَّ عندي ليلةَ كذا , ووعدتَني أن أصيرَ إليك في هذا الوقت .
وأراه علاماتٍ عرَف الحسينُ أنّه الحسن , فقال الحسينُ له : (( لمَنْ أنت يا غلام ؟ )) .
فقال : لفلان .
فقال : (( كم غنمُك ؟ )) .
قال : ثلاثمئة . فأرسل إلى الرجل فرغّبه حتّى باعه الغنمَ والعبدَ , فأعتقه ووهبَ له الغنمَ ؛ مكافأةً لما صنع مع أخيه , وقال : (( إنَّ الذي باتَ عندك أخي , وقد كافأْتُكَ بفعلِكَ معه ))(11) .
أيُّ خلُقٍ هذا ! حَفِظَ به ماءَ وجهِ العبدِ إذ جاءه متوهّماً بعد أن ظنَّ أنَّه الحسنُ (عليه السّلام) , فكافأه أصالةً عن نفسه الشريفة , ونيابةً عن أخيه , ولم يردَّه لتوهّمه . وقد أحسنَ المكافأةَ أيّما إحسانٍ ؛ بأن أعتقه , واشترى له غنماً كثيرة فيتحرّر بذلك من رقِّ العبوديّة لذلك الرجل , ومن رقِّ سؤال الناس والحاجة المُحرجة ؛ فيكفّ يدَه ولسانَه عن السؤال , ولا يبذل ماءَ وجهه للناس .
وهو (سلام الله عليه) شجّع على الإحسان لأنّه يُحبّه , وكافأَ عليه ليسودَ المعروف ولا ينقطعَ سبيلُه , وأكرمَ القادمَ عليه وإن كان متوهّماً ؛ فحفِظ عليه ماءَ وجهه ؛ فبذلك جمع إلى السخاءِ الماديّ السخاءَ المعنويّ , وردَّ الغلامَ العبدَ إلى أهله حُرَّاً مكرَّماً , مسروراً مطمئنَّاً , قد رُفع عنه همُّ العيش وذلَّةُ الرقِّ والعبوديّة للناس .
وليس عجيباً أن يصدر ذلك من رجلٍ ورث أكرمَ الخلْق محمّداً (صلّى الله عليه وآله) , إنَّما العجيبُ حقَّاً أن يُبخَلَ على هذا الكريم بقطرةِ ماء بعد أن أجهده القتال أمام الآلافِ المؤلّفة من جيش عمر بن سعد , وقد قال له الشمر : لا تذوقه حتّى تَرِدَ النار ! وناداه رجل : يا حسين , ألاَ ترى الفراتَ كأنّه بطونُ الحيّات ؟ فلا تشرب منه حتّى تموتَ عطشا ! من هوان الدنيا على الله إذ يشتدّ العطشُ بالكريم , فيحول بينه وبين الماءِ لئيم !
وقد عُرف الإمام الحسين (سلام الله عليه) بصدقات السرّ . يقول العالم الشيخ جعفر التستريّ (رضوان الله عليه) في جملةِ خصائص الحسين (عليه السّلام) : ومنها الصدقات , فقد تحقّقتْ منه خصوصيّةٌ فيها ما سُمعتْ من غيره ؛ وذلك أنّه رأَوا في ظهره يومَ الطفِّ ثفنات , فسُئل السجّادُ ولدُه (عليه السّلام) عنها , فقال : (( إنَّ ذلكَ ممّا كان ينقلُه في الليلِ على ظهرِه للأرامل والأيتام )) .
قال الراثيّ :
وإنَّ ظَهراً غدا للبِرِّ ينقلُه سرّاً إلى أهله ليلاً لَمكسورُ
أجل , فذلك الظهر لا أدري كم هوتْ عليه سيوفُ الغدر , وطعنتْ به رماحُ الكفر حتّى مزّقتْه وكسّرته كما كسّرتْ ... ! كسّرتْ ذلك العاتقَ الشريفَ الذي حمل إلى الجياع والمساكين , والأطفال واليتامى والأرامل ما يسدّون به جَوعتَهم , ويحفظون به ماءَ وجوههم .
قد ضربوا عاتقَه المُطَهَّر بضربةٍ كبا لها على الثَّرى
ذلك بعد أن جمع الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى الكرم الرحمةَ الرقيقة , والاُبوَّةَ الشفيقة , والسترَ على ذُلِّ المحتاجين , والكرامةَ على مَن يشعُر بعار السؤال حتّى أنسى القادمينَ عليه أنّهم سائلون ؛ لجميلِ ما أكرمهم به , وطيبِ ما قابلهم به .
جاء أعرابيّ إلى الحسين (عليه السّلام) فقال : يابنَ رسول الله , قد ضمنتُ دِيةً كاملةً وعجزتُ عن أدائها , فقلتُ في نفسي : أسألُ أكرمَ الناس , وما رأيتُ أكرمَ مِن أهل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( يا أخا العرب , أسألك عن ثلاثِ مسائل ؛ فإن أجبتَ عن واحدةٍ أعطيتُك ثلُثَ المال , وإن أجبتَ عن اثنتين أعطيتُك ثلُثَي المال , وإن أجبتَ عنِ الكلِّ أعطيتُك الكلّ )) .
فقال الأعرابيّ : يابن رسول الله , أمِثلُكَ يسألُ مثلي وأنتَ من أهل العلمِ والشرف ؟!
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( بلى , سمعتُ جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : المعروف بقدْرِ المعرفة )) .
فقال الأعرابيّ : سَلْ عمّا بدا لك , فإن أجبتُ وإلاّ تعلّمتُ منك , ولا قوَّةَ إلاّ بالله .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أيُّ الأعمالِ أفضل ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الإيمان بالله .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فما النجاةُ مِن الهَلَكة ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الثقة بالله .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فما يزين الرجل ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : علمٌ معه حِلْم .
قال : (( فإن أخطأه ذلك ؟ )) .
فقال : مالٌ معه مروّة .
قال : (( فإن أخطأه ذلك ؟ )) .
فقال : فَقْرٌ معه صبر .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فإن أخطأه ذلك ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : فصاعقةٌ تنزل من السماء وتُحرقه ؛ فإنَّه أهلٌ لذلك .
فضحك الإمام الحسين (عليه السّلام) ورمى له بصُرّةٍ فيها ألفُ دينار , وأعطاه خاتمَه وفيه فصٌّ قيمتُه مئتا درهم , وقال : (( يا أعرابيّ , أعطِ الذهبَ إلى غرمائك , واصرفِ الخاتمَ في نفقتك )) .
فأخذ الأعرابيّ ذلك وقال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام : 124](12).
وهنا تعالوا نتوقّف عند هذه الرواية لنرى ماذا كان غيرُ الكرم الحسينيّ ؟
أوّلاً : إنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) أنسى الأعرابيّ مسألتَه وحاجتَه , فارتفع حَرَجُه , وذهبتْ عنه ذلّتُه . وليس ذلك فحسب , فإنَّه (سلام الله عليه) غيَّر جَوَّ المسألة والحاجة والطلب إلى جوِّ السؤال والجواب والعلم , فإذا بالأعرابيّ يجدُ نفسَه أمامَ عالِمٍ يُريد أجوبةً منه , وإن تظاهر ذلك العالِمُ أنَّه يُحبّ أن يسمع إجاباتِ المسائل الثلاث , حتّى تساءل الأعرابيّ متعجّباً : يابن رسول الله , أمثْلُك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف ؟!
وهذا يدلُّ على أنَّ الأعرابيّ لم يشعرْ أنَّه في جوِّ امتحان , إنَّما في جوٍّ علميّ تُطرح فيه الأسئلة ويُطلبُ منه ما ينفع المستمعين ؛ فأجاب على أيِّ الأعمال أفضل , وما النجاة من الهلكة ؟ وكان السؤال الثالث : ما يزينُ الرجل ؟ فأجاب : علْمٌ معه حِلْم .
ويبدو أنَّ الأسئلة الثلاثة قد انتهت , إلاّ أنّنا نرى أنَّ أسئلةً اُخرى قد طُرحتْ بصيغةٍ متتابعة , وهي : فإن أخطأه ذلك ؟ وإذا لم تكن أسئلة فهي تفريعات على السؤال الثالث . ولم نسمع من الأعرابيّ اعتراضاً على تجاوز السؤال الثالث إلى الرابع فالخامس فالسادس , أو قُلْ إن شئتَ : على التفريعات الإضافيّة الثلاثة للسؤال الثالث , إنَّما مضى يُجيب وكأنّه نسيَ أنّه قد جاءَ بحاجةٍ , وهي قضاءُ ديةٍ كاملةٍ في عاتقه ؛ ممّا يدلُّ على أنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) قد خلقَ له جَوَّاً آخرَ ذهب فيه عن الأعرابيّ ما قد أحرجه من السؤال في قضاءِ حاجته .
ودليلٌ بيِّنٌ على ذلك أنَّ السؤال الأخير قد أجاب عليه بجملةٍ دعتِ الحسين (عليه السّلام) يضحك , فكان جوَّ إخاءٍ ومفاكهة , ومفاكهةُ الإخوان من الأخلاق الفاضلة , لا سيّما إذا كانت معقولةً لا إسرافَ فيها , وجاءت مُذهبةً للهمّ , مزيلةً للتعبِ والعناء.
