السؤال الذي يراود الأذهان في المقام ويفرض نفسه هو: إنَّ الحسين (عليه السلام) قد عاصر معاوية مع أبيه وأخيه وعاصره بعد أخيه كما ذكرنا نحواً من عشر سنوات ، وكان وحده مهوى الأفئدة ومحطَّ آمال المعذَّبين والمشرَّدين والمضطهدين ، ولم يترك معاوية خلال تلك المدة من حكمه باباً من أبواب الظلم إلاّ وانطلق منه ، ولا منفذاً للتسلُّط على الناس إلاّ وأطلَّ منه ؛ فقتل آلاف الصلحاء وعذَّب وشرَّد واضطهد مئات الألوف بلا جرم ارتكبوه ولا بيعة
نقضوها ، وكان ذنبهم الأوَّل والأخير هو ولائهم لعلي وآل علي . وكان القدوة لجميع مَن جاء بعده من الأمويِّين في جورهم واستهتارهم بالقيم والمقدَّسات وتحوير الإسلام إلى الشكل الذي يحقِّق أحلام أبي جهل وأبي سفيان وغيرهما من طواغيت القرشيِّين والأمويِّين ، ولم يكن ولده ابن ميسون إلاَّ صنيعة من صنائعه وسيئة من سيآته ، فلماذا والحالة هذه قعد عن الثورة المسلَّحة في عهد معاوية مع وجود جميع مبرِّراتها واكتفى بالثورة الإعلامية في حين أنَّ المبرِّرات التي دفعته على الثورة على يزيد كانت امتداداً لتلك التي كان يمارسها معاوية من قبله؟.
هذا التساؤل يبدو ـ ولأول نظرة ـ سليماً ومقبولاً ، ولكنَّه بعد التدقيق ومتابعة الإحداث التي كان المسلمون يعانون منها ، وواقع معاوية بن هند والوسائل التي كان يستعملها لتغطية جرائمه لم يعد لهذا التساؤل ما يبرِّره ؛ ذلك لأنَّ الواقع المرير الذي فرض على الإمام أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) أن يصالح معاوية ويتنازل له عن السلطة الزمنية فرض على الحسين أن لا يتحرَّك عسكرياً في عهد معاوية ، وأن يفرض على شيعته وأصحابه الخلود إلى السكينة وانتظار الوقت المناسب ؛ لأنَّ الحسن لو حارب معاوية في تلك الظروف المشحونة بالفتن والمتناقضات مع تخاذل جيشه وتشتيت أهوائهم وآرائهم ، ومع شراء معاوية لأكثر قادتهم ورؤسائهم بالأموال والوعود المغرية ، بالإضافة إلى ما كان يملكه من وسائل التضليل والإعلام التي كان يستخدمها لتضليل الرأي العام ، لو حارب الحسن في تلك الظروف ، فكل الدلائل تشير إلى أنَّ الحرب ستكلِّفه نفسه ونفس أخيه الحسين واستئصال المخلصين من أتباعه وشيعته ، ولا ينتج منها سوى قائمة جديدة من الشهداء تضاف إلى القوائم التي دفنت في مرج عذراء ودمشق والكوفة وغيرها من مقابر الشهداء الأبرار.
وبلا شك فإنَّ الإمام أبا محمد الحسن لم يكن يتهيَّب الشهادة لو كانت تخدم المصلحة العامة وتعدُّ المجتمع الإسلامي إعداداً سليماً للثورة والتضحية بكل شيء في سبيل المبدأ والعقيدة كما فعلت ثورة الحسين في حينها ؛ التي قدَّمت للإنسان المسلم نمطاً جديداً من الثوَّار لا يستسلم للضغوط مهما بلغ حجمها ، ولا يساوم على إنسانيته ودينه ومبدأه مهما كانت التضحيات ، ولم يكن الحسين أقلُّ إدراكاً لواقع المجتمع العراقي من أخيه الحسن ، فقد رأى من خيانته وتخاذله واستسلامه للضغوط مثل ما رأى أخوه وأبوه من قبله ؛ لذلك كلِّه فقد آثر التريُّث بينما تتوفَّر لشهادته أن تعطي النتائج التي تخدم الإسلام وتبعث اليقظة والروح النضالية في نفوس المسلمين ، وراح يعمل على تهيئة المجتمع الإسلامي للثورة وتعبئته لها بدل أن يحمل على القيام بثورة ستكون فاشلة في عهد معاوية وتكون نتائجها لغير صالحه.
