لا شكَّ في أنَّ قيمة المرء، في علمه و كماله و فضائله و كريم خلقه فافراد البشر مهما تفاوتت أوصافهم الجسمية و العرقية و تمايزوا ببلدانهم و ملابسهم و مالهم و مقامهم و سائر العوارض الاخرى الّا ان كلَّ ذلك لا يفضل بعضهم على بعض، و الأمر الوحيد الذي يمايزهم هو الكمالات الروحية و الاخلاق الحميدة و المآثر الجميلة. و بعبارة، ان فضيلة الإنسان ليست في الاستمتاع باللذائذ الحيوانية و الاتصاف بما يشترك به مع سائر الحيوانات و البهائم، و انما كمال الإنسان بالاتصاف بما يميزه عن الحيوانات، و كلما تعمّق اتصافه بهذه الفوارق، ازداد تمايزاً و ابتعاداً عن عالم البهائم و اقترب الى الإنسانية و تجلّت فيه صفات البشر.
فكثيرٌ من الناس صورهم صور البشر، لكنهم لازالوا يراوحون في الحيوانية، و البعض يطوي الفاصلة بين الحيوانية المحضة و الإنسانية الكاملة و يتوقف في نقطة في منتصف الطريق، و بعضهم الآخر يطوي تلك الفاصلة كاملة فيصل الى حدِّ الكمال التام.
و العلوم و المعارف و الاخلاقيات الحميدة، هي كواشف عن مقدار المسافة التي اجتازها هذا الفرد او ذاك في هذا الطريق، و تجلٍّ للمرحلة التي توقف عندها أو وصلها.
فالانسان بفطرته يمتاز بحب الاخلاق الحميدة، و يُحبُّ ذوي المكارم و الفضل و يتأثر بالمشاهد الاخلاقية و صور القيم الرائعة. و على مرّ العصور، كانت العدالة و طهارة النفس، الامانة، الصدق، الاستقامة، الثبات، الشجاعة، الصراحة، الصبر، الحلم الوفاء بالعهد، التواضع، الرحمة، الاحسان، الايثار، الفداء، و الرغبة في التحرر من الظلم، و خدمة البشرية من الامور المحبّبة و الممدوحة عند الإنسان و مهما تغيرت الظروف الحياتية و تبدل شكل الحياة و تنوعت ظواهر العيش، الّا ان احساس البشر و تفاعلهم مع هذه الاخلاقيات، بقي ثابتاً صامداً لا يعتريه التغيير، لانه امرٌ فطري و في المقابل، تنفر الطبائع البشرية عن رذائل الصفات كالحسد، التكبر، النفاق، الكذب، الظلم، الخيانة، الحقد، الغرور و الخيلاء.
و علمُ الاخلاق و التربية أُنشأ على اساس هذا الافراز الفطري و الادراك الباطني.
و مطالعة التحقيقات العلمية لعلماء الاخلاق و معرفة النفس، ضرورية للسائرين في طريق تهذيب النفوس و تربيتها للتعرف على فوائد و مضار الاخلاق الحميدة و اضدادها.
و قد عنى الإسلام و هو آخر الاديان السماوية الالهية، بهذه الجهة فكانت برامجه التربوية و الاخلاقية، اكمل و اتمِّ البرامج المعروفة منذ بدء الخليقة و الى يوم الناس هذا. فمضافاً الى تضمُّن قسم كبير من الاحكام التكليفية و الوضعية، للمفاهيم الاخلاقية التي تساهم في تربية و تهذيب النفوس، كما في باب العبادات و المعاملات و التكاليف اليومية، كذلك وضع القرآن و المنهج الإسلامي برنامجاً تربوياً مستقلا لاصلاح الارواح و تزكيتها، لايصالها الى الكمال.
و قد كتب العلماء و الفلاسفة المسلمون، اقتباساً من التعاليم الاخلاقية للاسلام، أفضل الكتب في علم الاخلاق، و القاء نظرة خاطفة على أدبيات العرب و العجم، يكشف لنا بوضوح صحة هذه الدعوى.
و كلمات نبي الإسلام العظيم الجامعة، و خطب امير المؤمنين و كلماته القصار، و ما نُقل عن ائمة اهل البيت عليهم السلام و محامد اخلاقهم و كرائم صفاتهم و جميل سيرتهم، كلها أسناد فخر للمسلمين و ادلة حيّة على كمال المنهج التربوي للاسلام.