ثانياً : جعل الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) عطاءَه للأعرابيّ بصيغة مكافأةٍ علميّة لا بصيغةِ صدقةٍ على سؤال , وهذا أحفظُ لماءِ الوجه , وأكرم للرجل الوجيه الذي يحمل في صدره علماً .
ثالثاً : من خلال المباحثة العلميّة النافعة يستفيد القارئ أنَّ الحسين (عليه السّلام) يشجّع على العلم , ويدعو إلى ذكر الله , وقد استطاع أن يُظهرَ علمَ الأعرابيّ . وأقول : علم الأعرابيِّ ؛ لأنَّ الإمامَ الحسين (عليه السّلام) أقرَّ على أجوبته , فهي صحيحة بالنسبة لأمثاله على أقلِّ الفروض , ولو كانت خطأً لردَّ عليها . ولم يخلُ اللقاءُ أو المجلس من ذكرٍ لله تعالى , ومن استفادةٍ علميّة للحاضرين إذا كان هناك مَن حضر .
رابعاً : كان من كرم الإمام الحسين (عليه السّلام) أن زاد الأعرابيّ على حاجته , فأعطاه مبلغ الدية , ووهبَه خاتمَه لينفق ثمنه على ما يحتاجه , وبهذا يجمع الإمام الحسين (سلام الله عليه) إلى السخاء حفظَ ماءِ الوجه , والتذاكرَ في العلم , والعطاء بما يزيد على السؤال ؛ فلعلَّ سائلاً يخجل أن يطلب أمرين : مبلغَ الدية مثلاً , وما يستعين به على حاجاته ونفقات عياله . وقد كفاه الإمام الحسين (عليه السّلام) الأمر الثاني ؛ فأعطاه خاتمَه من غير أن يسألَه ذلك . فسلامٌ عليك يا سليلَ النبوَّة ووريث الإمامة .
ولعلَّك استأنستَ بالرواية , وقد يحدوك الاستئناسُ إلى أن ترجعَ إليها تقراُها ثانيةً , لكنّي ـ وإن كنتُ لا أقف في طريق رجعتك إليها ـ أدعوك إلى أن
تقرأ الرواية من قلم الفخر الرازيّ , حيث كتب في تفسيره المعروف (التفسير الكبير): ... أعرابيٌّ قصد الحسين بن عليّ (رضي الله عنهما) فسلّم عليه وسأله حاجةً , وقال : سمعتُ جدَّك يقول : (( إذا سألتُم حاجةً فاسألوها من أحدِ أربعة ؛ إمَّا عربيّ شريف , أو مَولىً كريم , أو حامل القرآن , أو صاحب وجهٍ صبيح )) ؛ فأمَّا العرب فشرفتْ بجَدِّك , وأمَّا الكرمُ فبدأ بكم وسيرتكم , وأمَّا القرآنُ ففي بيوتكم نزل , وأمَّا الوجهُ الصبيح فإنّي سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( إذا أردتُم أن تنظروا إليَّ فانظروا إلى الحسنِ والحسين )) .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( ما حاجتُك ؟ )) .
فكتبها على الأرض , فقال الحسين (عليه السّلام) : (( سمعتُ أبي عليّاً يقول : قيمةُ كلِّ امرىءٍ ما يُحسنه . وسمعتُ جَدِّي يقول : المعروف بقدر المعرفة . فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنتَ في جوابِ واحدةٍ فلك ثلُثُ ما عندي , وإن أجبتَ عنَ اثنتينِ فلك ثلُثا ما عندي , وإن أجبتَ عن الثلاث فلك كلُّ ما عندي , وقد حُمل إليَّ صُرَّةٌ مختومةٌ من العراق )) .
فقال : سلْ , ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله .
فقال : (( أيُّ الأعمالِ أفضل ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الإيمان بالله .
قال : (( فما نجاةُ العبدِ من الهلكة ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : الثقة بالله .
قال : (( فما يَزينُ المرء ؟ )) .
فقال الأعرابيّ : علْمٌ معه حلْم .
قال : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) .
قال : فمالٌ معه كرم .
قال : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) .
قال : ففقْرٌ معه صبر .
قال : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) .
قال : فصاعقةٌ تنزل من السماء فتحرقه .
فضحك الحسين (عليه السّلام) ورمى بالصرّة اليه .
3 ـ السخاء مع الحياء
والحياء صفةٌ معروفةٌ عند أهل البيت (سلام الله عليهم) ؛ إذ هم أشدُّ الناسِ حياءً من الله تعالى , وكلّما أرادوا أن يُعطوا خالط عطاءهمُ الحياء ؛ لأنّهم (صلوات الله عليهم) يستقلّون هباتِهم , وقد عزفتْ نفوسهم عن حطامِ الدنيا , ورجَوا للناس أن تُقضى حوائجُهم , ولولا خشية الإسراف لبذلوا ما يبهتُ له السائل ؛ إذ مروّتُهم أعلى ممّا يطلبهُ الناسُ ويحتاجونه .
جاء رجلٌ إلى الإمام محمّد الجواد (عليه السّلام) فقال له : أعطنِي على قدْرِ مروّتِك .
فقال (عليه السّلام) : (( لا يَسَعُنِي )) .
فقال : على قدْري .
قال (عليه السّلام) : (( أمَّا ذا فَنَعَم . يا غلامُ , أعطِه مئتَي دينار ))(13) .
وإذا كان في المرء حياءٌ فإنَّك تنتظرُ منه خصالاً طيّبةً اُخرى ؛ لأنَّ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال : (( أمّا الحياء فيتشعّب منه اللّينُ والرأفةُ والمراقبةُ لله في السرِّ والعلانية , والسلامةُ واجتنابُ الشرِّ , والبشاشةُ والسماحة , والظفرُ وحُسنُ الثناء على المرءِ في الناس ... ))(14) .
فإذا قدِم سائلٌ على أهل البيت (عليهم السّلام) سارعوا إلى قضاءِ حاجته ؛ يستحون أن يرَونَ على وجهه ذُلَّ المسألة وانكسارَ السائل , ويستحون أن يُؤخِّروه , أو يُعطوه دونَ ما يأمُل , أو دونَ حاجته . فإذا كان السائل ممّن هو أهلٌ للعطاء أكرموه وزادوا في إكرامه ؛ حياءً منهم أن يردّوه بقضاءِ حاجته وحسب .
رُويَ أنَّ رجلاً جاء إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) وسأله حاجة , فقال له الإمام : (( يا هذا , حقُّ سُؤالِكَ إيَّايَ يَعظُمُ لَدَيَّ , ومعرفتي بما يجب تكبرُ عَلَيَّ , ويدي تعجزُ عن نيلِكَ بما أنت أهلُه , والكثيرُ في ذاتِ الله (عزَّ وجلَّ) قليل , وما في مُلكي وفاء بشكرك ؛ فإن قبِلتَ منّي الميسور , ورفعتَ عنّي مؤونةَ الاحتيالِ والاهتمام لما أتكلّفُه مِن واجبِك , فعلتُ )) .
فقال الرجل : يابنَ رسولِ الله , أقبَلُ القليل , وأشكرُ العطيّة , وأعذرُ على المنع .
فدعا الحسن (عليه السّلام) بوكيله , وجعل يُحاسبُه على نفقاتِه حتّى استقصاها , فقال : (( هاتِ الفاضلَ من الثلاثمئةِ ألفِ درهم )) . فأحضر خمسينَ ألفاً .
قال : (( فما فُعل بالخمسمئة دينار ؟ )) .
قال : هي عندي .
قال : (( أحضِرْها )) .
فأحضرها , فدفع الدراهمَ والدنانيرَ إلى الرجل وقال : (( هاتِ مَن يحملُها )) .
فأتاه بحمّالين , فدفع الحسَنُ إليهم رداءَه لكراءِ الحمل , فقال له مَواليه : والله , ما عندنا درهم .
فقال (عليه السّلام) : (( لكنّي أرجو أن يكونَ لي عند الله أجرٌ عظيم ))(15) .
وجاء بعضُ الأعراب , فقال الإمام الحسن (عليه السّلام) : (( أعطوهُ ما في الخزانة )) .
فقال الأعرابيّ : يا مولاي , ألاَ تركتَني أبوح بحاجتي , وأنشرُ مِدحتي ؟!
فأنشأ الإمام الحسن (سلام الله عليه) :
نحن اُناسٌ نوالُنا خضِلُ يرتع فيه الرجاءُ والأملُ
تجود قبل السؤالِ أنفسُنا خوفاً على ماءِ وجهِ مَن يَسَلُ
هكذا هم أهلُ البيت (سلامُ الله عليهم) , يجودونَ قبل السؤال , ويزيدون على طلب السائل , ومع ذلك فإنَّ أوجُهَهم النورانيّة يجلّلُها الحياء حالَ الإعطاء , في حين يُنتظَرُ مِن المعطي أن يشعرَ بالفخر والعزّة إذا أرادَ أن يعطي .