لقد مضى على ذلك في حياة أخيه وبعد وفاته ؛ ففي حياته حينما جاءته وفود الكوفة تطلب منه أن يثور على معاوية بعد أن يئسوا من استجابة أخيه ، قال لهم : ( صدق أبو محمد : فليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيَّاً) كما جاء في الأخبار الطوال للدينوري ، وبعد أخيه كتبوا إليه وأكَّدوا عليه يسألونه القدوم عليهم ومناهضة معاوية ، فأصرَّ على موقفه الأول ، وقال لهم : (أمَّا أخي ، فأرجو أن يكون قد وفَّقه الله وسدَّده فيما يأتي ، وأمَّا أنا ، فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا ـ رحمكم الله ـ بالأرض ، واَكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنَّة ما دام معاوية حيَّاً) إلى كثير من مواقفه التي تؤكِّد بأنه كان يرى أن الثورة على معاوية لا تخدم مصلحة الإسلام والمسلمين ، وأن الخلود إلى السكينة والابتعاد عن كل ما يثير الشبهات وضغائن الأمويِّين عليه وعلى شيعته وأنصاره في حياة معاوية أجدى وأنفع لهم وللمصلحة العامة ، وفي الوقت ذاته كان كما ذكرنا يعمل لإعداد المجتمع وتعبئته بانتظار اليوم الذي يطمئن فيه بأن شهادته ستعطي النتائج المرجوَّة.
وبالفعل ! لقد اتسعت المعارضة في عهده وظهرت عليها بوادر التغيُّر والميل إلى العنف والشدَّة ، وبخاصة بعد أن جعل ولاية عهده لولده الخليع المستهتر ، فكان لكل حدث من أحداث معاوية صدى مدوِّياً في أوساط المدينة وخارجها حيث الإمام الحسين الرجل الذي اتجهت إليه الأنظار من كل حدب وصوب ، وهو ما حدا بالأمويِّين إلى التحسُّس بهذا الواقع والتخوُّف من نتائجه . فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية يحذِّره من التغاضي عن الحسين وأنصاره ، وجاء في كتابه إليه : (إن رجالاً من أهل العراق ووجوه الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وإنِّي لا آمن وثوبه بين لحظة وأخرى ، وقد بلغني استعداده لذلك ، فاكتب إليَّ برأيك في أمره) . ولم يكن معاوية في غفلة عن ذلك ، وكان قد أعدَّ لكل أمر عدته بوسائله التي كان يهيمن بها على الجماهير المسلمة ، والحسين يعرف ذلك ويعرف بأن ثورته لو كانت في ذلك الظرف ستنجلي عن استشهاده ، والاستشهاد بنظره لا وزن له ولا قيمة إذا لم يترك على دروب الناس وفي قلوبهم وهجاً ساطعاً تسير الأجيال على ضوئه في ثورتها على الظلم والطغيان في كل أرض وزمان .
وكان معاوية يدرك ويعي بما للحسين من منزلة في القلوب وبأن ثورته عليه ستزجُّه في أجواء تعكر عليه بهاء انتصاراته التي أحرزها في معركة صفِّين وفي صلحه مع الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) ، ولو قدِّر لها أن تحدث يوم ذاك ، فسوف يعمل بكل ما لديه من الوسائل ليتخلَّص منه قبل استفحالها ، وقبل أن يكون لها ذلك الصدى المفزع في الأوساط الإسلامية ولو بواسطة جنود العسل التي كان يتباهى بها ويستعملها للفتك بخصومه السياسيين حينما كان يحسُّ بخطرهم على دولته وأمويَّته ، ولو تعذر عليه ذلك ، فسوف يمارس جميع أشكال الاحتيال والتضليل والمراوغة حتّى لا يكون لشهادة الحسين ذلك الوهج الساطع الذي ينفذ إلى الأعماق ويحرِّك الضمائر والقلوب للثورة على دولته وأعوانها ، ولكي يبقى أثرها محدوداً لا يتجاوز قلوب أهله ومحبِّيه وشيعته إلى حين ثمَّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات والإحداث.
ولعل ذلك هو الذي اضطر الحسين إلى التريُّث وعدم مواجهة معاوية بالحرب ، ودعوة أصحابه وشيعته الذين كانوا يراسلونه ويتوافدون عليه بين الحين والآخر إلى أن يلتصقوا بالأرض ويكمنوا في بيوتهم ، ويحترسوا من كل ما يثير حولهم الظنون والشبهات ما دام معاوية حيَّاً.
وكما كان يعرف معاويةَ وأساليبه كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره ؛ ينساق مع عواطفه وشهواته وتلبية رغباته إلى أبعد الحدود بارتكاب المحارم والآثام والتحلُّل من التقاليد الإسلامية، ويندفع مع نزقه فيما يعترضه من الصعاب من غير تقدير لِمَا وراءها من المخاطر ، ومن أجل ذلك وقف من بيعته ذلك الموقف ، واعتبرها من أخطر الإحداث على مصير الأمَّة ومقدَّراتها ، ولم يجد بدَّاً من مقاومتها . وهو يعلم بأن وراء مقاومته الشهادة ، وأنَّ شهادته ستؤدِّي دورها الكامل وتصنع الانتفاضة تلو الأخرى .. حتّى النصر ، ولم يكن باستطاعة يزيد مواجهتها بالأساليب التي اعتاد أبوه تغطية جرائمه بها ؛ لأنه كما وصفه البلاذري في أنساب الأشراف من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروِّي ، صغير العقل متهوراً ، سطحيِّ التفكير لا يهم بشيء إلاّ ركبه . ومن كان بهذه الصفات لا بدَّ وأن يواجه الأحداث بالأسلوب الذي يتَّفق مع شخصيَّته ، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه.