حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام :
أمسك معاوية والطغمة الفاسدة من بني أُمية بزمام الحكم، وأكملوا بذلك الانحراف الذي حصل من السقيفة، حيث حوّل معاوية الخلافة إلى ملك عضوض مستبدّ، حين صرّح بعدائه للأمة الإسلامية واعترف بعدم رضى الأمة به حاكماً بقوله: والله ما ولّيتها ـ أي الخلافة ـ بمحبّة علمتها منكم ولا مسرّة بولايتي ولكن جالدتكم بسيفي.
ولكنّ معاوية والتيار الذي تزعّمه واجه عقبةً كؤوداً، هي تطبيق الإمام علي(عليه السلام) لأحكام الشريعة الإسلامية بصورتها الصحيحة. مضافاً إلى أنّه لم يترك الأمة حتى عمّق العقيدة في النفوس، فأحبّته الجماهير ـ وخصوصاً أهل العراق ـ وكان في ذلك حريصاً على الرسالة والأمة الإسلامية ومفنّداً مزاعم أرباب السقيفة حين عبّر أبو بكر عن عجزه واعتذر عن كثرة أخطائه بقوله: فإني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم. فإنّ هذا الاعتذار قد يفهم منه عدم إمكان التطبيق التام للشريعة الإسلامية. ولكنّ الإمام عليّاً(عليه السلام) قد قدّم النموذج الحيّ للقيادة الكفوءة الواعية والمعصومة بعد الرسول(صلَّى الله عليه وآله)، فكانت الأمة المسلمة تتوقّع قائداً كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) .
ولكن معاوية شرع في تشويه هذه القيم الإسلامية ومحاربة القوى المتعاطفة مع أهل البيت(عليهم السلام) وهدم كلّ ما بناه الإمام علي(عليه السلام) في الأمة الإسلامية من قيم فتفقد إرادتها ويموت ضميرها لئلاّ تكون قادرة على مواجهة أهواء الحكّام المخالفة للدين الحنيف . لقد أعلن معاوية ـ منذ أوّل خطوة ـ أنّ هدفه الأساس هو استلام زمام الحكم حتّى لو أريقت من أجله دماء المسلمين المحرّمة بكلمته المعروفة: والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم.
منهج معاوية لمحاربة الإسلام :
ولابدّ لنا من دراسة موجزة للمخطّطات الشيطانية التي تبنّاها معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام، فإنّها من أهمّ الأسباب في ثورة الإمام الحسين(عليه السلام).
لقد رأى الإمام(عليه السلام) ما وصل إليه حال المسلمين من التردّي عقائدياً وأخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وكان كل هذا التردّي من جرّاء السياسات التي أبعدت الأمة عن مسار الإسلام الأصيل من خلال ممارسات معاوية التي بلغت ذروتها في فرض يزيد بالقوة خليفةً على المسلمين، فهبّ (سلام الله عليه) بعد هلاك معاوية إلى
تفجير ثورته الكبرى التي أدّت إلى إيقاظ النفوس وتحريك إرادة الأمة. واليك بعض معالم سياسات الجاهلية الأُموية التي تصدّى لتنفيذها معاوية:
1 ـ سياسته الاقتصادية :
لم تكن لمعاوية أيّة سياسة اقتصادية في المال حسب المعنى المتداول لهذه الكلمة، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه، فهو يهب الثراء العريض للمؤيدين له ويحرم معارضيه من العطاء، ويأخذ الأموال ويفرض الضرائب بغير حقّ، وقد شاع في عصر معاوية الفقر والحرمان عند الأكثرية الساحقة من المسلمين، فيما تراكمت الثروات عند فئة قليلة راحت تتحكّم في مصير المسلمين وشؤونهم، وهذه بعض الخطوط الرئيسة في سياسته الاقتصادية :
أ ـ الحرمان الاقتصادي :
أشاع معاوية الحرمان الاقتصادي في الأقطار التي كانت تضمّ الجبهة المعارضة له ، مثل :
* يثرب : لم ينفق معاوية على أهل يثرب أيّ شيء من المال ، لأنّ فيهم كثيراً من الشخصيات المعارضة للأسرة الأموية والطامعة في الحكم ، يقول المؤرخون : إن معاوية أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس الأثمان ، وقد أرسل قيّماً على أملاكه لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها ، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمد وقالوا له : إنّ هذه الأموال لنا كلّها ، وإنّ معاوية آثر علينا في عطائنا ، ولم يعطنا درهماً حتّى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة ، فاشتراها بجزء من مائة من ثمنها ، فردّ عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمّره .
وقد نصب معاوية على الحجاز مروان بن الحكم تارةً وسعيد بن العاص مرّة أخرى، وكان يعزل الأوّل ويولّي الثاني، وقد جهدا معاً في إذلال أهل المدينة وإفقارهم.
* العراق :
فرض معاوية على أهل العراق عقوبات اقتصاديةً بصفته المركز الرئيسي للمعارضة، وكان واليه المغيرة بن شعبة يحبس العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة، وقد سار الحكّام الأمويون بعد معاوية على هذا النهج في اضطهاد أهل العراق وحرمانهم ، باعتبارهم الثقل الأكبر في الخطّ الواعي الذي وقف مع أمير المؤمنين (عليه السلام).
ب ـ استخدام المال لتثبيت ملكه :
استخدم معاوية بيت المال لتثبيت ملكه وسلطانه، واتّخذ المال سلاحاً يمكّنه من التسلّط على الأمة، فقد كان من عناصر سياسة الأمويين استخدام المال سلاحاً للإرهاب وأداةً للتقريب، فحرم منه فئةً من الناس، وأغدق أضعافاً مضاعفة لطائفة أخرى ثمناً لضمائرهم وضماناً لصمتهم.
ووهب معاوية خراج مصر لعمرو بن العاص، وجعله طعمة له مادام
حيّاً ، وذلك لتعاونه معه على مناجزة أمير المؤمنين (عليه السلام).
ج ـ شراء الذمم :
فتح معاوية باباً جديداً في سياسته الاقتصادية وهي شراء الذمم ، فقد أعلن عن ذلك بكل دناءة قائلاً : والله لأستميلنّ بالأموال ثقات علي ، ولأ قسِّمنَّ فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته.
كما روي أنّه وفد عليه جماعة من أشراف العرب فأعطى كلّ واحد منهم مائة ألف درهم وأعطى الحتات عمّ الفرزدق سبعين ألفاً ، فلمّا علم الحتات بذلك رجع مغضباً إلى معاوية فقال له بلا خجل ولا حياء : إنّي اشتريت من القوم دينهم ، ووكلتك إلى دينك.
فقال الحتات : اشتر منّي ديني. فأمر له بإتمام الجائزة.
د ـ ضريبة النيروز :
فرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز في بدعة سنّها من غير دليل في الشريعة الإسلامية، ليسدّ بها نفقاته، وبالغ في إرهاق الناس واضطهادهم على أدائها ، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون : عشرة ملايين درهم، وهي من الضرائب التي يألفها المسلمون ، وقد اتّخذها الحكّام من بعده سنّةً فأرغموا المسلمين على أدائها.
2 ـ سياسة التفرقة :
بنى معاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين، إيماناً منه بأنّ الحكم لا يستقرّ له إلاّ بإشاعة العداء بين أبناء الأمة الإسلامية، (وكانت لمعاوية حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها، واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة، العمل الدائب على التفرقة و التخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم وإثارة الإحن فيهم، ومنهم من كان من أهل بيته وذوي قرباه... كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يعينه على الإيقاع بهم).
أ ـ اضطهاد الموالي :
بالغ معاوية في اضطهاد الموالي وإذلالهم، وقد رام أن يبيدهم إبادةً شاملةً. يقول المؤرخون: إنّه دعا الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب وقال لهما: إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثرت، وأراها قد قطعت على السلف، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أن أقتل شطراً منهم، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق.