يقول الشيخ التستريّ وهو يعدّد خصائصَ الإمام الحسين (عليه السّلام) : ومنها العطاءُ للسائلين , فله (عليه السّلام) خصوصيّةٌ , وهي الحياء عند العطاء ؛ فالناسُ تعرضُ لهم حالةُ ردِّ السائل , وهو (عليه السّلام) له حالاتٌ عجيبة تعرضُ له عند سؤالِ أحد , فتراه (عليه السّلام) يرقُّ على السائلِ لحاجته حين يُريد أن يُعطيَه سُؤْلَه , وتراهُ يرقُّ على السائل بسبب الذُّلِّ العارضِ له حين إعطائه له , لا لفقرِه واحتياجِه وصعوبةِ ذلك , بل لأجلِ السائل وحيائه .
وكأنّه يُريد أن يقول : إنَّ الحسين (عليه السّلام) كان إذا رأى السائلَ رقَّ لحاله , واستحيا من حيائه .
وفدَ أعرابيٌّ إلى المدينة فسألَ عن أكرمِ الناس بها , فدُلَّ على الحسين (عليه السّلام) , فدخل فوجدَه مصلّياً , فوقف بإزائه وأنشأ :
لم يخبِ اليومَ مَن رجاكَ ومَن حرَّكَ مِن دونِ بابِكَ الحلَقَهْ
أنتَ جوادٌ وأنتَ مُعتمَدٌ أبوكَ قد كانَ قاتلَ الفسَقَهْ
لولا الذي كانَ مِن أوائلِكمْ كانتْ علينا الجحيمُ منطبقهْ
فسلّم الحسينُ (عليه السّلام) وقال : (( يا قنبر , هل بقيَ مِن مالِ الحجاز شيء ؟ )) .
قال : نعم , أربعةُ آلافِ دينار .
قال : (( هاتها ؛ فقد جاءَ مَن هو أحقُّ بها منّا )) .
ثمّ نزع (عليه السّلام) بُرْدَيهِ ولفَّ الدنانيرَ فيها , وأخرجَ يدَه مِن شقِّ البابِ حياءً مِن الأعرابيّ , وأنشأ :
خذْها فإنّي إليكَ معتذرٌ واعلمْ بأنّي عليكَ ذو شفقَهْ
لو كان في سيرِنا الغداةَ عصاً أمستْ سمانا عليكَ مندفِقَهْ
لكنَّ رَيبَ الزمانِ ذو غِيَرٍ والكفُّ منّي قليلةُ النفَقَهْ
فأخذها الأعرابيُّ وبكى , فقال له الإمامُ الحسين (عليه السّلام) : (( لعلَّكَ استقللْتَ ما أعطيناكَ ! )) .
قال : لا , ولكنْ كيف يأكلُ الترابُ جُودَكَ ؟!
بكى الأعرابيّ لاحتماله أن يأكلَ الترابُ جُودَ الحسين (عليه السّلام) , وليتَه رأى كيف أكلتِ السيوفُ والرماحُ جسَدَه في ساحةِ الطفِّ حين اجتمع اللئام على الكريم ابنِ الكرام , فأَعملوا في ذلك البدنِ القُدسيّ سيوفَ الحقد والكفر , ورماحَ الخُبثِ والغدر , وسهامَ الجُبنِ والنفاق , حتّى وقفتْ اُختُه العقيلة زينب (عليها السّلام) على ذلك الجسد المبضّع , فشكتْ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما كان من القوم , قائلة : يا محمّداه ! صلّى عليك مليكُ السماء , هذا حسينٌ مُرمَّلٌ بالدماء , مقطَّعُ الأعضاء .
والحسين (سلام الله عليه) ذلك الكريمُ السخيّ الذي جاء بما عنده ؛ فأشبع الجياع , وسقى العطاشى وجفناه يرتدّانِ عن حياءٍ ألاّ يردّ سائلاً إلاّ بما يسرُّه , وبما لم يرجُه مِن عطاءٍ وافر , فإذا ظمئ في كربلاء قال له أعداءُ الله : لا تذوق الماء , ولا تشرب منه حتّى تموتَ عطشاً ! وأبَوا أن يسقوه .
يا ليتَ لا عذِبَ الفراتُ لواردٍ وقلوبُ أبناءِ النبيِّ ظِماءُ
وبدلَ أن يُسقى الماء سُقيَ الرماحَ ؛ رماحَ اللُّؤْم , وفي هذا يقول الشريف الرضيّ :
يا رسولَ الله لو عاينتَهمْ وهمُ ما بين قَتْلٍ وسبا
من رميضٍ يُمنع الظِّلَّ ومِنْ عاطشٍ يُسقى أنابيبَ القنا
4 ـ السخاء مع الرأفة
فالإمامُ الحسين (سلام الله عليه) قد أضفى على الاُمَّةِ اُبوّتَه الحانية ؛ حيث مسح على رأسها بيدِه الشفيقة , وحباها بعواطفه الرقيقة , واختلط ذلك بكرمِه وجوده , فكان السائلُ عنده يغتبط بلطف الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) وعطفه عليه أكثر ممّا يفرحُ بالأموال والهدايا ؛ لأنّه يُحسّ أنَّ في عطاء الحسين (عليه السّلام) رحمةً وحناناً . وهو (سلام الله عليه) على سرّ أبيه عليٍّ (عليه السّلام) الذي قال فيه أبو الطفيل : رأيتُ عليّاً (عليه السّلام) يدعو اليتامى فيُطعمُهم العسَل , حتّى قال بعضُ أصحابه : لَودَدْتُ أنّي كنتُ يتيماً .