كما إنَّ ميزان اهتمام الدين الاسلامي الحنيف بنشر الاخلاق و المكارم يتجلى اكثر فاكثر من خلال التشويق و الترغيب بالثواب و الأجر الجزيل لكل واحدة من تلك الصفات الكريمة الانفة الذكر.
و في سورة آل عمران، الآية 164، و سورة الجمعة الآية 2، لخصت برامج عمل النبي (صلى الله عليه و آله) التربوية في ثلاث امور هي:
1- تلاوة الايات القرآنية.
2- تزكية و تربية النفوس.
3- تعليم الكتاب و الحكمة.
و قول النبي (صلى الله عليه و آله) معروف و مشهور: «إنَّما بُعثتُ لُاتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاق» لقد كان النبي الاكرم (صلى الله عليه و آله) المثل الأعلى لكل الاخلاق الفاضلة و الصفات الحميدة و الكمالات الروحية و النفسية، و باعتراف العدو و الصديق.
فاخلاق النبي (صلى الله عليه و آله) و سيرته الحسنة و معاشرته الحميدة، مذكورة في كتبٍ أُلّفت في هذا المجال بالخصوص، مضافاً الى ما ورد في كتب السيرة و التاريخ، و مطالعة مثل هذه المصنفات لكبار المتخصصين في التربية، كافٍ لتوجيه الإنسان و هدايته لمكارم الاخلاق.
كما إنَّ اهل بيت النبي، الائمة الاطهار عليهم السلام و هم الامتداد الطبيعي للرسول الاكرم، يمثّلون النموذج الجميل للكمال، و باتفاق الموافق و المخالف، كانوا نوابغ عصورهم و المصاديق الاكمل للاخلاق النبوية الإسلامية الحسنة.
و لقد كان عليُّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام ممثلوا التكامل و الرقي الإنساني، و كانت اشعة نور اخلاق رسول اللَّه بادية الانتشار في وجوداتهم الكريمة.
لقد كان لتضحية الحسين (عليه السلام) و استقامته و طلبه الحقَ و توكله و ارادته القوية و تخلّيه عن الدنيا، من أبرز تجليات شخصيته المقدسة في عاشوراء و التي جذبت الانظار الى درجة أنها غطّت على سائر صفاته و عظمة سجاياه الاخرى. و كأن العقل البشري و الفكر الاجتماعي اذا وجد الشخص مبالغاً في الفداء و الايثار في طريق الحق، اعتبره مالكاً لكل السجايا الحميدة الاخرى، و كلما ارتقى في درجات التضحية و الفداء، و اخلص في الصمود و الايثار، ازدادت عظمته و شموخه في القلوب.
إنَّ فداء الحسين المنقطع النظير، رفعه و رفعه الى درجة امكان قياس كل صفاته الحميدة الاخرى بمقياس هذه الصفة، و وزنها بهذا الميزان، و إنَّ ذلك جعله السّباق لكل الكرام و المتفوق على كل الأفاضل.
و هذه هي الحقيقة، فان صدور مثل تلك التضحيات و الاستقامة و الفداء و الشجاعة و الثبات و المناعة، لا يتيسر الّا لمن تحققت فيه كلّ الكمالات الاخرى باتمِّ صورها و أروعها.
و تحقق ذلك الصمود و الفداء، محالٌ إلّا بوفرة الايمان و اليقين و المعرفة و البصيرة و التوكل و الاعتماد على اللَّه و الزهد و الصبر باعلى مستوياتها، و بغير ذلك لا تتجلى تلك الآيات العظيمة المحكمة في الصبر و الاستقامة العاشورائية.
يقول العلايلي: «و نحن فيما اتَّسق لدينا من الأخبار عن الحسين (عليه السلام) و صفته، نراه كيف كان يتحزَّم على نفسه بكل مظاهر القدوة الصالحة، بحيث لا يَعدُو أن يكون مثالًا نبوياً في حدوده و من شتى أقطاره.
