النَّهضة قيام جماعة ، أو فرد بأمر مشروع ، أيْ ما يقتضيه نظام الشرع، أو المصلحة العامَّة، كالحركة التي قام بها الحسين بن علي ( عليهما السلام ) (1) .
وحقيقة النَّهضة سيَّالة في الأشخاص والأُمَم ، وفي الأزمنة والأمكنة، ولكنْ بتبدُّل أشكال، واختلاف غايات ومَظاهر.
وما تاريخ البشر سِوى نَهضات أفراد بجماعات ، وحركات أقوام لغايات ؛ فوقتاً الخليل ونمرود، وحيناً محمد( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأبو سفيان(1) ، ويومَاً عليّ ( عليه السلام) ومُعاوية .
ولمْ تَزل، ولنْ تَزال في الأُمم نهضات لأئمَّة هُدى تِجاه أئمَّة جَور.
ونَهضة الحسين ـ مِن بين النهضات ـ قد استحقَّت مِن النفوس إعجاباً أكثر ؛ وليس هذا لمُجرَّد ما فيها مِن مَظاهر الفضائل ، وإقدام مُعارضيه على الرذائل ، بلْ لأنّ الحسين ( عليه السلام ) في إنكاره على يزيد (2) ، كان يُمثِّل شعور شَعبٍ حَيِّ ، ويَجهر بما تُضمره أُمَّة مَكتوفة اليد ، مَكمومة الفَم ، مُرهَقة بتأثير أُمراء ظالمين .
فقام الحسين ( عليه السلام ) مَقامهم ، في إثبات مَرامهم ، وفَدَّى بكلِّ غالٍ ورخيصٍ لديه ، أو في يديه باذلاً في سبيل تحقيق أُمنيَته وأُمَّته ، مِن الجهود ما لا يُطيقه غيره ، فكانت نهضته المَظهر الأتمَّ للحَقِّ ، حينما كان عمل مُعارضيه المَظهر الأتمَّ للقوّة فقط، مِن غير ما حَقٍّ ، أو شُبهة حَقٍّ .
لا عَجَبَ إنْ عُدَّت نَهضة الحسين ( عليه السلام ) المَثلَ الأعلى ، بين أخواتها في التاريخ ، وحازت شُهرة وأهميَّة عظيمتين ؛ فإنَّ الناهض بها ( الحسين ) ، رَمز الحَقِّ ، ومِثال الفَضيلة.
وشأنُ الحَقِّ أنْ يَستمرَّ ، وشأنُ الفَضيلة أنْ تَشتهر ، وقد طُبعَ آلُ عليٍّ ( عليه السلام ) على الصدق ؛ حتَّى كأنَّهم لا يَعرفون غيره ، وفُطِروا على الحَقِّ ، فلا يتخطّونه قَيد شعرةٍ ولا بُدع ؛ فقد ثبت في أبيهم، عن جَدِّهم النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ): ( عليُّ مع الحَقِّ ، والحَقُّ مع عليٍّ ، يدور معه حيثُما دار ) ؛ فكان علي( عليه السلام ) لا يُراوغ أعدائه ، ولا يُداهن رقبائه ، وهو على جانب عظيم مِن العلم والمَقدِرة ، وتاريخه كتاريخ بنيه ـ يَشهد على ذلك ؛ فشعور التفادي ( ذلك الشعور الشريف ) كان في عليٍّ وبنيه ، ومِن غرائزهم، ولا سيِّما في الحسين بن عليٍّ ( عليه السلام ) ( وما في الآباء ترثه الأبناء ).
وقد تفادى عليٌّ ( عليه السلام ) ، عن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بنفسه كَرَّاتٍ عَديدة ، وكذلك الحسين ( عليه السلام ) تفادى لدين الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأُمَّته ؛ إذ قام بعمليَّة أوضحت أسرار بَني أُميَّة ومَكايدهم، وسوءَ نواياهم في نَبيِّ الإسلام ، ودينه ونواميسه.