وكذا الإمامُ الحسين (عليه السلام) , أنِسَ السائلون عنده برأفته أكثرَ من اُنسِهم بدراهمه ودنانيره , وطابتْ أنفسُهم بكرم أخلاقه أكثر ممّا طابتْ بكرم يده ؛ إذ وجدوه محبّاً للخير , باذلاً في ذلك جهدَه , مقرناً به لطفَه وحنانَه وعطفَه .
وقد كان في عطائه قضاءُ حاجةِ المُضطرّ , وتنفيس كُربةِ المكروب , وإغاثةُ الملهوف , وإحقاق الحقّ وبذل المال في محلّه , وإدخال السرور على المهموم , وفكّ العسر عن المغموم . وكان من عطفه على الناس أن توسّطَ في نيل ما يحتاجونه حتّى لدى الفاسقين .
دخل الحسين (عليه السّلام) على معاويةَ يوماً وعنده أعرابيٌّ يسأله حاجة , فأمسكَ معاويةُ وتشاغل بالحسين (عليه السّلام) , فقال الأعرابيّ لبعضِ مَن حضر : مَن هذا الذي دخل ؟ قالوا : الحسينُ بنُ عليّ . فقال الأعرابيُّ للحسين (عليه السّلام) : أسألُك يابنَ بنتِ رسولِ الله لمّا كلّمتَه في حاجتي .
فكلّمَه الحسين (عليه السّلام) في ذلك فقضى حاجتَه , فقال الأعرابيّ :
أتيتُ العبشميَّ فلم يَجُدْ لي إلى أنْ هزّه إبنُ الرسولِ
هو ابنُ المصطفى كرماً وجوداً ومِن بطنِ المُطهّرةِ البتولِ
وإنَّ لهاشمٍ فضلاً عليكم كما فضْلُ الربيعِ على المُحُولِ
فقال معاوية : يا أعرابيّ , أعطيكَ وتمدحُه ؟!
فقال الأعرابيّ : يا معاوية , أعطيتَني مِن حقِّه , وقضيتَ حاجتي بقوله .
وكان مِن حبِّ الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) للخير والرحمة أن كافأ عليهما ؛ فقد رُوي عنه (عليه السّلام) أنّه قال : (( صحَّ عندي قولُ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : أفضلُ الأعمالِ بعد الصلاة إدخالُ السرور في قلب المؤمنِ بما لا إثمَ فيه . فإنّي رأيتُ غلاماً يواكلُ كلباً , فقلتُ له في ذلك , فقال : يابنَ رسول الله , إنّي مغمومٌ أطلبُ سروراً بسروره ؛ لأنَّ صاحبي يهوديٌّ اُريد أنْ اُفارقه )) .
فأتى الحسينُ إلى صاحبه بمئتي دينارِ ثمناً له , فقال اليهوديّ : الغلامُ فداءٌ لخُطاك , وهذا البستانُ له , ورددتُ عليك المال .
فقال (عليه السّلام) : (( وأنا قد وهبتُ لك المال )) .
قال : قبلتُ المالَ ووهبتُه للغلام .
فقال الحسينُ (عليه السّلام) : (( أعتقتُ الغلامَ ووهبتُه له جميعاً )) .
فقالتِ امرأته : قد أسلمتُ ووهبتُ زوجي مهري .
فقال اليهوديّ : وأنا أيضاً أسلمتُ وأعطيتُها هذه الدار .
فما أن رأى الإمامُ الحسين (سلام الله عليه) هذا الغلام يواكل الكلب ويطلب سروره بسرور كلبه حتّى بادر إلى إكرامه والشفقة عليه ؛ بأن ذهب إلى صاحبه اليهوديّ ليشتريَه منه و يحرّره .
والرواية مؤنسة ولا تتأخّر في الدخول إلى قلب كلّ طيّب , وقد نحدّث أنفسنا أن نعود عليها نطالعها من جديد , لكنّي ـ وإن كنتُ اُحبُّ ذلك ـ لا أجد بأساً أن نسمع الرواية من أخطب خوارزم على تفصيل فيها , حيث قال :
قال الحسنُ البصريّ : كان الحسينُ بن عليّ سيّداً زاهداً , ورعاً صالحاً , ناصحاً حسن الخلق , فذهب ذات يومٍ مع أصحابه إلى بستانه , وكان في ذلك البستان غلام له اسمه (صافي) , فلمّا قرب من البستان رأى الغلامَ قاعداً يأكل خبزاً , فنظر الحسين (عليه السّلام) إليه , وجلس عند نخلةٍ مستتراً لا يراه , وكان يرفع الرغيفَ فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر , فتعجّب الحسين من فعل الغلام , فلمّا فرغ الغلام من أكله قال : الحمد لله ربّ العالمين , اللهم اغفرْ لي واغفر لسيّدي , وباركْ له كما باركت على أبويه , برحمتك يا أرحم الراحمين .
فقام الحسين وقال : (( يا صافي )) .
فقام الغلامُ فزعاً وقال : يا سيّدي وسيّد المؤمنين , إنّي ما رأيتك , فاعفُ عنّي .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( اجعلني في حلٍّ يا صافي ؛ لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك )) .
فقال صافي : بفضلك ياسيّدي وكرمك , وبسؤددك تقول هذا !
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب , وتأكل النصف الآخر , فما معنى ذلك ؟ )) .
فقال الغلام : إنّ هذا الكلب ينظر إليّ حين آكل , فأستحي منه يا سيّدي لنظره إليّ , وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء , فأنا عبدك وهذا كلبك , فأكلنا رزقك معاً .
فبكى الحسين (عليه السّلام) وقال : (( أنت عتيق لله , وقد وهبت لك ألفَي دينار بطيبةٍ من قلبي )) .
فقال : إن أعتقتني فأنا اُريد القيام ببستانك .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( إنّ الرجل إذا تكلّم بكلام فينبغي أن يصدّقه بالفعل , فأنا قد قلت : دخلتُ بستانك بغير إذنك , فصدّقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك , غير أنّ أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب , فاجعلهم أضيافاً لك , وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة , وبارك لك في حسن خلقك وأدبك )) .
فقال الغلام : إن وهبت لي بستانك فأنا قد
سبّلته لأصحابك وشيعتك .
فأغدق الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) على الغلام لطفه ورحمته ومكافأته , وشجّعه على روح العطف , وأعطاه درساً بليغاً في الأخلاق بانَ أثرُه لساعته ؛ إذ أصرَّ الغلام بعد أن علم بعتقه أن يُقيم في بستان الإمام الحسين (عليه السّلام) , وحين علم بأنَّ البستان هبة له جعله سبيلاً لأصحاب الحسين (سلام الله عليه) .
ومن الرواية نستشفّ كأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد ضمَّ إلى سخائه حياءً من الغلام ألاّ يُكرمه على خصلةٍ فيه طيّبة , كما ضمَّ إليه رأفة بالغلام فلم يتركه إلاّ على حالٍ ميسورة بعد أن جعل عطاءه له مكافأةً على خلقٍ كريم .
وروى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2 / 43 ح154 , عن الحسين بن عليّ (عليه السّلام) أنّه دخل المستراح فوجد لقمةً ملقاة , فدفعها إلى غلامٍ له فقال : (( يا غلام , اذكرني بهذه اللقمة إذا خرجت )) .
فأكلها الغلام , فلمّا خرج الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) قال : (( يا غلام , أين اللقمة ؟ )) .
قال : أكلتها يا مولاي .
قال : (( أنت حرٌّ لوجه الله تعالى )) .
قال له رجل : أعتقته يا سيّدي ؟!
قال : (( نعم , سمعت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : مَن وجد لقمةً ملقاةً فمسح منها أو غسل ما عليها , ثمّ أكلها , لم تستقرَّ في جوفه إلاّ أعتقه الله من النار )) .
5 ـ السخاء مع المكافأة العالية
إنّ الإسلام دين الإنسانيّة والخير والمحبة , وقد دعا الناسَ إلى أسباب السّلام والمودّة والتعارف . ومن دعواته الأخلاقيّة أن حثَّ الناسَ على مكافأة أهل المعروف , فقال النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( مَن آتاكم معروفاً فكافئوه , وإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا الله له حتّى تظنّوا أنّكم قد كافأتموه ))(16) .
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( أطل يدك في مكافاة مَن أحسن إليك , فإن لم تقدر فلا أقلَّ من أن تشكره ))(17) .
ودعا الإسلام إلى تعظيم أهل المعروف وتشجيعهم ؛ ليسود الخير في الاُمَّة , وتشيع الاُلفة والتعاون والتكافل بين الناس . وقد أنزل الله أهل المعروف في الآخرة منزلةً رفيعة ؛ إذ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ))(18) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) أيضاً : (( أوّل مَن يدخل الجنّة المعروف وأهله , وأوّل من يرد علَيَّ الحوض ))(19) .
