إن ما يحرّك الإنسان للعمل والثورة يكمن أحياناً في أُمور مادية ومنافع دنيوية وأغراض شخصية وبعبارة أُخرى في حبّ الذات والأنانية والغرور النفسي ويستند أحياناً إلى دوافع حبّ الخير والفضيلة والشعور بالمسؤولية والواجب.
ومن الواضع أن الشخص الذي يعمل بدافع مادي وشخصي ليس جديراً بالتقدير وسيكون مستوى عمله متدنّياً ولا يختلف عن عمل الحيوانات فكما أن الحيوانات همُّها علفها فإن الكثير من الناس لا يَفْضُلون عليها في همومهم ومقاصدهم.
نعم إذا كان هؤلاء الناس يسعون إلى تأمين حاجاتهم المادية عن طريق مشروع بعيداً عن الاعتداء والخيانة والتجاوز على حقوق الآخرين ولا تعميهم وتصمّهم شدة الطلب عن مراعاة الآداب الأخلاقية والشرعية فإن هؤلاء غير ملومين على ذلك ويمكن القول انهم وضعوا أقدامهم في الصف الأوّل للإنسانية وربما يثابون ويؤجرون ويكونون مصداقاً للآية الشريفة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
وإذا ما أشبعوا غرائزهم بأساليب غير مشروعة فقد استوجبوا التوبيخ والعقاب وسيؤول أمرهم إلى أن يصبحوا طغاة وجناة ولصوصاً ولاعبي قمار ومرابين وقتلة و ...
وانطلاقاً من ذلك فإن أكثر الأفراد الصالحين والطيبين في المجتمع هم من الذين يحصلون على منافعهم المادية ويصلون إلى أهدافهم الشخصية عن طريق مشروع وأغلب الذين انحرفوا عن السبيل القويم هم من الذين لا يتورّعون- في مجال إشباع الغرائز- عن خوض كل عمل وركوب كل وسيلة فالحلال والحرام في قاموسهم مترادفان ولا حدّ لطمعهم وكثرة طلبهم.
وإذا كان دافع الإنسان للعمل هو حبّ الخير والإحسان وأداء التكليف ولا تشوبه أغراض شخصية فإن هذا العمل سيكون شريفاً مثمراً صادراً عن روح إنسانية خالصة وسيحظى صاحبه بالتقدير والإعجاب.
ومثلما يُدرَك حسنُ الخير والفضيلة والعدالة ذاتياً فإن صاحب هكذا عمل هو أيضاً محبوب وشريف ذاتياً.
وهناك صنف من الناس الدافع المؤثر في وجودهم هو أسمى من هذه العوامل وأفضل من جميع هذه المقاصد.
أولئك هم عباد الله الحقيقيون وأولياؤه الخاصون الذين ليس لديهم هدف وغاية من عملهم سوى العبودية والطاعة لله.
إن عمل هؤلاء المقرّبين لا يمكن أن يُسند إلى أية علة أو سبب ما عدا الطاعة لله وامتثال أمره والانقياد إلى حُكمه فهم لا يسألون عن مصلحة وفلسفة وجدوى المأمور به ولا عن مفسدة المنهيّ عنه لأن الحديث في مثل هذه الموضوعات يعتبر- في مقام الطاعة والامتثال- تجاوزاً للحدود وفضولًا من الكلام وجرأة على مقام المولى فالمؤثر في وجودهم والمدبّر لأمورهم هو الله تعالى والشيء الذي يحدوهم إلى العمل والتحرّك هو أمر الله تعالى.
هذا الصنف تصدق في حقهم الآية الكريمة (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) .
وكلّما تصبح مرتبة التوحيد أزكى وأسمى كلّما كان خلوص النيّة والتسليم لأمر الله أكمل وتصير كل المطالب والمقاصد إلى جنب المطلوب الحقيقي والمقصود بالذات ومنتهى الآمال تصير كلها فانية متلاشية صافية خالية من الغش.
إن الإيمان الصادق والتوحيد الخالص من كل شائبة يجعلهم متوجهين نحو الله تعالى لا غير مثلما توجّه الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة إليه: وَانْتَ الَّذي ازَلْتَ الْاغْيارَ عَنْ قُلُوبِ احِبّائِكَ حَتّى لَمْ يُحِبُّوا سِواكَ وَلَمْ يَلْجَئُوا الى غَيْرِكَ .
إذن علّة حركته وإقدامه ونهضته ليست سوى إطاعة أمر الله ومحبته ورضاه وليس شيء آخر .. دعاؤه: اللهم ارزقني حُبَّك وحَبَّ من يحبُّك وحُبَّ كلّ عمل يوصلني إلى قُربك وشعاره وذكره: لا إله إلّا الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله وأُفوِّض أمري إلى الله وحسبُنا الله ونِعْمَ الوكيل والله أكبر.
إنّه أرفع من أن يطمع بالحور والقصور والأجر والثواب والجنان الموعودة أو الخوف من جهنم والعذاب والعقاب في يوم النشور.
إن مطالعة تاريخ حياة الأنبياء والمرسلين وقادة الدين والأئمة الطاهرين الذين هم رواد التوحيد الخالص وطليعة قافلة العبّاد هي مطالعة لأعلى دروس التوحيد. يقول إبراهيم الخليل (عليه السلام): {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] ويقول : {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].
ويقول خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم): {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162، 163] .
وكان أهل بيته: علي وأبناؤه (عليهم السلام) المثَل الأعلى- بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- للتوجّه الخالص للمبدأ والتوحيد.
فعليٌ هو ذلك الشخص الذي روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في وصف إيمانه: (إذا وضعت السماء والأرض في إحدى كفتي الميزان ووضع إيمان علي في الكفة الأُخرى لرجح إيمان علي).
إن العبودية للحق وطلب العدالة والحرية والزهد والتقوى والشجاعة والصراحة وكل الصفات الإنسانية التي تجلّت في علي وأبنائه إنما هي ثمرة شجرة التوحيد وعبودية الله والتسليم والتوجّه الخالص للمبدأ. وكانوا إذا ما عُرض عليهم عملان اختاروا أيَّهما أكثر رضىً لله تعالى.
ولا شك في أن أجلّ مظهر للإخلاص والطهارة والعبودية للحق في هذه الأسرة هو ثورة الحسين (عليه السلام) ضد يزيد وحكم بني أُمية والتي تعتبر ثورة إلهية ونهضة دينية.
فالحسين (عليه السلام) في ثورته هذه لم يكن يطلب الحُكمَ والمقام الشكلي والدنيوي ولم يهدف إلى بسط نفوذه وحيازة المال والثروة وإنما امتنع عن بيعة يزيد طاعة لله وهاجر من الحرمين الشريفين امتثالًا لأمر الله وجاهد من أجل الإصلاح والتغيير طاعة لله .. فالدافع لهذه الثورة إذن ليس إلّا إطاعة أمر الله وأداء التكليف.