وقف الإمام ـ آنذاك ـ موقفاً عصيباً من أدقّ المواقف وأحرجها ؛ فإمّا أن يبايع يزيد الكفر وبذلك يُقضى عليه وعلى دين الله وإمّا أن لا يبايع وهذا هو المتوقّع منه ؛ فإمّا أن يكره على البيعة وإمّا أن يُقتل دون أن يبايع وبقتله تقتل قريش كلّها وبقتلها تكون مقتلة عظيمة .
إذاً فماذا يفعل ؟ ماذا يلزم عليه ؟ إنّه لا يبايع ولكنّه يهاجر من المدينة إلى مكّة ويهاجر من مكّة إلى العراق ليأمن بغي يزيد وأُمرائه وأحزابه فارّاً مختفياً مترقّباً .
فيمكن بالنظر إلى الأمرين المارّين أن نحصر أهمّ أسباب خروجه من الحجاز إلى العراق في ما يلي :
الأوّل : الإصلاح :
وهو أهمّ أسباب خروجه (عليه السّلام) وبه صرّح في أوّل وثيقة لثورته ـ وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة ـ قائلاً : وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله) ؛ أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب .
يُريد (عليه السّلام) إصلاح الأُمّة وبإصلاحها يصلح الحكم فهمّته العليا (عليه السّلام) هي إرشاد الأُمّة إلى السعادة والأمان والثروة .
يُريد هداية الأُمّة إلى محاسن الإسلام ويردّهم عن الظلام الأُموي . يُصلحها باسترجاع الإسلام ورفع أعلامه ؛ لأنّها كادت أن تنكس بتلك الأيدي الآثمة .
يريد بذلك السير على كتاب الله لا على خطط الوثنيّة وعلى سنّة نبيّه لا على سنن الجاهلية وإحياء السنّة التي أماتها الأُمويون وإماتة البدعة التي أحيوها كما عبّر عن ذلك في كتابه إلى أهل البصرة : وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ؛ فإنّ السنّة قد أُميتت والبدعة قد أُحييت ... إلخ .
الثاني : الفرار من يزيد :
لِما كان فيه من العداء البغيض والحقد المتراكب على فؤاده للحسين (عليه السّلام) ؛ لإبائه البيعة له وقد تربّص للإمام الدوائر وتعقّبه في مواقع كثيرة :
منها : حين كتب إلى واليه على المدينة (الوليد بن عتبة) يأمره بأخذ البيعة من الحسين وقال في آخر كتابه : ( أمّا بعد فخذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة فمَنْ أبى عليك فاضرب عنقه . . . إلخ ) .
ومنها : حين أرسل عمرو بن سعيد في عسكر عظيم إلى الحجاز وولاّه أمر الموسم وأمره على الحاج كلّهم وأمره أن يناجز الحسين إن هو ناجزه وأن يقتله إن تمكّن عليه وإلاّ فيقتله غيلة .
ومنها : حين دسّ في تلك السنة مع الحاج ثلاثين رجلاً من شياطين بني أُميّة وأمرهم بقتل الحسين (عليه السّلام) على أيّ حال اتّفق ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة فلمّا علم الحسين (عليه السّلام) بذلك جعل حجّته عمرة مفردة وخرج .
وهكذا في غير موقف وموطن كان يأمر بقتله والحسين يفرّ منه مترقّباً إلى أن انحصر في وادي الطفّ فأعلن الثورة .
الثالث : إتمام الحجّة على أهل الكوفة :
ومن أسباب خروجه إلى العراق ودواعيه المهمّة إجابة دعوة الكوفة إيّاه ; فإنّهم أرسلوا إليه أن (أقدم على جند لك مجنّدة ) , حتّى اجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب اشترك في الكتاب الخمسة والعشرة يستنجدون به من الذلّ والهوان ويعدونه النصر فكان من الواجب عليه (عليه السّلام) الذهاب إليهم ; لإتمام الحجّة عليهم سيّما بعد أن أرسل إليه نائبه ورسوله مسلم بن عقيل بإقبال الناس عليه وتوافرهم على البيعة له وأنّهم بلغوا ثلاثين ألفاً .
وأمّا عدم رجوعه بعد علمه بغدر أهل الكوفة ; فلأنّ أهل بيته أبوا الرجوع فقد قال (عليه السّلام) لهم حينئذ : ما ترون , فقد قُتل مسلم ؟ . فقالوا : والله لا نرجع حتّى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق فما كان من العدل أن يتركهم وهم الذين واسوه إلى ذلك الموقف فقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء .
هذا مع أنّه (عليه السّلام) لم يجد ملجأً يلجأ إليه فما كان عليه إلاّ أن يتابع السير ليلقى مقرّه .
الرابع : حفظ حرمة الحرمين :
كان (عليه السّلام) حريصاً على الخروج من الحجاز بأسرع وقت ممكن أشدّ الحرص ; لئلاّ يقع بينه وبين حزب يزيد في الحرم قتال فتُهتك حرمته وأمّا يزيد فهو الذي أمر بقتل الحسين ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ومع هذا فهل يرى للحرم حرمة ؟!
الخامس : نشر دعوته :
لما كان لخروجه (عليه السّلام) في ذلك الوقت من تأييد حركته ودعوته حتّى صار لإبائه على يزيد البيعة وخروجه من الحجاز حديث كلّ اثنين يجتمعان فأوجد (عليه السّلام) بمسيره في ذلك الوقت ثورة فكريّة سبّبت إفشاء دعوته بسرعة البرق وكان لخروجه في غير أوانه دويّ يرنّ صداه في الداخل والخارج والناس يتساءلون عن نبأه العظيم وعن أنّه (عليه السّلام) هل حجّ وخرج ؟ ولماذا خرج ؟ وإلى أين ؟ ومتى ؟
هذا والحسين (عليه السّلام) يسير بموكبه الفخم وحوله أهله كهالة حول القمر وكان موكبه (عليه السّلام) داعية من دعاته ; فإنّ الخارج يومئذ من أرض الحجّ والناس متوجّهون إلى الحجّ لا بدّ أن يستلفت إلى نفسه الأنظار وإن كان راكباً واحداً فكيف بركب وموكب ؟ إنّه لأمر مريب وغريب يستوقف الناظر ويستجوب العابر .
لهذا خرج الحسين (عليه السّلام) من الحجاز إلى العراق ليثور هناك ويفيض العوائد الثمينة علينا من وراء ثورته فكان خروجه السبب الأوّل لثورته ؛ حيث إنّ يزيد لمّا أُخبر بخروجه (عليه السّلام) غلب على عقله أنّه يتأهّب للخروج عليه في العراق مهد الشيعة ; فأمر واليه على الكوفة (عبيد الله بن زياد) أن يُقابل الحسين بالقتال فخرج جيش الوالي إليه والتقوا في وادي الطفّ (أرض البسالة والشهادة) .