و لقد انصرف بكل نفسه عن الدنيا و ما إليها، حتى قال زين العابدين (عليه السلام) لمن قال له: ما كان أقل ولد أبيك! قال (عليه السلام): العجب كيف ولدت له، كان لا يفتر عن الصلاة في ليل أو نهار فمتى كان يتفرغ للنساء؟
فهذا المَتحنَّث المُتأَلِّه في تأمله و إطراقه، و تحركه و سكونه. هو الذي سنراه مجاهداً مكافحاً و مغامراً مستَميتاً حتى كأنه الأسد لا تُنال تلابيبه. فلم يكن يشغله أمر عن أمر، و لا حاجة للَّه عن حاجة للناس. و يضيف قائلًا: «أرأيتم إلى الرجل يقوم على اسم اللَّه و يمضي على اسم اللَّه و يموت على اسم اللَّه، كيف تسمو به الغاية و يعلو به الهدف. هو هدفٌ و لكن ليس من شهوات النفوس، و غايةٌ و لكن ليس كمثلها الغايات، غاية تحقِر كل ما في الحياة من أشيائها، و لا ترى سِوَى الملكوت الأعلى هدفاً و سوى السماء مستقراً، لأنه مَهدُها فلا بدع أن حنّشت إليه و طلبت اللَّحاق به فللناس أوطانهم، و للناس حَنينهُم، و لمثل هذه الشخصيَّة وطنُها و لها حنينها، فهي تشُقُّ طريقها بين الجلامد و الصُّخور، راضيةً مرضيةً و ماضيةً مطمئنَةً، لانها تناجي الأمنيَّة السامية و تَنشُد المثل الأعلى، و هل وراء اللَّه مَطلب؟ و هل إلى غير اللَّه مصير؟ و هل بعد اللَّه حقيقة؟
هذه مبادئُ الرجل المصطفى، و الرجل المختار. فلا عَجَب أن راح يطلبها في كل شيء، و لو حال الموت دونها فهو يَستعذ به، لأنه الطَّفرة التي تصل به الى أعذب الأماني، و هل مع الأماني العذاب، شعور بمريرات العذاب.
و قديماً ارتفع صوت المسلم في إقدام و مضاء، بالكلمة الرهيبة عند الناس و الأُغنية عنده.
و لَستُ أُبالي حين أُقتَلُ مُسلِماً على ايِّ جِنب كان في اللَّه مَصرعي
الشخصية الكبيرة من الناس، و لكن بما فيها من المعنى الإلهي و السر القدسي و القبس العلوي، تنير السبيل للانسانية في حالة الظلم و في الليل الأليل الادكن «اللَّه نور السمواتِ و الأرضِ مَثَلُ نورِهِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ، المِصباحُ في زجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كأنَّها كوكبٌ درِّيٌ». و كذلك تكون في حياتها دليلا أميناً، و بعد مماتها أُمثُولةً رائعةً فيها من كل عناصر الخلود و السُّمُوّ.
و تاريخ كل أُمة إنما هو في الحقيقة تاريخ عظمائها، فأُمة لا عظيم فيها لا تاريخ فيها أو ليست جديرةً بالتاريخ.
و نحن اذا قدمنا حسيناً بين العظماء، فإنا لا نقدم فيه عظيما فحسب، و انما نقدم فيه عظيماً دونه كلٌ عظيم، و شخصية أسمى من كل شخصية، و رجلا فوق الرجال مجتمعين.
و لا بِدع فكلُّ مَن عرفهم التاريخ و عرفناهم قَضَوا دون غاية من أمجاد الأرض، فكان مَن قضى دون مجد من أمجاد السماء أسمى.
و الآن سأخوض في بيان نواحي العظمة التي امتاز بها الحسين (عليه السلام) في كل ميدان، حتى يبدو أمة بين العظماء. فقد عرفنا العظيم في ثوب الشجاع، و عرفنا العظيم في ثوب البطل، و عرفنا العظيم في ثوب الضحيَّة الشَّهيد، و عرفنا العظيم في ثوب الزاهد، و عرفنا العظيم في ثوب العالم، و أما العظمةُ في كل ثوب، و العظمة في كل مَظهر، حتى كأنها تَآزَحَت من أقطارها فكانت شخصاً ماثلًا للناس يقرَأُونه و يعتبرون به. فهذا ما نراه في الحسين (عليه السلام) وَحدَه، و هذا ما نَلمَسُه فيه فقط، حيث هو من نفسه و حيث هو من نسبه، فلقد يكون أبوه مِثله و لكن لا يجد له أباً كمثل نفسه.