فلهم الفضل ؛ إذ جاؤوا بما يحبُّ الله تعالى من الأفعال الحسنة , ولهم الفضل ؛ إذ سبقوا إلى الخير ؛ لذا ينبغي مكافأتهم . قال الإمام موسى الكاظم (عليه السّلام) : (( المعروف غلٌّ , لا يفكُّه إلاّ مكافأة أو شكر ))(20) .
هكذا يشعر أهل الحياء والعزّة إذا اُسدي إليهم معروف , حيث يرونه غلاّ لا يتحمّلونه حتّى يفكّوه بالمكافأة , والمكافأة الحقيقيّة ما فاقتِ المعروف الذي قُدِّم لهم . ففي قوله تعالى : {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن : 60], قال الإمام الكاظم (عليه السّلام) : (( جرت في المؤمن والكافر , والبرّ والفاجر ؛ مَن صُنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به , وليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتّى ترى فضلك ؛ فإن صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء ))(21) .
وفي وصايا أمير المؤمنين (عليه السّلام) وحكمه : (( إذا حُيّيت بتحيّة فحيّ بأحسن منها , و إذا اُسديتْ إليك يدٌ فكافِئْها بما يُربي عليها , والفضل مع ذلك للبادئ ))(22) .
وبما أنّ أهل البيت (عليهم السّلام) هم أكثر الناس حياءً وعزّة , وإباءً وكرامة , فقد بادروا إلى مكافأة أهل المعروف بما يُربي ويغطّي عليه ؛ سموّاً من عند أنفسهم , وتشجيعاً للإحسان وحسن الصنيعة , وإكراماً لأهل الفضل والخير .
وقد عُرف الكرم الحسينيّ فيما عُرف به بالمكافأة إليه , حتّى لم يُطق بعضهم ذلك , فسأل الإمامَ الحسين (عليه السّلام) عن ذلك مستغرباً . روى أبو جعفر المدائنيّ في حديث طويل : خرج الحسن والحسين (عليهما السّلام) وعبدالله بن جعفر حجّاجاً , ففاتتهم أثقالهم , فجاعوا وعطشوا , فرأوا في بعض الشعاب خباءً رثّاً وعجوزاً , فاستسقوها فقالت : اطلبوا هذه الشويهة .
ففعلوا , واستطعموها فقالت : ليس إلاّ هي , فليقم أحدكم فليذبحها حتّى أصنع لكم طعاماً . فذبحها أحدهم , ثمَّ شوت لهم من لحمها فأكلوا وقيّلوا عندها , فلمّا نهضوا قالوا لها : نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه , فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا ؛ فإنّا صانعون بك خيراً . ثمّ رحلوا .
فلمّا جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضرباً , ثمّ مضت الأيّام فأضرّت بها الحال , فرحلت حتّى اجتازت بالمدينة , فبصر بها الحسن (عليه السّلام) فأمر لها بألف شاة , وأعطاها ألف دينار , وبعث معها رسولاً إلى الحسين (عليه السّلام) فأعطاها مثل ذلك , ثمّ بعثها إلى عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك.
وروي أنّ عبد الرحمن السلميّ علّم ولد الحسين (عليه السّلام) الحمد , فلمّا قرأها على أبيه أعطاه (أي أعطى الحسينُ عبدَ الرحمن السلميّ) ألفَ دينار , وألف حُلّة , وحشا فاهُ درّاً , فقيل له في ذلك , فقال : (( وأين يقع هذا من عطائه ؟ )) , يعني تعليمه لولده . وفي رواية أنّه (عليه السّلام) قال : (( أين يقع هذا من حقّه ؟ )).
فقد كان (سلام الله عليه) أشدَّ الناس وأحرصهم على مراعاة الحقوق , وإكرام أهل المعروف حتّى غطّى فضلُه فضلَهم , وجاد بما لا يُتوقّع ؛ إذ تجاوز المثْل , وفاق المكافأة .
قال أنس بن مالك : كنت عند الحسين (عليه السّلام) فدخلت عليه جارية , فحيّتْه بطاق ريحان , فقال لها : (( أنتِ حرّة لوجه الله )) .
يقول أنس : فقلت له : تجيئك بطاقةِ ريحان لا خطر لها فتُعتقها !
قال : (( كذا أدّبنا الله , قال الله : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) , وكان أحسن منها عتقها )) .
وأين العتق من طاقة ريحان ؟! لكنّه الحسين رجل الكرم والتكريم , وصاحب العطاء والمكافأة , وقد أبت