ب ـ العصبية القبلية :
أحيى معاوية العصبيات القبلية، وقد ظهرت في الشعر العربي صور مريعة ومؤلمة من ألوان الصراع الذي كانت السلطة الأُموية تختلقه لإشغال الناس عن التدخّل في الشؤون السياسية ، وقال المؤرّخون : إنّ معاوية عمد إلى إثارة الأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج محاولاً بذلك التقليل من أهمّيتهم، وإسقاط مكانتهم أمام العالم العربي والإسلامي، كما تعصّب لليمنيّين على المضريّين ، وأشعل نار الفتنة فيما بينهم حتى لا تتّحد لهم كلمة تضرّ بمصالح دولته.
3 ـ سياسة البطش والجبروت :
ساس معاوية الأمة بسياسة البطش والقمع، فاستهان بمقدّراتها وكرامتها، وقد أعلن ـ بعد الصلح ـ أنّه قاتل المسلمين وسفك دماءهم كي يتأمّر عليهم، وقد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه وغطرسته فقال: نحن الزمان، من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع.
وسار عمّاله وولاته على هذه الخطّة الغادرة، فقد خاطب عتبة بن أبي سفيان المصريّين بقوله: فوالله لأقطعنّ بطون السياط على ظهوركم.
وجاء في خطاب لخالد القسري في أهل مكة : فإنّي والله ما أوتي لي بأحد يطعن على إمامه (يعني معاوية) إلاّ صلبته في الحرم.
4 ـ الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم الدينية :
عُرف معاوية بالخلاعة والمجون، يقول ابن أبي الحديد: كان معاوية أيام عثمان شديد التهتّك موسوماً بكلّ قبيح، وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً; خوفاً منه إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج ويشرب في آنية الذهب والفضة، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاّت بها ـ أي بالذهب ـ وعليها جلال الديباج والوشي...
ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنّه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام.
وروي عن عبد الله بن بريدة قوله: دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفراش، ثم أوتينا بالطعام فأكلنا ثم أوتينا بالشراب فشرب معاوية! ثم ناول أبي فقال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله(صلَّى الله عليه وآله).
وثمة روايات عديدة تحدّثت عن أكل معاوية للربا ، منها : أنّ معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نهى عن مثل هذا إلاّ مِثلاً بمثل ، فقال معاوية : ما أرى به بأساً. فقال له أبو الدرداء : من يُعذرُني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا أُساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطّاب فذكر له ذلك ، فكتب عمر إلى معاوية : أن لا تبع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ووزناً بوزن.
ومن مظاهر استخفاف معاوية بالقيم الإسلامية استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه من دون بيّنة شرعيّة، وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي، وقد خالف بذلك قول رسول الله(صلَّى الله عليه وآله): (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
5 ـ إظهار الحقد على النبي (صلَّى الله عليه وآله) والعداء لأهل بيته(عليهم السلام):
حقد معاوية على النبي(صلَّى الله عليه وآله) فقد مكث في أيام خلافته أربعين جمعةً لا يصلّي عليه ، وسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال : لا يمنعني عن ذكره إلاّ أن
تشمخ رجال بآنافها). وسمع المؤذّن يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله...) واندفع يقول: لله أبوك يا ابن عبد الله، لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن اسمك باسم رب العالمين.
وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ من قيمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم وديعة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حتى استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلامية ، وكان من بين ما استخدمه في ذلك :
1 ـ تسخير الوعّاظ ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت (عليهم السلام).
2 ـ افتعال الأخبار على لسان النبي(صلَّى الله عليه وآله) للحطّ من قيمة أهل البيت(عليهم السلام) وقد استفاد من أبي هريرة الدوسي ، وسمرة بن جندب ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة، حيث اختلقوا مئات الأحاديث على لسان النبي (صلَّى الله عليه وآله).
3 ـ استخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب لتغذية النَشْء ببغض أهل البيت (عليهم السلام) وخلق جيل معاد لهم.
وتمادى معاوية في عدائه لأمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامة والخاصة ، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين الناس ، وسرى سبّ الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال لهم : أيّها الناس ، إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال لي : إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة ـ يعني الشام ـ فإنّ فيها الأبدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب.
6 ـ العنف مع شيعة أهل البيت(عليهم السلام) : اضطُهدت الشيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً ، ومورس معهم أشدُّ أنواع القمع والقهر. وقد وصف الإمام محمد الباقر(عليه السلام) الإرهاب الأموي بقوله (عليه السلام) : (وقتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نهب ماله أو هدمت داره).
وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكّرة والواعية من الشيعة، وقد ساق أفواجاً منهم إلى ساحات الإعدام، من قبيل: حجر بن عدي ورشيد الهجري وعمرو بن الحمق الخزاعي وأوفى بن حصن.
ولم يقتصر معاوية على تنكيله برجال الشيعة، وإنّما تجاوز ظلمه إلى نسائهم، فأشاع الذعر والإرهاب في العديد منهنّ مثل: الزرقاء بنت عدي وسودة بنت عمارة وأم الخير البارقيّة.
وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشيعة ومحو أسمائهم من الديوان وقطع عطائهم ورزقهم، كذلك عهد إلى عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.
إنّ انحرافات معاوية وجرائمه لا يمكن استيعابها في هذه الإشارات السريعة ، وهي تتطلّب كتاباً خاصاً بها لكثرتها وسعتها، ولقد كنّا نرمي في الدرجة الأولى من هذه الإشارات إلى التمهيد للتطرّق إلى ذِكر جريمته الكبرى التي أدّت بالإمام الحسين (عليه السلام) إلى إعلان ثورته ، هذه الجريمة التي تمثّلت في فرض ابنه يزيد الفاسق وليّاً للعهد.
7 ـ فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر :
لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلامية وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) .
على أنّ معاوية حينما بدأ بالسيطرة على زمام السلطة فإنّه ـ رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه ـ لم يجترئ على تحدّي الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه; إذ كان يستغل المظاهر الإسلامية لإحكام القبضة ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الأمة الإسلامية. ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط; لأنه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.
ولكن تحميله ليزيد الفاجر المعلن بفسقه على الأمة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلامية واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين ; وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلامية ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة ، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة ، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وتطبيق أحكامها .
هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) سبط الرسول الأعظم(صلَّى الله عليه وآله) الحافظ لدين جدّه من الضياع والدمار .
ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة; لابدّ أن نعرف أوّلاً من هو يزيد؟ وما هو السبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهلية التي ناهضها الإسلام؟
من هو يزيد بن معاوية ؟
قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسين(عليه السلام) من ذلك لابدّ وأن نعرف من هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين ؟ وما هو رأي الإسلام في البيت الأموي بصورة عامة ؟
لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الأمويين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم. وأنهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه وإعادة مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها بأسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.
وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبي محمد بن عبد الله(صلَّى الله عليه وآله) ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.
وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه وإبرازه على غير واقعه وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.
ويزيد بن معاوية الذي وقف الإمام الحسين (عليه السلام) منه ذلك الموقف الخالد كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك.
ولادة يزيد ونشأته وصفاته :
ولد يزيد سنة (25 أو 26 هـ ) وأمه ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون: أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله) وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله :
فإن يكن الزمان أتى علينا = بقتل الترك والموت الوحي
فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلب = بأرض الطف أولادَ النبي
أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد لعنه الله ... ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي.
وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة فقد وصفه ابن كثير ـ في بدايته ـ بأنّه كان كثير اللحم عظيم الجسم وكثير الشعر مجدوراً.
أمّا صفاته النفسية فقد ورث صفات الغدر والنفاق والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً) ولكنّه ليس داهيةً مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب اليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل ، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك ، لقد كانوا من حثالة المجتمع.
وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام ، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد ، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.
ولع يزيد بالصيد :
ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد ، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه ، قال المؤرّخون : كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب والجلال المنسوجة منه ، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه.
شغفه بالقرود :
وكان يزيد ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ ولعاً بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني اسرائيل أصابته خطيئة فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل يقول :
تمسّك أبا قيس بفضل زمامها = فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ
فقد سبقتَ خيل الجماعة كلّها = وخيل أمير المؤمنين أتانُ
وأرسله مرّةً في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:
كم من كرام وقوم ذوو محافظة = جاءوا لنا ليعزوا في أبي قيس
شيخ العشيرة أمضاها وأجملها = على الرؤوس وفي الأعناق والريس
لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه = فيه جمال وفيه لحية التيس
وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:
يزيد صديق القرد ملّ جوارنا = فحنّ إلى أرض القرود يزيد
فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة = صحابته الأدنون منه قرود
إدمانه على الخمر :
والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتى أسرف في ذلك إلى حد كبير، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السكر، ومن شعره في الخمر :
أقول لصحب ضمّت الخمر شملهم = وداعي صبابات الهوى يترنّم
خذوا بنصيب من نعيم ولذّة = فكلّ وإن طال المدى يتصرّم
وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشام في أعقاب استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) وصفه ليزيد بقوله: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله بلاءً حسناً.
وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب.
ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة.
ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكراً...
ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية :
شميسة كرم برجها قعردنِّها = ومشرقها الساقي ومغربها فمي
اذا اُنزلت من دنِّها في زجاجة = حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ
فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمد = فخذها على دين المسيح ابن مريمِ
وعنه قال المسعودي : وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب ، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد وذلك بعد قتل الحسين ، فأقبل على ساقيه فقال :
إسقني شربةً تُروّي مُشاشي = ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ
صاحب السرّ والأمانة عندي = ولتسديد مغنمي وجهادي
ثم أمر المغنّين فغنّوا، وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب.
ويؤكّد في مكان آخر : وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير.
وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء (وفي طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السفر صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطر من لحيته).
إن مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامة الصحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة .
إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة ، حتى أنّه لم يبال بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسول(صلَّى الله عليه وآله) وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالته (صلَّى الله عليه وآله) بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرسول وريحانته أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وهو متسلّط ـ بالقهر ـ على رقاب المسلمين باسم الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) .
إلحاد يزيد وحقده على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) :
لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرسول(صلَّى الله عليه وآله) والبغض له، لأنّه وتره بأسرته يوم بدر، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبي(صلَّى الله عليه وآله) وتمنّى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى :
ليت أشياخي ببدر شهدوا = جزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً = ثم قالوا يا يزيد لا تشلْ
قد قتلنا القرم من أشياخهم = وعدلناه ببدر فاعتدلْ
لعبت هاشم بالملك فلا = خبر جاء ولا وحي نزلْ
لست من خندف إن لم أنتقم = من بني أحمد ما كان فعلْ
بل إنّ يزيداً جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة، فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه، ورد فيها البيت الآتي :
ادع إلهك في السماء فإنّني = أدعو عليك رجال عك وأشعرا
جرائم حكم يزيد :
ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف، ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الأمويين إلى الأبد فحسب; وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك، ومن هذه الجرائم :
1 ـ انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السبط(عليه السلام) ومن معه من أسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (61 هـ ) وهم ذرية رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) وملايين المسلمين تقدّسهم وتذكر فيهم الرسول(صلَّى الله عليه وآله) وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.
2 ـ إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرسول(صلَّى الله عليه وآله) وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشام، لأنّهم استعظموا قتل الإمام
الحسين (عليه السلام) وأنكروه عليه.
3 ـ إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.
السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة :
رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه ، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع ، وقالوا : إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصة ، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي ، كما اتّفق على ذلك المؤرّخون.
ولا يمكن أن تعلّل هذه الصلة الوثيقة وتعلّقه الشديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.
وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده.
في حين أن العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام كالوفاء وحسن الجوار والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم، ولم يعرف عن يزيد شيء من ذلك، كما وأنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه. والذين ولدوا في البادية على النصرانية طيلة حياتهم قبل الفتح الإسلامي وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد.
فلابدّ إذن من القول بأنّ لذلك الانحراف الشديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.
إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المُثلى.
ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كل مواقف الإمام الحسين (عليه السلام) باعتباره القائد الرسالي الحريص على مصالح الرسالة والأمة الإسلامية وندرس تخطيطه الرسالي للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.