فرجل كيفما سَمَوت به من أيِّ جهاته انتهى بك الى عظيم، فهو مُلتَقى عظمات و مجمع أفذاذ. فإن من يَنبثِق من عظمة النبوة «محمد (صلى الله عليه و آله)»، و عظمة الرُّجولة «على (عليه السلام)» و عظمة الفضيلة «فاطمة عليها السلام» يكون أُمثولة عظمة الانسان، و آية الآيات البينات.
فلم تكن ذكراه ذكرى رجل بل ذِكرى الإنسانيّة الخالدة، و لم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذَّة.
فالحسين (عليه السلام) رجل و لكن فيه آيةُ الرجال، و عظيم و لكن فيه حقيقة العظمة.
فَرَعياً لذكراه، و رَعياً للعِظَة به.
و من ثَمّ كان جديراً بنا أن نستوحيه على الدوام، كمصدر إلهامي انبثق وهاجاً قوياً، و امتد بأنواره أجيالًا و أجيالا، و لا يزال يسطع كذلك حتى ينتظم اللانهايات و ينفذ إلى ماوراء الأرض و السموات، و هل لنور اللَّه حد يقف عنده أو مَعلَم ينتهي اليه؟ «و يَأبى اللهُ إلّا أن يُتِمَّ نورَهُ»
و يقول العقّاد: «و قد لبث بنو أميّة بعد مصرعه (الحسين (عليه السلام)) ستّين سنة يسبّونه و يسبّون أباه على المنابر، و لم يجسر أحدٌ منهم قط على المساس بورعه و تقواه و رعايته لاحكام الدين في اصغر صغيرة يباشرها المرء سرّاً أو علانية، و حاولوا ان يعيبوه بشي غير خروجه على دولتهم فقصرت ألسنتهم و ألسنة الصنائع و الأجراء دون ذلك.» و قال أيضاً: «فهي (كربلاء) اليوم حرمٌ يزوره المسلمون للعبرة و الذكرى، و يزوره غير المسلمين للنظر و المشاهدة، و لكنها لو اعطيت حقّها من التنويه و التخليد، لحقَّ لها ان تصبح مزاراً لكلِّ ادمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة و حظاً من الفضيلة، لاننا لا نذكر بقعة من بقاع الارض يقترن إسمها بجملة من الفضائل و المناقب اسمى و ألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين (عليه السلام) فيها.»
فكلُّ صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسانُ انسانٌ و بغيرها لا يحسب غير ضربٍ من الحيوان السائم، فهي مقرونة في الذاكرة بايام الحسين (عليه السلام) في تلك البقعة الجرداء.
و ليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل و لا ألزم له من الايمان و الفداء و الايثار و يقظة الضمير و تعظيم الحق و رعاية الواجب و الجدِّ في المحنة و الانفة من الضيم و الشجاعة في وجه الموت المحتوم- و هي و مثيلات لها من طرازها هي التي تجلَّت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين (عليه السلام).
ثم يقول بعد ذلك: «و حسبك من تقويم الاخلاق في تلك النفوس، انه ما من أحدٍ قتل في كربلاء الّا كان في وسعه ان يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة و لكنهم جميعا آثروا الموت عطاشاً جياعاً مناضلين على ان يقولوا تلك الكلمة و أو يخطوا تلك الخطوة لانّهم آثروا جمال الاخلاق على متاع الحياة.»
و بعد ان يُفصل العقاد بذكر جملة من فضائل الحسين و اصحابه و مناقبهم في كربلاء، يقول:
«و قد تناهت هذه المناقب الى مداها الاعلى في نفس قائدهم الكريم و يُخيل الى الناطر في أعماله بكربلاء ان خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها، ايّها يظفر بفخار اليوم، فلا يدرى أكان في شجاعته أشجع، ام في صبره أصبر، ام في كرمه اكرم، ام في ايمانه و أنَفَتِهِ و غيرته على الحق بالغاً من تلك المناقب المثلى أقصى مداه. و مع اننا نقرُّ بعجزنا عن وصف عظام سجايا الحسين (عليه السلام) و من حقنا ان نعجز عن بيان كل تلك المناقب، و لكننا مع ذلك سنذكر بعض جوانب كمالات الحسين الاخلاقية و العلمية بنحو الاختصار، ليُعلم ان وجوده (عليه السلام) هو التجلّي الاتمّ للعظمة و الاستقامة و الصبر و الفداء و الاباء في طريق تعظيم الحق، و انه (عليه السلام) محور كل كرائم المزايا و الصفات.