وفي قضيَّة الحسين ( عليه السلام ) حُجَجٌ بالغةٌ ؛ برهنت على أنَّهم يقصدون التشفِّي منه والانتقام ، وأخذهم ثارات بَدرٍ وأحقادها ، وقد أعلن بذلك يزيدهم طُغياناً ، وهو على مائدة الخَمر ونشوان بخمرتين ، خمرة الكِرم ، وخَمرة النَّصر ؛ إذ تمثَّل بقول بن الزبعرى:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدو جَزع الخَزرج مِن وَقع الأسل
وأضاف عليها:
لعِبَت هاشم بالمُلك فلا خَبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
لستُ مِن خِندفَ إنْ لم أنتقم مِن بَني أحمد ما كان فعل
إلى آخره.
إذا كان نجاح الأُمَّة على يد القائد لزمامها ، وإصلاحها بصلاح إمامها ، فمِن أسوأ الخِيانات والجِنايات ترشيح غير الأكُفَّاء لرئاستها ورئاسة أعمالها ، وسَيَّان في المِيزان أنْ ترضى بقتل أُمَّتك ، أو ترضى برئاسة مِن لا أهليَّة له عليها ، وأيُّ أُمَّة اتَّخذت فاجرها إماماً ، وخَوَنَتها حُكَّاماً ، وجُهَّالها أعلاماً ، وجُبناءها أجناداً وقوّاداً ، فسُرعان ما تنقرض ، ولابد أنْ تنقرض.
هذا خطر مُحدِق بكلِّ أُمَّة ، لو لمْ يَتداركه ناهضون مُصلحون ، وعلماء مُخلِصون ، وألسنة حَقٍّ ، تأمر بالمعروف وتَنهى عن المُنكر ، فيوقِفون المُعتدي عند حَدِّه ، ويضربون على يده.
وبتشريع هذا العِلاج ، درأ نَبيُّ الاسلام عن أُمَّته هذا الخطر الوبيل ، ففرض على الجميع أمر المعروف ، ونهي المُنكَر بعد تهديداته المُعتدين ، وضماناته للناهضين ، وقد صَحَّ عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قوله : ( سيِّد الشهداء عند الله عَمِّي حَمزة ، ورجُلٌ خرج على إمام جائِر ، يأمره وينهاه ؛ فقتله ) ، كما صَحَّ عنه قوله : ( كلُّكم راعٍ ، وكلُّكم مَسؤول عن رعيَّته ) ؛ ذلك لكي لا يَسود على أُمَّته مَن لا يَصلح لها، فيُفسد أمرها، وتَذهب مَساعي الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ومَن معه أدراج الرياح ، وقد كان هذا الشعور الشريف ، حيَّاً في نفوس المسلمين ، حتَّى عصر سيِّدنا الحسن السبط (عليه السلام ) ، وناهيك أنَّ أبا حفص ، خَطب يوماً ، فقال: ( إنْ زِغتُ فقوّموني ) ، فقام أحد الحاضرين يَهزُّ السيف في وجهه ، ويقول : ( إنْ لمْ تَستقمْ ، قوَّمناك بالسيف ) .
غير إنَّ امتداد السلطان لمُعاوية ، وإحداثه البِدع ، وإماتته السُّنَن ، وإبادته الأبرار والأحرار بالسيف والسَّم والنار ، وبَثَّه الأموال الوفيرة في وجوه الأُمَّة ، أخرست الألسن ، وأغمدت السيوف ، وكَمَّت الأفواه ، وصَمَّت الآذان ، وحادت الشعور السامي الإسلامي ، وأوشك أنْ لا يَحسَّ أحٌد بمسؤوليَّته عن مَظلمة أخيه ، ولا يعترف بحَقِّ مُحاسبَة آمريه ، أو مُعارضة ظالميه ، وكاد أنْ تَحِلَّ قاعدة : ( قَبِّلوا أيَّ يدٍ تَعجزون عن قَطعها ) ، مَحلَّ آية ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )، أُمُّه فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) ، بنت محمد المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، مِن زوجته الكبرى خديجة أُمُّ المؤمنين ( رضوان الله عليها ) ، هو أحد السبطين ، وخامس أهل الكِساء.
ولِد في المدينة عام الخَندق ، في السنة الرابعة للهِجرة ، في ثالث شعبان المُوافق شهر كانون لسنة 626 ميلادي ، وعاش مع جَدِّه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) سِتَّ سنواتٍ وشهوراً ، وبَقي بعد أخيه الحسن عشرة أعوام وأشهراً ، وكان مجموع عُمُره ستَّةً وخمسين عاماً ، وكانت شهادته بعد الظهر مِن يوم الجمعة عاشر مُحرَّم الحرام سنة 61 هجري ، الموافق سنة 680 ميلادي، بحاير الطَّف مِن كربلاء في العراق، واشترك في قتله، شِمر بن ذي الجوشن، وسِنان بن أنس، وخولِّي بن يزيد مِن قوّاد جيش عمر بن سعد ، الذي أرسله والي الكوفة عبيد الله بن زياد ، بأمر مِن أمير الشام يزيد بن مُعاوية ؛ ليحصروا الحسين ورجاله ، ويقتلوهم عُطاشى ، فقتلوهم ، ثمَّ نهبوا رِحاله، وسبوا آله مُسفَّرين إلى الكوفة ، ثمَّ إلى الشام ، فالمدينة .
وإنَّ اشتهار فضائل الحسين والآثار المرويَّة فيه ، ومنه ، وعنه ، في كتب الحديث والتاريخ ، ليُغني عن التوسُّع في ترجمته الشريفة.
(2) هو صخر بن حرب بن أُميَّة بن عبد شمس. كان في الجاهليَّة بيّاع الزيت والأديم . ذميم الخِلْقة ، ومِن كبار قريش ، حتَّى قامت قيامة قريش على الهاشميّين قُبيل الهِجرة ؛ فترأّس في المُحالفة القرشيَّة ، وأخذ على عاتقه مُناوأة الإسلام ، ومُقاتلة المسلمين . وله في عام الهِجرة ، نحو سبع وخمسين سنة ، ولم تُقصِّر عنه أُخته أُمُّ جميل العوراء ، في إيذاء رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وسعيها بالنميمة والفساد بين بني هاشم والقبائل ؛ إذ كانت تَحتَ أبي لهب ، والمقصودة مِن آية ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) إلى آخره.
ولم يَبرح يُثير الأقوام ، ويُشكِّل الأحزاب ضِدَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، كما في بدر الكُبرى ، وبدر الصُّغرى ، وفي أحُدٍ ، والأحزاب ، وفي وقائعه الأُخرى ، ولم يهدأ ساعة عن مُعاداة النبي في السِّر والعَلانية ، وبإثارة النفوس والجيوش ضِدَّه ، ويُجاهد المسلمين جِهده إلى يوم فتح مَكَّة ؛ حيث أسلم مع بَقيّة قريش.
أوَّل مَشاهد أبي سفيان مع المسلمين ، كان في غزوة حُنين ؛ فمنحه المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مائة بَعيرٍ مِن غنائم الحرب ، مُنوِّهاً به وبمكانته ، ثمَّ اشترك أبو سفيان يوم الطائف ، فأصابته نَبلة في إحدى عينيه ؛ ففُقِأت وأصبح أعور.
ثمَّ اشترك في واقعة اليرموك ، في السنة الثالثة عشرة للهِجرة ، على عَهد أبي بكر ؛ فأصابت نبلةٌ عينه الثانية ففَقأتها، وأصبح أعمى.
ماتَ في دِمشق ، عند ولده مُعاوية ، سنة إحدى وثلاثين هِجرية ، عن ثماني وثمانين سَنة ، ودُفِن بها .